الفصل الخامس عشر

نظرية اﻟﻤُﺜﻞ

أهم ما يُعنى به الجزء المتوسط من «الجمهورية» — وهو الجزء الذي يمتد من الشطر الأخير من الكتاب الخامس إلى ختام الكتاب السابع — مشكلات من الفلسفة الخالصة، إذا قيست إلى المشكلات السياسية (التي كانت موضع الحديث)، وتراه يمهد للكلام في المشكلات الفلسفية الخالصة بعبارة فيها شيء من الاقتضاب المخل، وهي:

«إن المدن لن تخلص من هذه الشرور، كلا، بل أعتقد أن الجنس البشري كله لن يخلص منها، حتى يتلاقى الفلاسفة والملوك، أو يكتسب ملوك هذا العالم وأمراؤه روح الفلسفة وقوتها مع عظمة السياسة وحكمتها، لن يخلص العالم من شروره إلا إذا وقفت هاتان الطبقتان إحداهما إلى جانب الأخرى، بدل أن تسعى كلٌّ منهما لمحو الأخرى، عندئذٍ فقط يمكن لدولتنا هذه أن تعيش وأن تشهد ضوء النهار.»

ولو صح ذلك، فلا بُدَّ أن نحدد العناصر التي يتألف منها الفيلسوف، وماذا نعني بكلمة «فلسفة»، والمناقشة الآتية هي أشهر أجزاء «الجمهورية»، وربما كانت كذلك أعمقها أثرًا، وهي في بعض جوانبها ذات جمال أدبي ممتاز؛ فقد لا يوافق القارئ على فكرتها (كما لا أوافق أنا) لكنه لا يسعه إزاءها إلا أن يتأثر بما فيها.

تقوم فلسفة أفلاطون على التمييز بين الحقيقة والظاهر، ذلك التمييز الذي كان بارمنيدس أول من أبرزه؛ ولذا ترى عبارات وحججًا بارمنيدية مثبتة في هذا الجزء من المحاورة الذي نحن الآن بصدد الحديث فيه، وكذلك تلمس نغمةً دينية فيما يخص الحقيقة، وهي نغمة أقرب إلى المذهب الفيثاغوري منها إلى مذهب بارمنيدس، كما تلمس كثيرًا عن الرياضة والموسيقى، تستطيع أن تتعقب مصدره مباشرة إلى أتباع فيثاغورس، هذا المزيج من منطق بارمنيدس ومن حديث عن الحياة الآخرة مستمدة من فيثاغورس والأورفيين، أنتج مذهبًا وجد أنه يرضي العقل والعاطفة الدينية على السواء، ونتيجة هذا الامتزاج مركب غاية في القوة، كان له أثره — بعد قبوله لتعديلاتٍ هنا وهناك — في الكثرة الغالبة من أعلام الفلاسفة، حتى هيجل، وفي ذلك هيجل نفسه، على أن أثر أفلاطون لم يقتصر على الفلاسفة وحدهم، فلو سألت: لماذا عارَض «المتزمِّتون» الموسيقى والتصوير والطقوس الفخمة المظهر في الكنيسة الكاثوليكية؟ فستجد الجواب في الكتاب العاشر من «الجمهورية». وإذا سألت: لماذا يُضطر تلاميذ المدارس أن يتعلموا الحساب؟ وجدت الرد على سؤالك في الكتاب السابع.

والفقرات الآتية تلخِّص نظرية أفلاطون في المُثل:

رأينا هو هذا: من هو الفيلسوف؟ الجواب الأول هو في الأصل الذي اشتُقَّت منه الكلمة، فالفيلسوف هو محب الحكمة، ولكن محب الحكمة ليس هو محب المعرفة، بالمعنى الذي يمكن أن تقصده حين تقول عن الطلعة إنه يحب المعرفة؛ ذلك لأن الاستطلاع المبتذل لا يخلق فيلسوفًا، وعلى هذا فالتعريف يُصحَّح على الوجه الآتي: الفيلسوف هو رجل يحب «رؤية الحقيقة»، ولكن ما هذه الرؤية؟

فكِّر في رجلٍ يحب الأشياء الجميلة، رجل يهتم بحضور المآسي عند أول تمثيلها، وبرؤية الصور الجديدة، وبالاستماع إلى الموسيقى الجديدة، مثل هذا الرجل ليس بالفيلسوف؛ لأنه لا يحب إلا الأشياء الجميلة وحدها، أما الفيلسوف فيحب الجمال ذاته، إن الرجل الذي يحب الأشياء الجميلة وحدها رجل يحلم، على حين يكون الرجل الذي يعرف الجمال المطلق يقظانًا غاية اليقظة؛ الأول لا يكون لديه إلا رأي، أما الثاني فتكون لديه معرفة.

فما الفرق بين «المعرفة» و«الرأي»؟ إن من تكون لديه معرفة تكون لديه معرفة ﺑ «شيءٍ ما»، أعني لديه معرفة بشيءٍ موجود؛ لأن ما ليس بموجودٍ هو عدم (وهكذا يُذكرنا ببارمنيدس)، وعلى ذلك تكون المعرفة غير قابلة للخطأ؛ إذ إنه من المستحيل عليها منطقيًّا أن تخطئ، أما الراي فعُرضة للخطأ، وكيف يقع مثل هذا الخطأ. إن الرأي لا يمكن أن يكون عن شيءٍ لا وجود له؛ إذ إن ذلك مستحيل، ولا أن يكون عن شيءٍ موجود؛ لأن ذلك عندئذٍ يكون معرفة، وإذن فالرأي يكون عما هو موجود وغير موجود في آنٍ معًا.

لكن كيف يمكن هذا؟ الجواب هو أن الأشياء الجزئية تتصف دائمًا بصفاتٍ متضادة، فما هو جميل يكون في الوقت نفسه قبيحًا من بعض نواحيه، وما هو عادل يكون ظلمًا من بعض نواحيه، وهكذا، فيذهب أفلاطون إلى أن كل الأشياء المحسَّة الجزئية فيها هذا التضاد، وإذَن فهي وسط بين الوجود واللاوجود، وهي بهذا تصلح أن تكون موضوعًا للرأي لا للمعرفة، أما أولئك الذين يشهدون المطلق والأزلي والساكن، فهم الذين يعرفون، لا الذين يقتصرون على الرأي.

وهكذا نصل إلى نتيجةٍ هي أن الرأي يكون عن العالم كما تقع عليه الحواس، على حين تكون المعرفة خاصة بعالمٍ أزلي إدراكه فوق متناول الحواس، مثال ذلك: الأشياء الجميلة الجزئية هي من شأن الرأي، أما المعرفة فنطاقها هو الجمال في ذاته.

فالحجة الوحيدة التي يؤيد بها وجهة نظره هي أنه من التناقض أن نفترض أن الشيء يمكن أن يكون جميلًا وغير جميل في آنٍ معًا، أو عادلًا وغير عادل، ومع ذلك فالأشياء الجزئية — فيما يبدو — تضم مثل هذه الصفات المتضادة، وإذَن فلا تكون الأشياء الجزئية موجودات حقيقية، حتى قال هرقليطس: «إننا نغمس أقدامنا ولا نغمسها في نفس النهر، إننا موجودون وغير موجودين.» فإذا جمعت بين هذه النظرة وبين نظرة بارمنيدس، وصلت إلى النتيجة التي وصل إليها أفلاطون.

على أنك واجدٌ في مذهب أفلاطون جانبًا غاية في الأهمية، لا تستطيع أن تتعقبه إلى أصولٍ عند أسلافه، وأعني به نظرية «المثل» أو «الصور»، وهي نظرية منطقية في بعضها، ميتافيزيقية في بعضها الآخر؛ فأما الجانب المنطقي فيُعنى بمعاني الألفاظ الكلية، فهناك أفراد كثيرة من الحيوان، يمكن أن نطلق على كلٍّ منها قولنا: «هذا قط.» فماذا نعني بكلمة «قط»؟ واضحٌ أننا نقصد شيئًا يختلف عن كل قطةٍ جزئية، فالظاهر أن الحيوان يكون قطًّا؛ لأنه يشارك في طبيعةٍ عامة مشتركة بين القطط كلها، ولا يمكن للغةٍ أن تسير في مهمتها بغير الكلمات الكلية مثل لفظة «قط»، وبديهيٌّ أن مثل هذه الكلمات ليست بغير معنًى، ولكن لو كانت لفظة «قط» لتعني شيئًا، فهي تعني شيئًا لا هو هذا القط الجزئي ولا ذاك، إنما تعني ضربًا من ضروب «القطية» العامة، وهذا المعنى العام لا يولد مع ولادة القطة الجزئية، كلا، ولا هو يفنى حين تموت تلك القطة الجزئية، بل الواقع أن هذا المعنى العام لا يَشغل حيزًا من مكان أو زمان، إنه «أبدي». هذا هو الجانب المنطقي من المذهب، والحجج التي تساق لتأييده — سواء أكانت في النهاية صحيحة أم لم تكن — قوية، وهي لا تعتمد في شيء على الجانب الميتافيزيقي من المذهب.

ويقول الجانب الميتافيزيقي من المذهب: إن كلمة «قط» تعني قطًّا معينًا مثاليًّا، هو «القط» (بالتشديد على أداة التعريف)، وهو فريد نوعه، خلقه الله، والقطط الجزئية تشارك في طبيعة «القط» غير أنها تختلف في مشاركتها تلك قربًا أو بعدًا عن الكمال، والسبب في تكثرها ليس إلا هذا البعد منها عن الصورة الكاملة، القط (المثالي) حقيقي، أما القطط الجزئية فظاهرة لا أكثر.

وترى في آخر كتاب في «الجمهورية» كلامًا يمهد به للحكم بالشر على المصورين، وفي هذا الكلام عرضٌ غاية في الوضوح لمذهب المُثل أو الصور.

فها هنا يقول أفلاطون إنك حيثما وجدت عددًا من الأفراد يشتركون في اسمٍ مشترك، كان لهؤلاء الأفراد مثال مشترك أيضًا، أي «صورة»، مشتركة، فمثلًا على الرغم من أن هنالك أسرَّةً كثيرة، فهنالك «مثال» واحد للسرير، أو «صورة» واحدة له، وكما أن انعكاس السرير في المرآة مظهر فقط، وليس ﺑ «الحقيقي»، فكذلك الأسرَّة الجزئية الكثيرة ليست حقيقية؛ إذ هي ليست سوى نُسخ من «المثال» الذي هو السرير الحقيقي الوحيد، والذي صنعه هو الله، وإدراكك لهذا السرير الواحد الذي صنعه الله هو ما يُسمى بمعرفة، أما إدراكك للأسرَّة الكثيرة التي صنعها النجَّارون فهو مجرد «رأي»، والفيلسوف — باعتباره فيلسوفًا — لا يعنيه إلا السرير الواحد المثالي، دون الأسرَّة الكثيرة التي يصادفها في العالم المحسوس؛ ذلك لأنه لا يأبه بشئون هذه الدنيا العادية: «فكيف يمكن لذي العقل السامي الذي يشهد الزمان كله والوجود كله أن يطيل التفكير في الحياة البشرية؟» وإن الشاب الذي في مُكْنته أن يصير فيلسوفًا سيَمتاز من سائر لداته بوصفه عادلًا ورقيقًا، محبًّا للعلم، قويَّ الذاكرة ذا عقل متزن بطبيعته، مثل هذا الشاب لا بُدَّ من تنشئته على نحوٍ يجعل منه فيلسوفًا وحارسًا (= حاكمًا).

وفي هذا الموضع يتدخل «أديمانتوس» في الحديث محتجًّا، فيقول إنه حين يحاول المحاجَّة مع سقراط يشعر أنه ينساق بعيدًا عن جادَّة الطريق عند كل مرحلة من مراحل الحوار، حتى إذا ما بلغ الحِجاج غايته، وجد كل آرائه السابقة قد انقلبت رأسًا على عقب. ومهما يقل سقراط في هذا الصدد، فالواقع الذي يشهده كل إنسان هو أن من يلزمون طريق الفلسفة يصبحون أمساخًا، ولا أقول أوغادًا سافلين، فحتى الصفوة من هؤلاء تُصيرهم الفلسفة رجالًا لا خير فيهم.

ويعترف له سقراط بصدقِ ما يقول، ما دام العالم على ما هو عليه، ويزعم أن تبعة ذلك واقعة على الناس الآخرين، لا على الفلاسفة؛ ذلك لأن الفلاسفة إذا عاشوا في مجتمعٍ عاقل، فلن يظهروا بمظهر الحمقى، ولن يُحكم على الحكماء بالخلو من الحكمة إلا في جماعةٍ من المغفلين.

فماذا نحن قائلون في هذا الإشكال؟ فقد كان يمكن للجمهورية أن تبدأ حياتها بأحد طريقين؛ إما بأن يكون الفلاسفة هم الحاكمين، وإما بأن يصبح الحاكمون فلاسفة، لكن لأن نبدأ بالطريق الأول يبدو مستحيلًا؛ لأن الفلاسفة في مجتمعٍ غير فلسفي لا يظفرون بحب الشعب، غير أنه من الممكن لأميرٍ ورث الإمارة بحكم مولده أن يصبح فيلسوفًا، «ويكفي أمير واحد، فليكن هناك رجل واحد على رأس مدينة تطيع إرادته، وسيكون في مقدوره أن ينشئ في مدينته السياسة المثالية التي يظن الناس أنها مستحيلة الحدوث.» وقد ظن أفلاطون أنه واجدٌ مثل هذا الأمير المنشود في شخص «ديونيسيوس» الأصغر، طاغية سرقصة، لكن الأمير الشاب قد خيَّب له رجاءه، ويُعنى أفلاطون في الكتابَين السادس والسابع من «الجمهورية» بمسألتين؛ الأولى: ما هي الفلسفة؟ والثانية: كيف يمكن لشابٍّ أو شابة له (أو لها) مزاج ملائم أن يربَّى بحيث يصبح فيلسوفًا.

الفلسفة في رأي أفلاطون ضربٌ من الرؤية، رؤية الحقيقة؛ فهي ليست بالعقلية الخالصة، وليست هي مجرد الحكمة، لكنها حب الحكمة، الذي يسميه اسبينوزا «حبًّا عقليًّا لله»، هو نفسه الاتحاد الوثيق بين الفكر والوجدان، الذي يقصده أفلاطون، وكل مَن أبدع أي نوعٍ من أنواع الخلق المبتكر، قد أحس — بدرجةٍ كبيرة أو صغيرة — تلك الحالة العقلية التي تتبدَّى فيها الحقيقة أو الجمال، بعد جهدٍ طويل، أو تلك الحالة التي يُخيَّل لصاحبها أن قد تبدَّت له فيها الحقيقة أو الجمال، في ومضةٍ مباغتة من المجد. وقد يكون هذا ناشئًا من معالجة موضوع تافه، وقد يكون ناشئًا من معالجة الكون بأسره، فمثل هذا الإحساس عند حدوثه يميل بصاحبه ميلًا شديدًا إلى الاقتناع بما هو بصدده، وربما يساوره الشك فيه فيما بعد، لكنه في تلك اللحظة ذاتها يبلغ الغاية القصوى من درجات اليقين، وأغلب ظني أن الكثرة الغالبة من خيرة الآيات التي تدل على إبداع إصحابها في الفن، والعلم، والأدب، والفلسفة، كانت نتيجة لمثل هذه الحالة التي ذكرناها، ولست أدري إن كان سواي يُحسها بمثل ما أحسها أنا، فمن ناحيتي أقول إنني حين أهُمُّ بكتابة كتاب في موضوعٍ ما، فلا بُدَّ لي أولًا أن أغمس نفسي غمسًا في تفصيلاته، حتى آلف كل أجزاء الموضوع الذي أريد تناوله، وهي فرادى، ثم يحدث ذات يوم — إن كنت مجدودًا — أن أدرك الكل دفعةً واحدة، بكل أجزائه مرتَّبةً في مواضعها الصحيحة بالنسبة بعضها لبعض، وبعد ذلك لا يبقى أمامي سوى أن أكتب ما قد رأيت، وأقرب تشبيه لهذه الحالة هو أن أقول إنني أبدأ بالسير في كل أرجاء الجبل وهو مغمور في الضباب، حتى آلف كل شعبة فيه وكل حافة أو وادٍ، آلف هذه الأشياء كلٌّ على حدة، ثم أبعد عن الجبل فأراه كلًّا واحدًا، وهو واضح المعالم في ضوء الشمس.

وأعتقد أن هذا الإحساس ضروري للعمل الابتكاري الجيد، لكنه وحده لا يكفي، لا بل قد يكون اليقين الذاتي الذي يستصحبه مضللًا في نهاية الأمر، فيصف لنا وليم جيمس حالة رجل أحسَّ هذا الإحساس وهو مخدر بالغاز الضحَّاك، فكلما خدره ذلك الغاز أدرك سر الكون، حتى إذا ما أفاق نسي ما كان اعتراه من إحساس، وفي النهاية جاهَد جهادًا عنيفًا حتى استطاع أن يدون السر قبل أن تُمحى معالم الرؤية، ولما أفاق إلى وعيه الكامل راح في لهفةٍ يقرأ ما قد كتب، فكان ما يأتي: «إن رائحة البترول تملأ المكان كله.» فإن ما قد يبدو لصاحبه لمحةً مباغتة من التجلي ربما كانت مضللة، ولا بُدَّ لنا من سبرها ونحن في حالة الصحو العقلي، بعد أن تزول عنا حالة السُّكْر القدسي.

والرؤية التي قال بها أفلاطون، والتي وثق فيها كل الثقة حين كتب «الجمهورية»، لا مندوحة لها في النهاية عن الاستعانة بصورةٍ تفسيرية، هي صورة الكهف التي صوَّرها، لكي يتصور بها القارئ طبيعة الرؤية التي أراد، لكن هذه الصورة قد مُهد لها بمناقشاتٍ أولية مختلفة، قُصد بها أن تهيئ القارئ للموافقة على ضرورة وجود عالم المُثل.

فأولًا ميَّز بين عالم العقل وعالم الحواس، ثم عقَّب على ذلك بقسمة كلٍّ من العقل والإدراك الحسي إلى نوعين، ولا يعنينا ها هنا نوعا الإدراك الحسي، أما نوعا العقل فيُسميها على التوالي: «العقل الخالص» و«قوة الفهم». فأما العقل الخالص فهو أعلى النوعين، وما يعنيه هو الأفكار الخالصة، وطريقته هي الديالكتيك (الجدل)، وأما «قوة الفهم» فهي نوع العقل الذي نستخدمه في الرياضة، وهو أقل منزلةً من العقل الخالص لكونه يفرض فروضًا لا يستطيع اختبار صدقها؛ ففي الهندسة مثلًا ترانا نقول: «افرض أن أ ب ج مثلثٌ محوط بخطوطٍ مستقيمة»، وأنت تجاوز القواعد الرياضية، لو سألت: هل حقيقة أن أ ب ج مثلثٌ محوط بخطوطٍ مستقيمة؟ على الرغم من أننا قد نكون على يقينٍ من أن الشكل الذي رسمناه ليس يحمل هذا الوصف الذي ذكرناه؛ وذلك لأنه يستحيل علينا أن نرسم خطوطًا مستقيمة استقامةً مطلقة، وبناءً على ذلك فيستحيل على الرياضة أن تنبئنا بما هو كائن، وكل ما تنبئنا به هو ما عسى أن يكون لو … إن العالم المحسَّ لا يشتمل على خطوطٍ مستقيمة، وعلى ذلك فلو أرادت الرياضة أن تظفر بما هو أكثر من الحقيقة الفرضية، فلا بُدَّ لنا أن نلتمس الدليل على وجود خطوط مستقيمة أعلى مما يقع تحت الحس، في عالمٍ أسمى من العالم المحس، وليس في وسع «قوة الفهم» أن تلتمس هذا الدليل، الذي يستطيع ذلك — في رأي أفلاطون — هو العقل الخالص، الذي يدلنا على أن هنالك في العالم الأعلى مثلثًا محوطًا بخطوطٍ مستقيمة، وهناك في هذا العالم نثبت القضايا الهندسية إثباتًا يقوم على تقرير الواقع الفعلي، لا على افتراض ما ليس بموجود.

وفي هذا الموضوع تنشأ مشكلة لم تَغِب عن نظر أفلاطون، وهي مشكلة تبدَّت في جلاء للمحدَثين من الفلاسفة المثاليين؛ فقد رأينا أن الله خلق سريرًا واحدًا، ومن الطبيعي أن نفرض أنه كذلك قد خلق خطًّا مستقيمًا واحدًا، لكن إذا كان هناك مثلث سماوي واحد، فلا بُدَّ أن قد خلق ثلاثة خطوط مستقيمة على أقل تقدير. إن أشكال الهندسة، على الرغم من مثاليَّتها، لا بُدَّ من وجودها في أمثلةٍ كثيرة، فنحن في حاجة إلى إمكان التقاطع بين دائرتين وهكذا. وقد يكون معنى ذلك أن الهندسة — على نظرية أفلاطون — لا تسمح لها طبيعتها أن تكون جزءًا من الحقيقة العليا، وأنها قد كُتب عليها أن تظل جزءًا من دراسة الظواهر، لكننا نؤثر أن نغضَّ النظر عن هذه النقطة، التي نرى إجابة أفلاطون عنها يكتنفها شيء من الغموض.

يحاول أفلاطون أن يوضِّح الفرق بين الرؤية العقلية الواضحة، وبين رؤية الإدراك الحسي المهوشة، بمثالٍ يسوقه من حاسة البصر، فهو يقول إن البصر يختلف عن سائر الحواس في أنه لا تكفيه العين والمرئي وحدهما، بل لا بُدَّ له من الضوء أيضًا؛ فنحن نرى الأشياء التي تسطع عليها الشمس رؤية واضحة، وأما ساعة الغروب فتضطرب الرؤية، وفي الظلام الحالك لا نرى شيئًا على الإطلاق؛ فعالم المُثل هو ما نراه حين تكون الشمس ساطعة بضوئها على المرئي، أما عالم الأشياء العابرة فعالمٌ مضطرب كالذي نراه ساعة الغروب؛ فالعين هنا شبيهة بالروح، والشمس — باعتبارها مصدر الضوء — شبيهة بالحقيقة أو الخير:

«الروح مثل العين؛ إذا استقرت على ذلك الذي تضيئه الحقيقة والوجود، أدركت وفهمت، وفاضت ذكاءً؛ أما إذا استدارت إلى غروب الصيرورة والفناء، عندئذٍ لا تحصل إلا على رأيٍ فقط، ثم تراها تخبط خبط عشواء، تعتنق هذا الرأي حينًا، وذلك الرأي حينًا آخر، وتبدو خالية من الذكاء … إن ما يخلع الحق على ما نعرفه، وما يخلع قوة العرفان على الشخص العارف، هو ما أُحب لكم أن تُسموه مثال الخير، وسترون أن مثال الخير هذا هو أصل العلم.»

وهذا ينتهي بنا إلى التشبيه المشهور — تشبيه الكهف — الذي مؤداه أن هؤلاء الذين تعوزهم الفلسفة يمكن مقارنتهم بالمسجونين في كهف، الذين لا يستطيعون النظر إلا في اتجاهٍ واحد؛ لأنهم مُوثَقون، وقد أُشعلت وراءهم نار، وقام قبالتهم جدار، وليس ثَمَّت ما يحول بينهم وبين الجدار، فكل ما يرونه عليه هو ظلالهم هم، وظلال الأشياء الكائنة وراءهم، التي تلقيها النار بضوئها على الجدار، فلا مناص من أن يعدوا هذه الظلال كائنات حقيقية دون أن تكون لديهم فكرة ما عن الأشياء التي ألقت أمامهم هذه الظلال، وأخيرًا استطاع أحدهم أن يفر من الكهف إلى حيث ضوء الشمس، فيرى الأشياء الحقيقية لأول مرة، ويدرك أنه كان حتى هذه الساعة مخدوعًا بظلال؛ فلو كان ذلك الرجل من قبيل الفيلسوف الذي يصلح أن يكون حارسًا (حاكمًا) فسيشعر أن من واجبه إزاء أولئك الذين كانوا من قبلُ زملاء في السجن، أن يهبط إليهم من جديد في سجنهم، ويعلمهم كُنْه الحقيقة، ويهديهم إلى الطريق الذي يصعد بهم إليها، لكنه سيجد إقناعهم عسيرًا؛ لأنه بسبب انتقاله من حيث تسطع الشمس، سيرى الظلال أقل وضوحًا مما يرونها هم؛ ولذا فسيبدو لهم أغبى إدراكًا مما كان قبل فراره من الكهف.

وقلت: دعني الآن أبين لك بالتشبيه إلى أي حدٍّ تتنوَّر طبائعنا أو تبعد عن التنور. انظر! إن بني الإنسان يعيشون في كهفٍ تحت الأرض، فُوَّهته مفتوحةٌ تجاه الضوء، وهي ممتدةٌ ما امتد الكهف، وقد لبثوا مقيمين في كهفهم هذا منذ طفولتهم، ورُبطت بالأغلال أرجلهم وأعناقهم حتى لا يستطيعوا الحركة، ولا يتاح لهم النظر إلا أمامهم؛ لأن الأغلال تمنعهم من لفت رءوسهم إلى الوراء، وهناك على مبعدةٍ منهم — من أعلاهم وخلفهم — نارٌ تسطع، وهنالك كذلك طريق عالٍ يقع بين النار والكهف، ولو نظرت رأيت حائطًا وطيئًا مقامًا على طول الطريق، مثل الستار الذي يضعه أمامهم لاعبو «القره قوز»، والذي يُدَلون عرائسهم من فوق حافته.

– «فقلت: وتصور إلى جانب ذلك رجالًا يمشون إلى جانب الحائط ويحملون كل ضروب الآنية والتماثيل وأصنام الحيوان مصنوعة من خشب ومن حجر ومن مختلف المواد، وكلها يظهر من أعلى الحائط، بعضهم يتكلم وبعضهم صامت.»

– «وصفت لي صورةً غريبة، وإنهم لمسجونون من صنفٍ عجيب.»

– «فأجبته: إنهم يشبهوننا، إنهم لا يرون إلا ظلالهم، أو يرى الواحد منهم ظل أخيه، تلك الظلال التي تلقيها النار على جدار الكهف القائم أمامهم.»

إن مكانة الخير في فلسفة أفلاطون تستوقف النظر؛ إذ تراه يقول إن العلم والحقيقة يشبهان الخير، لكن الخير له المكانة العليا، «ليس الخير جوهرًا، إلا أنه يفوق الجوهر تفوقًا شديدًا في جلاله وقوته»، وطريقة الديالكتيك (الجدل) هي التي تنتهي بنا إلى غاية العالم العقلي بأن تمكننا من رؤية الخير المطلق، وإن الخير هو الوسيلة التي تمكن الطريقة الديالكتيكية (الجدلية) من الاستغناء عن الفروض التي لا غنى عنها للرياضي، والزعم الكامن وراء هذا كله هو أن الحقيقة — على خلاف الظواهر — متصفة بالخير تأملًا كاملًا، فإدراك الخير — إذَن — معناه إدراكك الحقيقة، وهكذا ترى خلال فلسفة أفلاطون كلها، ذلك المزج بين العقل والتصوف، الذي نراه في المذهب الفيثاغوري، لكن أفلاطون حين يصل بفلسفته إلى هذه الذروة القصوى، فلا شك أنه يجعل النصر للنزعة التصوفية على العقل.

إن نظرية أفلاطون في المُثل بها أخطاء عدة، لكنها رغم أخطائها تحدد تقدمًا هامًّا في تطور الفلسفة؛ لأنها أول نظرية تبرز مشكلة المعاني الكلية، التي لبثت قائمة — في صورٍ مختلفة — حتى يومنا هذا، إن البدايات لا مناص لها من أن تكون بعيدة عن دقة التهذيب، لكن هذا لا ينبغي أن يصرفنا عن رؤية ما فيها من عنصر الابتكار، فبعد أن أُدخلَ على أقوال أفلاطون كلُّ ما لزم إدخاله من التصحيحات لا يزال بعض أقواله باقيًا؛ فأقل ما يمكن أن يقال عما بقي لنا من أفلاطون — حتى من وجهة نظر أولئك الذين يناصبونه أشد العداء — هو هذا: إننا لا نستطيع أن نعبِّر عما في أنفسنا من فكر تعبيرًا كل ما فيه أسماء لأفرادٍ جزئية، بل لا بُدَّ لنا إلى جانب تلك الأسماء من كلماتٍ كلية مثل «إنسان» و«كلب» و«قط». وحتى إذا استغنينا عن هذه الكلمات، فلا بُدَّ لنا من كلماتٍ تدل على علاقات، مثل «شبيه ﺑ» و«قبل» وما إلى ذلك، وليس مثل هذه الكلمات مجرد أصوات لا معنى لها، ومن العسير أن نرى كيف يمكن أن يكون لها معانٍ، لو كان العالم مؤلفًا من أشياء جزئية ولا شيء غير هذا، كالأشياء الجزئية التي نشير إليها بأسماء الأعلام. وقد يكون هناك مخارج نخلص بها من هذا الإشكال، لكن أقل ما يقال هو أنه عرض لنا القضية في صالح المعاني الكلية عرضًا لا بُدَّ من الاعتراف به، وسأقبل قوله مؤقتًا، على أنه صحيح إلى حدٍّ ما، لكننا إذا ما سلَّمنا لأفلاطون بهذا، فليس معنى ذلك أن بقية ما يقوله تلزم بالضرورة نتيجة لما اعترفنا له به.

فأولًا: إن أفلاطون لا يفهم قواعد التعبير الفلسفي؛ فقد أستطيع أن أقول «سقراطٌ بشري» و«أفلاطون بشري» وهكذا، ويمكنني في هذه العبارات كلها أن أزعم أن كلمة «بشري» لها نفس المعنى بكل دقة، لكن مهما يكن معنى الكلمة، فمعناها شيء يختلف عن معنى كلمتَي «سقراط» و«أفلاطون» وسائر أسماء الأفراد الذين منهم يتألف الجنس البشري، فكلمة «بشري» صفة، ومن العبث الذي لا معنى له أن تقول «إن البشري بشري»، ومع ذلك فأفلاطون يخطئ خطأً يشبه ما في قولنا «إن البشري بشري»، فهو يظن أن الجمال جميل، ويظن أن الاسم الكلي «إنسان» اسمٌ لإنسانٍ نموذجي خلقه الله، وما هؤلاء الناس الحقيقيون إلا نُسخٌ زائفة بعض الشيء وناقصة؛ لذلك الإنسان النموذجي، فهو لم يستطِع قط أن يتبيَّن ما بين الكليات والجزئيات من هوةٍ سحيقة؛ ﻓ «مُثُله» في حقيقة أمرها لا تزيد على كونها مجموعة أخرى من الجزئيات، أسمى من الجزئيات العادية من الوجهة الخلقية والجمالية، وقد أخذ هو نفسه في عهدٍ متأخر من حياته يدرك هذا الإشكال، كما يظهر لنا من محاورة بارمنيدس، تلك المحاورة التي تسوق لنا مثلًا من أروع الأمثلة في التاريخ للفيلسوف وهو ينقد نفسه بنفسه.

المفروض في محاورة «بارمنيدس» أن راويها هو أنتيفون (أخو أفلاطون غير الشقيق)؛ لأنه هو وحده الذي يتذكر المناقشة، لكنه لم يعد يهمه الآن إلا الجياد، فيشهدونه حاملًا لجامًا، ولا يحملونه على الوقوف ليروي لهم هذا الحوار المشهور بين بارمنيدس وزينون وسقراط إلا بعد عسر شديد، فيروى أن الحوار قد وقع حين كان بارمنيدس شيخًا (إذا بلغت سنه حوالي الخامسة والستين). وأما زينون فكان عندئذٍ في منتصف عمره (نحو الأربعين)، وكان سقراط لا يزال في أول الشباب، ويأخذ سقراط في بسط نظرية المُثل، فيؤكد أن ثَمَّت مُثلًا للتشابه والعدالة والجمال والخير، لكنه في شكٍّ من أمر الإنسان أيكون له مثال أو لا يكون، ثم يرفض رفض المستنكِر ما قيل من إمكان وجود مُثل لأشياء مثل الشعر والوحل والقذارة، لكنه يضيف إلى ذلك قوله إنه يميل أحيانًا إلى الظن بأنه لا شيء هناك بغير مثال، لكنه يفرُّ من هذا الرأي فرارًا؛ لأنه يخشى أن يهوي في هُوَّة من عبث القول ليس لها قرار.

«فقال بارمنيدس: نعم يا سقراط؛ ذلك لأنك ما تزال شابًّا، وإذا لم أكن مخطئًا فسيجيء يومٌ تتولاك الفلسفة بقبضةٍ أشد مما تفعل الآن بك، وعندئذٍ لن تحتقر حتى أخس الأشياء.»

ويوافق سقراط على أن — من وجهة نظره — «هنالك مُثلًا معينة تشترك فيها جميع الأشياء الأخرى، ومنها تستمد هذه الأشياء أسماءها، فكونُ الأشياء — مثلًا — يصبح شبيهًا بعضها ببعض، عِلَّته أنها تشارك في مثال التشابه، وكذلك تكون الأشياء العظيمة عظيمة لأنها تشارك في مثال العظمة، والأشياء العادلة والجميلة تكون عادلة وجميلة؛ لأنها تشارك في مثالَي العدل والجمال.»

فيأخذ بارمنيدس في إثارة المشكلات: (أ) فهل الفرد يشارك في المثال كله أو في جزء منه فقط؟ إن كلا الوجهين له ما يُعترض عليه به، فلو أخذت بالوجه الأول، كان الشيء الواحد في أمكنةٍ كثيرة في وقتٍ واحد، وإذا أخذت بالوجه الثاني كان المثال قابلًا للتقسيم، وسيكون الشيء الذي به جزء من مثال الصفر أصغر من الصفر المطلق، وهو قولٌ ظاهر البطلان. (ب) إنه حين يشارك الفرد الجزئي في مثال، يكون ذلك الفرد الجزئي والمثال شبيهَين، وعلى ذلك يتحتم أن يكون هناك مثال آخر يضم تحته الجزئيات والمثال الأصلي، ثم يتحتم أيضًا أن يكون هناك مثال فوق هذا، يضم تحته الجزئيات والمثالين معًا، وهكذا إلى ما لا نهاية، وبهذا فبدل أن يكون كل مثال واحدًا، يصبح سلسلة لا نهاية لها من المثل (وهذا هو نفسه ما يعترض به أرسطو، ويُسميه ﺑ «الإنسان الثالث»). (ﺟ) ويقترح سقراط جواز أن تكون المُثل مجرد أفكار، لكن بارمنيدس يُنبهه إلى أن الأفكار لا بُدَّ أن تكون أفكارًا عن شيءٍ ما. (د) إن المُثل يستحيل أن تشبه الجزئيات التي تشارك فيها، للسبب المذكور سالفًا في «ب». (ﻫ) إذا كان هنالك مُثُل، فلا بُدَّ أن تكون مجهولة لنا؛ لأن عِلمنا ليس علمًا مطلعًا. (و) إذا كان علم الله مطلقًا، فلن يشملنا بعلمه؛ وبالتالي لا يستطيع حكمنا.

ومع ذلك، فالمتحاورون ينبذون نظرية المُثل نبذًا تامًّا؛ إذ يقول سقراط إنه بغير مُثُل لا يكون هنالك شيء يمكن للعقل أن يرتكز عليه، وبهذا يفسد التدليل العقلي كله، فيُنبئه بارمنيدس أن متاعبه في هذا الصدد مصدرها نقص في تدريبه السابق، لكنهما لا يصلان إلى نتائج قاطعة.

إني لا أعتقد أن ما قدَّمه أفلاطون من اعتراضات على حقيقة الجزئيات المحسوسة يصمد للنقد؛ فمثلًا هو يقول: إن كل ما هو جميل يكون من بعض وجوهه قبيحًا كذلك، وإن ما هو ضعف يكون نصفًا في الوقت نفسه، وهكذا. لكننا حين نقول عن آيةٍ فنية إنها جميلة من بعض الوجوه، قبيحة من بعض الوجوه الأخرى، فإن التحليل سيُتيح لنا دائمًا (على الأقل من الوجهة النظرية) أن نقول: «إن هذا الجزء أو هذا الجانب جميل، أما ذلك الجزء أو ذلك الجانب فقبيح.» وأما عن كون الشيء «ضِعفًا» و«نِصفًا» فهاتان الكلمتان نسبيَّتان، فليس هنالك تناقُض بين أن يكون العدد ٢ ضعف العدد ١ ونصف العدد ٤، إن أفلاطون يثير حول نفسه المشاكل التي لا تنقطع بسبب عدم فهمه للكلمات النسبية؛ فهو يظن أن «أ» إذا كانت أكبر من «ب» وأصغر من «ﺟ»، فإن «أ» تكون بناءً على ذلك كبيرة وصغيرة، مما يبدو له تناقضًا، ومثل هذه المشكلات إن هي إلا عللٌ تصيب الفلسفة، من قبيل الأمراض التي تصيب الأطفال.

إن التفرقة بين الحقيقة والظاهر، يستحيل أن تترتب عليها هذه النتائج التي يزعمها بارمنيدس وأفلاطون وهيجل؛ لأنه إن كان الظاهر ظاهرًا حقًّا فليس هو بلا شيء، وإذَن فهو جزء من الحقيقة. إن هذه حجة من الطراز البارمنيدي الصحيح، وإن كان الظاهر لا يظهر حقًّا، ففِيمَ وجع الدماغ من أجله؟ لكن ربما قال معترض: «إن الظاهر لا يظهر حقًّا، لكنه يظهر لنا كأنما هو ظاهر.» غير أن هذا القول لا ينفع المعترض؛ لأننا سنعود إلى السؤال: «هل يظهر لنا حقًّا كأنما هو ظاهر، أم يخيل لنا فقط أنه يظهر كأنما هو الظاهر؟» ولا بُدَّ لنا عاجلًا أو آجلًا — حتى إذا كان الظاهر يظهر لنا كأنما هو ظاهر — لا بُدَّ لنا أن ننتهي إلى شيءٍ يظهر حقًّا، وإذَن يكون جزءًا من الحقيقة، فلم يكن أفلاطون يطوف بخاطره أبدًا أن ينكر أننا ندرك في الظاهر أسرَّةً كثيرة، ولو أن الموجود حقيقة سرير واحد، هو السرير الذي خلقه الله، لكنه — فيما يبدو — لم يواجه النتائج المترتبة على الحقيقة الواقعة، وهي أن هناك ظواهر كثيرة، وأن هذه الكثرة جزء من الحقيقة، إن كل محاولة تسعى إلى شطر الكون أقسامًا، منها ما هو أكثر في نصيبه من «الحقيقة» من الآخر، محاولةٌ مقضيٌّ عليها بالفشل.

ويتصل بهذا رأيٌ آخر لأفلاطون يدعو إلى العجب، وهو أن المعرفة والرأي لا بُدَّ أن يختلفا في نوع الموضوع الذي يتناوله كلٌّ منهما، فعندنا نحن أن من قبيل الرأي أن أقول: أظن أن السماء ستُثلج. وإذا رأيتها بعدئذٍ تثلج مثلًا، فتلك معرفة، لكن موضوع الرأي هو نفسه موضوع المعرفة، أما أفلاطون فيذهب إلى أن ما قد صلح موضوعًا للرأي في أي وقت مضى، يستحيل أن يصلح موضوعًا للمعرفة، إن المعرفة يقينية ولا يجوز عليها الخطأ، على حين أن الرأي لا يقتصر على كونه معرضًا للخطأ بل هو خطأ بالضرورة؛ لأنه يزعم الحقيقة لما هو ظاهر فقط، وكل ذلك تكرار لما كان بارمنيدس قد سبق إلى قوله.

وهنالك وجهٌ آخر تختلف فيه ميتافيزيقا أفلاطون عن ميتافيزيقا بارمنيدس اختلافًا ظاهرًا، فبارمنيدس لا يعترف بالوجود إلا ﻟ «الواحد»، أما أفلاطون فيعترف بوجود مُثل كثيرة، فليس يقتصر الأمر على وجود الجمال والحق والخير، بل ها نحن أولاء قد رأينا أن هنالك كذلك سريرًا سماويًّا خلقه الله، وهنالك إنسانٌ سماوي، وكلبٌ سماوي، وقطٌّ سماوي، وهكذا حتى تأتي على كل ما جاء في سفينة نوح من أنواع. على أن هذا كله لا نراه — فيما يبدو — قد أُتقنَ بحثه في «الجمهورية» إتقانًا تامًّا؛ فالمثال، أو الصورة الأفلاطونية، ليست نكرة، وإن تكن من الجائز أن تصبح موضوعًا للتفكير، ومن العسير أن نفهم كيف يمكن أن يكون الله قد خلقها، ما دام وجودها لا يحدده الزمن، وما كان الله ليخلق سريرًا، ما لم يكن فكره — حين أراد خلق السرير — قد اتخذ موضوعًا له ذلك السرير الأفلاطوني نفسه الذي يقال لنا إن الله قد أخرجه إلى حيِّز الوجود. إن ما لا زمان له، يستحيل على الخلق. وها هنا تواجهنا مشكلةٌ أتعبت كثيرين من رجال اللاهوت المتفلسفين، وهي أن العالم الذي أمكن خلقه هو العالم العرضي؛ أعني العالم الذي يقع في مكان وزمان، لكن هذا العالم هو نفسه عالم حياتنا اليومية، الذي قد وصمه أفلاطون بالزيف وبالشر أيضًا؛ وعلى ذلك — فيما يظهر — فالله لم يخلق إلا وهمًا زائفًا وشرًّا، وقد اقتضى الاتساقُ المنطقي بعضَ «العارفين» (فئة في المسيحية تقول إن الخلاص يكون بالمعرفة لا بالإيمان) أن يأخذوا بهذه الوجهة من النظر، لكن المشكلة عند أفلاطون لم تكن قد برزت بعد، ويظهر من «الجمهورية» أنها لم تتضح له قط طيلةَ حياته.

إن الفيلسوف الذي يجوز له أن يكون وليًّا للأمر، لا بُدَّ له — في رأي أفلاطون — أن يعود إلى الكهف، ليعيش بين أولئك الذين لم يشهدوا قط شمسَ الحقيقة؛ بل إن الله نفسه، إذا أراد إصلاح خلقه، فلا بُدَّ له — فيما يبدو — أن يصطنع الطريقة نفسها؛ فهكذا يستطيع الأفلاطوني المسيحي أن يفسر تجسد الله في جسم المسيح، لكن الذي يستحيل علينا تعليله هو لماذا لم يستقر الله في حالة من الرضى بعالم المُثل؛ فلئن كان الفيلسوف يصادف الكهف موجودًا بالفعل، فيدفعه حب الخير لغيره إلى العودة إليه، فماذا تقول في الخالق — إذا كان قد خلق كل شيء — ألم يكن في مستطاعه أن يجتنب خلق الكهف منذ البداية؟

ربما كانت هذه المشكلة ناشئة عن الفكرة المسيحية عن الخالق، ولا يجوز اتهام أفلاطون بها؛ لأنه لم يقل إن الله خلق كل شيء، إنما خلق ما هو خير فحسب؛ وعلى هذا الأساس يكون التكثر الذي في عالم الحس صادرًا عن مصدرٍ آخر غير الله؛ وإذَن فلا تكون المُثل في أغلب الظن مخلوقة لله بمقدار ما تكون مكونات لجوهره، وبهذا لا يكون التعدد الظاهر في المُثل الكثيرة تعددًا لا يمكن إرجاعه إلى وحدة، ففي النهاية ليس في الوجود إلا الله، أو الخير، وما سائر المُثل إلا صفات له، أو قل إن هذا — على الأقل — تفسيرٌ ممكن لمذهب أفلاطون.

وينتقل أفلاطون بحديثه إلى رسم صورة تخطيطية تثير الاهتمام، فيما يختص بالتربية بمعناها الضيق، التي يراد تطبيقها على الشاب الذي يُنتظر له أن يكون من أولياء الأمر، فلقد رأينا أن الشاب يُنتخب لهذا الشرف على أساس ما فيه من صفاتٍ هي مزيج من الصفات العقلية والصفات الخلقية، فينبغي له أن يكون عادلًا ورقيقًا ومحبًّا للعلم، قويَّ الذاكرة متزن العقل؛ فإذا ما اختير الشاب على أساس هذه الحسنات فيه، أنفق أعوامه بين العشرين والثلاثين، دارسًا للدراسات الفيثاغورية الأربع: الحساب والهندسة (هندسة السطوح المستوية والأجسام) والفلك والتناغم، ولا يجوز أن تسود هذه الدراسات أية روح نفعية، إنما يجب أن تدرس دراسة تُعد عقله لرؤية الأشياء الأزلية؛ ففي الفلك — مثلًا — لا ينتظر من الشاب أن يشغل نفسه أكثر مما ينبغي بالأجرام السماوية الحقيقية، بل أهم من ذلك أن يدرس رياضيات الأجرام السماوية المثالية، فلئن وقع هذا الكلام وقع السخف في أسماع المحدثين، إلا أنه من العجيب أنه دل على أنه طريقة نافعة فيما يتصل بالفلك التجريبي، وكيفية حدوث هذا تدعو إلى العجب وتستحق النظر.

إن الحركات الظاهرة للكواكب — ما لم نتناولها بالتحليل البالغ من العمق حدًّا كبيرًا — تبدو مضطرِبة ومعقَّدة، وبعيدةً كل البعد عما كان يمكن للخالق من وجهة نظر المدرسة الفيثاغورية أن يخلقه، ولم يكن أحدٌ من اليونان ليأخذه الشك في أن السماء وما فيها من أجرام لا بُدَّ أن تجيء مثلًا كاملًا للجمال الرياضي، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا إذا تحركت الكواكب في دوائر. ولئن كان ذلك الرأي يبدو بديهيًّا لليونان أجمعين، فهو يبدو كذلك لأفلاطون بصفةٍ خاصة، بسبب اهتمامه الشديد بالخير؛ ولذلك نشأت المشكلة الآتية: هل هنالك نظرية في مستطاعها أن ترد الاضطراب الظاهر في حركات الكواكب إلى نظام وجمال وبساطة؟ إنه لو كان هناك مثل هذه النظرية، فإن فكرة الخير هي التي تبرر لنا إثبات وجودها، ولقد وجد «أرستارخوس» من أهل ساموس نظرية كهذه؛ إذ وجد أن الكواكب كلها — بما فيها الأرض — تدور حول الشمس في دوائر، ولكن هذا الرأي لم يؤخذ به، وظل مرفوضًا مدى ألفَي عام. وكان بعض عوامل الرفض يرجع إلى أرسطو، الذي ذكر نظريةً قريبة الشبه بهذه، ونسبها ﻟ «الفيثاغوريين» (كتاب الفلك ٢٩٤ ا)، ثم جاء كوبرنيق وأحياها، وكأنما جاء نجاحها مؤيدًا للاتجاه الجمالي الذي اتخذه أفلاطون في الفلك، لكن شاء سوء الحظ بعدئذٍ أن يستكشف كبلر حقيقة أخرى، وهي أن الكواكب تسير في أفلاكٍ بيضية الشكل، لا في دوائر، وتقع الشمس في بؤرة الشكل البيضي، لا في مركز الدائرة، ثم زاد نيوتن على ذلك قوله إن الأفلاك التي تسير فيها الكواكب ليست دقيقة في بيضية شكلها. وهكذا ثبت أن البساطة الهندسية التي كان يَنشدها أفلاطون، التي يظهر أن «أرستارخوس» من أهل ساموس قد خُيل له أنه كشف عنها، إن هي إلا وهم الخيال.

إن هذه الحقيقة من تاريخ العلوم توضح لنا مبدأً عامًّا، وهو: أن أي فرض علمي — مهما بدا عليه السخف — قد يتبين أنه نافعٌ لتقدم العلم، إذا مكن باحثًا من تصور الأشياء على صورٍ جديدة؛ وأن مثل هذا الفرض، بعد أن يكون قد أدى مهمته بفعل مصادفةٍ مواتية، فالأرجح أن ينقلب بعد ذلك عقبة في طريق التقدم. إن الإيمان بالخير، باعتباره مفتاحًا يفهم العالم فهمًا علميًّا، كان نافعًا في علم الفلك في بعض مراحله، لكنه عاد في شتى مراحل ذلك العلم بعد ذلك فانقلب عاملًا من عوامل التأخر. إن الاتجاه الأخلاقي والجمالي الذي اتجهه أفلاطون، ثم بالَغ فيه أرسطو، كان من أقوى العوامل على قتل العلم عند اليونان.

وإنه لممَّا يجدر ذِكره أن الأفلاطونيين المحدَثين — إذا استثنينا منهم نفرًا قليلًا — جاهلون بالرياضة، على الرغم من الأهمية العظمى التي نسبها أفلاطون للحساب والهندسة، ومن التأثير العميق الذي كان لهذين العلمين في فلسفته. ولعل هذا أن يكون مثلًا يوضح مساوئ التخصص، وهو أن الباحث لا ينبغي له أن يكتب عن أفلاطون إلا إذا أنفق شطرًا عظيمًا من أعوام شبابه في دراسة اليونانية، لكنه إذا ما فعل ذلك، لم يعد أمامه من الوقت متسع يتيح له دراسة الأشياء التي عدَّها أفلاطون أمورًا هامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤