الفصل السابع والعشرون

الأبيقوريون

كانت المدرستان العظيمتان اللتان ظهرتا في العصر الهلينستي، وهما مدرستا الرواقيين والأبيقوريين، متعاصرتين في نشأتهما الأولى، ووُلد مؤسساهما، زينون وأبيقور، في وقتٍ واحد تقريبًا، واستقرا في أثينا، كلٌّ منهما رئيسًا على مذهبه الخاص، لم يسبق أحدهما الآخر في ذلك إلا بسنواتٍ قلائل؛ ولذا فالأمر متروك للهوى الشخصي وحده في أي الرجلين نبدأ به الحديث، وسأبدأ حديثي بالأبيقوريين؛ لأن مؤسس مدرستهم قد وضع لهم مذهبهم كله دفعة واحدة، على حين سارت الرواقية في طريقٍ طويل من مراحل التطور، امتد بها حتى الإمبراطور مرقص أورليوس، الذي مات سنة ١٨٠ بعد الميلاد.

ومرجعنا الرئيس في حياة أبيقور هو ديوجنيز ليرتيوس، الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، ومع ذلك فالأمر هنا يصطدم بمشكلتين؛ الأولى هي أن ديوجنيز ليرتيوس نفسه مستعدٌّ لقبول الروايات التي ليس لها أهمية تاريخية إطلاقًا، أو هي قليلة الأهمية التاريخية، والثانية هي أن جزءًا من كتابه «حياة» يتألف من رواية الاتهامات الشائنة التي وجهها الرواقيون إلى أبيقور، وليس من الواضح أبدًا في كتابته إن كان بذكره هذه الروايات يثبت حقائق من وجهة نظره، أو يكتفي بمجرد ذكر اتهام من وراء ظهور أصحابه؛ ذلك أن الحوادث الشائنة التي انتحلتها الرواقيون انتحالًا، وجعلوها حقائق ينسبونها إلى الأبيقوريين، إنما انتحلوها ليذكروها في صدد ثنائهم على مستواهم الخلقي الرفيع، لكنها ليست حقائق عن أبيقور نفسه، مثال ذلك رواية تقول عن أبيقور إن أمه كانت كاهنة مشعوذة، وعن ذلك يقول ديوجنيز:

«إنهم [أي الرواقيين في الأغلب] يقولون إنه كان يطوف بالمنازل منزلًا بعد منزل، مصطحبًا أمه تقرأ دعوات التطهير، وقد كان يعاون أباه في التعليم الأوَّلي لقاء أجر زهيد.»

ويعلق «بيلي Bailey»١ على هذا بقوله: «إنه إذا كان هنالك أي نصيب من الصدق للرواية التي تقول بأنه كان يطوف مع أمه على هيئة خادم كنسي، يتلو عبارات التعزيم التي تضعها، فلا بُدَّ أن تضيف إلى ذلك أنه يجوز جدًّا أن أثَّر فيه هذا كله، وهو بعدُ في أعوام طفولته، بحيث كره الخرافة؛ لأن كراهية الخرافة قد صارت فيما بعدُ بارزةً في تعاليمه.» وهذه النظرية تُغري بالأخذ بها، لكننا إذا تذكَّرنا إمعان العصور المتأخرة من الأزمنة القديمة، في عدم التزامها أي حد في انتحالها الأخبار الشائنة، فلست أظن أنها نظرية يمكن قبولها؛ إذ لا يعود لها في رأينا أي أساس على الإطلاق؛٢ فلدينا مقابل هذه النظرية حقيقة ثابتة، وهي أنه كان يحب أمه حبًّا جاوز بشدته حدود الحب البنوي المألوف.٣

ومع ذلك، فيظهر أن الحقائق الرئيسية في حياة أبيقور على درجةٍ كبيرة من اليقين؛ فأبوه أثيني فقير من الأثينيين المستعمرين لساموس، ووُلد أبيقور سنة ٣٤٢-٣٤١ق.م. لكنا لا نعلم إن كان مولده قد وقع في ساموس أو في أتكا، وأيًّا ما كان الأمر، فقد أنفق أعوام صباه في ساموس، وهو يقول إنه أخذ في دراسة الفلسفة وهو في الرابعة عشرة من عمره؛ فلما بلغ الثامنة عشرة، في نحو الوقت الذي مات فيه الإسكندر، ذهب إلى أثينا ليثبت نسبته إلى القومية الأثينية فيما يظهر، وبينا هو في أثينا، طُرد الأثينيون المستعمرون من ساموس (٣٢٢ق.م.) ولجأت أسرة أبيقور إلى آسيا الصغرى، حيث لحق بها هناك، وقد تعلم الفلسفة في طاوس، في ذلك الحين، أو قد يكون قبل ذلك، على يدَي رجل اسمه «نوسيفانيس» الذي يغلب أن يكون من أتباع ديمقريطس، وعلى الرغم من أن فلسفته أيام نضجه، تصطبغ بمذهب ديمقريطس أكثر مما تصطبغ بمذهب أي فيلسوفٍ آخر، فإنه لم يذكر «نوسيفانيس» إلا بعبارات الازدراء، وكان يشير إليه بعبارة الحيوان الرخو.

وأسس مدرسته سنة ٣١١ق.م. التي كانت بادئ أمرها في «متلين» ثم في «لامبساكوس»، ثم كانت ابتداءً من سنة ٣٠٧ق.م. في أثينا حيث مات عام ٢٧٠–١ق.م.

وكانت حياته في أثينا هادئة، بعد أعوام الشباب التي ملأها بالجهاد الشاق، لم يعكر صفوه هناك إلا اعتلال صحته، وكان له منزل وحديقة (والظاهر أن حديقته لم تكن متصلة بمنزله)، وكانت الحديقة هي المكان الذي يُعلِّم فيه، وكان إخوته الثلاثة مع آخرين أعضاءً في مدرسته منذ بدايتها، لكن جماعته اتسعت في أثينا، ولم يقتصر هذا الاتساع على تلاميذه في الفلسفة فحسب، بل شمل كذلك الأصدقاء وأبناءهم، وطائفة من العبيد والغواني، وقد كانت صلته بهذه الطائفة الأخيرة مدعاة للتشنيع عليه من أعدائه، بغير حق في أغلب الظن، فإنه كان يتصف بالقدرة الخارقة للمألوف، على عقد أواصر الصداقة الإنسانية الخالصة، وكتب رسائل لطيفة لأبناء أعضاء جمعيته الصغار، ولم يتكلف ذلك الوقار والتحفظ في التعبير عن عواطفه، كما كان ينتظر من الفلاسفة الأقدمين، وخطاباته طبيعية لا تكلف فيها إلى درجةٍ تثير العجب.

كانت حياة الجمعية غاية في البساطة، وذلك تمشيًا مع مبدئهم من جهة، وبسبب قلة ما لديه من المال (بغير شك) من جهةٍ أخرى، وكان طعامهم وشرابهم الأساسيان هما الخبز والماء، اللذين وجدهما أبيقور كافيين كفايةً تامة، ويقول في ذلك: «إنني لأنتشي باللذة الجسدية حين أعيش على الخبز والماء، وإني لأبصق على لذائذ الترف، لا احتقارًا لها في ذاتها، بل لما يترتب عليها من مضايقات.» وكان اعتماد الجمعية في ماليتها على التبرعات، أو قل إن التبرعات كانت على أقل تقدير تكون جزءًا من ماليَّتها، فهو يكتب قائلًا: «أرسل إليَّ قطعة من الجبن المحفوظ، حتى أقيم مأدبة عندما أريد.» ويكتب إلى صديقٍ آخر فيقول: «أرسل إلينا من لدنك ما نقيم به أود أجسادنا المقدسة، أصالة عن نفسك ونيابة عن أبنائك.» وكذلك يكتب قائلًا: «إن كل ما أريده من تبرعٍ هو ما آمر … التلاميذ أن يرسلوه إليَّ، حتى لو كانوا من اﻟ «هيبربوريين»، فإني أريد أن أتلقى من كلٍّ منكم مائتين وعشرين دراخمة٤ كل عام فقط.» لقد عانى أبيقور طيلة حياته من اعتلال صحته، لكنه عرف كيف يتحمل ذلك في رباطة جأش عظيمة؛ فقد كان هو — لا أحد أتباع الرواقيين — أول من ذهب إلى أن الإنسان ينبغي أن يكون سعيدًا في حالة الإملاق الشديد، ولقد كتب خطابين؛ أولهما قبل موته بأيامٍ قلائل، وثانيهما يوم موته، يدلان على أنه كان محقًّا بعض الشيء في اعتناق هذا الرأي، وردَ في الخطاب الأول ما يأتي: «لقد بلغ الاحتباس آخر درجاته معي قبل كتابة هذا بسبعة أيام، وعانيت من الآلام ما يأتي على الحياة عند سائر الناس، فلو حدث لي شيء، فارْعَ أبناء مترودورس لأربعة أعوام أو خمسة، لكن لا تنفق عليهم أكثر مما تنفق عليَّ الآن.» ووردَ في الخطاب الثاني ما يأتي: «إني أكتب إليكم هذا في هذا اليوم الذي أسعد فيه سعادةً حقيقية، وهو اليوم الذي أُشرف فيه على الموت، إن الأمراض في مثانتي ومعدتي تستشري وتزداد، لا يحدُّ من قسوتها المألوفة شيء، لكني أحس إلى جانب ذلك غبطة قلبية حين أستعيد بالذاكرة ما جرى بيني وبينكم من أحاديث، فتولوا أبناء مترودورس برعايتكم الكريمة، كما عوَّدتموني من إخلاصكم منذ الصبا لشخصي وللفلسفة.» ومترودورس هذا كان أحد أتباعه الأولين، ولحقه الموت، وقد خص أبيقور أطفاله بشيء في وصيته.
وعلى الرغم من أن أبيقور كان رقيقًا وديعًا مع معظم الناس، إلا أن جانبًا آخر من جوانب شخصيته قد تبدَّى في موقفه من الفلاسفة، خصوصًا هؤلاء الذين كان لهم الفضل عليه في أرجح الظن، وهو في ذلك يقول: «أحسب أن أولئك الشكاكين يعتقدون أنني كنت تلميذًا لذلك «الرخو» (يقصد نوسيفانيز)، وأنني قد استمعت إلى تعاليمه مع طائفة الشبان العرابيد، فالحق أن ذلك الرجل قد كان صاحب سوء، وله عادات لا تؤدي إلى الحكمة أبدًا،٥ ولم يعترف قط بمدى ما هو مدين به لديمقريطس. وأما عن «ليوقبوس»، فقد زعم أنه لم يكن ثَمة فيلسوف بهذا الاسم، وهو بغير شك لا يقصد بذلك أنه لم يكن ثَمة رجل بهذا الاسم، بل أراد أن يقول إن ذلك الرجل لم يكن فيلسوفًا. ويقدم لنا «ديوجنيز ليرتوس» قائمة كاملة من عبارات الشتم التي يقال إن أبيقور قد استعملها بالنسبة إلى أعظم الفلاسفة من أسلافه، هو إلى جانب افتقاره إلى كرم الخلق بالنسبة إلى غيره من الفلاسفة، كان معيبًا بنقيصةٍ شنيعة أخرى، وهي استمساكه بعقائد معينة استمساكًا فيه جمود واستبداد، فلم يكن بد لأتباعه من تَلقِّي عقيدة مُشرَبة بتعاليمه، ولم يكن لهم حق السؤال عن صحة شيء فيها، ولبثوا حتى النهاية لا يحاول أحد منهم أن يضيف إليها شيئًا أو يعدل منها شيئًا. ولما جاء «ليوكريشس» بعد ذلك العهد بمائتَي عام، وصبَّ فلسفة أبيقور في قالبٍ شعري، لم يُضِف — فيما يظهر — إلى تعاليم صاحب المذهب شيئًا من الوجهة النظرية، وحيثما تعددت التفسيرات للمذهب، كان ليوكريشس دائمًا مُتشبثًا بالنص الأصلي، ثم هو في غير ذلك من المواضع يملأ لنا الثغرات فيما نعلمه عن فلسفة أبيقور، تلك الثغرات التي أحدثها ضياع الثلاثمائة كتاب التي كتبها أبيقور؛ ذلك أنه لم يبقَ لنا من كل ما كتب إلا خطابات قليلة، ونُتف قليلة، ونص يبسط «التعاليم الرئيسية».

كان أهم ما ترمي إليه فلسفة أبيقور، وشأنها في ذلك كشأن كل فلسفات عصره (مع استثناءٍ جزئي لجماعة الشكاكين)، أن تظفر للناس بهدوء النفس؛ فقد اعتبر اللذة هي الخير، ثم استمسك بكل النتائج التي تترتب على هذا الرأي، استمساكًا خلا من التناقض خلوًا يستوقف النظر، فهو يقول: «إن اللذة هي أول الحياة المباركة وآخرها، ويروي عنه «ديوجنيز ليرتيوس» أنه قال في كتاب له عن «نهاية الحياة»: «إنني لا أدري كيف أستطيع أن أتصور فكرة الخير؛ إذا أنا استبعدت لذائذ حاسة الذوق، واستبعدت لذائذ الحب، ولذائذ حاستَي السمع والبصر.» وأنه قال أيضًا: «إن بداية كل خير وجذوره الأولى، هي لذة المعدة؛ فحتى الحكمة والثقافة لا بُدَّ أن تتصلا بهذه اللذة بعض الاتصال.» وهو يزعم أن لذائذ العقل هي التفكير في لذائذ الجسد، وميزتها الوحيدة على لذائذ الجسد، هي أننا يمكن أن ندرب أنفسنا على التفكير في اللذة أكثر من التفكير في الألم؛ ولهذا نكون أكثر سيطرة على زمام اللذائذ العقلية منا على زمام اللذائذ الجسدية، فكلمة «الفضيلة» إذا لم يُقصد بها «مراعاة الحكمة في التماس اللذة» فهي كلمة فارغة من المعنى، مثال ذلك أن العدالة قوامها أن يسلك الإنسان سلوكًا لا يترتب عليه موقف يدعو إلى خوفه من كراهية سائر الناس له، وهو رأي يؤدي بنا إلى مذهب في أصل المجتمع، لا يختلف عن نظرية «التعاقد الاجتماعي».

ويختلف أبيقور عن بعض أسلافه من اللذِّيِّين في تمييزه بين اللذائذ «الفاعلة» واللذائذ «القابلة»؛ أي اللذائذ «الحركية» واللذائذ «السكونية»؛ فاللذائذ الحركية تتألف من بلوغ غاية منشودة، على أن تكون الرغبة السابقة لبلوغ الغاية مصحوبة بالألم. أما اللذائذ السكونية فتكون في حالة التوازن التي تنتج عن حالة مما تتعلق به الرغبة لو امتنع وجوده، وأحسب أنه من الصواب أن نقول إن إشباع الجوع، إذ هو في طريقه إلى التكون، مثل من أمثلة اللذة الحركية، وأما حالة الهدوء التي تسود حين يتم إشباع الجوع، فمثل من أمثلة اللذة السكونية. وقد ذهب أبيقور إلى أن التماس الإنسان للذة الثانية أدنى إلى الحكمة؛ لأنها لذة غير مشوبة، ولا تعتمد على وجود الألم حافزًا على الرغبة؛ إذ إن الجسد وهو في حالةٍ من التوازن، يكون خاليًا من الألم، وعلى ذلك فلا مندوحة لنا عن السعي وراء التوازن واللذائذ الهادئة، فهي أولى بالسعي من اللذائذ الأكثر عنفًا، والظاهر أن أبيقور قد كان يتمنى لو أمكن أن يكون دائمًا في حالة من أكل واعتدل في مقدار ما أكل، لا أن يكون في حالة من به رغبة عارمة في الطعام.

ولهذا ينتهي به الرأي من الوجهة العملية إلى اعتبار التخلص من الألم، لا قيام اللذة، هدفًا للرجل الحكيم؛٦ فقد تكون المعدة أساسًا لكل شيء، لكن آلام أوجاع المعدة ترجح لذائذ النهم. وبناءً على ذلك أخذ أبيقور نفسه بالعيش على الخبز، يضيف إليه أيام المواسم قليلًا من الجبن، وأما الرغبة في الثروة والجاه وأمثالهما فضربٌ من الحماقة؛ لأنها تبث القلق في نفس الإنسان، حين يستطيع أن يستسلم للرضا. «إن أعظم الخير هو الحكمة، فهي أنفس من كل شيء، حتى من الفلسفة.» والفلسفة — كما فهمها — نظامٌ عملي يراد به الحصول على حياةٍ سعيدة، ولا تحتاج إلا إلى الإدراك الفطري السليم، لا إلى منطق أو رياضة أو غيرهما من الدراسات الدقيقة التي أوصى بها أفلاطون؛ ولذا تراه يستحث تلميذه وصديقه الشاب «فيثوقليز» أن «يفر من كل ضروب الثقافة»، وكان من النتائج الطبيعية التي ترتبت على مبادئه أنه أوصى بالانسحاب من الحياة العامة؛ لأنه بمقدار ما يحصل عليه الإنسان من القوة، يزداد عدد أولئك الذين يحقدون عليه ويودون أن يوقعوا به الأذى؛ فحتى لو تخلص من سوء الحظ الخارجي، فيستحيل عليه هدوء البال في مثل هذه الحال. إن من سمات الرجل الحكيم أن يحاول العيش مستورًا عن الأنظار، حتى لا يكون له أعداء.

وطبيعي أن يشمل التحريم عنده الحب الجنسي، باعتباره من أكثر اللذائذ «حركية»، فترى الفيلسوف يصرح بأن «الاتصال الجنسي لم يعد بالخير أبدًا على رجل، وهو محظوظ إذ لم يعد عليه بالضرر». وقد أحب الأطفال (أطفال الناس الآخرين)، لكنه لكي يشبع نفسه هذه الرغبة، اعتمد فيما يظهر على ألا يعمل الناس بنصيحته (في الامتناع الجنسي). والظاهر أنه حين أحب الأطفال، كان في ذلك منافيًا لحكم عقله؛ لأن الزواج والأطفال في رأيه يصرفان المرء عن ألوانٍ من النشاط أهم منهما خطرًا، ويتبعه «لوكريشس» في استنكار الحب، إلا أنه لا يرى ضررًا في الاتصال الجنسي، على شريطة أن ينفصل عن العاطفة.

وآمَنُ اللذائذ الاجتماعية — في رأي أبيقور — هي الصداقة، وأبيقور — مثل بنثام — رجل من رأيه أن الناس جميعًا، وفي كل زمان، لا يلتمسون إلا لذائذهم، يلتمسونها بالحكمة أحيانًا، وبالحماقة أحيانًا، لكنه يشبه بنثام أيضًا في انخداعه انخداعًا متصلًا بطبيعته الرقيقة الرحيمة، بحيث يسلك سلوكًا رائعًا، كان لا بُدَّ له ألا يتورط فيه تطبيقًا لنظرياته، فواضحٌ أنه أحب أصدقاءه دون اعتبار لما عسى أن يعود عليه منهم، لكنه أقنع نفسه بأنه كان في ذلك أنانيًّا على نحو ما تصف فلسفته سائر الناس أجمعين، ويقول لنا عنه شيشرون إنه ذهب إلى أن «الصداقة يستحيل أن تنفصل عن اللذة؛ ولذلك وجب غرس بذورها في النفوس؛ لأنه بغير صداقة يتعذر العيش الآمن الخالي من الخوف، كما يتعذر علينا العيش اللذيذ.» غير أنه ينسى أحيانًا آراءه النظرية، فهو يقول: «إن الصداقة بكافة أنواعها مرغوبٌ فيها لذاتها، ولو أنها تبدأ من الحاجة إلى المعونة.»٧

وعلى الرغم مما قد بدا للناس من أن الأخلاق عند أبيقور بهيميَّة يعوزها السمو الأخلاقي، إلا أنه كان فيها غاية في الجد؛ فقد كان يُسمي جمعية الحديقة — كما أسلفنا — بقوله «جماعتنا المقدسة»، وكتب كتابًا «في القداسة»، وكان يتصف بكل ما يتصف به المصلح الديني من حرارة الإيمان، ولا بُدَّ أن قد كان له شعور قوي بالعطف على ما تعانيه الإنسانية من آلام، كما كان مؤمنًا إيمانًا لا يتزعزع بأن تلك الآلام تنحصر في دائرةٍ أضيق جدًّا مما هي عليه، لو أن الناس اصطنعوا فلسفته، مع أنها كانت فلسفة الرجل الضعيف، أريد بها أن تلائم عالمًا لم يعد يتيح الفرصة إلا نادرًا للسعادة التي ينعم بها المغامرون، فكُلْ قليلًا خوفًا من الهضم السيئ، واشرب قليلًا خوفًا مما يحدث في الصباح التالي، واجتنب السياسة والحب وشتى أوجه النشاط التي تتطلب العواطف العنيفة، ولا تُمكِّن الأيام من نفسك بأن تتزوج ويكون لك أطفال، وعَلِّم نفسك في حياتك العقلية أن تتأمل اللذائذ أكثر مما تتأمل الآلام، إنه لا شك في أن الألم الجثماني شرٌّ عظيم، لكنه لو كان حادًّا كان قصيرًا، أما إذا طال فيمكن احتماله بفضل التدريب العقلي، وتعود التفكير في أشياء ممتعة رغم وجود ذلك الألم، وفوق كل ذلك، عش بحيث تجتنب الخوف.

وما أدى بأبيقور إلى الفلسفة النظرية إلا تفكيره في مشكلة اجتناب الخوف، فذهب إلى أن مصدرَين من أكبر مصادر الخوف هما الدين والخوف من الموت، وهما مصدران متصلٌ أحدهما بالآخر؛ لأن الدين يشجع على الرأي القائل بأن الموتى أشقياء؛ ولذلك جعل يبحث عن ميتافيزيقا من شأنها أن تبرهن على أن الآلهة لا تتدخل في شئون البشر، وأن الروح تفنى مع فناء الجسد، إن معظم أهل هذا العصر الحديث يرون في الدين مصدر عزاء، أما عند أبيقور فهو على نقيض ذلك؛ إذ رأى أن تدخُّل الآلهة في مجرى الطبيعة مصدر فزع، كما رأى في الخلود قضاءً على كل أمل في النجاة من الألم؛ وعلى ذلك جعل يبني مذهبه الدقيق بتفصيلاته، لعله يشفي به الناس من عقائدهم التي تبث في نفوسهم الخوف.

وكان أبيقور ماديَّ المذهب لكنه لم يأخذ بالجبرية؛ فقد تبع ديمقريطس في رأيه بأن العالم مكوَّن من ذرَّات وفراغ، لكنه لم يؤمن كما آمن ديمقريطس بأن القوانين الطبيعية ما تنفك أبدًا مسيطِرةً على الذرات سيطرةً تامة. لقد أسلفنا القول بأن فكرة الضرورة عند اليونان كانت من أصلٍ ديني، فربما أصاب أبيقور في ظنه بأن الهجوم على الدين لا يكمل إذا لم تهدم فكرة الضرورة أيضًا، والذرات في مذهبه ذات ثقل، تسقط سقوطًا متصلًا، وهي لا تسقط تجاه مركز الأرض، بل إلى أسفل بمعنًى مطلق لهذه الكلمة؛ على أنه قد يحدث أحيانًا لإحدى الذرات أن تتأثر بما يشبه الإرادة الحرة، فتنحرف انحرافًا يسيرًا عن طريقها المباشر إلى أسفل؛٨ وبهذا تصطدم مع ذرةٍ أخرى. ومن هذه النقطة فصاعدًا، تراه يأخذ بمذهب شبيه جدًّا بمذهب ديمقريطس، من حيث تكون الدوامات وغيرها، والروح كائنٌ مادي، قوامه ذرات من نوع الذرات التي تتألف منها زفرات الأنفاس والحرارة (ظن أبيقور أن النفَس والريح يختلفان عنصرًا عن الهواء، فلم يكونا في رأيه مجرد هواء متحرك)، وذرات الروح موزعة خلال الجسم كله، والإحساس ينشأ بسبب رقائق رفيعة تنبعث من الأجسام حتى تمس ذرات الروح، وتستطيع هذه الرقائق أن تظل قائمة حتى بعد أن تتحلل الأجسام التي انبعثت منها أول الأمر، وذلك يعلل لنا الأحلام، فإذا ما جاء الموت تفرقت الروح، وبالطبع تبقى ذراتها قائمة، لكنها لا تعود قاصرة على الإحساس؛ لأنها لا تعود مرتبطة بالجسم، ويلزم عن ذلك، في عبارة أبيقور، أن يكون «الموت لا شيء بالنسبة لنا؛ لأن ما يتحلل لا إحساس له، وما يعوزه الإحساس لا يكون شيئًا بالنسبة لنا».

أما عن الآلهة فإن أبيقور يؤمن إيمانًا قويًّا بوجودها، وإلا لما استطاع بغير ذلك أن يعلل انتشار فكرة الآلهة عند الناس، غير أنه مقتنع بأن هؤلاء الآلهة لا يكلفون أنفسهم مشقة التدخل في شئون عالمنا الإنساني؛ فهم آخذون بمبدأ اللذة المبنية على أساس العقل، فكأنما هم في ذلك يتبعون مبادئه، ويتحاشَون الاشتراك في أمور الحياة العامة، فتولي شئون الحكم عناء لا ضرورة له، وهو لا يُغري الآلهة أبدًا؛ لأنهم يحيَون حياةَ نعيم كامل، ولا شك في أن الكهانة والعرافة وسائر الأفعال التي من هذا القبيل إن هي إلا خرافة خالصة، وكذلك قل في الإيمان بتدبير الآلهة لشئون البشر.

وعلى ذلك فلا أساس لخوفنا من احتمال التعرض لغضب الآلهة، أو احتمال التعرض لعذاب الجحيم بعد الموت. وإن الإنسان ليتمتع بحرية الإرادة، وهو — إلى حدٍّ ما — سيد نفسه، على الرغم من أنه خاضعٌ لقوى الطبيعة التي في مستطاعه أن يدرسها دراسةً علمية. وإنه لمن المستحيل علينا الفرار من الموت، لكن الموت إذا ما فُهم على وجهه الصحيح، تبين أنه ليس من الشر في شيء، ولو عشنا عيشًا حكيمًا وفق مبادئ أبيقور، لجاز لنا أن نتخلص من الألم إلى حدٍّ ما. إن دعوة أبيقور لا تجاوز حدود الاعتدال، ومع ذلك فهي كافية لإشعال روح الحماسة فيمن يؤرقه ما تعانيه الإنسانية من شقاء.

إن أبيقور لا يهتم بالعلم في ذاته، وإنما يحصر اهتمامه به لسببٍ واحد فقط، وهو أن العلم يفسر الظواهر تفسيرًا طبيعيًّا، فلا يعود أمام الخرافة مجال في نسبتها إلى فعل الآلهة؛ فإذا كان للظاهرة المعينة تعليلات كثيرة كلها طبيعي وكلها ممكن، رأى أبيقور أن لا ضرورة لمحاولة الموازنة بينها لترجيح أحدها على سواه، مثال ذلك أن أوجه القمر قد عُللت بتعليلاتٍ كثيرة مختلفة، فكل تعليل منها لا يقل ولا يزيد على أي تعليلٍ آخر، ما دام لا يلجأ إلى الآلهة في التفسير، ولو حاولت أن تقرر أي هذه التعليلات هو الصحيح، كان ذلك منك تطلعًا سحيقًا لا غناء فيه، فلا غرابة ألا يكون الأبيقوريون قد أضافوا إلى المعرفة الطبيعية إلا مقدارًا جد ضئيل. نعم إنهم أدوا خدمة طيبة باحتجاجهم على إيمان الوثنيين المتأخرين في إخلاصهم للسحر والتنجيم والعرافة، لكنهم ظلوا على نهج مؤسس مدرستهم، ضيِّقي الأفق متعصبي الرأي، لا يشوقهم شيء قط فيما عدا أسباب السعادة الفردية. ولقد حفظوا عن ظهر قلب مذهبَ أبيقور، ولم يضيفوا إليه شيئًا أبدًا خلال القرون التي ظلت مدرستهم فيها قائمة.

ولم يلمع من أتباع أبيقور إلا الشاعر لوكريشس (٩٩–٥٥ق.م.) الذي عاصر يوليوس قيصر؛ فقد كان البدع الشائع في الأيام الأخيرة من الجمهورية الرومانية، هو حرية الفكر، وكانت تعاليم أبيقور ذائعة بين الطبقة المثقفة، ثم الإمبراطور أوغسطس بحركةٍ رجعية استعاد بها الفضيلة القديمة والديانة القديمة، فكان من أثر ذلك أن امتنع الناس عن قراءة قصيدة لوكريشس «في طبائع الأشياء»، وظلت كذلك حتى جاءت النهضة، ولم يبقَ لنا منها بعد العصور الوسطى إلا نسخة خطية واحدة، سَلِمَت بمصادفة نادرة من عبث المتعصبين، وإنك لتوشك ألا تجد شاعرًا آخر غير لوكريشس قضت عليه الأحوال أن ينتظر كل هذا الأمد قبل أن يعترف الناس به، لكن العصور الحديثة قد كادت تجمع على جوانب النبوغ فيه، وحسبنا أن نذكر أنه مع بنيامين فرانكلن كانا هما الكاتبين المحبَّبَين لدى شلي.

وقصائده تنظم فلسفة أبيقور شعرًا، فلئن كان الرجلان متفقين على مذهب بعينه، إلا أنهما كانا ذا مزاجين مختلفين جد الاختلاف؛ فقد كان لوكريشس محتدم العاطفة، وكان أشد من أبيقور حاجةً إلى دوافع تميل به إلى التزام الحكمة، وختم حياته منتحرًا. والظاهر أنه كان يتعرض لمسٍّ من جنون آنًا بعد آن، ويؤكد لنا بعض العارفين بأن جنونه هذا جاء نتيجة لآلام العشق، أو أثرًا لما كان يتعاطاه من مركباتٍ تساعد على العشق، وهو يقف من أبيقور موقفه من نبي جاء لخلاص الإنسان، وتراه يُعبر بلغة فيها غزارة الشعور الديني، عن شعوره إزاء رجل يعده هادمًا للدين:٩
لما سقطت الحياة الإنسانية طريحة على الأرض،
تدوسها «الديانة» القاسية بأقدامها
علنًا، وتسحقها بخبثها سحقًا،
تلك الديانة التي أطلت برأسها
من السماء، ونظرت إلى الإنسان الفاني
نظرةً مخيفة؛ نهض رجلٌ من اليونان.
ولم يرهب أن يشخص ببصره الفاني إليها،
فكان أول من يقف على قدميه إزاءها متحديًا؛
فلا الأساطير عن الآلهة، ولا البروق،
كلا، ولا رعود السماء المروعة قد نالت من عزيمته،
بل زاد كل ذلك من يأسه وبسالة نفسه،
حتى لقد شاقه أن يكون أول إنسان
يحطم على الطبيعة أبوابها التي أُحكِم إغلاقها؛
ولذا ترى حدة نشاطه الفعلي قد سادت،
فمضى في طريقه قُدمًا، مُبعدًا عن حدود العالم المشتعلة،
ضاربًا بعقله وروحه في أجواءٍ فسيحة،
مُطوِّفًا بهما أرجاء الكون التي ليس لها حدود،
ثم عاد إلينا من هناك مُظفَّرًا.
عاد إلينا مُزوَّدًا بمعرفةِ ما يمكن وجود وما لا يمكن،
فعلَّمنا علمًا دقيقًا من أي المبادئ يستمد
كل شيء قُواه ويلتزم حدوده؛
ومن ثَم انقلبت الأوضاع، فارتمت «الديانة» بدورها طريحة
ليدوسها الناس بأقدامهم.
وإنا لنمجد فيه هذا النصر تمجيدًا يبلغ عنان السماء.
إننا لا نستطيع أن نفهم الكراهية التي أبداها أبيقور ولوكريشس إزاء الدين، لو سلَّمنا بما أجمع عليه الرواة عن روح البهجة التي تسود الديانة اليونانية وشعائرها؛ فمثلًا قصيدة «كيتس» التي عنوانها «أنشودة إلى وعاءٍ يوناني» تحيي احتفالًا دينيًّا، فلا تجعله واحدًا من تلك الاحتفالات التي تملأ نفوس الناس بالمخاوف المظلمة الكئيبة، فرأيي هو أن العقائد الشعبية لم تكن — إلى حدٍّ كبير — من هذا الطراز البهيج. نعم إن عبادة آلهة الأولمب لم يكن فيها عن عسف العقائد الخرافية بمقدار ما كان في غيرها من صور الديانة اليونانية، إلا أن هذه الآلهة الأولمبية نفسها كانت تتطلب أحيانًا أن تقدم لها الضحايا البشرية حتى كان القرن السابع أو السادس قبل الميلاد، وسجلت أساطير اليونان ومسرحياتهم ذلك الضرب من تقديم الضحايا للآلهة.١٠ وقد كانت التضحية ببني الإنسان لم تزَل قائمة في أرجاء العالم الهمجي كله في عصر أبيقور؛ إذ كانت تلجأ إليها في أوقات الأزمات — مثل قيام الحروب اليونانية — الشعوب الهمجية كلها، لا تستثنِ منها حتى أرقاها، ولبثت الحال كذلك، حتى جاء الغزو الروماني.
وقد بيَّن «جين هارِسُن» Jane Harrison بيانًا يقطع باليقين أن اليونان قد كان لهم إلى جانب العقائد الرسمية التي تصطنع عبادة زيوس وأسرته، وعقائد أخرى أكثر بدائية، تُمازجها شعائر همجية في هذا الموضع أو ذاك، وعمل المذهب الأورفي إلى حدٍّ ما على جمع هذه العقائد كلها جنبًا إلى جنب في عقيدةٍ واحدة، أصبحت هي العقيدة السائدة عند أولئك الذين يغلب عليهم المزاج الديني. وقد تجد أحيانًا من يزعم لك أن الجحيم من ابتكار المسيحية، لكن هذا خطأ؛ إذ إن المسيحية لم تفعل في هذا الصدد سوى أن نسَّقت العقائد الشائعة القديمة في صورةٍ واحدة، فمنذ فاتحة «الجمهورية» عند أفلاطون، يتبين لك في وضوحٍ أن الخوف من العقاب بعد الموت كان شائعًا في أثينا إبان القرن الخامس قبل الميلاد، وليس من المعقول أن يكون ذلك الخوف قد قل في الفترة الواقعة بين سقراط وأبيقور (ولست أعني هنا الأقلية المثقفة، بل أعني الشعب بصفةٍ عامة)، ولسنا نشك أيضًا في أن الناس عندئذٍ قد ألِفوا أن ينسبوا حوادث الطاعون والزلازل والهزائم في الحروب وما إلى ذلك من كوارث، إلى سخط الآلهة، أو امتناع الناس عن الأخذ بالطِّيَرة والفأل، وأعتقد أن الأدب والفن اليونانيين يُضللان غاية التضليل فيما له علاقة بالعقائد الشعبية، فماذا كنا لنعلم عن «الطائفة النظامية» في أواخر القرن الثامن عشر، إذا لم يبقَ لنا عن تلك الفترة من مدوناتٍ سوى الكتب والصور الأرستقراطية التي كتبها أو صوَّرها أتباعها عنها. إن تأثير «الطائفة النظامية» — شأنها شأن العقائد الدينية في العصر الهلينستي — قد صعد من صفوف الناس الدنيا، وكان قد بلغ شيئًا من قوته بالفعل في عهد «بوزوِل Boswell» و«سير جوزوا رينولدز Sir Joshua Reynolds»، ولو أننا لا نتبين شيئًا من قوة تلك الطائفة إذا قرأنا ما كتباه عنها.

وإذَن فلا ينبغي لنا أن نحكم على الديانة الشعبية في اليونان بالصور المرسومة على «الأوعية اليونانية»، ولا بالمؤلفات التي كتبها الشعراء والفلاسفة الأرستقراطيون، ولم يكن أبيقور أرستقراطيًّا لا بحكم مولده، ولا بحكم عشرائه، ولعل ذلك يفسر لنا عداءه للديانة عداوةً شذ بها عن المألوف.

إن قصيدة لوكريشس هي التي كانت أقوى العامل على تعريف القُراء بفلسفة أبيقور منذ عهد النهضة، وأول ما استوقف أنظار هؤلاء القراء — أعني غير الفلاسفة المحترفين منهم — هو التباين بين مذهب أبيقور وبين العقيدة المسيحية في أمور كالنزعة المادية وإنكار تدخل الله في أمور الناس، وإنكار خلود الروح. وأهم ما يَلفت نظر القارئ الحديث هو أن يجد هذه الآراء — التي تُعَد اليوم بصفةٍ عامة آراءً تبعث على الهم والقنوط — يجدها مبسوطة على نحوٍ يُراد به أن تكون إنجيلًا لتحرير الإنسان من عبء الخوف. على أن لوكريشس يؤمن إيمانًا لا يقل في ثباته عن إيمان أي مسيحي بأهمية العقائد الصادقة في أمور الدين؛ فبعد أن يصف كيف يلتمس عبثًا سبيل الطمأنينة في تغيير المكان، يقول:١١
إن كل إنسان يلوذ من نفسه فرارًا.
ومع ذلك فليس لدى الإنسان قدرة على الفرار من نفسه،
إنه يتعلق بها راغمًا.
وتراه يمقتها؛ لأنه — وإن يكن عليلًا —
لا يقوى على إدراك سبب علته.
وهو سبب لو عرفه حق المعرفة،
لنحَّى كل شيء جانبًا،
وعُني أولًا بدراسة طبيعة هذا العالم.
إذ ما هو موضع للشك، إنما هو
حالنا إبان الزمان الأبدي،
لا إبان هذه الساعة العابرة؛
فأبناء الفَناء عليهم أن يمضوا تلك الأبدية،
بعد أن يلحق بهم الموت.

إن العصر الذي عاش فيه أبيقور كان عصرًا منهوك القوى، فكان طبيعيًّا أن يرى الإنسان في إفناء نفسه راحة جميلة من عناء روحه، وعلى نقيض ذلك لم يكن العهد الأخير من «الجمهورية» في أعين معظم الرومانيين عصرًا تبدو فيه مرارة الواقع، فكان أصحاب النشاط الجبار ماضين في خلق نظام جديد من الفوضى القائمة، وهو ما لم يستطع المقدونيون أن يفعلوه. أما الأرستقراطي الروماني الذي تنحَّى عن السياسة، ولم يأبه قط بالصراع في سبيل السلطة واستلاب المغانم، فلا بُدَّ أن يكون مجرى الحوادث قد بدا في عينيه باعثًا على اليأس الشديد، فإذا أضفنا إلى ذلك ما كان ينتاب لوكريشس من حالات الجنون آنًا بعد آن، لم يعد ثَمة ما يدعو إلى العجب أن نراه يلتمس أمله في الخلاص، في عقيدةٍ تنادي بمحو الوجود.

لكن الخوف من الموت أعمق جذورًا في الغريزة البشرية من أن يستطيع إنجيل أبيقور، في أي عصر من العصور، أن يصادف قبولًا عند جمهرةٍ كبيرة من الناس، فظل دائمًا عقيدة الأقلية المثقفة، بل إنه حتى بين طائفة الفلاسفة — بعد عهد أوغسطس — كان نصيبه الرفض بصفةٍ عامة؛ إذ كان هؤلاء يؤثرون عليه المذهب الرواقي، نعم قد ظل مذهب أبيقور قائمًا بعد موته مدى ستة قرون — وإن يكن قد أخذ خلال تلك الفترة يتناقص حدةً — إلا أن الناس حين أخذت محنة الحياة على هذه الأرض تشتد وطأةً على نفوسهم، راحوا يطالبون الفلسفة أو الدين بدواءٍ أقوى من الأبيقورية شفاءً. أما الفلاسفة فقد لاذوا بمذهب الأفلاطونية الجديدة، إلا عددًا قليلًا منهم، وأما غير المثقفين فقد التمسوا النجاة في مختلف الخرافات الشرقية، ثم التمسوها بعدئذٍ في المسيحية التي جعلوا يُقبِلون عليها إقبالًا متزايدًا على الأيام، تلك المسيحية التي عمدت في أولى مراحلها إلى تركيز الخير كله في الحياة الآخرة، فقدَّمت للناس بذلك إنجيلًا يختلف عن مذهب أبيقور اختلاف النقيض عن نقيضه، غير أن «الفلاسفة» الفرنسيين جعلوا في أواخر القرن الثامن عشر، يُحيُون تعاليم مشابهةً لتعاليم أبيقور، وهي التعاليم التي نقلها إلى إنجلترا بنثام وأتباعه، وقد صدروا فيما فعلوه عن رغبةٍ متعمدة في معارضة المسيحية، التي نظروا إليها نظرة فيها نفس العداء الذي نظر به أبيقور إلى ديانة عصره.

١  كتاب «الذَّرِّيون اليونان وأبيقور» تأليف Cyril Bailey طبعة اكسفورد ١٩٢٨م ص٢٢١، وقد جعل «مستر بيلي» من أبيقور مادة اختصاصه، وكتيبه قيم جدًّا للباحث.
٢  كان الرواقيون غاية في الإجحاف بأبيقور، فترى إبكتاتوس مثلًا يخاطبه قائلًا: «إن الحياة التي أقمت الدليل على أنها جديرة بك، حياة قوامها الأكل والشرب والجماع والتبرز والنطيط.» الكتاب الثاني، الفصل العشرون من مؤلف إبكتاتوس الذي عنوانه «أبحاث».
٣  كتاب «مراحل خمس» لمؤلفه Gilqrt Murray، ص١٣٠.
٤  الدراخمة تساوي ما يقرب من خمسة جنيهات.
٥  كتاب «الفلاسفة الرواقيون والأبيقوريون»، تأليف W. J. Oates، ص٤٧. ولقد أخذت من ترجمات «مستر أوتس» ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
٦  (من رأي أبيقور) «غياب الألم هو في ذاته لذة، بل هو — إذا ما حلَّلته تحليلًا وافيًا — أصدق أنواع اللذة» (Bailey، نفس المرجع المذكور، ص٢٤٩).
٧  انظر Bailey في نفس المرجع المذكور له سابقًا، ص٥١٧–٥٢٠، في موضوع الصداقة وتناقض أبيقور مع نفسه تناقضًا مقبولًا.
٨  يأخذ «إدبجتن» في عصرنا هذا برأيٍ شبيه بهذا، في شرحه لمبدأ اللاحتمية.
٩  أنا أقتبس الترجمة (الإنجليزية) من مستر ر. س. ترفليان، ج١، ٦٠–٧٩.
١٠  يذكر لوكريشس حادثة التضحية ﺑ «إفجينيا» مثلًا يستشهد بها على الضرر الذي تنزله العقائد الدينية (ج١، ص٨٥–١٠٠).
١١  ج، ٣، ١٠٦٨–١٠٧٦. في هذا الموضع أيضًا أقتبس من الترجمة (الإنجليزية) التي ترجمها مستر ر. س. ترفليان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤