الفصل السادس عشر

نظرية أفلاطون في الخلود

إن المحاورة التي سُميت باسم «فيدون» هامة من وجوهٍ كثيرة؛ فهي ترمي إلى وصف اللحظات الأخيرة من حياة سقراط؛ فنصف حديثه قُبيل شربه السم مباشرةً وبعده، حتى غاب عنه الوعي، وتلك صورة للرجل الأمثل في رأي أفلاطون، الرجل الذي يتحلى بالحكمة والخير معًا في أعلى ذروتَيهما، الذي يبرأ من الخوف من الموت براءةً تامة، إن مواجهة سقراط للموت — كما صورها أفلاطون — لها أهميتها من الوجهة الأخلاقية، في العصور القديمة والعصور الحديثة على السواء؛ فمكانة ما ورَد في الكتاب المقدس عن «العاطفة» و«الصَّلب» عند المسيحيين هي نفسها مكانة محاورة «فيدون» عند الوثنيين من الفلاسفة؛ أعني أحرار الفكر منهم،١ لكن رباطة الجأش عند سقراط في ساعته الأخيرة، مرتبطة بقصيدته في الخلود؛ ولهذا تكون محاورة «فيدون» ذات أهمية؛ لأنها لا تقتصر على تصوير بطل شهيد ساعةَ موته، بل تضيف إلى ذلك شرحًا لمذاهب كثيرة، أصبحت فيما بعدُ جزءًا من العقيدة المسيحية؛ فالقديس بولس و«الآباء» قد استمدوا معظم لاهوتهم منها، عن طريقٍ مباشر أو غير مباشر، ونكاد لا نفهم هذا اللاهوت إذا نحن غضضنا الطرف عن أفلاطون.

فتُروى لنا محاورة سابقة في العهد على محاورة فيدون، وهي «أقريطون»، كيف دبرت فئةٌ من أصدقاء أفلاطون وتلاميذه خطة تمكنه من الفرار إلى تساليا، ومن الجائز أن أصحاب السلطان في أثينا كان يَسرُّهم غاية السرور لو لاذ سقراط بالفرار، ولنا أن نفترض احتمالًا شديدًا لنجاح الخطة المدبَّرة، ومع ذلك رفضها سقراط رفضًا قاطعًا، محتجًّا بأن إدانته كانت نتيجةَ إجراء قانوني سليم، وبأنه من الخطأ أن يقترف الإنسان شيئًا ضد القانون، اجتنابًا للعقاب، فقد استهل نقاشه بإعلان المبدأ — الذي نراه شبيهًا ﺑ «موعظة الجبل» — وهو «إننا لا يجوز أن نردَّ الشر بالشر لأي إنسان، كائنًا ما كان الشر الذي أنزله بنا». ثم تصور نفسه بعد ذلك مشتبكًا في محاورة مع القوانين الأثينية، تقول فيها القوانين إنه مدين لها بمثل ذلك الاحترام الذي يدين به ابنٌ لأبيه، أو يدين به العبد لسيده، بل إن دينه لها بذلك الاحترام أبعدُ مدًى من دين الابن أو العبد، وأن كل مواطن في أثينا حرٌّ في الهجرة إذا لم يكن راضيًا عن الدولة الأثينية، ثم تختم القوانين خطبتها الطويلة بهذه الكلمات:

«استمِع — إذَن — يا سقراط لنا، نحن اللائي قد تعهَّدنا نشأتك، لا تفكر في الحياة والأبناء أولًا، وفي العدالة ثانيًا، بل فكر في العدالة أولًا، حتى تبرر موقفك أمام سادة العالم الأسفل؛ لأنك لو فعلت ما يأمرك به «أقريطون» فلا أنت ولا أحد ممن ينتمي إليك سيكون أسعد أو أقدس أو أعدل في هذه الحياة، أو أسعد في حياةٍ آخرة، مما هو الآن، إنك الآن تغادر الحياة بريئًا؛ إذ تغادرها مُعانيًا لا مقترفًا لإثم، ستغادرها ضحية الناس، لا ضحية القوانين. أما إن أطلقت لنفسك العنان في رد الشر بالشر، والأذى بالأذى، معتديًا على العهود والمواثيق التي ارتبطت بها معنا، ومعتديًا على أولئك الذين يجب أن يكونوا أقل الأشياء تعرضًا لاعتدائك، وأعني بهم نفسك وأصدقاءك ووطنك ونحن، فسننقم عليك ما دمت حيًّا، وستتلقاك أخواننا — قوانين العالم الأسفل — عدوًّا لها؛ لأنهن سيعلمن أنك بذلت جهدك لتحطيم بنياننا.»

ويقول سقراط إنه ليُخيَّل إليَّ أني أسمع هذا الصوت يطنُّ في أذنيَّ، كما يطنُّ صوت القيثارة في أذن المتصوف. ثم يقرر تبعًا لذلك أن واجبه يقتضيه أن يقيم حيث هو، وأن يخضع للحكم بموته.

وجاءت الساعة الأخيرة في محاورة «فيدون»، فرُفعت عنه الأغلال، وأبيح له أن يحاور أصدقاءه حرًّا من كل قيد، فأخرج زوجته الباكية حتى لا يؤثر حزنها في مجرى النقاش.

ويبدأ سقراط برأيه في أنه لا ينبغي لإنسانٍ تسري فيه روح الفلسفة أن يخشى الموت، بل إنه — على نقيض ذلك — سيُرحب به، لكنه على الرغم من ذلك لن ينزع نفسه بيده؛ لأن الرأي قد جرى بأن ذلك منافٍ للقوانين، فيسأله أصدقاؤه: لماذا تحرم القوانين الانتحار؟ فيجيب جوابًا يتفق مع التعاليم الأورفية، وهذا الجواب الذي لو سئل المسيحي نفس السؤال الأوشك أن يقوله بحروفه، وهو: «هنالك مذهب يُهمَس به خفيةً، وهو أن الإنسان سجينٌ ليس له الحق في فتح الباب والفرار من سجنه، وهذا سرٌّ عظيم لا أجدني على فهمٍ كامل بحقيقته.» ثم يوازن العلاقة بين الإنسان والله بالعلاقة بين الماشية وصاحبها، ويقول: إنه لمما يغضبك أن ترى ثورك قد استباح لنفسه أن ينحرف عن الطريق الذي أردته له، «قد يكون هناك مبرر لقولهم إن الإنسان لا بُدَّ له أن ينتظر، وألا يزهق حياته بنفسه، إلى أن يأمر الله بذلك، كما يأمرني الله أن أفعل الآن.» إنه لا يحزن للموت؛ لأنه مقتنع «أولًا بأني ذاهب إلى آلهةٍ أخرى تتصف بالحكمة وبالخير (وإني بذلك على يقين بمقدار ما يمكن لي أن أوقن بمثل هذه الأمور)، وثانيًا (ولو أنني في هذا لست على نفس الدرجة من اليقين) لأني راحلٌ إلى أناس قد سبق رحيلهم عن هذا العالم، وهم أناس أفضل ممن أُخلفهم ورائي، وإني لكبير الرجاء في أن الموتى سيجدون عاقبةً لا تزال تنتظرهم، عاقبة تكون أفضل جدًّا للخيِّرين منها للأشرار.»

يقول سقراط إن الموت هو انفصال الروح عن الجسد. وها هنا نرى أنفسنا إزاء المذهب الأثيني عند أفلاطون: بين الحقيقة والظاهر، بين المُثل والأشياء المحسة، بين العقل والإدراك الحسي، بين الروح والجسم، وهذه الأرواح كلها مرتبطٌ بعضها ببعض؛ فالشق الأول من كل زوج منها أسمى من الشق الثاني، في مقدار ما يصيبه من الحقيقة ومن الخير معًا، والنتيجة الطبيعية التي تترتب على هذه الأثينية هي الأخلاق الزاهدة، فترى المسيحية قد اعتنقت هذا المذهب من بعض جوانبه، لكنها لم تعتنقه بجملته أبدًا. ولعل الذي حال دون ذلك عقبتان؛ الأولى هي أن خَلْق العالم المرئي — لو صدق أفلاطون — ربما ظهر كأنه فعلة شر، ومعنى ذلك إمكان ألا يكون الخالق خيِّرًا؛ والثانية هي أن العقيدة المسيحية الأصلية لم تستطِع قط أن تروِّض نفسها على تحريم الزواج، ولو أنها عدَّت العزوبة أشرف منزلة منه؛ لهذا كان «المانيشيون» أكثر التزامًا للمنطق من المسيحيين في كلا الوجهين.

إن التفرقة بين العقل والمادة — وهي التفرقة التي عمَّت الفلسفة والعلم والفكر الشعبي — ترجع في أصلها إلى الدين، إذا بدأت تفرقةً بين الروح والجسم؛ فالأورفي — كما رأينا — يعد نفسه ابن الأرض والسماء ذات النجوم؛ فمن الأرض جاء الجسد، ومن السماء هبطت الروح. وهذه هي النظرية التي يحاول أفلاطون أن يُعبر عنها بلغة الفلسفة.

لا يلبث سقراط في محاورة «فيدون» أن يأخذ في استخراج النتائج التزهدية التي تترتب على مذهبه. على أن تزهُّده من طرازٍ معتدل مهذب، فهو لا يقول إن الفيلسوف ينبغي له أن يمتنع امتناعًا كليًّا عن اللذة العادية، وكل ما يقوله هو ألا يجعل الفيلسوف من نفسه عبدًا لتلك اللذائذ، فلا ينبغي له أن يهتم بالطعام والشراب، ومع ذلك فلا بُدَّ له طبعًا أن يأكل ما يلزم من طعام، فليس ها هنا إيحاء بالصيام. وإنه ليُروى أن سقراط — ولو أنه لم يكن يحفل بالخمر — كان في مستطاعه، أحيانًا، أن يشرب أكثر مما يشرب أي أحدٍ سواه، دون أن تفقده الخمر وعيه مرةً واحدة؛ فهو لم يزدرِ الخمر في ذاتها، بل ازدرى استشعار اللذة في شرابها، وعلى هذا النحو لا يجوز للفيلسوف أن يأبه للذائذ الحب، أو لفاخر الثياب أو النعال، أو غير ذلك من زينة الجسم؛ إذ لا بُدَّ له أن يستغرق عنايته كلها في الروح، لا في الجسم؛ «فالأحرى به أن يميل — ما استطاع إلى ذلك سبيلًا — إلى الخلاص من جسده ليتفرغ للروح.»

وواضحٌ أنه لو ذاع هذا المذهب في الناس، فسرعان ما يصبح مذهبًا يدعو للتزهد، لكنه في صميم ما يرمي إليه ليس تزهديًّا بمعنى هذه الكلمة الدقيق. إن الفيلسوف حين يمتنع عن لذائذ الحس لن يعاني في ذلك مجهودًا يُضنيه؛ لأنه سينصرف بتفكيره إلى أشياء أخرى، فقد عرفت كثيرًا من الفلاسفة نسوا طعامهم، ومضوا في قراءة كتاب يقرءونه، ولو أنهم أخيرًا عادوا فأكلوا، فهؤلاء الناس كانوا يفعلون ما يظنه أفلاطون فعلًا خليقًا بأمثالهم؛ فهم لم يمتنعوا عن شهوة الطعام امتناعًا اقتضاهم مجهودًا خلقيًّا، لكنهم كانوا أكثر اهتمامًا بأمورٍ أخرى؛ فالظاهر أن واجب الفيلسوف من حيث الزواج أن يتزوج وأن ينجب الأطفال ويقوم على تربيتهم، بهذا الأسلوب نفسه من شرود الذهن، لكن تحرير المرأة قد جعل هذا السلوك أشد عسرًا، فلا عجب إذا رأينا «زانثيب» (زوجة سقراط) عسيرة القياد.

ويمضي سقراط في حديثه فيقول إن الفلاسفة يحاولون فصل الروح عن اتحادها بالجسد، على حين يظن سائر الناس أن الحياة لا تستحق أن تُعاش عند رجل ليس له «إحساس باللذة، ولا يشارك في لذائذ الجسد». ويظهر أن أفلاطون قد أراد بهذه العبارة — وربما أراد ذلك عرَضًا غير مقصود — أن يرد على وجهة النظر التي يأخذ بها فريق من رجال الأخلاق؛ إذ يقولون إن لذائذ الجسم هي وحدها اللذائذ التي يمكن حسبانها؛ فهؤلاء الأخلاقيون يعتقدون أن من لم ينشد لذائذ الحس، فلا بُدَّ أن يكون قد أراد لنفسه اجتناب اللذة إطلاقًا، ليعيش عيشًا فاضلًا. وذلك خطأ أعقب ضررًا لا ينتهي عند حد؛ فما دمت قد قبلت التقسيم إلى عقل وجسم، سترى أن أسوأ اللذائذ وأحسنها معًا هي من اللذائذ العقلية، مثل ذلك الحسد وضروب كثيرة من القسوة وحب السلطة، إن الشيطان في قصيدة «مِلْتُن» (الفردوس المفقود) يعلو بنفسه على عذاب الجسد، وينصرف بجهده كله إلى أعمال التخريب التي يستمد منها لذة عقلية خالصة، ليس للبدن فيها نصيب، وكثيرٌ من الأعلام بين رجال الكنيسة قد نبذوا لذائذ الحس، ولم يتنبهوا لوقاية أنفسهم من اللذائذ الأخرى، فاستبدَّت بهم شهوة السلطة التي أدت بهم إلى ضروبٍ مفزعة من القسوة والاضطهاد، ارتكبوها باسم الدين، وينتمي هتلر في عصرنا هذا إلى هذا النمط من الناس؛ فلذائذ الحس — فيما يُجمع عنه الرواة — لا تهمه إلا قليلًا جدًّا. وهكذا نرى أن التحرر من طغيان الجسد عاملٌ من عوامل العظمة، لكنها قد تكون عظمة في الخطيئة كما قد تكون عظمة في الفضيلة سواءً بسواء، على أن ذلك استطراد عن موضوعنا، ولا بُدَّ لنا من العودة إلى سقراط.

فننتقل الآن إلى الجانب العقلي من الدين، الذي يعزوه أفلاطون إلى سقراط (صوابًا أو خطأً)، فيرى لنا أن الجسم عائق يعوق تحصيل المعرفة، وأن البصر والسمع شاهدان لا يتصفان بالدقة، فالوجود الحقيقي، إذا كان له أن يكشف عن نفسه للروح إطلاقًا، فإنما ينكشف للفكر لا للحواس؛ فلنبحث — مدى فترة قصيرة — فيما يقتضيه هذا الرأي من نتائج؛ فمن نتائجه أنه ينكر المعرفة التجريبية إنكارًا تامًّا، بما في ذلك التاريخ كله والجغرافية كلها، فلا يتاح لنا أن نعرف أن قد كان هنالك مكان اسمه أثينا، أو رجل اسمه سقراط؛ ذلك لأن موته، وما أبداه من شجاعةٍ في ذلك الموت، إنما ينتميان إلى عالم الظواهر، إننا لا نعلم شيئًا عن كل هذا، إلا عن طريق البصر والسمع، مع أن الفيلسوف الحق يغضُّ الطرف عن البصر والسمع، فماذا يبقى له إذَن؟ يبقى له — أولًا — المنطق والرياضة، لكن المنطق والرياضة افتراضيان، ولا ينبني عليهما أبدًا أي قولٍ مثبت عن الدنيا الحقيقية، والخطوة الثانية — وهي الخطوة الحاسمة في الأمر — تعتمد على فكرة الخير؛ فإذا ما وصل الفيلسوف إلى فكرة الخير، فالمفروض أنه يستمد من ذلك العلم بأن الخير هو الحقيقي، فيتاح له بهذا أن يستنتج بأن عالم المُثل هو العالم الحقيقي. ولقد تقدَّم الفلاسفة بعد أفلاطون بحججٍ يبرهنون بها على أن الحقيقي والخير شيءٌ واحد بعينه، أما أفلاطون فيظهر أنه قد فرض ذلك بديهية، واضحة بذاتها لا تحتاج إلى برهان؛ فإذا أردنا أن نفهمه، فلا بُدَّ أن نفرض — مجرد افتراض — أنه محقٌّ في زعمه هذا.

يقول سقراط إن الفكر يكون في أحسن حالاته حين يتركز العقل في نفسه، فلا يعكر صفوه أصواتٌ ولا مشاهد ولا ألم ولا لذة، بل يفصل نفسه عن البدن، وينشد الوجود الحق: «وفي هذا نرى الفيلسوف يزدري الجسد.» وينتقل سقراط من هذه النقطة إلى المُثل، أو الصور، أو الماهيات؛ إن ثمت عدلًا مطلقًا، وجمالًا مطلقًا، وخيرًا مطلقًا، لكنها لا تُرى بالعين، «ولست أقصر الحديث على هذه وحدها، إنما أريد كذلك العظمة المطلقة والصحة المطلقة والقوة المطلقة، أريد الماهية الحقيقية؛ أي الطبيعة الحقة لكل شيء.» فهذه كلها لا تُرى إلا بالرؤية العقلية؛ ولذا فطالما نحن في البدن، وطالما تُفسد الروحَ شرورُ البدن، فلن نُشبع في أنفسنا الرغبة في اكتساب الحقيقة.

وهذه النظرة تُقصي الملاحظة العلمية والتجربة العلمية، باعتبارهما طريقتين للوصول إلى المعرفة، فإن عقل الباحث الذي يجري تجربةً ليس «متركزًا في نفسه» ولا ينشد اجتناب الأصوات والمشاهد، إن الطريقة التي يوصي بها أفلاطون لا تصلح إلا لنوعين من أنواع النشاط العقلي، هما الرياضة والحدس الصوفي، وهذا يفسر لنا كيف أصبح هذان النوعان من النشاط العقلي ممتزجين أشد امتزاج عند أفلاطون والفيثاغوريين.

إن الجسم — من وجهة نظر التجريبي — هو الذي يصلنا بعالم الحقيقة الخارجية، لكنه عند أفلاطون شرٌّ مزدوج؛ لأنه من جهةٍ وسيلة تشوه الحقيقة؛ إذ يجعلنا ننظر كما لو كنا ننظر بمنظارٍ معتم، وهو من جهةٍ أخرى مصدر شهوات تصرفنا عن مواصلة البحث عن المعرفة الحقيقة ورؤيتها. وتتضح هذه النظرة من النصوص الآتية:

«إن لجسم مصدر متاعب لا تنتهي عند حد، ويكفي مجرد حاجته إلى الطعام سببًا لذلك، وهو كذلك معرَّض للأمراض التي تنتابنا وتعوقنا في محاولتنا البحث عن الوجود الحقيقي، إنه يملؤنا بالأهواء والشهوات والمخاوف والأوهام من شتى الأنواع، ويبث فينا حماقةً لا حد لها، بل إنه في حقيقة أمره، كما يقول عنه الناس: يزيل عنا كل قدرة على التفكير، فمن أين تنشأ الحروب والمعارك والانقسامات؟ من أين تنشأ إن لم تكن ناشئة عن الجسد وشهوات الحسد؟ إن الحروب يُحدِثها حب المال، والذي يدفع إلى كسب المال هو الجسم وما يتطلبه من خدمات، وهذه العوائق كلها لا تتيح لنا من وقتنا فراغًا ننفقه في الفلسفة. ونقطةٌ أخيرة، وهي أسوأ النقط المذكورة جميعًا، هي أننا حتى لو أتيح لنا أن نأخذ أنفسنا بشيءٍ من التأمل الفلسفي، فإن الجسم ما يفتأ يقطع علينا مجرى التفكير، مثيرًا في سلسلة أبحاثنا خلطًا وصوابًا، ومزيغًا لأبصارنا بحيث لا يتسنى لنا أن نرى الحقيقة، فلقد دلَّتنا التجربة على أنه إذا ما أردنا اكتساب المعرفة بمعناها الصحيح عن أي شيء كائنًا ما كان، فلا مناص من التخلص من أجسادنا. إن الروح في ذاتها هي التي يجب أن تشهد الأشياء في ذواتها؛ وعندئذٍ يتاح لنا بلوغ الحكمة التي نريد، التي نزعم أننا محبُّوها، ولا يكون ذلك أثناء حياتنا، بل بعد موتنا؛ لأنه إذا استحال على الروح أثناء صحبتها للبدن أن تحصل على المعرفة الخالصة، فلا بُدَّ أن يكون بلوغ المعرفة واقعًا بعد الموت، إن كان بلوغها ممكنًا إطلاقًا.»

«وهكذا إذا ما تخلصنا من حماقة الجسد، أصبحنا أنقياء، وأمكننا الاتصال بما هو نقي، وعرفنا من تلقاء أنفسنا أين يكون الضوء الصافي حيثما كان، وما ذلك الضوء إلا ضوء الحقيقة، فالمشوب لا يُسمح له بالدنو من النفي، وماذا عسى أن يكون التطهير من الشوائب، إذا لم يكن فصل الروح عن الجسد … وهذا الفصل للروح وانفكاكها من الجسد هو ما يُسمونه بالموت … والفلاسفة وحدهم دون سواهم هم الذين ما ينفكون باحثين عن سبيل الفكاك للروح، إن ثمة قطعةً واحدة من النقد، هي التي ينبغي أن نبادل بها كل شيءٍ آخر، وتلك هي الحكمة.»

«إن أول من قالوا بالأسرار الروحانية، كانوا — فيما يظهر — غير هازلين فيما يقصدون إليه من معانٍ، ولم يكونوا يقولون لغوًا باطلًا، حين شبَّهوا الحال منذ أمدٍ طويل بتشبيه، فقالوا إن من يمضي في حياته غير مطهَّر وغير مزوَّد بالأسرار الروحانية، سينتقل إلى العالم الأسفل، حيث يرقد في حمأة من الطين، أما الذي يبلغ ذلك العالم بعد تزويده بالأسرار وبعد تطهيره فسيعيش مع الآلهة، فكثيرون هم أولئك الذين سيحملون السوء — فيما تقول روايات الأسرار — وقليلون هم الذين سيكونون من أهل السر، وهؤلاء — فيما أفهم العبارة — هم الفلاسفة الحق.»

هذه كلها عباراتٌ صوفية، منشؤها الأسرار الروحانية، و«الطهر» فكرة أورفية، وقد كان للطهر عند الأورفيين معنًى يتصل بالطقوس التعبدية، لكن معناه عند أفلاطون هو التحرر من العبودية للجسد وحاجاته. وإنه لمما يستوقف انتباهنا أن نراه يقول إن حب المال سبب في الحروب، وإن المال لا يُطلب إلا لخدمة الجسد، والنصف الأول من هذا الرأي هو نفس الرأي الذي أخذ به «ماركس»، أما النصف الثاني من الرأي فينتمي إلى وجهة نظر تختلف عن الأولى كل الاختلاف؛ فقد ظن أفلاطون أن الإنسان في مستطاعه أن يعيش على قليل جدًّا من المال، لو حصر حاجاته في الحد الأدنى لها. ولا شك أن هذا رأيٌ صواب، لكنه إلى جانب هذا يرى أن الفيلسوف لا بُدَّ له أن يُعفى من العمل اليدوي، وعلى ذلك فلا بُدَّ له أن يعيش على ثروةٍ أنتجها سواه، فالأغلب ألا يكون هناك فلاسفة على الإطلاق في دولةٍ بلغت من الفقر حدًّا بعيدًا؛ الذي جعل دراسة الفلسفة ممكنة للأثينيين، هو ما أخذت به أثينا في عصر بركليز من نزعةٍ استعمارية، فأسباب النعيم العقلي — بصفةٍ عامة — لا تقل في تكاليفها عن أسباب النعيم المادي، ثم هي كهذه الأسباب المادية، مرتبطة بالأحوال الاقتصادية، إن العلم يتطلب المكتبات والمعامل والمناظير المقربة والمناظير المكبرة وما إلى ذلك، ولا بُدَّ لرجال العلم من أن يعتمدوا في عيشهم على مجهود غيرهم، لكن هذا كله في نظر الصوفي حمق؛ فالرجل المتعبد في الهند أو التبت لا يحتاج إلى جهازٍ علمي، ولا ملبس غير ثوب فوق ردفَيه، ويكتفي في طعامه بالأرز، وقليل جدًّا من إحسان المحسنين كفيلٌ له بالعيش؛ لأنه — في رأي الناس — رجلٌ حكيم، مثل هذه الصورة هو النتيجة المنطقية التي تترتب على وجهة النظر الأفلاطونية.

ولنرجع بحديثنا إلى محاورة «فيدون»؛ فهناك ترى سيبيس يبدي شكه فيما يختص بخلود الروح بعد الموت، ويطالب سقراط بالحجج التي تؤيد الخلود، فيأخذ سقراط في الإدلاء بهذه الحجج، لكننا لا بُدَّ أن نذكر هنا أن حججه هذه غاية في الضعف.

  • الحجة الأولى: هي أن كل الأشياء التي لها أضداد تتولد من أضدادها. وهي عبارة تُذكرنا بآراء أنكسمندر في العدالة الكونية. ولما كانت الحياة والموت ضدين تحتم أن يولد كلٌّ منهما الآخر، ويتبع ذلك أن تكون أرواح الموتى مقيمة في مكانٍ ما، لتعود إلى الأرض في الوقت المناسب، ويظهر أن عبارة القديس بولس «إن البذرة لا تسرع في النمو إلا إذا ماتت» مشتقة من نظرية كهذه.
  • والحجة الثانية: هي أن المعرفة تذكُّر؛ وعلى ذلك فلا بُدَّ أن تكون الروح قد عاشت قبل ميلادها. وهذه النظرية القائلة بأن المعرفة تذكُّر، تستند أكثر ما تستند إلى وجود أفكار لدينا — مثل فكرة المساواة المضبوطة — يستحيل أن نكون قد استقيناها من الخبرة؛ لأن ما صادفناه في خبرتنا عن المساواة تقريبية، أما المساواة المطلقة فلا وجود لها إطلاقًا في الأشياء المحسنة، ومع ذلك ترانا نفهم معنى قولهم «مساواة مطلقة»؛ فما دمنا لم نستمد معرفتنا بهذه المساواة المطلقة من الخبرة، فلا بُدَّ أن نكون قد جئنا بهذه المعرفة من وجودٍ سابق على هذا الوجود. ويقول إنك تستطيع أن تسوق حجةً شبيهة بهذه، فيما يختص بسائر الأفكار جميعًا؛ وعلى هذا يكون وجود الماهيات، وقدرتنا على فهمها، دليلًا على أن الروح كانت حاصلة على العلم قبل مجيئها إلى هذا العالم.

هذا الرأي الذي يقول إن المعرفة كلها تذكُّر، تراه مبسوطًا في تفصيلٍ أكثر من هذا، في محاورة «مينو» (٨٢ وما بعدها)؛ فها هنا ترى سقراط يقول: «ليس هناك تعليم، وكل ما هنالك تذكر.» ويتصدى للبرهنة على هذه النقطة بأن يطلب من «مينو» أن ينادي غلامًا من العبيد، ويأخذ سقراط في سؤال الغلام أسئلةً في علم الهندسة، والمفروض أن إجابات الغلام تدل على أنه يعرف الهندسة حقًّا، ولو أنه كان حتى تلك اللحظة لا يدري أن لديه تلك المعرفة؛ ولذا ترى نفس النتيجة التي انتهى إليها الحوار في «فيدون» قد انتهى إليها الحوار كذلك في «مينو»، وهي أن الروح قد جاءت بالمعرفة من وجودٍ سابق على هذا الوجود.

ولنا أن نلاحظ على هذا؛ أولًا: إن هذه الحجة لا تنطبق إطلاقًا على المعرفة التجريبية، فما كان الغلام العبد ليستطيع أن «يتذكر» متى بُنيت الأهرام، أو هل كان حصار طروادة حادثًا تاريخيًّا وقع بالفعل، اللهم إلا إذا وقع له أن حضر بنفسه تلك الحادثات؛ فنوع المعرفة الوحيد الذي يمكن فيه الافتراض بأنه موجودٌ عند كل إنسان بغير طريق الخبرة، هو المعرفة التي تُسمى معرفة «قَبْلية» — خصوصًا في المنطق والرياضة — والحقيقة هي أن هذا الضرب من المعرفة (إذا استثنينا الحدس الصوفي) هو وحده الذي يعترف أفلاطون أنه المعرفة بمعناها الصحيح، فلننظر كيف يمكن الرد على هذه الحجة فيما يختص بالرياضة.

خذ فكرة المساواة، فلا بُدَّ لنا من الاعتراف بأننا لم نصادف في الخبرة بالأشياء المحسة مساواة مطلقة، وكل ما رأيناه فيها مساواة تقريبية، فكيف إن حصلنا على فكرة المساواة المطلقة؟ أم إنه من الجائز ألا يكون لدينا مثل هذه الفكرة إطلاقًا؟

ولنأخذ مثلًا محددًا واقعيًّا: تعريف المتر هو أنه طول قضيب معين موجود في باريس، في درجة حرارة معينة؛ فماذا نعني حين نقول عن قضيبٍ آخر إن طوله متر واحد على وجه الدقة؟ لا أظننا نقصد بهذا القول شيئًا، إن ما يسعنا قوله هو: إن أضبط ما يعرف العلم من عمليات القياس في الوقت الحاضر لا يمكنها أن تبين أن قضيبنا هذا أطول أو أقصر من المتر المعياري الموجود في باريس. ولو كنا على شيء من التسرع الأحمق، جاز لنا أن نضيف إلى ذلك نبوءة عن المستقبل، بأننا مهما بلغنا فيما هو آتٍ من الأيام من تهذيب عمليات القياس، فلن نغير من هذه النتيجة شيئًا، لكن حتى هذه، قضية تجريبية، بمعنى أن الدليل التجريبي قد ينهض في أي وقتٍ عاملًا على دحضها، فلا أظن أن لدينا حقًّا فكرة المساواة المطلقة التي افترض أفلاطون أنها لدينا.

وحتى لو كان لدينا هذه الفكرة، فواضحٌ أن الطفل لا يكتسبها إلا إذا بلغ سنًّا معينة، وعندئذٍ تتبين الفكرة على ضوء الخبرة، وإن لم تكن مستخرجة من الخبرة مباشرة، أضف إلى ذلك أنه ما لم يكن وجودنا قبل مولدنا وجودًا يتصف بالإدراك الحسي، فقد كان يستحيل عليه أن يولِّد هذه الفكرة كما يستحيل ذلك على هذه الحياة الراهنة، وإذا كان المفروض هو أن وجودنا السابق كان وجودًا يسمو على الحواس من بعض الوجوه، فلماذا لا نفترض هذا الفرض نفسه في هذا الوجود الراهن؟ فالحجة تسقط على هذه الأسس كلها.

ويقول سيبيس (في محاورة فيدون)، حين ارتأى أن مذهب التذكر قد توطدت دعائمه: «إن ما يَقرب من نصف ما كانت تُطلب البرهنة عليه، قد أقيم عليه البرهان بالفعل، وأعني بذلك كون أرواحنا كانت موجودة قبل أن نولد. أما النصف الثاني الذي لا يزال ينتظر البرهان، فهو أن الروح ستظل موجودة بعد الموت، كما كانت موجودة قبله.» فينصرف في سقراط استجابة لهذه الدعوة إلى بحث هذا الموضوع، فيقول إنه يترتب على ما أسلفنا قوله من أن كل شيء يتولد من ضده، فلا بُدَّ، فلا بُدَّ أن يولد الموتُ الحياةَ، كما تولد الحياةُ الموتَ؛ ثم يضيف إلى هذه الحجة حجةً أخرى، كانت أطول من سابقتها تاريخًا في الفلسفة، وهي أنه لا يتحلل إلا الأجسام المركبة، أما الروح — فهي كالمُثل — فبسيطة وليست مركبة من أجزاء، وما هو بسيط — في ظنهم — لا تكون له بداية ولا نهاية ولا يطرأ عليه تغير؛ فالماهيات لا تتغير، مثال ذلك الجمال المطلق تراه على حاله لا يتغير، على حين لا تفتأ الأشياء الجميلة متغيرة، وهكذا تكون الأشياء المرئية خاضعة لقيود الزمن، أما الأشياء الخفية فأبدية، والجسم مرئي، أما الروح فخفيَّة؛ وعلى ذلك وجب سلك الروح في طائفة الأشياء الأبدية.

وما دامت الروح أبدية، فهي أشد ما تكون اطمئنانًا حين تتأمل الأشياء الأبدية؛ أعني الماهيات، لكنها تضل وتضطرب، حين تتأمل عالم الأشياء المتغيرة، كما يحدث في حالة الإدراك الحسي.

«إن الروح حين تستخدم الجسم أداة للإدراك، أعني حين تستخدم حاسة البصر أو السمع أو أية حاسة أخرى (لأن معنى الإدراك بوساطة الجسم هو الإدراك بوساطة الحواس) … يجرها الجسم عندئذٍ إلى عالم المتغيرات، فتضل وتضطرب، وتلف الدنيا من حولها، حتى لتحس إحساس المخمور ساعة مسها دنيا التغيُّر … لكنها إذا ما عادت إلى نفسها وتأملت، عندئذٍ تنتقل إلى العالم الآخر، عالم الصفاء، والأبدية والخلود والثبات، فهذه كلها أشياء من فصيلتها، وهي مقيمة معها إلى الأبد إذا ما استقلت بنفسها، ولم تعُقْها العوائق، عندئذٍ لا تعود تضرب في مسالكها الخاطئة، ولا يطرأ عليها تغيرٌ ما دامت قد اتصلت بالذي لا يتغير، وهذه الحالة من حالات الروح هي التي تُسمى بالحكمة.»

إن روح الفيلسوف الحق، التي تحررت — أثناء الحياة — من عبودية الجسد، سترحل بعد الموت إلى العالم الخفي فتعيش عيشة النعيم في صحبة الآلهة، أما الروح المشوبة التي أحبَّت الجسد فستصبح شبحًا مخيفًا يعاود الجسد في قبره، أو تدخل في جسم حيوان، فتحل مثلًا في حمار أو ذئب أو صقر، حسب ما تتسم به من خصائص؛ فالرجل الذي اصطنع الفضيلة في حياته بغير أن يكون فيلسوفًا، سيصبح نحلة أو زنبورًا أو نملة، أو حيوانًا آخر من القبيل الاجتماعي من صنوف الحيوان.

والفيلسوف الحق وحده هو الذي يصعد إلى السماء عند موته؛ إذ لا يُسمح لأحد ممن لم يدرسوا الفلسفة، ولم يكونوا على طُهرٍ كامل ساعةَ الرحيل من هذا العالم أن يدخل في صحبة الآلهة، وإنما يُسمح بذلك لمن أحب المعرفة دون سواه. وهذا هو السبب في امتناع من كرَّسوا أنفسهم للفلسفة عن شهوات البدن، فهم لا يمتنعون عنها خشية إملاق أو عار، بل لأنهم «على ذكر من أن الروح كانت مغلولة أو مُلصَقة بالجسم. وجاءت الفلسفة فتلقَّتها بعد أن لم تكن تستطيع أن ترى الوجود الحقيقي إلا من خلال قضبان السجن، لا أن تراه وهي قائمة بذاتها ومن خلال نفسها … ولقد أصبحت الروح — بسبب شهوات البدن — عاملة بنفسها على أسر نفسها»؛ سيصطنع الفيلسوف العفة لأن «كل لذة وكل ألم بمثابة المسمار الذي يُسمِّر ويربط الروح بالجسم، حتى تصبح شبيهة به وتعتقد بأن الصواب هو ما أثبت الجسم أنه الصواب.»

وها هنا عند هذا الموضع من المحاورة، يذكر سمياس الفكرة الفيثاغورية بأن الروح عبارة عن تناغم، ويقول: إذا انكسرت القيثارة فهل يمكن للتناغم أن يظل قائمًا؟ فيرد سقراط بأن الروح ليست تناغمًا، مركَّبًا، أما الروح فبسيطة. ويضيف إلى ذلك قوله إن الرأي القائل بأن الروح تناغم لا يتفق مع وجودها السابق على هذا الوجود الدنيوي، وقد أقمنا البرهان على ذلك الوجود السابق بمذهب التذكر؛ ذلك أن التناغم لا يكون له وجود قبل القيثارة.

ويمضي سقراط في شرح خطورة تطوره في الفلسفة، وهو جانب من المحاورة غاية في الأهمية، وإن يكن انحرافًا عن مجرى النقاش، يمضي فيعرض نظرية المُثل، بحيث ينتهي إلى النتيجة القائلة بأن «المُثل قائمة، وأن سائر الأشياء تشارك فيها وتستمد أسماءها منها». وهنا يأخذ في وصف ما قد كُتب على الأرواح أن تلاقيه بعد الموت، فالطيب يذهب إلى الجنة، والخبيث إلى جهنم؛ وأما ما توسط منها بين الطيب والخبيث فيذهب إلى حيث يتطهر من أدرانه.

وتصف المحاورة ختام حياة سقراط، وما قيل عند توديعه، وكانت آخر كلماته: «يا أقريطون، إني مدينٌ بديك لأسكلبيوس، فهلا تذكرت رد هذا الدين؟» ومغزى ذلك أن الناس كانوا يقدمون إلى أسكلبيوس ديكًا حين يشفون من مرض، وها هو ذا سقراط قد شُفي من حمى الحياة التي ما تفتأ تعاود الكائن الحي.

ويختم فيدون الحديث قائلًا: «إن سقراط كان بين أهل عصره جميعًا أحكمهم وأعدلهم وأفضلهم.»

لبث سقراط كما صوَّره أفلاطون نموذجًا لمن جاء بعد ذلك من الفلاسفة مدى عصور طويلة، فماذا نرى نحن فيه من الوجهة الأخلاقية؟ (أنا الآن معنيٌّ بالرجل كما صوَّره أفلاطون فحسب.) إن حسناته واضحة للعيان؛ فهو لا يحفل بالنجاح الدنيوي، وهو بريء من الخوف براءةً جعلته هادئًا ظريفًا فكهًا حتى آخر لحظة من حياته، يعنيه ما يعتقد أنه الحق، أكثر مما يعنيه أي شيءٍ آخر كائنًا ما كان، لكنه قد كان مع ذلك معيبًا بعيوبٍ فاحشة؛ فهو في المناقشة مُغالط لا يلتزم الأمانة، وهو يستخدم العقل في تفكيره الخاص ليبرهن على صحة النتائج التي يرتضيها، بدل أن يستخدم العقل في البحث عن المعرفة بحثًا لا يتحزب مع الهوى. وإن الإنسان ليُحس إزاءه شيئًا من الغرور والسماجة قد تُذكِّره بالنمط السيئ من رجال الكنيسة، فشجاعته إزاء الموت كانت تكون أكثر روعة لو لم يؤمن بأنه ذاهبٌ للتنعم بنعيمٍ أبدي في صحبة الآلهة. ولم يكن سقراط علميًّا في تفكيره — على خلاف طائفة من أسلافه — لكنه كان مصممًا على إقامة البرهان على أن الكون متفقٌ مع معاييره الأخلاقية، وهذه خيانة للحقيقة، وأسوأ ما يقترفه الإنسان من خطأ فلسفي؛ فنحن إذا نظرنا إليه باعتباره واحدًا من الناس، فقد نعتقد بأنه جديرٌ بالحشر في زمرة القديسين؛ أما إذا نظرنا إليه باعتباره فيلسوفًا، ألفيناه في حاجة إلى إقامةٍ طويلة في مطهرٍ علمي.

١  إن موت سقراط لا يفوقه إلا موت المسيح، حتى من وجهة نظر كثير من المسيحيين. إنك لن تصادف شيئًا في أية مأساة، قديمة أو حديثة، ولا شيئًا في الشعر أو في التاريخ (مع استثناءٍ واحد)، يشبه الساعات الأخيرة من حياة سقراط كما صوَّرها أفلاطون. هذا ما يقوله «قداسة بنيامين جووت».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤