الفصل الثامن والعشرون

المذهب الرواقي

كانت الرواقية معاصرة للأبيقورية من حيث النشأة، لكنها كانت أطول من زميلتها تاريخًا، وأقل منها ثباتًا على المبدأ، فتعاليم مؤسسها زينون في الشطر الأول من القرن الثالث قبل الميلاد لم تكن أبدًا هي التعاليم التي أخذ بها مرقص أورليوس في النصف الثاني من القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كان زينون ماديًّا؛ إذ كانت تعاليمه في أساسها مزيجًا من المذهب الكلبي ومن مذهب هرقليطس، غير أن الرواقيين أخذوا يبعدون عن المادية شيئًا فشيئًا — بفضل امتزاج المذهب الأفلاطوني الجديد بمذهبهم — حتى لم يعد في النهاية إلا أثر طفيف للمادية في المذهب الرواقي، أما مذهبهم الأخلاقي، فالحق أنه لم يتغير إلا تغيرًا ضئيلًا جدًّا، وظل محتفظًا بالجانب الذي عده معظمهم أهم الجوانب جميعًا، ومع ذلك فقد حدث في هذا الجانب الأخلاقي نفسه أن تغيَّر مركز الاهتمام، فكانت الأيام كلما أمعنت في سيرها، قل اشتغال أصحاب المذاهب بجوانب الرواقية الأخرى غير جانبها الأخلاقي، وازدادوا حصرًا لاهتمامهم في الأخلاق وفي تلك الأجزاء من اللاهوت التي تتصل بالأخلاق اتصالًا وثيقًا، لكننا إذا ما أردنا دراسة الرواقيين الأزليين جميعًا، صادفتنا عقبة، وهي أنه لم يبقَ من مؤلفاتهم سوى نُتف قليلة، وليس بين أيدينا من المؤلفات الكاملة إلا ما يتصل منها ﺑ «سنكا» و«إبكتاتوس» و«مرقص أورليوس»، وهم ينتمون إلى القرنين الأول والثاني بعد الميلاد.

إن الرواقية أقل اصطباغًا بالروح اليوناني من أية مدرسةٍ أخرى من مدارس الفلسفة التي تناولناها بالبحث حتى الآن، وكان الرواقيون الأولون سوريين في كثرتهم الغالبة، كما كان معظم الرواقيين المتأخرين من الرومان، ويشك «تارن Tarn» (في كتاب المدنية الهلينستية، ص٢٨٧) في وجود آثار كلدانية في المذهب الرواقي، ويلاحظ «أوبروفج Ueberweg» بحق أن اليونان حين أخذوا في صبغ العالم المتأخر بالحضارة اليونانية، أسقطوا من هذه الحضارة عناصرها التي تلائم اليونان وحدهم، وكانت الرواقية — على خلاف الفلسفات اليونانية الخالصة الأخرى التي سبقتها ظهورًا — ضيقة في أفقها العاطفي، بل كانت متعصبة لتعاليمها تعصبًا أعمى بوجهٍ من الوجوه، لكنها إلى جانب ذلك كانت تحتوي على عناصر دينية أحس العالم أنه بحاجة إليها، وظهر أن اليونان عاجزون عن إمداد العالم بمثلها، وقد صادفت الرواقية هوًى عند الحكام بصفةٍ خاصة، فيقول الأستاذ «جلبرت مري»: «لقد أعلن كل خلفاء الإسكندر تقريبًا، بل لنا أن نقول إن كل الملوك الرئيسيين في الأجيال التي جاءت بعد زينون، قد أعلنوا أنفسهم رواقيين.»

كان زينون من أهل فينيقيا، وُلد في سيتيوم من أعمال قبرص، في عامٍ يقع في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، والأرجح فيما يظهر أن أسرته كانت مشتغلة بالتجارة، وأن أول ما نقل زينون إلى أثينا مصلحة تتصل بشئون التجارة؛ على أنه لما كان في أثينا، اشتدت به الرغبة في دراسة الفلسفة، وكانت آراء الكلبيين أقرب إلى طبيعته من آراء أية مدرسةٍ أخرى، لكنه كان مع ذلك يميل بعض الشيء إلى اختيار ما يلائمه من تعاليم المذاهب المختلفة؛ فقد اتهمه أتباع أفلاطون بانتحال تعاليم الأكاديمية لنفسه، وكان سقراط هو الإمام الأول للرواقية من أول عهدها إلى آخره، فموقفه إبان المحاكمة، ورفضه القرار، وهدوءه إزاء الموت، ودفاعه عن الرأي القائل بأن من يعمل على نشر الظلم يضر نفسه أكثر مما يضر ضحيته، كل هذه أمور لاءمت التعاليم الرواقية أكمل ملاءمة، كما لاءمها كذلك عدم تفرقته بين الحرارة والبرودة، وبساطته في أمور الطعام والثياب، وعزوفه عزوفًا تامًّا عن كل لذائذ الجسد، إلا أن الرواقيين لم يعتنقوا قط مذهب أفلاطون في المُثل، ورفض معظمهم أن يأخذ بأدلته التي أقامها على خلود الروح، ولو أن الرواقيين المتأخرين وحدهم قد تبعوه في اعتبار الروح غير مادية، أما الرواقيون المتقدمون فقد أخذوا بوجهة نظر هرقليطس بأن الروح مؤلفة من نارٍ مادية، وإننا لنجد هذا المذهب نفسه مذكورًا باللفظ عند «إبكتاتوس» و«مرقص أورليوس»، لكن الظاهر أن النار عندهم لا ينبغي فهمها بالمعنى الحرفي للكلمة، باعتبارها عنصرًا من العناصر الأربعة التي تتكون منها الأشياء المادية.

لم يكن زينون يطيق الوقوف عند لطائف التفكير الميتافيزيقي، فالشيء الهام في نظره هو الفضيلة، ولم يكن للفيزيقا أو الميتافيزيقا عنده من قيمة إلا بمقدار ما يساعدان على الفضيلة، ولقد حاول أن يقاوم الاتجاهات الميتافيزيقية في عصره بوساطة الإدراك الفطري السليم، وهذا معناه في اليونان نزوع إلى المذهب المادي، فكانت تضايقه الشكوك التي تواجه إلى سلامة الركون إلى الحواس؛ ولذا تطرف في الدفاع عن المذهب المضاد لذلك الاتجاه.

بدأ زينون بإثبات وجود العالم الحقيقي، فسأله الشكاك: «ماذا تعني بقولك حقيقي؟» «أعني شيئًا صُلبًا وماديًّا، وأعني أن هذه المنضدة مادة صُلبة.» فسأله الشكاك: «وما رأيك في الله وفي الروح؟» فقال زينون: «هما على أكمل ما تكون الصلابة، هما أشد صلابة من المنضدة.» وهل الفضيلة أو العدالة أو حكم الثلاثة مادة صلبة كذلك؟ فقال زينون: «طبعًا، إنها غاية في الصلابة.»١

وواضحٌ أن زينون في هذه النقطة قد اندفع — كما اندفع كثيرون غيره — بحماسته ضد الميتافيزيقا، إلى القول بميتافيزيقا خاصة به.

وكانت التعاليم الرئيسية التي تمسكت بها المدرسة الرواقية طوال تاريخها كله، تدور حول الجبرية الكونية والحرية الإنسانية؛ فقد آمن زينون بأن الصدفة لا وجود لها، وأن مجرى الطبيعة محدد تحديدًا كاملًا بفعل القوانين الطبيعية، فقد كانت النار أول الأمر هي وحدها العنصر الموجود، ثم ظهرت سائر العناصر — الهواء والماء والتراب (على هذا التوالي)، ظهرت هذه العناصر شيئًا فشيئًا، لكن النار ستعود فتلتهم الكون بأسره، إن عاجلًا وإن آجلًا، بحيث يعود كل شيء إلى الحالة النارية من جديد، وليست هذه الرجعة إلى النار — في رأي معظم الرواقيين — هلاكًا ينتهي به كل شيء، كهذه النهاية التي يأخذ بها المذهب المسيحي، بل هي ختام دورة واحدة، وستعود العملية نفسها من جديد في دورةٍ أخرى، ثم تعود وتعود إلى ما لا نهاية له من الدورات، فكل ما يحدث الآن قد حدث فيما مضى، وسيعود إلى الحدوث من جديد، لا مرة واحدة، بل مراتٍ لا يحصرها عدد.

ومذهب الرواقية إلى هنا قد يبدو متجهمًا، لا يزيد قط في إشاعة الطمأنينة النفسية عن المذهب المادي في صورته المألوفة، كمذهب ديمقريطس، لكن هذا جانب واحد منه، وأما الجانب الآخر فهو أن مجرى الطبيعة عند الرواقية — كما كان عند رجال اللاهوت في القرن الثامن عشر — يسير وفق إرادة مشرع يسنُّ القوانين، ويتصف في الوقت نفسه بحب الخير، فقد رُسمت الخطة للكون في جملته، وهي خطة شملت التفصيلات بكل صغيرة فيها، فقد رُسمت بحيث تحقق غايات معينة بوسائل طبيعية، وهذه الغايات يمكن إدراكها في حياة الإنسان، اللهم إلا ما يتصل منها بالآلهة والشياطين، فلكل شيءٍ غايةٌ متصلة ببني الإنسان، فبعض الحيوان صالحٌ للأكل، وبعضها يهيئ اختبارًا للشجاعة، بل إن بق الفراش نافع؛ لأنه يساعدنا على اليقظة في الصباح، فلا نطيل الرقاد في المخادع، وتُسمى «القوة» العليا أحيانًا بكلمة الله، وأحيانًا بكلمة زيوس، وقد فرق «سنكا» بين زيوس هذا وبين ذلك الذي يعتقد فيه عامة الناس — وهو أيضًا كائنٌ حقيقي — لكنه تابع لذاك.

وليس الله منفصلًا عن العالم، بل هو روح العالم، وكلٌّ منا فيه جزء من «النار الإلهية» وكل الأشياء أجزاء من نسقٍ واحد، نُسميه الطبيعة، وحياة الفرد خيِّرة ما دامت متوائمة مع الطبيعة في نغمٍ واحد، بل يجوز لنا أن نقول إن كل حياةٍ متناغمةٌ مع الطبيعة؛ لأنها حياة قد استوجبتها قوانين الطبيعة، لكننا من ناحيةٍ أخرى نقول إن الحياة الإنسانية لا تكون في نغمٍ واحد مع الطبيعة، إلا إذا اتجهت إرادة الفرد نحو غاياتٍ هي بين الغايات التي تنشدها الطبيعة، وتتألف «الفضيلة» من «إرادة» متفقة مع اتجاهات الطبيعة. ولئن كان الأشرار بطبيعة الحال يطيعون قانون الله بفعلهم الشر، إلا أنهم يقترفون شرهم هذا على غير إرادة منهم، فهم كما شبَّههم «كلينثيز» كالكلب رُبط إلى عربة، وأجبر إجبارًا على متابعة العربة حيثما سارت.

الفضيلة هي الخير الأوحد في حياة الإنسان الفرد، ولا اعتبار لأشياء كالصحة والسعادة والملك. ولما كانت الفضيلة قائمة في الإرادة، فكل ما هو خير حقًّا أو شر حقًّا في حياة الإنسان، يتوقف عليه هو نفسه، إنه قد ينقلب فقيرًا، ولكن ما قيمة هذا؟ إنه يستطيع أن يظل فاضلًا، وقد يضعه الطاغية في غيابة السجون، لكنه مع ذلك يستطيع أن يتمسك بحياته حياة متناغمة مع الطبيعة، وقد يحكم عليه بالموت لكنه يستطيع مع ذلك أن يموت ميتة الشرف كما مات سقراط. إن غيرك من الناس لا سلطان لهم عليك إلا في أمور الظاهر، أما الفضيلة — وهي وحدها الشيء الخيِّر حقًّا — فمتوقفة على الفرد وحده دون سواه؛ ولذلك فلكل إنسانٍ مطلق الحرية، على شرط أن يحرر نفسه من شهوات الحياة الأرضية، ويخطئ الحكم من يظن أن هذه الشهوات لها السيادة، أما الحكيم صاحب الأحكام الصادقة، فهو المتحكم في مصير نفسه، فيما يتعلق بكل ما له قيمة في رأيه؛ وذلك لأنه لا تستطيع قوة خارجية أن تسلبه فضيلته.

وتكتنف هذا المذهبَ مشكلاتٌ منطقية واضحة، فإذا كانت الفضيلة حقًّا هي الخير الذي لا خير سواه، لزم أن يحصر الله الخيِّر عنايته في إحداث الفضيلة، ومع ذلك نرى قوانين الطبيعة قد أخرجت كثيرين من مقترفي الخطيئة. وإذا كانت الفضيلة هي الخير الأوحد، لما كان هناك حجة ضد القسوة والظلم؛ لأن القسوة والظلم — كما قال الرواقيون وأعادوا القول مرةً بعد مرة — تهيئان لمن يقع تحت تأثيرهما أحسن فرصة تتيح له ممارسة فضيلته. وإذا كانت الدنيا مجبرة بقوانينها جبرًا كاملًا، كانت القوانين الطبيعية هي التي تقرر لي أن أكون فاضلًا أو لا أكون، وإذا كنت شريرًا فالطبيعة هي التي ألزمتني أن أكون شريرًا، واستحالت على الحرية التي يقال إن الفضيلة تهبها للإنسان.

إن العقل الحديث ليتعذر عليه أن يرى موجبًا للتحمس لحياةٍ فاضلة، إذا كانت تلك الحياة ليس من شأنها أن تنتج شيئًا، إننا نثني على رجل الطب الذي يخاطر بحياته في وباء الطاعون؛ لأننا نرى المرض شرًّا، ونأمل أن يقل وقوعه، أما إذا لم يكن المرض شرًّا، فخيرٌ لرجل الطب أن يظل في داره مستريحًا، أما الرواقي فيقول إن فضيلة مثل ذلك الرجل غاية في ذاتها، لا وسيلة تؤدي إلى ما هو خير، فإذا نحن ألقينا بأبصارنا إلى بعيد، سألنا: ما هي الغاية النهائية التي تترتب على الرواقية؟ خراب العالم القائم بفعل النار، ثم عودة العالم سيرته الأولى؛ فهل يمكن أن ترى عبثًا مخربًا أكثر من هذا العبث؟ فقد ترى تقدمًا هنا وتقدمًا هناك، لكنه تقدمٌ مرهون بوقتٍ معين، ولن يكون في نهاية الأمر سوى أن يبدأ كل شيء سيرته من جديد. إننا إذ نرى شيئًا يؤلم ألمًا فوق ما يمكن احتماله، رجَونا أن يزول مثل ذلك الشيء بعد حين، أما الرواقي فيؤكد لنا أن ما يحدث الآن سيعود إلى الحدوث مرةً بعد مرة، وإن الإنسان لا يسعه إزاء ذلك إلا أن يقول بأن الإله الخيِّر الذي يشرف على العالم في سيره الكلي، لا بُدَّ أن ينتابه اليأس آخر الأمر مللًا من هذا التكرار.

يضاف إلى ذلك شيء من برود العاطفة في تصور الرواقيين للفضيلة؛ فهم لا يهاجمون العواطف السيئة وحدها، بل يهاجمون العواطف جميعًا؛ فالحكم ليس من شأنه أن يعطف على أحد؛ فإذا مات أطفاله، فكر قائلًا إن هذه الحادثة لا تعوق قيام فضيلته هو؛ ولذا فهو لا يعاني ألمًا عميقًا، ولا بأس في الصداقة التي رفع من شأنها أبيقور، لكنها لا ينبغي أن تصل بك إلى حدٍّ يسمح للكوارث التي تحل بالصديق أن تعكر عليك هدوء نفسك المقدس؛ وأما عن الحياة العامة، فقد يكون من واجبك أن تأخذ بنصيب فيها، ما دامت تتيح الفرص للعدالة والاحتمال وما إليها من فضائل، لكنه لا يجوز لك أن تندفع بالرغبة في إفادة الإنسان؛ لأن الفوائد التي في مستطاعك أن تفيضها على الناس، مثل الحياة الآمنة والزيادة من القوت، ليست بالفوائد الحقيقية؛ وعلى كل حال، فليس يهمك أنت سوى فضيلة نفسك. إن الرواقي لا يرى أنه فاضل لكي يفعل خيرًا، بل هو يفعل الخير لكي يكون فاضلًا، ولم يرد على خاطره أن يحب جاره كما يحب نفسه؛ فالحب لا وجود له في تصوره للفضيلة، اللهم إلا الحب بمعناه السطحي.

وحين أقول هذا، فإنما يدور الحب في خاطري، باعتبار الحب عاطفة لا مبدأً؛ إذ بشَّر الرواقيون بالحب الشامل للناس جميعًا، متخذين الحب مبدأً، وإنك لتجد هذا المبدأ عند «سنكا» وخلفائه، وربما أخذه هؤلاء عن رواقيين سابقين لعهدهم. إن منطق المدرسة الرواقية قد أدى إلى تعاليم صارمة، ثم خفف من صرامتها ما اتصف به أتباع المذهب من شعورٍ إنساني؛ فقد كان هؤلاء الأتباع أفضل جدًّا بأشخاصهم مما كانوا ليكونوا لو أنهم التزموا حدود مذهبهم التزامًا دقيقًا. ويقول «كانت» — الذي يشبههم — إنه لزامٌ عليك أن تكون رحيمًا بأخيك، لا لأنك تحبه، بل لأن القانون الأخلاقي يلزمك بالرحمة، ومع ذلك فإني أشك في أنه قد عاش حياته الخاصة وفقًا لهذا المبدأ.

ودعنا الآن من هذه الأقوال العامة، لننتقل إلى تاريخ الرواقية.

إننا لا نعلم عن «زينون»٢ إلا طائفة من النتف، ومنها يبدو أنه قد عرف الله بأنه العقل الناري للعالم، وأنه قال إن الله جوهرٌ مادي، وأن الكون كله يؤلف جوهر الله. ويقول «تيرتوليان» إنه بناءً على رأي زينون يكون الله ساريًا خلال العالم المادي، كما يسري العسل في أقراصه. ويروي «ديوجنيز ليرتيوس» عن زينون أنه قال إن «القانون العام» الذي هو «العقل الصحيح» ويتخلل كل شيء، هو نفسه ما نطلق عليه اسم «زيوس»، وهو الرئيس الأعلى لحكومة الكون. إن «الله» و«العقل» و«القضاء» وزيوس كلها أسماء على مسمًّى واحد. و«القضاء» قوة تحرك المادة، ومن أسماء تلك القوة أيضًا «العناية الإلهية» و«الطبيعة»، ولا يؤمن زينون بضرورة قيام المعابد للآلهة: «لا حاجة بنا إلى إقامة المعابد، ولا ينبغي أن ننظر إلى المعبد نظرتنا إلى شيءٍ ذي قيمة كبيرة، أو نظرتنا إلى شيءٍ مقدس؛ فلا شيء مما يصنعه البناءون أو الميكانيكيون يجوز أن يكون ذا قيمة كبيرة أو أن يكون مقدسًا.» والظاهر أنه قد آمن — كما آمن الرواقيون المتأخرون — بالتنجيم والعرافة. ويقول شيشرون إنه قد عزا إلى النجوم قوة إلهية. ويقول ديوجنيز ليرتيوس: «إن الرواقيين قد سلموا بصحة العرافة بكافة ضروبها، وهم يقولون إنه ما دام ثَمة «عناية إلهية»، فلا بُدَّ أن يكون هنالك سبيل للعرافة، وهم يبرهنون على صحة فن العراقة بطائفةٍ من المواقف صدقت فيها نبوءات العرَّافين كما زعم زينون.» وقد كان «كريسبوس» صريحًا في هذا الموضوع.

إن المذهب الرواقي فيما يختص بالفضيلة غير مذكور في النُّتف الباقية لدينا مما كتب زينون، لكنه فيما يظهر قد آمن به.

وأشهر ما يشتهر به «كلينثيز» من أهل آسوس، وهو الخلف المباشر لزينون، شيئان؛ الأول هو ما ذكرناه عنه فيما سلف من أنه اعتقد بأن أرسطرخس من أهل ساموس، قد خرج على الدين حين جعل الشمس — بدل الأرض — مركزًا للكون، والثاني هو «ترنيمة لزيوس»، وفي هذه الترنيمة جزء كبير مما كان يمكن أن يجري على قلم الشاعر بوب أو سواه من مثقَّفي المسيحيين في القرن الذي تلا نيوتن، بل إن الدعاء القصير الذي قاله كلينثيز لأقربُ إلى روح المسيحية، وهو:

أيا زيوس وأي هذا القدر، اهدياني،
اهدياني سواء السبيل.
وأيًّا ما كان العمل الذي تريدانني أن أؤديه،
فاهدياني فيه سواء السبيل.
إني أتبعكما بغير خوف. فإذا ما تولَّتني ريبة،
وتلكأت في الطريق، وترددت في العمل؛
كان حتمًا عليَّ رغم ذلك أن أتبع ما تأمرانني به.

وجاء «كريسبوس» (٢٨٠–٢٠٧ق.م.) بعد كلينثيز، فكان مؤلفًا غزير الإنتاج، حتى يقال إنه كتب سبعمائة كتاب وخمسة كتب، وهو الذي جعل المذهب الرواقي مذهبًا متسق الأجزاء فيه روح التعمق العلمي، وقد ذهب إلى أن زيوس وحده — النار العليا — هو الخالد، أما سواه من الآلهة، بما في ذلك الشمس والقمر، فتولد وتموت. ويقال إنه فكَّر في أن يجعل الله بريئًا من إحداث الشر، لكننا لا نرى كيف استطاع أن يوفق بين هذا الرأي وبين القول بالجبرية، وهو في مواضع أخرى يتناول موضوع الشر على نحو ما تناوله به هرقليطس، ذاهبًا إلى أن الأضداد يتضمن بعضها بعضًا، وعلى ذلك يكون الخير بغير الشر مستحيلًا من الوجهة المنطقية، «ليس أشد جهالة من أولئك الذين يزعمون أن الخير كان يمكن وجوده بغير قيام الشر إلى جانبه؛ إذ لما كان الخير والشر متقابلين، كان لا بُدَّ من وجودهما معًا متضادين.» وهو يرجع إلى أفلاطون لا إلى هرقليطس لتأييد هذا المذهب.

وذهب «كريسبوس» إلى أن الرجل الخيِّر سعيد دائمًا، وأن الشرير شقيٌّ دائمًا، وأن سعادة الرجل الخيِّر لا تختلف في شيءٍ قط عن سعادة الله. وكان الرأي متضاربًا في مسألةِ ما إذا كانت الروح تظل قائمة بعد الموت، أما «كلينثيز» فيرى بأن الأرواح جميعًا تظل قائمة حتى يجيء الاحتراق العام التالي (حين يندمج كل شيء في الله)، لكن «كريسبوس» يذهب إلى أن ذلك لا يصدق إلا على أرواح الحكماء من الناس دون سواهم، وقد كان أقل استغراقًا بكل اهتمامه في الجانب الأخلاقي من الرواقيين المتأخرين، بل إنه قد جعل المنطق أساسًا جوهريًّا. ومما يُعزى إلى الرواقيين في هذا الباب القياس الشرطي بفرعَيه الاتصالي والانفصالي، وكلمة «الانفصال» نفسها، كما يُعزى لهم كذلك دراسة النحو وابتكار حالتَي الفاعل والمفعول في تصريف الأسماء.٣ وكان ﻟ «كريسبوس» — أو لغيره من الرواقيين الذين ألهمتهم تآليفه — نظرية دقيقة في المعرفة، وهي نظرية تجريبية في أساسها، قائمة على أساس الإدراك الحسي، ولو أنهم اعترفوا بأن بعض الأفكار والمبادئ تستمد صحتها من الفطرة الإنسانية المشتركة بين الناس جميعًا، أما زينون والرواقيون الرومان فقد اعتبروا كل الدراسات النظرية تابعة للأخلاق؛ فهو يقول إن الفلسفة كالبستان، المنطق جدرانه، والفيزيقا أشجاره، والأخلاق ثماره؛ أو هي كالبيضة، المنطق قشرتها، والفيزيقا بياضها، والأخلاق صفارها.٤ لكن يظهر أن «كريسبوس» قد جعل قيمةً أكبر للدراسات النظرية غير مستنِدة فيها إلى الدراسات العملية. ومن الجائز أن يكون تأثيره سببًا في أن كثيرين من الرواقيين قد اشتغلوا بالرياضة وسائر العلوم حتى تقدَّمت بعض التقدم على أيديهم.

ثم أصاب الرواقيةَ تحويرٌ كبير بعد عهد «كريسبوس»، وذلك على أيدي رجلين هامين، هما «بانيتيوس» و«بوزيدونيوس». أما بانيتيوس فقد أدخل على المذهب عنصرًا ملحوظًا من الأفلاطونية، ونفض يديه من النزعة المادية، وقد كان صديقًا ﻟ «سيبيو» الأصغر، كما كان له أثر في شيشرون الذي كان أول من عرَّف الرومان بالمذهب الرواقي، بل كان «بوزيدونيوس» أكبر أثرًا في شيشرون، وقد درس شيشرون عليه في رودس، بوزيدونيوس هذا قد تلقى العلم على يدي بانيتيوس، الذي مات نحو ١١٠ بعد الميلاد.

كان بوزيدونيوس (حوالي ١٣٥–حوالي ٥١ق.م.) يونانيًّا سوريًّا، وكان لم يزل في طفولته حين أسدل الستار على الإمبراطورية السليوكية. ولعل ما حدا به إلى السفر ناحية الغرب ما شهده من الفوضى في سوريا، فسافر أولًا إلى أثينا حيث تشرَّب الفلسفة الرواقية، ثم أمعن بعد ذلك في السفر تجاه الغرب إلى حيث كانت الأجزاء الغربية من الإمبراطورية الرومانية، «فشهد بعينيه غروب الشمس في المحيط الأطلنطي، فيما وراء العالم المعروف، وشهد كذلك الساحل الإفريقي المواجه لإسبانيا، حيث كانت الأشجار مليئة بالقردة، ثم شهد القرى التي تسكنها أقوامٌ همج، وهي القرى الواقعة داخل القارة على مبعدةٍ من مارسيليا، حيث كانت الرءوس البشرية المدلاة من أبواب المنازل رموزًا للنصر، منظرًا مألوفًا من مناظر الحياة الجارية.»٥ وقد أصبح بوزيدونيوس كاتبًا غزير الإنتاج في الموضوعات العلمية، بل كان من أسباب سفره رغبته في دراسة المد والجزر، وهي دراسة لا يمكن أداؤها في البحر الأبيض المتوسط. وكان له في الفلك أبحاث ممتازة؛ فكما أسلفنا القول في الفصل الرابع والعشرين، كان تقديره لبعد الشمس أقرب تقديرات العصور القديمة إلى الرقم الصحيح.٦ وكذلك كان مؤرخًا نابغًا؛ فهو الذي استأنف عمل بوليبيوس، على أنه كان معروفًا قبل كل شيء بأنه فيلسوف يتخير من شتى الفلسفات ما يصادف قبوله؛ لهذا تراه قد مزج بالرواقية جانبًا كبيرًا من تعاليم أفلاطون التي يظهر أن قد نسيتها الأكاديمية في المرحلة التي سادها فيها التشكك.
وتظهر هذه الصلة الوثيقة بينه وبين أفلاطون في تعاليمه الخاصة بالروح وبالحياة بعد الموت؛ فقد كان من رأي «بانيتيوس» — كما هو الرأي عند معظم الرواقيين — أن الروح تفنى في الجسد، أما «بوزيدونيوس» فيقرر على نقيض ذلك أن الروح تظل حية في الهواء، حيث تبقى في معظم الحالات بغير تغير حتى يحل بالعالم الاشتعال التالي، وليس ثمة جحيم، لكن الأشرار بعد الموت لا يكونون سعداء كالأخيار؛ لأن الخطيئة تجعل أبخرة الروح طينية، فيثقلها هذا الطين عن الصعود إلى حيث تصعد أرواح الخيرين، والممعنون في الشر يظلون على مقربة من الأرض ويعودون عن طريق التناسخ، وأما الفضلاء بمعنى الفضيلة الصحيح، فيصعدون إلى عالم النجوم، حيث يقضون زمانهم يرقبون النجوم في دورانها، وفي وسعها عندئذٍ أن تقدم المعونة للأرواح الأخرى، وهذا يفسر (في رأيه) صدق التنجيم. ويقترح «بيفان Bevan» رأيًا، وهو أن هذا الإحياء للأفكار الأورفية، وتنسيق العقائد «الفيثاغورية الجديدة» على يدَي بوزيدونيوس، ربما عمل على تهيئة السبيل لظهور المذهب الغنوسطي (وهو مذهب في المسيحية يعتقد بأن الخلاص سبيله المعرفة دون الإيمان)، وهو يضيف إلى ذلك قوله الصادق بأن الذي قضى على هذه الفلسفات التي من قبيل فلسفة بوزيدونيوس لم يكن هو الدين المسيحي، بل نظرية كوبرنيق.٧ وقد أصاب «كلينثيز» حين اعتبر أرسطرخس من أهل ساموس عدوًّا خطيرًا.

وهناك ثلاثة رجال كانوا أهم بكثير من هؤلاء الرواقيين الأولين، من الوجهة التاريخية (ولو أنهم لم يكونوا أهم منهم من الوجهة الفلسفية)، وأعني بهم أولئك الذين كانت لهم صلة بروما، وهم: «سنكا» و«إبكتاتوس» و«مرقص أورليوس». وهم وزير وعبد وإمبراطور، على التوالي.

كان سنكا حوالَي ٣ق.م. إلى ٦٥ ميلادية إسبانيًّا، وكان أبوه رجلًا مثقفًا يقيم في روما، واتخذ «سنكا» لنفسه سيرة سياسية، وبلغ حدًّا لا بأس به من النجاح، لولا أنه أُبعدَ إلى كورسيكا (٤١ ميلادية)، أبعده الإمبراطور «كلوديوس»؛ لأنه أثار عداوة الإمبراطورة «مسالينا»، ثم جاءت زوجة كلوديوس الثانية، وهي «أجرييينا» فاستدعت سنكا من منفاه سنة ٤٨ ميلادية، وعيَّنته مُربيًا لولدها الذي بلغ من عمره الحادية عشرة، وكان سنكا أقل حظًّا من أرسطو في تلميذه؛ فالتلميذ هذه المرة هو الإمبراطور نيرون. وعلى الرغم من أن سنكا قد احتقر المال بصفته الرسمية باعتباره رواقيًّا، إلا أنه في الواقع قد جمع لنفسه ثروةً طائلة، بلغت — كما قيل — ثلاثمائة مليون من السترات (وهو مبلغ يقرب من ثلاثة ملايين من الجنيهات)، وقد حصل على جانبٍ كبير من هذا المال بإقراضه القروض في بريطانيا. ويقول «ديو Dio» إن إسرافه في نسبة الأرباح التي كان يتقاضاها كان سببًا من الأسباب التي أدت إلى الثورة في تلك البلاد. ولو صح ما يقال، فإن البطلة «الملكة بوديقا» تزعمت ثورة على الرأسمالية كما تمثلت في شخص هذا الفيلسوف الذي جعل من نفسه رسولًا من رسل التقشف.

ولما أخذ نيرون يزداد في استهتاره تحللًا من القيود، أخذ سنكا شيئًا فشيئًا يفقد حظوته عنده، حتى اتُّهم آخر الأمر — بحقٍّ أو بغير حق — بالاشتراك في مؤامرةٍ واسعة النطاق لقتل نيرون، وتولية إمبراطور جديد على العرش — وقال بعضهم إن المقصود كان سنكا نفسه — ونظرًا لخِدماته السابقة سمح له، في تساهلٍ معه، أن ينتحر (٦٥ ميلادية).

وجاءت نهايته درسًا؛ فلما علم أول الأمر بما قرَّره الإمبراطور في شأنه، أخذ يكتب وصية. فلما قيل له إنه لم يعد أمامه من فسحة الوقت ما يتيح له مثل هذا العمل الطويل، عاد إلى أسرته الحزينة وقال: «لا تبالوا؛ فسأترك لكم ما هو أهم جدًّا من الثروة على هذه الأرض؛ إذ سأترك لكم مثلًا من الحياة الفاضلة.» أو قال شيئًا بهذا المعنى، ثم فجَّر عروقه ونادى أُمناءه أن يُسجلوا ما ينطق به وهو يلفظ الروح. ويقول «تاستس» إن سيل بلاغته لم يزل دفَّاقًا خلال اللحظات الأخيرة من حياته. ولقي ابن أخيه (أو ابن أخته) لوقان الشاعر ميتة كهذه في نفس الوقت، ولفظ روحه وهو يُنشد أشعاره. وقد حكمت العصور التالية على سنكا بمبادئه العالية أكثر مما حكمت عليه بسلوكه العملي الذي يدعو إلى شيء من الريبة، وسلكه كثيرٌ من «آباء الكنيسة» في زمرة المسيحيين، وهناك رسائل مفروض فيها أنها تُبودِلت بينه وبين القديس بولس، يزعم بعض الناس، ومنهم القديس جيروم، أنها حقيقة تاريخية وليست بالمنتحَلة.

أما إبكتاتوس (وُلد حوالي ٦٠ ميلادية ومات حوالي ١٠٠ ميلادية)، فرجلٌ من نمطٍ مختلف عن ذلك جد الاختلاف، ولو أنه شديد الشبه به كفيلسوف. كان يونانيًّا، وكان في بداية أمره عبدًا ﻟ «إبافروديتوس» الذي أعتقه نيرون ثم جعله وزيرًا له، وكان أعرج، وقيل إن عرجه جاء نتيجة لعقابٍ شديد نزل به في أيام عبوديته. وقد أقام وعلَّم في روما حتى سنة ٩٠ ميلادية، وهي السنة التي أبعد فيها الإمبراطور دوميتيان جميع الفلاسفة من البلاد؛ لأنه لم يؤمن بفائدة المثقفين، وعلى ذلك لجأ إبكتاتوس إلى نيكوبولس في إبيروس، حيث مات بعد بضعة أعوامٍ أنفقها في الكتابة والتعليم.

وكان مرقص أورليوس (١٢١–١٨٠ ميلادية) ينزل من السلم الاجتماعي في طرفه الآخر، إذا كان ابنًا تبناه الإمبراطور الطيب أنطونيوس بيوس الذي كان عمه وصهره، وقد خلفه مرقص أورليوس على العرش سنة ١٦١ ميلادية فاحتفظ لذكراه بالتمجيد. وقد اختص مرقص أورليوس نفسه بفضيلة الرواقيين وهو إمبراطور؛ إذ كان في حاجةٍ شديدة لقوة الاحتمال؛ لأن عهده في الحكم قد أحيط بالكوارث؛ زلازل وأوبئة وحروب طويلة عسيرة وثورات عسكرية. وتدل «تأملاته» التي خاطب بها نفسه، والتي لم يقصد بها إلى النشر فيما يظهر، على أنه قد أحس بعبء واجباته العامة باهظًا، وأنه كان يعاني من شدة الإعياء، وقد تبين أن ابنه الوحيد «كومودس» الذي خلفه في الحكم، رجلٌ من أسوأ من حكَم البلاد من الأباطرة السيئين وهم كثيرون، إلا أنه وُفِّق في إخفاء ميوله الشريرة ما لبث أبوه حيًّا. وقد اتُّهمت «فوستينا» زوجة الفيلسوف بالخطيئة الخلقية العظمى — وقد يكون الاتهام على غير أساسٍ صحيح — لكنه لم يشك فيها أبدًا، وكلف نفسه بعد موتها أن يُنزلها منزلة الآلهة من التقديس. ولقد اضطهد المسيحيين لأنهم نبذوا دين الدولة الذي اعتبروه ضرورة سياسية، وكان ذا ضمير حي في كل أفعاله، لكنه لم يوفق إلى النجاح في الكثرة الغالبة من تلك الأفعال وهو شخصية تستدر العطف، فقد أعد قائمة بالشهوات الدنيوية التي لا بُدَّ من مقاومتها، ومن رأيه أن أكثرها تضليلًا عن جادة الأخلاق القويمة هي الرغبة في التماس الحياة الهادئة في الريف؛ على أن الفرصة لم تسنح له قط لمثل هذه الحياة، وبعض «تأملاته» قد كتبه في معسكره؛ إذ هو يقوم بحملاتٍ عسكرية نائية، لقي فيها من المشاقِّ ما أودى به آخر الأمر.

ومما يستوقف النظر أن «إبكتاتوس» و«مرقص أورليوس» على أتم اتفاق في كل المسائل الفلسفية، وهذا قد يدلنا على أن الظروف الاجتماعية وإن تكن ذات أثر في فلسفة العصر المعين، إلا أن الأحوال المحيطة بالفرد الواحد أقل تأثيرًا على فلسفة ذلك الفرد مما قد يذهب بنا الظن أحيانًا؛ فالفلاسفة عادةً رجال لهم درجة من سعة العقل، ويستطيعون إلى حدٍّ كبير أن يطرحوا من اعتبارهم ما يطرأ على حياتهم الخاصة من أحداث، لكن هؤلاء الفلاسفة أنفسهم يستحيل عليهم أن يرتفعوا بأنفسهم عن الخير أو الشر الذي يسود عصرهم، وهو أكبر خطرًا من الخير أو الشر يصيب الفرد الواحد؛ فإنهم إذا ساءت بهم الأيام، ابتكروا لأنفسهم ألوان العزاء؛ وإذا جادت لهم الأيام، وجدت اهتماماتهم أقرب إلى المجال العقلي الخالص.

ويبدأ «جبن Gibbon» تاريخه المفصل بذكر شرور «كومودس»، وهو متفق مع معظم كتاب القرن الثامن عشر في اعتبار عصر الأنطونيين عصرًا ذهبيًّا، فهو يقول: «إنه إذا طُلب من إنسانٍ أن يحدد فترة من تاريخ العالم، بلغت فيها حالة الإنسانية أسعد درجاتها وأوفر حالاتها رخاءً، لما تردد في أن يذكر الفترة التي وقعت بين موت دوميتيان وتَولِّي كومودس.» ويستحيل علينا أن نوافق على هذا الحكم من جميع الوجوه؛ فإن شر العبودية قد اقتضى كثيرًا من ألوان العذاب، وجعل يمتص عصارة الحيوية من العالم القديم. وكانت تقدم المعارض لمشاهدة الناس يتبارزون بالسيوف ويعتركون مع الحيوانات المفترسة، وفي تلك المشاهد ما فيها من قسوة لا تحتمل، ولا بُدَّ أن تكون هبطت بإنسانية هؤلاء الناس الذين وجدوا المتعة في رؤيتها. نعم إن مرقص أورليوس قد قضى بأن يتبارز المتبارزون بسيوفٍ كليلة، لكن إصلاحه هذا لم يدُم إلا أمدًا قصيرًا، فضلًا عن أنه لم يفعل شيئًا يختص بمقاتلة الحيوانات المفترسة. وكان النظام الاقتصادي غاية في السوء؛ فكانت إيطاليا قد أخذت تهمل أراضيها الزراعية، وكان سكان روما يعتمدون على توزيع الغلة الواردة من الأقاليم الريفية بالمجان، وتركزت روح الابتكار بكافة أنواعه في الإمبراطور ووزرائه، فلم يكن في وسع أحد في طول الإمبراطورية وعرضها سوى الاستكانة للأمر، إلا أن يظهر هنا أو هناك قائد عسكري ثائر، ونظر الناس إلى الماضي نظرتهم إلى المثل الأعلى، وأما المستقبل فهو في ظنهم مؤدٍّ بهم إلى حالة من الإعياء على أحسن التقدير، وأما على التقدير السيئ فالمستقبل آتٍ لهم بأسباب الفزع. إننا إذا قارنَّا نغمة مرقص أورليوس بنغمة «بيكن»، أو «لك» أو «كوندورسيه»، رأينا الفرق بين عصرٍ مكدود وعصر يشيع فيه الأمل؛ فالعصر إذا ما ساده الأمل، أمكن احتمال شرور عظمى من الشرور القائمة؛ لأن الناس سيَرونها شرورًا في طريقها إلى الزوال، وأما في العصر المكدود فأسباب الخير نفسها تفقد بهاءها. ولقد لاءمت الأخلاق الرواقية عصر إبكتاتوس وعصر مرقص أورليوس؛ لأنها أخلاق تبشر باحتمال المصاعب أكثر مما تبعث الأمل.
لا شك في أن عصر الأنطونيين كان أفضل جدًّا من أي عصرٍ جاء بعد ذلك حتى عهد النهضة، وذلك من وجهة نظر السعادة بصفةٍ عامة، غير أن الدراسة الدقيقة تبين أنه لم يكن من الازدهار بالدرجة التي تميل بنا آثاره المعمارية إلى افتراضها؛ فالمدنية اليونانية الرومانية لم تترك في المناطق الزراعية إلا أثرًا خافتًا جدًّا؛ إذ انحصرت تلك المدنية تقريبًا في حدود المدن، بل إن حتى في المدن ذاتها كان هنالك طبقة من سواد الشعب عانت ضربًا من الفقر المُدقِع الفظيع، كما كان هنالك طبقة كبيرة من العبيد. ويلخص لنا «روستوفتسف Rostovtseff» بحث الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في المدن فيما يأتي:٨

«إن هذه الصورة لأحوالها الاجتماعية ليست تستلفت الأنظار كما تستلفتها صورة مظهرها الخارجي؛ فالفكرة التي نُكونها مما لدينا من مصادر هي أن فخامة المدن قد أنشأتها لنفسها أقلية صغيرة جدًّا من السكان، وأن ازدهار الحياة لهذه الأقلية الصغيرة نفسها لم يقم إلا على أساسٍ واهٍ نسبيًّا، وأن سواد أهل المدن لم يكن له إلا دخل متواضع جدًّا، إن لم يكن قد عاش في فقرٍ شنيع. واختصارًا، لا يجوز لنا أن نبالغ في تقدير ثروة المدن؛ فمظهرها الخارجي قد يخدع.»

يقول إبكتاتوس إننا على هذه الأرض سجناء، نعيش في جسد من تراب، ويروي لنا عنه مرقص أورليوس أنه اعتاد أن يقول: «إنك روحٌ صغيرة تحمل معها جثمانًا، إن زيوس لم يستطِع أن يجعل الجسد حرًّا، لكنه نفخ فينا نفخةً من قدسيته، إن الله هو أب الناس، ونحن كلنا إخوة، فلا ينبغي لأحدٍ منا أن يقول «أنا أثيني» أو «أنا روماني»، بل يقول «أنا مواطن، ووطني هو الكون». إنك إذا كنت قريبًا لقيصر، أحسست اطمئنانًا، فكم يكون مدى اطمئنانك الذي تُحسه لو كنت قريبًا لله؟ إننا لو عرفنا حق المعرفة أن الفضيلة هي الخير الحقيقي الوحيد، رأينا أنه يستحيل أن يلمَّ بنا شرٌّ حقيقي.

لا بد لي أن أموت، لكن هل يتحتم عليَّ أن أموت مُتأوِّهًا؟ لا بُدَّ أن أكون سجينًا، لكن هل يتحتم عليَّ أن أضيف إلى السجن عويلًا؟ لا بُدَّ لي أن أعاني من النفي، فهل يمكن لإنسانٍ أن يحول بيني وبين أن أذهب إلى منفاي باسمًا متشجعًا ساكنًا؟ «أفشِ لنا السر»، إني أرفض أن أفشيه وعدم إفشائه في مقدوري، «لكني سأقيدك بالأصفاد»، ماذا تقول يا صاحِ؟ تقيدني بالأصفاد؟ إنك ستقيد بالأصفاد ساقي، نعم، أما إرادتي فلا، إن زيوس نفسه ليعجز عن قهر إرادتي. «إني سأزجُّك في السجن.» تريد بذلك جانب الجسد مني. «سأطيح برأسك.» وأي عجبٍ في ذلك؟ متى زعمت لك أنني الإنسان الوحيد في هذه الدنيا الذي لا يمكن لرأسه أن يطيح؟»

هذه هي الأفكار التي لا بُدَّ لدارسي الفلسفة أن يتدبروها، هذه هي الدروس التي لا بُدَّ لهم أن يدونوها يومًا بعد يوم، وعلى هذه الأفكار يجب أن يدربوا أنفسهم.»٩

إن العبيد متساوون مع سائر الناس؛ لأن الناس جميعًا سواء في كونهم أبناء الله.

إنه ينبغي لنا أن نخضع لله كما يخضع المواطن الصالح للقانون. إن الجندي ليحلف يمينًا ألا يحترم إنسانًا غير قيصر، أما نحن فنريد أن نحترم أنفسنا قبل كل شيء.»١٠ «حين تقف إزاء جلال الإنسان، تذكر أن «كائنًا آخر» ينظر من عل إلى ما يجري، وأنه لا بُدَّ لك أن ترضيه قبل أن ترضي هذا الإنسان.»١١ من ذا إذَن يكون الرواقي؟

أرِني إنسانًا صيغ على غرار الأحكام التي يتطلبها الرواقي، على نحو ما يكون التمثال الذي نصفه بأنه «فيديائي» قد صيغ على غرار فن فدياس. أرِني إنسانًا مريضًا يكون في مرضه سعيدًا، أو مُعرَّضًا للخطر وسعيدًا مع ذلك، أو يحتضر ويشعر بالسعادة، أو منفيًّا وسعيدًا، أو مجللًا بالعار وسعيدًا، أرِنِيه. أُقسم بالآلهة أني مشوقٌ أن أرى رواقيًّا. كلا، إنك لن تستطيع أن تُريَني رواقيًّا كملت رواقيَّته؛ إذَن فأرِني رجلًا في طريقه إلى أن يكون رواقيًّا، رجلًا قد بدأ السير نحو أن يبلغ هذا المثل الأعلى، اصنع لي هذا الفضل، ولا تحرم رجلًا كهلًا من رؤية منظر لم يرَه حتى الآن، ماذا؟ هل تظن أنك ستُريني زيوس كما نحته فدياس، أو أثينا كما نحتها ذلك الفن المصنوع من ذهب وعاج؟ إنني أريد روحًا، إني أطالب أيًّا منكم أن يُريَني روح إنسان يريد أن يكون مع الله كائنًا واحدًا، وألا يلوم الله أو الناس بعد ذلك على شيء، وألا يشعر بالإخفاق في شيء، وألا يحس سوء الحظ في شيء، وأن يتحرر من الغضب والحسد والغيرة؛ أن يُريَني إنسانًا (وفيمَ إخفاء المعنى الذي أريد؟) يريد أن يستبدل بإنسانيته صورة إلهية، ويهدف وهو في هذا الجسد المسكين إلى الاتحاد بالله، أروني هذا الإنسان. كلا، إنكم لن تستطيعوا إلى ذلك سبيلًا.

إن أبيقور لا ينفكُّ يعرض علينا كيف ينبغي أن نتصرف إزاء ما يُعَد من ألوان الحظ السيئ، وهو يعرض علينا ذلك غالبًا في صورة محاورات تزول عنها الكلفة.

فهو يؤمن كالمسيحيين بأننا يجب أن نحب أعداءنا، وهو يشترك مع سائر الرواقيين في ازدرائه للذة بصفةٍ عامة، إلا أن هناك ضربًا من السعادة لا يجوز أن يُزدرى، «إن أثينا جميلة، نعم، لكن السعادة أبهى من ذلك جمالًا؛ وهي الحرية من العاطفة واضطراب النفس، هي الإحساس بأنك لست معتمدًا على أحد في أمورك» (ص٤٢٨). إن كل إنسانٍ ممثلٌ في مسرحية، والله هو الذي قسَّم الأدوار بين مُمثِّليها، وواجبنا أن نؤدي دورنا على أكمل وجه، مهما يكن هذا الدور.

إن المدونات التي تسجل تعاليم إبكتاتوس، تتميز بمقدارٍ كبير من الإخلاص والسعادة (وهي مدونات كُتبت نقلًا عن مذكرات أخذَها تلميذه أريان)، ومبدؤه الأخلاقي رفيع لا يهبط إلى مستوى هذه الدنيا، ومن العسير أن تجد ما يعينك خيرًا من هذا المبدأ، إذا ما وجدت نفسك في موقف كان واجبك الأول فيه أن تقاوم قوة الطغيان، وهو من بعض الوجوه — مثال ذلك اعترافه بالإخاء بين الناس وتعليمه بأن العبيد متساوون مع غيرهم — أسمى من أي مبدأ تصادفه عند أفلاطون أو أرسطو أو أي فيلسوف آخر ممن استوحَوا في فلسفاتهم نظام الدولة ذات المدينة الواحدة. إن الدنيا الواقعة في عهد إبكتاتوس كانت أحط شأنًا بدرجةٍ كبيرة من أثينا في عهد بركليز، لكن الشر الكائن في الأمور الواقعة قد أطلق العنان لخياله الطامح، ودنياه المثلى أسمى من نظيراتها عن أفلاطون، بمقدار ما كانت الدنيا الواقعة في عصره أحط شأنًا من أثينا في القرن الخامس.

وتبدأ «تأملات» مرقص أورليوس باعتراف بما هو مدين به لجده ولأبيه ولمُتبنِّيه، ولطائفةٍ من مُعلِّميه وللآلهة، وبعض ما يذكره مما هو مدين به لهؤلاء يستوقف النظر بغرابته؛ فهو يقول إنه تعلم من ديوجنيتوس ألا يُصغي إلى صانعي المعجزات، وتعلم من رستيكوس ألا يَقرض الشعر، ومن سكستوس أن يبدو رصينًا في غير تكلف، ومن إسكندر النحوي ألا يصحح الأخطاء النحوية التي يقع فيها الآخرون، بل أن يستعمل العبارة الصحيحة بعد وقوع المخطئ في الخطأ فورًا، ومن إسكندر الأفلاطوني ألا يقبل عذرًا في التلكؤ في رد خطاب بحجة كثرة العمل، ومن مُتبنِّيه ألا يُغرَم بالصِّبيان. (ويمضي فيقول) إنه مدينٌ للآلهة بأنه لم يطل أمد إقامته أيام نشأته مع معشوقة جده، وأنه لم يظهر علامة رجولته قبل أوانها، وأن ذريته ليست تتصف بالغباء ولا هي شائهة الأبدان، وأن زوجته مطيعة ولطيفة وبسيطة، وأنه حين أخذ في دراسة الفلسفة لم يضيع وقتًا في التاريخ أو في القياس المنطقي أو الفلك.

والجانب الذي لا يتعلق بالأمور الشخصية من «التأملات» يتفق اتفاقًا شديدًا مع ما يقوله إبكتاتوس، ومرقص أورليوس متشكك في موضوع الخلود، لكنه يقول كما قد يقول المسيحي: «إنه ما دام من الجائز أن ترحل عن هذه الحياة توًّا، فعليك أن تنظم أفعالك كلها وأفكارك كلها وفق ذلك.» إن الحياة المتناغمة مع الطبيعة هي الخير، والتناغم مع الكون هو نفسه الذي يُسمى طاعة إرادة الله.

«إن كل ما يتناغم معك أيها الكون يتفق وإياي، إن كل ما يقع في الوقت المناسب بالنسبة لك أيها الكون لا يكون بالنسبة لي قد وقع قبل أوانه ولا بعد أوانه، إن كل ما تجيء به فصولك هو فاكهتي أيتها الطبيعة، إن كل شيء منك وفيك، وكل شيء إليك يعود، إن الشاعر يقول: أيتها المدينة العزيزة، يا مدينة سيسروب. أفلا تقول: أيتها المدينة العزيزة يا مدينة زيوس؟»

ويمكننا أن نرى أن «مدينة الله» للقديس أوغسطين، قد استمدت بعض أصولها من هذا الإمبراطور الوثني.

إن مرقص أورليوس لا يشك في أن الله قد زوَّد كل إنسان بشيطانٍ خاص ليكون له مرشدًا، وهي عقيدة تعود إلى الظهور في الملك الحارس الذي يقول به المسيحيون، وهو يطمئن نفسه بالفكرة القائلة بأن الكون كلٌّ وثيق الاتحاد بين أجزائه، فهو يقول إن الكون كائنٌ حي واحد، له جوهر واحد وروح واحدة، ومن مبادئه: «دوام التفكير في ارتباط جميع الأشياء التي في الكون»، «إن ما يحدث لك كائنًا ما كان، قد كُتب عليك منذ الأزل، وشبكة الأسباب قد أخذت منذ الأزل تغزل لك خيط وجودك». وهو كذلك يعتقد — على الرغم من موضعه في الدولة الرومانية — في العقيدة الرواقية بأن الجنس البشري يؤلف جماعةً واحدة: «إن مدينتي ووطني هي روما بمقدار ما أنا أنطونيوس، أما باعتباري إنسانًا فمدينتي ووطني هو العالم.» وتعترضه نفس المشكلة التي نراها عند الرواقيين جميعًا، وهي التوفيق بين الجبرية وحرية الإرادة، فهو يقول: «إن الناس يحيَون كلٌّ من أجل زميله.» يقول ذلك هو يفكر في واجبه بوصف كونه حاكمًا، ثم يقول في نفس الصفحة: «إن خبث إنسان لا يعود بالأذى على إنسانٍ آخر.» يقول ذلك وهو يفكر في المذهب القائل بأن الإرادة الفاضلة هي وحدها الخير، ولم يستدل من ذلك قط أن الخير يأتيه إنسانٌ لا يفيد إنسانًا آخر، وأنه لن يضر إلا نفسه إذا كان إمبراطورًا سيئًا مثل نيرون، ومع ذلك فهذه النتيجة ظاهرة اللزوم عن مقدماته.

ويقول: «إن من خصائص الإنسان أن يحب حتى أولئك الذين يقترفون الخطأ، وهذا يحدث إذا ما ارتكب الخطأَ ذوو قُرباك، أو إذا ارتكب الخطأَ أحدٌ صادرًا فيه عن جهل أو عن غير نية مقصودة، أو إذا تبيَّنت أن كليكما سيموت وشيكًا، وفوق كل ذلك إذا ما عرفت أن فاعل الخطأ يصيبك أنت بالضرر؛ لأنه لم يفسد عليك قوتك المدبرة بحيث تصبح أسوأ مما كانت عليه قبل ارتكابه الخطأ.»

وكذلك يقول: «أحب بني الإنسان واتبع الله … ويكفيك أن تتذكر أن «القانون» يحكمنا جميعًا.»

هذه الفقرات توضح لنا أتم توضيحٍ ما تنطوي عليه الأخلاق الرواقية واللاهوت الرواقي من متناقضات، فمن ناحية ترى الكون عندهم كلًّا واحدًا مجبرًا في طريقٍ مرسوم لا حيدة عنه، كل ما يحدث فيه نتيجة لأسبابٍ سابقة، ومن ناحيةٍ أخرى ترى الإرادة الفردية تسير نفسها بنفسها بغير أدنى تدخل في سيرها، فيستحيل على الأسباب الخارجية أن ترغم إنسانًا على اقتراف الخطيئة. هذا تناقض، وهنالك تناقض آخر يرتبط بالأول ارتباطًا وثيقًا؛ فما دامت الإرادة حرة في تسيير نفسها بنفسها، ثم ما دامت الإرادة الفاضلة وحدها هي الخير؛ فالفرد من الناس لا يستطيع أن يُنزل بفردٍ آخر خيرًا ولا شرًّا؛ وإذَن فالإحساس وهمٌ من الأوهام، ولا بُدَّ لنا الآن أن نقول شيئًا في كلٍّ من هذين التناقضين.

أما التناقض القائم بين الإرادة الحرة والجبرية فواحدٌ من التناقضات التي سايرت الفلسفة من أقدم العصور إلى يومنا هذا، متخذًا صورًا مختلفة في العصور المختلفة، ونحن الآن معنيون بالصورة التي اتخذها عند الرواقيين.

أحسب أننا لو استطعنا أن نستفسر الرواقي رأيه بأسئلةٍ نواجهها إليه على النحو السقراطي، فإنه يجيب مدافعًا عن وجهة نظره بشيءٍ قريب مما يلي: إن الكون كائنٌ حي واحد، له روح يمكن لنا كذلك أن نسميه باسم «الله» أو «العقل»، وهذا «الكائن» باعتباره كلًّا واحدًا، حر؛ إذ أراد الله منذ البداية أن يتصرف وفق قوانين عامة مقررة، غير أنه اختار من القوانين ما يكون له منه خير النتائج؛ فلئن رأيت أن النتائج أحيانًا ليست خيرًا خالصًا، فاعلم أن الجانب السيئ منها جديرٌ منا بالاحتمال، كما هي الحال في القانون الوضعي، وذلك حرصًا على الفائدة التي تعود من ثبات التشريع؛ فالكائن البشري ناري إلى حدٍّ ما، وهو إلى حدٍّ ما كذلك من طينةٍ أدنى، فإلى الحد الذي هو فيه مؤلف من نار (أو على الأقل حين تكون ناره من الطراز الأول) يكون جزءًا من الله؛ فإذا ما استخدم الجزء الإلهي من الإنسان إرادته استخدامًا فاضلًا، كانت هذه الإرادة جزءًا من إرادة الله، وإرادة الله حرة، وعلى ذلك تكون إرادة الإنسان حرة كذلك في هذه الحالات.

وهذه إجابة جيدة إلى حد، لكنها تنهار إذا ما أخذنا في تحليل أسباب أفعالنا الإرادية، فكلنا يعلم من حوادث خبرته الفعلية أن سوء الهضم — مثلًا — له أثرٌ سيئ على فضيلة الإنسان، وأنك لو أرغمت إنسانًا على أخذ مخدرات معينة، أمكنك أن تهدم له قوة إرادته هدمًا. خذ مثلًا الحالة التي يسوقها إبكتاتوس توضيحًا لرأيه، حالة الرجل زجَّه حاكمٌ طاغية في السجن ظلمًا، وهي حالة شهد لها العصر الحديث أمثلة أكثر جدًّا مما شهد أي عصرٍ آخر من عصور التاريخ الإنساني، وقد تصرف بعض هؤلاء الذين تعرضوا لهذه الحالة تصرفًا فيه البطولة الرواقية، وبعضهم لم يتصرفوا على هذا النحو لسبب لا ندريه؛ فقد اتضح في جلاءٍ أن التعذيب يمكن أن يبلغ حدًّا تتحطم عنده صلابة أي إنسانٍ بغير استثناء تقريبًا، وليس ذلك فحسب، بل اتضح كذلك أن المورفين أو الكوكايين يمكن أن يخلق من الإنسان كائنًا مستكينًا. الحقيقة أن إرادة الفرد لا يمكنها أن تتحدى رغبات الطاغية إلا إذا كان الطاغية غير ذي عقلية علمية. نعم قد سقت لك مثلًا فيه تطرف، لكن الأدلة التي تقيمها برهانًا على الجبرية في العالم غير الحي، هي نفسها التي تقيمها برهانًا على الجبرية في عالم الإرادات البشرية بوجهٍ عام. ولست أقول — بل لست أظن أن — هذه الأدلة قاطعة، بل كل ما أقوله هو أن الأدلة لها نفس القوة في عالم الجماد وعالم الإرادات البشرية على السواء، وأنه ليس ثمة مبررٌ معقول يضطرنا إلى قبولها في ناحية وإلى رفضها في الناحية الأخرى، إن الرواقي حين يأخذ نفسه بإقناع الناس بالتسامح إزاء الآثمين، تراه في الوقت نفسه يدافع عن كون الإرادة الآثمة نتيجة أسباب سابقة؛ فهو لا يرى إرادة حرة غير الإرادة الفاضلة، لكن ذلك كلام ينقض بعضه بعضًا. إن مرقص أورليوس يعلل فضيلته هو نفسه بالتأثير الطيب الذي كان لوالديه وجدَّيه ومعلميه عليه؛ فالإرادة الطيبة نتيجة أسباب سابقة كالإرادة الخبيثة سواءً بسواء؛ فللرواقي أن يزعم بحقٍّ أن فلسفته تُسبب الفضيلة فيمن يعتنقها، لكن الظاهر أن فلسفته لن يكون لها هذا الأثر الطيب إلا إذا أضيف إليها مقدار معين من الخطأ العقلي. إن الإنسان إذا ما تبين له أن الفضيلة والخطيئة على السواء نتيجتان لا محيص عنهما لأسبابٍ سابقة (كما كان ينبغي للرواقيين أن يقولوا)، كان لذلك أثر في شل مجهوده الخلقي.

وأنتقل الآن إلى التناقض الثاني، وهو أن الرواقي، في الوقت الذي راح فيه يبشر بالإحسان، ذهب من الوجهة النظرية إلى أنه ليس في مستطاع فرد من الناس أن ينفع فردًا آخر أو يضره، ما دامت الإرادة الفاضلة وحدها هي الخير، والإرادة الفاضلة لا تتوقف على الأسباب الخارجية، هذا التناقض أخفى في تضاعيف الرواقية من التناقض الأول، وهو ألزم منه لطابع الرواقيين (بما في ذلك طائفة من الأخلاقيين المسيحيين)، والعلة في أنهم لم يلحظوا هذا التناقض هي أنهم — كغيرهم من الناس، وكثيرون — كانت لهم فلسفتان أخلاقيتان؛ أخلاقٌ سامية التهذيب اختصوا بها أنفسهم، وأخلاقٌ أحط منها «للسلالات الدنيا التي لا تدخل في حدود القانون». فالفيلسوف الرواقي إذا فكَّر في نفسه هو، ذهب إلى أن السعادة وكل ما في هذه الدنيا مما يسميه الناس طيبات، أشياء لا قيمة لها، بل ذهب إلى أن طلب السعادة مناقض للطبيعة، قاصدًا بذلك إلى أن طلب السعادة ينطوي على نقص في استكانة الإنسان لإرادة الله. أما إذا كان الفيلسوف الرواقي رجلًا عمليًّا يقوم بإدارة الإمبراطورية الرومانية، كما كان مرقص أورليوس، فإنه يدرك تمام الإدراك أن هذا الكلام لا ينفع، فواجبه أن يتحقق من أن سفن الغلال الآتية من أفريقيا ستصل إلى روما في موعدها المضروب، وأن الإجراءات قد اتُّخذت للتخفيف من الآلام التي سبَّبها الوفاء، وأن الأعداء من الطوائف البربرية لا يؤذَن لهم بعبور الحدود، ومعنى ذلك بعبارةٍ أخرى أنه حين يعالج أمورًا تخص طائفة من رعيته لا يعدها من الفلاسفة الرواقيين، بالفعل أو بالقوة، تراه يقبل معايير دنيوية لقياس الخير والشر، وهو لا يستطيع أداء واجبه الإداري إلا بتطبيقه لهذه المعايير. والعجيب في الأمر هنا هو أن هذا الواجب نفسه جزء من الأفعال العليا التي يجب على الحكيم الرواقي أن يؤديها، ولو أنه يلزم عن أخلاقٍ خاطئة من أساسها من وجهة نظر الحكيم الرواقي.

والجواب الوحيد الذي أستطيع أن أتصوره لهذه المشكلة، هو جواب يجوز أن يكون سليمًا من الوجهة المنطقية، لكنه ليس بالجواب الذي يدعو إلى القبول التام، وهو جواب — فيما أظن — قد يجيب به «كانْت» الذي تشبه فلسفته الأخلاقية فلسفة الرواقيين شبهًا عظيمًا، قد يقول نعم إنه لا خير إلا الإرادة الخيِّرة؛ على أن الإرادة تكون خيِّرة إذا ما اتجهت ناحية غاياتٍ معينة هي في ذاتها لا تتصف بخير ولا شر؛ فليس المهم أن يكون فلان سعيدًا أو شقيًّا، لكني إذا ما كنت إنسانًا فاضلًا، تصرفت على نحوٍ أعتقد أنه سيسعده، فذلك ما يقتضيه القانون الأخلاقي مني. إني لا أستطيع أن أجعل فلانًا هذا فاضلًا؛ لأن فضيلته لا تعتمد إلا على نفسه، غير أني أستطيع أن أفعل شيئًا يمكن أن يجعله سعيدًا أو غنيًّا أو عالمًا أو معافى البدن؛ وإذَن فيمكننا أن نعبر عن الأخلاق الرواقية كما يأتي: إن بعض الأشياء تعتبرها عامة الناس خيرًا، وهي ليست كذلك؛ لأن ما هو خير إرادة تتوجه نحو تحقيق هذه الطيبات الزائفة للناس الآخرين. وليس هذا المذهب ينطوي على تناقضٍ منطقي، لكنه يفقد كل حسناته إذا ما اعتقدنا اعتقادًا راسخًا بأن ما يعتبر عادة من الخير لا قيمة له في الواقع؛ لأنه إذا كان الأمر كذلك، فيجوز للإرادة الفاضلة أن تتجه نحو غاياتٍ مختلفة كل الاختلاف عن الغايات التي اتجهت نحوها.

الواقع أن في الرواقية عنصرًا يدل على أنهم يصفون بالحِصرِم ما لا يقع في متناولهم من العنب؛ فإذا تعذَّر علينا أن نكون سعداء، كان في مستطاعنا أن نكون فضلاء؛ إذن فلنزعم للناس أننا ما دمنا رجال فضيلة فلا يهم أبدًا ألا نكون سعداء، هذا مذهب جدير بالأبطال، وهو مذهبٌ نافع إذا ما ساءت أحوال العيش، لكن لا هو بالمذهب الصحيح صحة تامة، ولا هو بالمذهب الذي يدل على إخلاص أصحابه، بمعنًى جوهري من معاني كلمة الإخلاص.

وعلى الرغم من أن أهمية الرواقيين أخلاقيةٌ قبل كل شيء، إلا أن هناك جانبين أثمرت فيهما تعاليمهم؛ أحدهما نظرية المعرفة، والثاني هو مذهب القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية.

أما في نظرية المعرفة فقد قبِلوا الإدراك الحسي رغم أفلاطون، وذهبوا إلى أن خداع الحواس حكمٌ باطل حقًّا، لكن قليلًا من العناية يكفل لنا اجتناب هذا الخداع؛ فقد حدث أن دعا الملك بطليموس للعشاء فيلسوفًا رواقيًّا، اسمه سفيروس، وهو تلميذٌ مباشر لزينون؛ فقد سمع بطليموس بمذهب الرواقيين في الإدراك الحسي، فقدَّم للفيلسوف رمانةً مصنوعة من الشمع، فأخذ الفيلسوف في محاولة أكلها، وعندئذٍ ضحك منه الملك، فأجاب الفيلسوف بأنه لم يحس يقينًا في كونها رمانة حقيقية، لكنه استبعد أن يكون على المائدة الملكية شيء مما لا يصلح أن يكون طعامًا،١٢ وهو بهذا الجواب يشير إلى تمييز الرواقيين بين الأشياء التي يمكن معرفتها معرفةً يقينية على أساس الحواس، وتلك التي لا يمكن معرفتها على هذا الأساس الحسي نفسه إلا على سبيل الترجيح، ومذهبهم هذا على وجه الجملة متزنٌ بالحكمة ومتفق مع المنهج العلمي.

ولهم في المعرفة مذهب آخر، أعمق من المذهب السالف أثرًا، وإن يكن أكثر منه تعرضًا للشك، وأعني به عقيدتهم في وجود أفكار ومبادئ فطرية في الإنسان؛ فقد كان المنطق اليوناني استنباطيًّا قياسيًّا من أوله إلى آخره، فأثار هذا مشكلةً حول المقدمات الأولى؛ إذ المقدمات التي تبدأ منها عملية لاستنباط القياس، لا بُدَّ أن تكون كلية، ولو في بعضها على الأقل، ولم يكن ثَمة منهج قائم للبرهنة على صحة تلك المقدمات الكلية، فذهب الرواقيون إلى أن هناك مبادئ معينة ظاهرة الصدق بذاتها ظهورًا لا شائبة فيه من ريبة، ويُسلم بها الناس جميعًا، فيمكن اتخاذ هذه المبادئ أساسًا للاستنباط القياسي، كما هي الحال في «مبادئ» إقليدس، وكذلك يمكن استخدام الأفكار الفطرية نقطة ابتداء للتعريفات، وقد أخذت العصور الوسطى كلها بهذا الرأي، بل أخذ به ديكارت.

وقد كان مذهب «الحق الطبيعي» كما عرفته القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، إحياءً لنظرية رواقية، وإن تكن قد طرأ عليها كثيرٌ من التعديل الهام؛ فالرواقيون هم الذين ميَّزوا بين الحق الطبيعي والحق الوضعي؛ فالقانون الطبيعي مستمدٌّ من مبادئ كالتي يعتقد أنها أساس لكل معرفةٍ كلية، وذهب الرواقيون إلى أن الناس جميعًا سواء بحكم الطبيعة، ويدافع مرقص أورليوس في «تأملاته» عن «سياسة يكون فيها قانون واحد للجميع، سياسة تعمل على المساواة في الحقوق وفي حرية الكلام، وعلى حكومةٍ ملكية تحترم قبل كل شيء حريةَ الرعية»؛ فإن كان هذا المثل الأعلى مستحيلًا على التحقيق في الإمبراطورية الرومانية تحقيقًا مطردًا، فقد كان له أثره في التشريع، خصوصًا في تحسين حالة النساء والعبيد. وجاءت المسيحية فأخذت من تعاليم الرواقية هذا الجزء وكثيرًا غيره، حتى إذا ما كان القرن السابع عشر آخر الأمر، وسنحت الفرصة لمحاربة الاستبداد محاربةً فعالة، اكتسبت المبادئ الرواقية في القانون الطبيعي والمساواة الطبيعية — بعد أن اصطنعت رداءً مسيحيًّا — اكتسبت قوة عملية لم يكن يستطيع حتى الإمبراطور نفسه في العصور القديمة أن يمدها بها.

١  جلبرت مري، كتاب الفلسفة الرواقية، ١٧١٥م، ص٢٥.
٢  مراجع ما يلي من المعلومات تجدها في كتاب «بيفان Bevan»، الذي عنوانه «الديانة اليونانية في العصور المتأخرة»، ص١ وما بعدها.
٣  انظر Barth في كتابه Die Stoe، الطبعة الرابعة، طبعة شتتجارت ١٩٢٢م.
٤  المرجع نفسه.
٥  كتاب «الرواقيون والشكاكون»، ص٨٨، لمؤلفه Bevan.
٦  قدر إمكان بلوغ الهند بعد سبعين ألف «ستادة» إذا ما أبحرت لها السفينة من قادس والتزمت تجاه الغرب، «وكانت هذه الملاحظة هي الأساس الأخير للرأي الذي آمن به كولمبس» من كتاب Yarn، «المدينة الهلينستية»، ص٢٤٩.
٧  ما ذكرناه عن بوزيدونيوس قائمٌ معظمه على الفصل الثالث من كتاب «إدون بيفان Edwyn Bevan» «الرواقيون والشكاكون».
٨  روستوفتسف، «تاريخ الإمبراطورية الرومانية الاجتماعي والاقتصادي»، ص١٧٩.
٩  اقتبسنا هذا من «أوتس Oates» من كتابه الذي أسلفنا ذكره، ص٢٢٥–٢٢٦.
١٠  اقتبسنا هذا من «أوتس Oates» من كتابه الذي أسلفنا ذكره، ص٢٥١.
١١  اقتبسنا هذا من «أوتس Oates» من كتابه الذي أسلفنا ذكره، ص٢٨٠.
١٢  ديوجنيز ليرتيوس، ج٧، ص١٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤