الفصل التاسع والعشرون

الإمبراطورية الرومانية والثقافة

أثَّرت الإمبراطورية الرومانية في تاريخ الثقافة بوسائل مختلفة منفصل بعضها عن بعض إلى حدٍّ ما.

  • فأولًا: أثر روما المباشر على الفكر الهلينستي، وليس ذلك بالأثر المهم ولا هو بالأثر العميق.
  • وثانيًا: أثر اليونان والشرق على النصف الغربي من الإمبراطورية، وقد كان أثرًا عميقًا ودائمًا؛ لأنه شمل الديانة المسيحية بين عناصره.
  • وثالثًا: أهمية السلم الروماني الطويل في نشر الثقافة، وفي تعويد الناس على فكرةٍ مدنية واحدة مرتبطة بحكومةٍ واحدة.
  • ورابعًا: نقل المدنية الهلينستية إلى المسلمين؛ ومن ثَم في نهاية الأمر إلى أوروبا الغربية.

وقبل تناولنا هذه الوسائل التي أثرت بها روما، يجدر بنا أن نلخص حوادث التاريخ السياسي تلخيصًا شديدًا.

فقد لبث الجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط بعيدًا عن غزوات الإسكندر، وكانت السيادة في هذا الجزء، في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، لدولتين قويتين من الدول ذات المدينة الواحدة، وهما قرطاجنة وسرقصة، واستطاعت روما في الحروب البونية الأولى والثانية (٢٦٤–٢٤١، ٢١٨–٢٠١ق.م.) أن تغزو سرقصة، وأن تجعل من قرطاجنة دولة لا خطر لها على الإطلاق. وحدث في غضون القرن الثاني أن غزت روما الحكومة الملكية المقدونية، ولو أن مصر لبثت بعد ذلك أمدًا دولةً تابعة حتى موت كليوباترا (٣٠ق.م.) وتم غزو إسبانيا كحادثةٍ عارضة أثناء الحرب مع هانيبال، وغزا قيصر فرنسا في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، ثم غُزيت إنجلترا بعد ذلك بمائة عام تقريبًا، وأصبحت حدود الإمبراطور في مهد مجدها، هي الراين والدانوب في أوروبا، والفرات في آسيا، والصحراء في شماليِّ أفريقيا.

ولعل الاستعمار الروماني قد بلغ غاية كماله في شمالي أفريقيا (وذلك أمرٌ هام في تاريخ المسيحية؛ لأن شمالي أفريقيا هو موطن القديس قبريان والقديس أوغسطين)؛ فهنالك تحولت أراضٍ فسيحة لم تكن توزع قبل العصور الرومانية وبعدها إلى بقاعٍ خصيبة، وقامت فيها مدنٌ عامرة بسكانها، ولبثت الإمبراطورية الرومانية ثابتة الدعائم تنعم بالسلم أمدًا يزيد على مائتَي عام، منذ تولى أوغسطس الحكم (٣٠ق.م.) إلى أن نزلت كوارث القرن الثالث.

وفي غضون تلك الفترة من الزمان، طرأت تطورات هامة على دستور الدولة الرومانية؛ فقد كانت روما في أول الأمر دولة صغيرة ذات مدينة واحدة، ليست تختلف عن أمثالها من دول اليونان اختلافًا كبيرًا، خصوصًا ما كان منها — مثل إسبرطة — غير معتمد على التجارة الخارجية، وحلت جمهورية أرستقراطية محل طائفة من الملوك يشبهون ملوك اليونان في عصر هومر، ثم أخذت العناصر الديمقراطية تتسرب تدريجًا، بينما بقيت العناصر الأرستقراطية على قوتها متمثلة في مجلس الشيوخ، ونتج عن ذلك كله خليط قال عنه بانيتيوس الرواقي (الذي قام بوليبيوس وشيشرون بنشر آرائه) إنه تآلف مثالي اجتمعت فيه عناصر الملكية والأرستقراطية والديمقراطية، لكن جاء الغزو الحربي فقلب هذا التوازن الذي لم تكن فيه عوامل الدوام؛ إذ ترتب على الغزو أن ازداد ثراء طبقة أعضاء الشيوخ ازديادًا هائلًا، كما ازداد ثراء «الفرسان» بدرجةٍ أقل من ذلك قليلًا. و«الفرسان» اسمٌ كان يطلق على الجزء الأعلى من الطبقة الوسطى، وتحولت الزراعة في إيطاليا فبعد أن كانت في أيدي مزارعين صغار يزرعون الغلال بكدح أيديهم وأيدي عائلاتهم، أصبح الأمر ضيعات فسيحة تملكها الأرستقراطية الرومانية، حيث يقوم العبيد بزراعة الكرم والزيتون، فكانت نتيجة هذا التحول أن أصبح مجلس الشيوخ مطلق السلطان في حقيقة الأمر، ثم استُخدم هذا السلطان المطلق في غير حياء لزيادة ثروات الأفراد، دون اعتبار لمصالح الدولة أو رفاهية أبنائها.

وقامت حركةٌ ديمقراطية، بدأها الجراشيون the Gracchi في النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد، فانتهت إلى سلسلة من الحروب الأهلية، ثم أدَّت في الختام — كما حدث كثيرًا في اليونان — إلى قيام حكومة من الطغاة؛ فإنه لمما يستوقف النظر أن نرى نفس الأطوار التي كانت تحدث في اليونان في نطاقٍ ضيق، تعود إلى الحدوث في مثل هذا النطاق الفسيح، وجاء أوغسطس، وارث يوليوس قيصر ومتبنَّاه، فحكم من ٣٠ق.م. إلى ١٤ ميلادية، وقضى قضاءً أخيرًا على الحرب الأهلية، كما قضى (إذا استثنينا حالاتٍ قليلة) على حروب الغزو في الخارج، وتمتع العالم القديم بالسلم والأمن لأول مرة منذ بداية الحضارة اليونانية.

كان النظام السياسي عند اليونان قد فسد بعاملين؛ الأول: مطالبة كل مدينة لنفسها بالسيادة المطلقة. والثاني: ما نشأ بين الأغنياء والفقراء داخل كل مدينة من صراعٍ دامٍ مرير. أما العامل الأول فلم يعد بذي خطر على العالم بعد غزو قرطاجنة والممالك الهلينستية؛ إذ لم يعد في الإمكان مقاومة روما مقاومةً ذات خطر فعلي. وأما العامل الثاني فقد ظل قائمًا؛ فقد كنت ترى إبان الحروب الأهلية قائدًا يعلن نفسه حاميًا لمجلس الشيوخ، وآخر يعلن نفسه حاميًا للشعب، وكان النصر في مثل هذه الحالة يُكتب للقائد الذي يُجزل العطاء للجنود؛ ذلك أن الجنود لم يكفِهم أن يتقاضَوا الرواتب وأن يستولوا على الغنائم المنهوبة في الحرب، بل أرادوا كذلك أن يُمنحوا هِبات من الأراضي؛ وعلى ذلك كانت كل حربٍ أهلية تنتهي بطرد كثيرين من مُلاك الأراضي الذين كانوا يُعتبرون — بالاسم لا بالفعل — مستأجرين لتلك الأراضي من الدولة، كان هؤلاء يُطردون طردًا مشروعًا من الوجهة الشكلية، ليحل محلهم أعوان القائد المنتصر؛ وكانت نفقات الحرب، وهي قائمة، تُدبَّر بقتل الأغنياء ومصادرة أملاكهم. ولم يكن من اليسير إزالة هذا النظام رغم فظاعته، حتى جاء أوغسطس آخر الأمر، وكم كانت دهشة الناس جميعًا إذ رأوه يظفر لنفسه بنصرٍ شامل لم يدع فرصةً لمنافسٍ يتحداه بُغيةَ الحد من سلطانه.

ولما تبين العالم الروماني أن عصر الحرب الأهلية قد زال، عرَته الدهشة على نحوٍ أشاع البِشر في الناس جميعًا، اللهم إلا حزبًا صغيرًا من أعضاء الشيوخ؛ فإذا استثنيت هؤلاء، ووجدت الناس جميعًا قد أحسوا بعبء قد انزاح عن صدورهم، حين رأوا روما قد استطاعت أخيرًا — في عهد أوغسطس — أن تستكمل أسباب الاستقرار والنظام، التي لبث اليونان والمقدونيون يلتمسونها لأنفسهم في غير طائل، والتي أخفقت روما قبل أوغسطس في تحقيقها. ويقول «روستوفتسف Rostovtseff» إن روما الجمهورية لم تأتِ إلى اليونان «بشيءٍ جديد، سوى الفقر والإفلاس وعرقلة كل نشاطٍ سياسي ينهض به أصحابه بغير سندٍ من روما».١

كان حكم أوغسطس عهدًا سعيدًا للإمبراطورية الرومانية؛ فقد نُظمت إدارة الأقاليم آخر الأمر على نحوٍ يكفل مصالح السكان بعض الشيء، بعد أن كانت قائمة على أساس الاستغلال الخالص؛ لذلك لم يقتصر الأمر على تأليه أوغسطس رسميًّا بعد موته، بل رفعه الناس في كثير من مدن الأقاليم إلى مرتبة الآلهة مدفوعين إلى ذلك بشعورهم، وأثنى عليه الشعراء، ووجدت طبقة التجار أن انتشار السلم نافع لتجارتهم، بل إن مجلس الشيوخ نفسه — الذي التزم أوغسطس في معاملته كل أساليب الاحترام الشكلية الظاهرية — لم يدع فرصةً سانحة تمضي دون أن يخلع عليه أسباب التشريف والتكريم أشكالًا وألوانًا.

لكن رغم شعور العالم بالسعادة، فقد فقدت الحياة شيئًا من لذة طعمها، ما دامت الدعة قد باتت مفضَّلة على ركوب المخاطر، لقد كان لكل يوناني حر في العصور الباكرة فرصته في المغامرة، وجاء فليب والإسكندر بمثابة الختام لهذه الحال، ولم يعد يستمتع بالحرية الفوضوية في العهد الهليني إلا أفراد الأسرة المالكة المقدونية. وهكذا فقد العالم اليوناني شبابه، وانقلب إما ساخرًا أو متدينًا، وضعف الأمل في تحقيق المثل العليا في نظمٍ اجتماعية دنيوية، وبضعف هذا الأمل فترت الحماسة في صدور خيرة الناس. لقد كانت الجنة لسقراط مكانًا يتيح له أن يمضي في حواره، ثم رأى فيها فلاسفة العهد التالي لعهد الإسكندر شيئًا يختلف عن مقامهم ها هنا على الأرض اختلافًا أكبر مما ظن سقراط.

وشهدت روما تطورًا كهذا فيما بعد، بصورةٍ أخف وألطف؛ فإن روما لم تتعرض للغزو كما تعرضت له اليونان، بل هي على نقيض ذلك كانت تُحركها حوافز الاستعمار الناجح، وكان الرومان أنفسهم هم المسئولين عن اضطراب النظام إبان الحروب الأهلية كلها؛ فلئن كان اليونان لم يظفروا بالسلم والنظام حين خضعوا للمقدونيين، فقد تحقَّق السلم والنظام لليونان والرومان معًا حين خضعوا لأوغسطس، وكان أوغسطس رومانيًّا، خضع له معظم الرومان طواعية، لا مرغَمين بتفوق سلطانه فحسب، أضف إلى ذلك أنه حاول جهده أن يخفي المعالم العسكرية التي صاحبت نشأة حكومته، وأن يقيم بناء تلك الحكومة على أساس من قوانين يصدرها مجلس الشيوخ، ولا شك في أن مداهنة ذلك المجلس له كانت صادرة إلى حدٍّ كبير عن غير إخلاص، لكنك إذا استثنيت هذه الطبقة، لم تجد إنسانًا واحدًا كان يشعر بمعنى الإذلال في استسلامه لأوغسطس.

إن الحالة النفسية التي سادت الرومان، كانت شبيهة بحالة شابٍّ داعر من شباب فرنسا في القرن التاسع عشر، قضى شطرًا كبيرًا من حياته في مغامراته الغرامية، ثم قرَّ لنظام الزواج يقيمه على العقل، وهي حالة نفسية يسودها الرضا، لكنها لا تؤدي إلى الابتكار، فأعلام الشعراء في العصر الأوغسطسي كان قد تم تكوينهم في أيامٍ أكثر من ذلك العهد اضطرابًا، ﻓ «هوراس» فر في موقعة «فيلبي»، وانتزعت منه ومن «فرجيل» على السواء أراضيَهما انتزاعًا لينعم بها الجنود المنتصرون. وأراد أوغسطس أن يُمكِّن للاستقرار، فأخذ يعمل بجدٍّ مشوب بشيء من عدم الإخلاص، لاستعادة التدين القديم؛ وبذلك أصبح بالضرورة أقرب إلى معاداة البحث الحر، وبدأ العالم الروماني عهدًا أصبحت فيه الحياة رتيبة، ولبثت كذلك في ظل الأباطرة الذين جاءوا بعد ذلك.

انغمس خلفاء أوغسطس الذين جاءوا بعده مباشرة، في ضروبٍ بَشعة من القسوة إزاء رجال مجلس الشيوخ وإزاء كل من يمكن أن ينافسهم في الحكم، وامتد شيءٌ من سوء الحكم الذي اتسمت به تلك الفترة إلى الأقاليم، غير أن الأداة الحكومية التي أنشأها أوغسطس قد ظلت تعمل على صورة لا بأس بها بصفةٍ عامة.

وبدأت فترةٌ أزهى من تلك، حين تولَّى تراجان سنة ٩٨ ميلادية، ودامت حتى موت مرقص أورليوس سنة ١٨٠ ميلادية؛ فحكومة الإمبراطور خلال هذه الفترة قد بلغت كل ما يمكن لأية حكومة مستبدة أن تبلغه من الكمال، أما القرن الثالث فهو على نقيض ذلك، عهد نزلت به الكوارث الفادحة؛ فقد ظفر الجيش لنفسه بقوةٍ أتاحت له أن يقيم الأباطرة ويخلعهم نظير هبات من المال، ولقاء وعد بأن يعيش رجاله حياةً بغير حروب؛ فلم يعد قوة محاربة يحسب حسابها. ولما هاجم برابرة الشمال والشرق أراضي الرومان غزوًا ونهبًا، كان الجيش عاجزًا عن الدفاع لانشغاله بالمصالح الشخصية وبالمنازعات الأهلية، وانهار النظام المالي كله، بسبب اضمحلال الموارد اضمحلالًا فظيعًا، وزيادة النفقات زيادة كبيرة، على حروبٍ فاشلة وعلى الرشاوى تُدفع لرجال الجيش، وأضيف إلى عامل الحروب عامل آخر هو الوباء، فنقص عدد السكان بدرجةٍ عظيمة، حتى لقد خُيِّل للناس أن الإمبراطورية على وشك الانهيار.

لكن انهيار الإمبراطورية لم يقع بفضل رجلين عاملين، هما «ديوقلتيان» (٢٨٦–٣٠٥ ميلادية) و«قسطنطين» الذي امتد حكمه الخالي من ٣١٢ إلى ٣٣٧ ميلادية. وقد شطر هذان الرجلان الإمبراطورية شطرين؛ شطرًا شرقيًّا وشطرًا غربيًّا، يقابلان على وجه التقريب قسمة البلاد بين اللغتين اليونانية واللاتينية، وأقام قسطنطين عاصمة النصف الشرقي في بيزنطة، وأسماها اسمًا جديدًا هو القسطنطينية. وحَّد ديوقلتيان من سلطة الجيش حينًا، بأن غيَّر من مقوماته؛ فمنذ عهده أخذت تتألف القوات المحاربة التي كان لها في الجيش أكبر القوة، من برابرةٍ معظمهم من الألمان، وفتحت أمام هؤلاء الطرق لبلوغ أسمى مناصب القيادة كلها. ولا جدال في أن هذه كانت خطوة خطيرة، جاءت ثمرتها الطبيعية في أوائل القرن الخامس؛ وذلك أن البرابرة قرروا فيما بينهم أن الأجدى عليهم أن يحاربوا لحساب أنفسهم لا من أجل سيد روماني، غير أنها كانت خطوة موفَّقة حقَّقت الأغراض المقصودة منها فترة زادت على قرن، وكذلك نجحت إصلاحات الإدارة التي أدخلها ديوقلتيان نجاحًا مؤقتًا، كما نجحت خطوته التي اتخذها إزاء الجيش نجاحًا مؤقتًا، ثم انتهت تلك الإصلاحات في النهاية البعيدة — كما انتهى إجراؤه إزاء الجيش سواءً بسواء — إلى كوارث؛ وذلك أن النظام الروماني كان يبيح للمدن حكومات ذاتية محلية، ويترك موظفي تلك الحكومات المحلية يجمعون ما شاءوا من ضرائب. ولم يكن للسلطات الرئيسة المركزية في هذا الصدد سوى أن تحدد لهم المجموع الكلي الذي يجوز لهم أن يجمعوه من كل مدينة على حدة، ولم يكن هذا النظام معيبًا من الناحية العملية في عصور الازدهار. أما الآن وقد أصيبت الإمبراطورية بالإعياء، فقد أصبح الدخل المطلوب أكثر مما يمكن للمدن احتماله بغير عسرٍ شديد. وكانت السلطات البديلة مسئولة شخصيًّا عن الضرائب؛ ولذا كان رجالها يهربون فرارًا من الدفع، فكان ديوقلتيان يُرغم المواطنين الأغنياء على قبول السلطات البلدية، وحرَّم الفرار بحكم القانون، وكذلك حرَّكته دوافع شبيهة بهذه نحو تحويل سكان الريف إلى عبيدٍ إقطاعيين، يرتبطون بالأرض ولا تجوز لهم الهجرة عنها، ثم جاء الأباطرة بعد ذلك فاحتفظوا بهذا النظام.

وأهم ما أدخله قسطنطين من تجديدٍ هو اتخاذه المسيحية دينًا للدولة، وقد كان ذلك فيما يظهر لأن نسبة كبيرة من الجنود كانت مسيحية،٢ ونتيجة ذلك هي أنه لما دمر الجرمان الإمبراطورية الغربية إبان القرن الخامس، كان لها من حسن السمعة ما دعاهم إلى اعتناق المسيحية، وبذلك تمكنوا من أن يحفظوا المدنية القديمة بمقدار ما كانت تلك المدنية متمثلة في الكنيسة.

غير أن تطور النصف الشرقي من الإمبراطورية قد سار في طريقٍ مخالف لهذا، فالإمبراطورية الشرقية وإن تكن قد أخذت تنكمش في مساحتها (إذا استثنينا الغزوات المؤقتة التي قام بها جستنيان في القرن السادس) إلا أنها ظلت قائمة حتى سنة ١٤٥٣م، وهي السنة التي غزا الأتراك فيها مدينة القسطنطينية، وانتشر الإسلام في معظم الأقاليم التي كانت قبل ذلك رومانية، مما يقع في الشرق، بالإضافة إلى أفريقيا وإسبانيا في الغرب، وهنا اختلف العرب عن الجرمان في أنهم رفضوا اعتناق المسيحية، ولو أنهم اصطنعوا مدنية أولئك الذين غزوا بلادهم، وكانت الإمبراطورية الشرقية يونانية لا لاتينية في حضارتها؛ ولذلك كان العرب هم الذين احتفظوا بالأدب اليوناني وكل ما تخلف من تراث اليونان، وذلك في الفترة الواقعة بين القرن السابع والقرن الحادي عشر، حين كانت المدنية اللاتينية تسود الجانب الغربي من الإمبراطورية، ومنذ القرن الحادي عشر فصاعدًا، أخذ الغرب شيئًا فشيئًا — بفضل العرب في الأندلس أول الأمر — ما كان قد أضاعه من تراث اليونان.

وأنتقل الآن إلى الطرق الأربع التي أثرت بها الإمبراطورية الرومانية في تاريخ الثقافة:

  • (١)

    الأثر المباشر لروما على الفكر اليوناني.

    يبدأ هذا الأثر المباشر في القرن الثاني قبل الميلاد، على أيدي رجلين؛ هما المؤرخ بوليبيوس، والفيلسوف الرواقي بانيتيوس. وكانت الوقفة الطبيعية التي وقفها إزاء الرومان وقفةً امتزج فيها الازدراء والخوف؛ فقد أحس اليوناني أنه أرقى حضارة وإن يكن أضعف نفوذًا من الوجهة السياسية من زميله الروماني؛ فلئن كان الرومان قد وُفقوا في السياسة، فذلك لا يدل إلا على أن السياسة مطلب وضيع، إن الرجل اليوناني من أهل القرن الثاني قبل الميلاد، كان بصفةٍ عامة يتصف بالسعي وراء اللذة، وبحضور البديهة وبالمهارة في التجارة، وبعدم الازدجار بزواجر الضمير في أي شيء، ومع ذلك فقد كان لا يزال بين اليونان رجال ذوو قدرة فلسفية، وقد استباح بعض هؤلاء لأنفسهم — خصوصًا فريق الشكاكين مثل كارنيدس — أن يُضحوا بالنظرة الجادة في سبيل إظهار المهارة، وبعضهم مثل الأبيقوريين وطائفة من الرواقيين، وقد انسحبوا انسحابًا تامًّا في حياةٍ خاصة هادئة، لكن عددًا لا بأس به من هؤلاء الفلاسفة قد أدرك ببصيرةٍ أنفذ من بصيرة أرسطو في علاقته بالإسكندر؛ لأن عظمة روما ترجع إلى فضائل معينة كانت تعوز اليونان.

    وُلد المؤرخ بوليبيوس في أركاديا نحو سنة ٢٠٠ق.م. وأُرسلَ إلى روما أسيرًا، وهناك حَسُن طالعه بأن ارتبطت أواصر الصداقة بينه وبين سيبيو الأصغر، ورافقه في كثير من حملاته الحربية، ولم يكن من المألوف أن يعرف اليوناني اللغة اللاتينية، ولو أن معظم الرومان المثقفين كانوا يعرفون اليونانية، ومع ذلك فقد أدَّت أحوال بوليبيوس إلى أن يجيد اللاتينية إجادةً تامة، وكتب تاريخ الحروب البونية لينفع به اليونان؛ تلك الحروب التي مكَّنت لروما أن تسيطر على العالم كله. نعم إن إعجابه بالدستور الروماني جاء متأخرًا عن أوانه المناسب، إلا أن ذلك الدستور قد لبث حتى عهد بوليبيوس أفضل في ثباته وكفايته من الدساتير المتغيرة تغيرًا لا ينقطع في معظم المدن اليونانية، وطبيعي أن يقرأ الرومان ما كتبه بوليبيوس من تاريخ فيستمتعوا به، لكننا لا نستطيع أن نقطع بمثل هذا القول بالنسبة لليونان.

    وأما بانيتيوس الرواقي فقد أسلفنا الحديث عنه في الفصل السابق، وكان صديقًا ﻟ «بوليبيوس» كما كان — مثل بوليبيوس — في حمى سيبيو الأصغر، وقد كثر تردده على روما إبان حياة سيبيو، لكنه بعد موت سيبيو أقام في أثينا رئيسًا للمدرسة الرواقية، وكان لا يزال في روما، ما لم يعد له وجود في أثينا، وأعني به الأمل الذي يصاحب سنوح الفرصة للنشاط السياسي؛ ولذلك ترى تعاليم بانيتيوس أكثر اصطباغًا بالسياسة وأبعد شبهًا بتعاليم الكلبيين من آراء الرواقيين الأولين، ويجوز أن يكون الإعجاب الذي أحسه الرومان المثقفون نحو أفلاطون، قد حمله على ترك التزمت وضيق الأفق اللذين اتصف بهما أسلافه من الرواقيين، وقد صب هو وخلفه بوزيدونيوس المذهب الرواقي في قالبٍ أوسع أفقًا، فجعله أقرب جدًّا إلى قلوب الطائفة الجادة من الرومان.

    وأقام إبكتاتوس اليوناني معظم حياته في روما في عهدٍ تالٍ لعهد بانيتيوس، فاستمد من روما معظم الأمثلة التي ساقها توضيحًا لآرائه، وهو ما ينفك يوصي الرجل الحكيم بألا يرتجف خوفًا في حضرة الإمبراطور، وإنا لنعلم كم أثر إبكتاتوس في مرقص أورليوس، على حين يشق علينا أن نتعقب له أثرًا في اليونان.

    لقد وازن بلوتارك (حوالي ٤٦–١٢٠ ميلادية) في كتابه «تراجم لمشاهير اليونان والرومان» بين أشهر الرجال في البلدين؛ فقد أنفق شطرًا كبيرًا من عمره في روما، وأصاب تكريمًا عند الإمبراطورَين «هارديان» و«تراجان»، وكتب بالإضافة إلى كتاب «التراجم» كتبًا كثيرة في الفلسفة والدين والتاريخ الطبيعي والأخلاق، وواضحٌ أنه أراد بكتابه «تراجم» أن يقرب ما بين اليونان وروما في أذهان الناس.

    وإذا استثنينا أمثال هؤلاء الرجال الأفذاذ، ألفينا روما على وجه الجملة قد فعلت فعل الآفة الفتَّاكة بجزء الإمبراطورية الذي يتكلم اليونانية؛ فقد تدهور فيها الفكر والفن على السواء، على أن الحياة قد ظلت حتى ختام القرن الثاني بعد الميلاد ممتعة هيِّنة بالنسبة للأثرياء؛ إذ لم يكن ثَمة ما يحفز على الإجهاد في العمل، ولا كان هناك من الفرص السانحة للعمل العظيم إلا النادر القليل، ولبثت مدارس الفلسفة المعترَف بها — الأكاديمية والمشَّاءون والأبيقوريون والرواقيون — قائمةً حتى جاء جستنيان فأغلقها. وعلى كل حالٍ فلم تُبدِ أية مدرسة منها شيئًا من الحيوية إبان الفترة التي تلت مرقص أورليوس، اللهم إلا المدرسة الأفلاطونية الحديثة في القرن الثالث الميلادي، وسنتناولها بالبحث في الفصل التالي، ولم يكن هؤلاء الرجال الأفذاذ أنفسهم قد تأثروا بروما في شيءٍ على الإطلاق تقريبًا. وهكذا أخذ شطرا الإمبراطورية اللاتيني واليوناني يبعدان أحدهما عن الآخر شيئًا فشيئًا، فندر العلم اليوناني في الغرب، ولم يكن للاتينية وجود في الشرق — بعد قسطنطين — إلا في القانون والجيش.

  • (٢)

    أثر اليونان والشرق في روما.

    ها هنا أمران مختلفان جد الاختلاف ينتظران البحث؛ الأول: أثر الأدب الهليني والفن الهليني والفلسفة الهلينية في الطبقة الممتازة في ثقافتها من بين الرومان. والثاني: انتشار الديانات اللاهلينية والخرافات اللاهلينية في أرجاء العالم الغربي.

    • (١)

      لما اتصل الرومان باليونان أول الأمر، أحسوا بأنهم بالنسبة إلى هؤلاء اليونان همج غلاظ؛ فقد كان اليونان يفضلونهم في نواحٍ كثيرة بدرجة لا تكاد تقع تحت الحصر والتقدير؛ يفضلونهم في الصناعة وفي فن الزراعة، يفضلونهم في أنواع المعرفة اللازمة للموظف الممتاز، يفضلونهم في الحديث وفي فن التمتع بالحياة، يفضلونهم في الفن والأدب والفلسفة، ولم يكن الرومان يسبقون اليونان إلا في الفنون الحربية والتماسك الاجتماعي؛ فالعلاقة بين الرومان واليونان كانت شبيهة بالعلاقة بين البروسيين والفرنسيين في سنة ١٨١٤ وسنة ١٨١٥م، غير أن هذه العلاقة الأخيرة كانت مؤقتة، على حين دامت العلاقة الأولى أمدًا طويلًا؛ فبعد الحروب البونية، حمل الشباب الروماني إعجابًا باليونان، فتعلموا اللغة اليونانية، وقلدوا العمارة اليونانية، واستخدموا نحَّاتين من اليونان، وجعلوا آلهة الرومان هي نفسها آلهة اليونان، وانتحلوا للرومان أصلًا طرواديًّا ليربطوا العلاقة بينهم وبين الأساطير الهومرية، واصطنع الشعراء اللاتينيون بحور الشعر اليوناني، واستعار الفلاسفة اللاتينيون نظريات يونانية. وهكذا لبثت روما معتمدةً كل الاعتماد من الناحية الثقافية على اليونان، فلم يبتكر الرومان في الفن قوالب خاصة بهم، ولا أقاموا في الفلسفة نظريات من إبداعهم، ولا كشفوا في العلم عن شيءٍ جديد. نعم إنهم قد مهدوا طرقًا جيدة، وشرعوا قوانين متسقة أجزاؤها، وأعدوا جيوشًا قديرة على القتال، أما فيما عدا ذلك فقد أداروا أبصارهم نحو اليونان.

      وكان من أثر اصطباغ روما بالصبغة الهلينية أن لانت الأخلاق فيها بعض الشيء، مما أثار المقت في نفس كاتو الأكبر؛ فقد ظل الرومان حتى الحروب البونية شعبًا رعويًّا، له فضائل المزارعين ورذائلهم، فكانوا قومًا فيهم صرامة وجد وغلظة وعناد وبلادة ذهن، وكانت حياة الأسرة عندهم ثابتة الأركان راسخة البناء، تقوم على أساس السلطة الأبوية، بحيث خضع النساء والناشئة خضوعًا تامًّا لسلطة الوالد، لكن هذا كله قد تغير حين أخذت الثروة فجأةً تتدفق في البلاد، فاختفت المزارع الصغيرة ليحل محلها تدريجًا ضيعاتٌ فسيحة كان العبيد يُستخدمون في فلاحتها على أسسٍ علمية جديدة في فن الزراعة، ونشأت طبقةٌ كبرى من التجار، وأثرى عددٌ كبير من الرجال بما نهبوا من غنائم، كما حدث في القرن الثامن عشر في إنجلترا لمن أثروا في الهند، وتحرر النساء وتحللن خلقًا بعد أن كنَّ أمَّات فُضليات، وشاع الطلاق، ولم يعد الأغنياء يُنجبون الأطفال، وشجع اليونان الذين كانوا من قبل ذلك بقرونٍ عدة، قد اجتازوا مراحل شبيهة بهذه، شجعوا الرومان بنوع الحياة التي كان اليونان أنفسهم يحيونها، على ما يسميه المؤرخون بانحلال الأخلاق، لكن الروماني من أوساط الناس لم يتردد حتى في أشد العصور انحلالًا خلقيًّا في تاريخ الإمبراطورية في عقيدته بأن روما ما زالت قوامة على معيارٍ خلقي صافٍ من الشوائب، إزاء فساد اليونان الذي يؤدي إلى الانهيار.

      وأخذ أثر اليونان الثقافي في الإمبراطورية الغربية يتناقص تناقصًا سريعًا منذ القرن الثالث الميلادي فصاعدًا، وأهم سبب لذلك هو أن الثقافة بصفةٍ عامة أخذت في الانهيار، ولانهيارها أسبابٌ عدة غير أنه لا بُدَّ من ذكر أحد هذه الأسباب بصفةٍ خاصة؛ فقد أصبحت الحكومة في الإمبراطورية الغربية وهي في أُخريات أيامها، طغيانًا عسكريًّا سافرًا لا يتستر بما كان يتستر به في الأيام السابقة من قناع، وكان الجيش عادةً يختار قائدًا حربيًّا ناجحًا ليكون هو الإمبراطور، لكن الجيش — حتى في أعلى صفوفه — لم يعد قوامه رجالًا من الرومان المثقفين، بل كان قوامه أنصاف الهمج من أقاليم الحدود، ولم يكن لهؤلاء الجنود الغلاظ ميل إلى الثقافة، ولم ينظروا إلى المواطنين المتمدنين إلا على أنهم مصادر دخل، فمن ناحيةٍ أصيب الأشخاص الأفراد بدرجةٍ من الفقر لم تعد تتيح لهم أن يعينوا في ميدان التعليم إعانةً ذات خطر، ومن ناحيةٍ أخرى نظرت الدولة إلى التعليم على أنه شيء لا ضرورة له، وترتب على ذلك أنه لم يعد في الغرب من القادرين على مطالعة الكتب اليونانية إلا أفراد قلائل أصابوا من التعليم حظًّا نادرًا.

    • (٢)
      وعلى نقيض ذلك الديانة والخرافة غير الهلينيتين، فهاتان قد أخذتا على مر الزمن تكتسبان رسوخًا في الغرب جعل يتزايد مع الأيام. ولقد أسلفنا فيما مضى كيف كانت غزوات الإسكندر عاملًا على إدخال العالم اليوناني في معتقدات البابليين والفرس والمصريين، وشبيه بهذا ما فعلته الغزوات الرومانية؛ إذ جعلت العالم الغربي ملمًّا بهذه الآراء والمذاهب اليونانية، كما جعلته ملمًّا كذلك بتعاليم اليهود والمسيحيين، وسأتناول بالبحث ما يخص اليهود والمسيحيين في مرحلةٍ أخرى من الكتاب، أما ها هنا فسأقصر نفسي ما استطعت على الخرافات الوثنية.٣
    كان لكل مذهبٍ ديني ولكل نبي من يمثله في روما، بل استطاع كل مذهبٍ ديني وكل نبي أن يظفر حينًا بالحظوة في أعلى دوائر الحكومة، ويقص علينا «لوسيان» الذي يمثل التشكك العاقل في وجه ما ساد عصره من سذاجة في التصديق، يقص علينا قصةً ممتعة، يُجمع الرأي على صحتها على وجه الإجمال، وهي قصة عن نبي وصانع للمعجزات يُدعى «إسكندر البافلاجوني»؛ فقد كان في مقدور هذا الرجل أن يبرئ المرضى وينبئ بالمستقبل؛ على أنه كان أحيانًا ينحرف عن هذا الطريق من حياته إلى الكسب عن طريق «التشنيع» على الناس، وبلغت شهرته مسامع مرقص أورليوس الذي كان يقاتل عندئذٍ طوائف «الماركوماني» على الدانوب، واستشاره الإمبراطور في طريقة انتصاره في الحرب، فأجابه بأنه لو قذف بأسدين في نهر الدانوب، نتج عن ذلك نصر عظيم، فاتبع ما نصحه به الشيخ العارف، لكن طوائف «الماركوماني» هي التي كسبت النصر. وعلى الرغم من هذه العثرة، فقد أخذت شهرة إسكندر في الاتساع. وحدث لرجل من أعلام الرومان، بلغ مرتبة القنصلية، وهو «روتيلياس»، أن استشاره في موضوعاتٍ كثيرة، ثم التمس مشورته آخر الأمر في اختياره لزوجته. وكان إسكندر — مثل إنديميون (في الأساطير) — له الحظوة عند القمر بما مكَّنه من الزواج منه (القمر في الإنجليزية مؤنث)، وعن طريق زواجه ذاك نسل ابنة، فكانت هذه الابنة هي التي أوحيت بها ﻟ «روتيليانوس» على لسان الغيب الناطق في شخص إسكندر، «فلم يتردد روتيليانوس الذي كان قد بلغ الستين من عمره في تنفيذ الإرشاد الإلهي، واحتفل بالزواج احتفالًا ذبح فيه مئات من الماشية تكريمًا لحماته السماوية (القمر)».٤
    وأهم من سيرة «إسكندر البافلاجوني» في هذا الصدد، حكم الإمبراطور «إلاجابالوس» أو «هليوجابالوس» (٢١٨–٢٢٢ ميلادية)، الذي كان كاهنًا سوريًّا للشمس، إلى أن اختاره الجيش لمنصب الإمبراطور، فقد سبقته صورته التي أرسلها هديةً إلى مجلس الشيوخ؛ إذ هو في طريق سفره البطيء من سوريا إلى روما، وكانت الصورة تمثله وهو في أرديته الكهنوتية، وهي من الحرير والذهب، تنساب فضفاضة كما كانت العادة عند الميديين والفينيقيين، وكان يغطي رأسه تاجٌ رفيع من تيجان قدماء الفرس، وكانت «ياقاته الكثيرة التي تطوق معصمه تزدان بالجواهر التي لا تُقدَّر بثمن، وكان حاجباه مصبوغَين بلونٍ أسود، وخداه مطليَّين بطلاءٍ صناعي من الأحمر والأبيض، فتنفَّس أعضاء الشيوخ الصعداء، واعترفوا على رصانتهم بأنهم قد رضخوا أمدًا طويلًا لطغيانٍ عابث من أبناء وطنهم، وها هي ذي روما تخضع آخر الأمر إلى طغيانٍ شرقي بما فيه من ترفٍ مخنث.»٥ ولما وجد هذا الكاهن تأييدًا من جانبٍ كبير من الجيش، مضى في حماسةٍ جنونية يُدخل في روما طقوس الشرق الدينية، فاسمه هو نفسه اسم إله الشمس الذي يعبده الناس في إميسا، حيث كان من قبل كبيرًا للكهنة، وأدركت أمه أو جدته — وهي عندئذٍ الحاكمة الحقيقية — أنه قد أسرف في تصرفه إسرافًا جاوَز به الحدود، فخلعته لتولي مكانه ابن أخيها إسكندر (٢٢٢–٢٣٥م)، الذي كان أكثر منه اعتدالًا في استهتاره الشرقي. ولقد تمثل في معبده امتزاج العقائد الذي كان جائزًا في عهده؛ إذ أقام في معبده ذاك تماثيل لإبراهيم وأورفيوس وأبولونيوس التياني والمسيح.
    وكانت ديانة «مثراس» — وهي من أصلٍ فارسي — منافسًا قويًّا للمسيحية، خصوصًا في الشطر الثاني من القرن الثالث الميلادي، حين أحس الأباطرة الذين كانوا يحاولون محاولة اليأس أن يمسكوا بزمام الجيش، أن الذين ربما أعانهم على الاستقرار الذي هم بحاجةٍ شديدة إليه، ولا بُدَّ لهذا الدين المنشود أن يكون من الديانات الجديدة؛ لأن الجنود كانوا يؤثرونها على غيرها، وها هي ذي ديانة «مثراس» التي جاءت وافدة إلى روما، كان فيها كثير من العناصر التي تحببها إلى نفوس العسكريين، و«مثراس» هذا إله للشمس، لكنه لم يكن مخنثًا بقدر ما كان زميله السوري، فهو إله انصرف بعنايته إلى الحرب العظمى القائمة بين الخير والشر، وهي حرب كانت جزءًا من العقيدة الفارسية منذ زرادشت. وينشر «روستوفتسف»٦ صورة لنقشٍ بارز يمثل شعائر عبادته، وقد وجد في معبدٍ تحت الأرض في «هدرنهايم» في ألمانيا، وهو يدل على أن أتباع هذا الإله لا بُدَّ قد كانوا كثيرين بين الجنود، لا في الشرق وحده، بل في الغرب كذلك.

    ونجح قسطنطين نجاحًا سياسيًّا في اصطناعه للمسيحية، على حين أخفقت المحاولات السابقة في إدخال دين جديد، على أن تلك المحاولات السابقة كانت شبيهة جدًّا بمحاولة قسطنطين في إدخال المسيحية، وذلك من وجهة النظر الحكومية، فكلها على السواء محاولات تستمد الأمل في نجاحها مما كان يعانيه العالم الروماني من شقاء وإعياء، وكانت الديانات التقليدية الشائعة في اليونان وروما تلائم رجالًا انصرفوا باهتمامهم نحو هذه الحياة الدنيا، وعقدوا آمالهم على السعادة فوق الأرض. أما آسيا التي كانت قد خبرت اليأس أكثر مما خبرته اليونان وروما، فقد طوَّرت في عصورها القديمة ألوانًا من العلاج الناجح لهذا اليأس في الحياة، اتخذت لديها صور الآمال يعقدها الناس على حياةٍ آخرة، وأفعل هذه المسكنات العلاجية التي اصطنعتها آسيا لبثِّ العزاء في النفوس، هي المسيحية، غير أن المسيحية حين استطاعت أن تصبح دين الدولة، كانت قد تشرَّبت كثيرًا من اليونان، ونقلت هذا الذي أخذته عن اليونان، فضلًا عن العنصر اليهودي الذي فيها، إلى العصور التالية في الغرب.

  • (٣)

    توحيد الحكومة والثقافة.

    لئن كنا قد احتفظنا بآثار ما أنتجه العصر العظيم في اليونان، فلم نفقدها كما فقدنا آثار ما أنتجه العصر المينوي، فإنما نحن مدينون في ذلك للإسكندر أولًا ثم لروما، فلو قد شاءت الأيام أن يقوم رجلٌ مثل جنكيز خان في القرن الخامس قبل الميلاد، لجاز أن يمحو كل ما كان يحويه العالم الهليني من روائع. ولو قد كان لأجزرسيس من الكفاءة أكثر مما كان له بقدرٍ ضئيل، لأمكن أن يهبط بالحضارة اليونانية هبوطًا شديدًا جدًّا عما أصبحت عليه تلك الحضارة بعد طرده، فانظر إلى الفترة الواقعة بين أسخيلوس وأفلاطون، تجد كل ما تم أداؤه في تلك الفترة إنما تم على أيدي فئة قليلة من سكان طائفة صغيرة من المدن التجارية. وقد دل المستقبل على أن تلك المدن لم يكن لها قدرة كبيرة على مناهضة الغزو الأجنبي، لكن شاء الحظ الجميل بضربة من ضرباته النادرة، أن يكون غزاة تلك المدن من مقدونيين ورومان، أنصارًا للروح الهلينية، فلم يقوضوا ما قد غزوه، كما كان يجوز لأجزرسيس أو قرطاجنة أن يصنعا؛ فإذا رأينا أنفسنا الآن على علم بما أنتجه اليونان من فنٍّ وأدب وفلسفة وعلم، فذلك راجعٌ إلى الاستقرار الذي أدخله الغزاة الغربيون، الذين كان لهم من سلامة الذوق ما جعلهم يعجبون بحضارةٍ حكموها لكنهم بذلوا جهدهم في الاحتفاظ بكيانها.

    لقد كان الإسكندر والرومان في بعض النواحي السياسية والأخلاقية، من الأسباب التي أدت إلى فلسفةٍ أفضل من أية فلسفة مما أخذ به اليونان في أيام حريتهم؛ فالرواقيون — كما رأيناهم — قد آمنوا بإخاء بني الإنسان، ولم يقصروا عطفهم على اليونان وحدهم. وكان من نتائج طول الأمد بسيادة روما أن تعود الناس فكرة قيام حضارة واحدة في ظل حكومة واحدة، فنحن اليوم نعلم أن قد كانت هنالك أجزاء هامة من العالم لم تكن خاضعة لروما — خصوصًا الهند والصين — لكن الرومان ظنه أنه لم يكن خارج حدود الإمبراطورية سوى قبائل من الهمج المغمورين، الذين يمكن غزوهم في أي وقت يتبين فيه أن غزوهم يستحق بذل الجهد في تحقيقه؛ فالإمبراطورية في رأي الرومان كانت تشمل العالم كله، من وجهة النظر الجوهرية والنظرية، ثم انتقلت هذه الفكرة إلى «الكنيسة» التي كانت «كاثوليكية» على الرغم من وجود البوذيين والكونفوشيوسيين ثم المسلمين فيما بعد؛ فشمول تشريع واحد في أرجاء الأرض كلها، مبدأ أخذته «الكنيسة» من الرواقيين المتأخرين، وإنما صادف هذا المبدأ ما صادفه من قبول بسبب ما كان للإمبراطورية الرومانية من عالميةٍ ظاهرة، فكانت «الكنيسة» و«الإمبراطورية الرومانية المقدسة» خلال العصور الوسطى كلها، بعد عصر شرلمان، يشملان العالم كله، من الوجهة النظرية، على الرغم من أن كل إنسان يعلم أنهما لم يكونا كذلك في الواقع. ومنذ حققت روما للناس على وجه التقيب فكرة قيام أسرة إنسانية واحدة، وديانة كاثوليكية واحدة، وثقافة عالمية واحدة، ودولة واحدة تشمل الأرض كلها، ما زالت تلك الفكرة تعاود الرءوس حتى اليوم.

    ولعبت روما دورًا غاية في الأهمية، لتوسيع نطاق المدنية على سطح الأرض، فقد انتقلت المدنية إلى شمال إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبعض أجزاء من ألمانيا الغربية، بفضل غزو هذه الأراضي عنوةً على أيدي فيالق من الرومان، ثم برهنت هذه المناطق كلها على أنها لا تقل عن روما نفسها قدرة على استيعاب مستوًى عالٍ من الثقافة؛ فقد أنجبت بلاد الغال في أُخريات أيام الإمبراطورية الغربية رجالًا كانوا على الأقل مساوين لمعاصريهم في المناطق التي كانت فيها المدنية أقدم عهدًا منها في بلاد الغال. وإذا كان البرابرة قد أحدثوا على الأرض خسوفًا مؤقتًا، لا ظلامًا دائمًا، فذلك راجعٌ إلى نشر الثقافة على يدي روما. وربما قال قائل إن نوع المدنية لم يكن قط من السمو بحيث كانت مدنية أثينا في عصر بركليز، لكننا ما دمنا نعيش على أرض تجتاحها الحروب وينتابها الدمار، فالكمية في نهاية الأمر تكاد تكون لها أهمية الكيفية، والكمية كانت ترجع إلى روما.

  • (٤)

    المسلمون باعتبارهم وسائل لنقل الثقافة الهلينية.

    حدث في القرن السابع أن غزا أتباع «النبي» سوريا ومصر وشماليَّ أفريقيا، ثم غزوا إسبانيا في القرن التالي، وكانت انتصاراتهم تلك هينة والحرب يسيرة. وربما لو استثنينا الأعوام القلائل الأولى، استطعنا أن نقول إنهم لم يكونوا ذوي تعصب ديني؛ فلم يكن المسيحيون أو اليهود يؤذَون ما داموا يدفعون الجزية، وسرعان ما نقل العرب لأنفسهم مدنية الإمبراطورية الشرقية، لكنهم صبغوها بالأمل الذي يصاحب سياسةً صاعدة السعود، بعد أن كانت مصطبغة في الإمبراطورية الشرقية بيأس قوم في طريق التدهور، وكان علماؤهم يقرءون اليونانية ويكتبون عليها الشروح، وإن شهرة أرسطو لترجع في معظمها إليهم، بعد أن كان يندر ذكره في العصر القديم، ولا يُعتبر في منزلةٍ واحدة مع أفلاطون.

    ومن المفيد أن ننظر في بعض الألفاظ التي أخذناها من اللغة العربية، مثل: الجبر، الكحول، والكيمياء، والإنبيق، والقلوي، وسمت السموت، والأوج. فلو استثنينا كلمة «الكحول» — التي لم تكن تعني عندهم الشراب المسكر، بل مادة تُستعمل في الكيمياء — رأينا في هذه الألفاظ صورة جيدة لبعض ما نحن مدينون به إلى العرب؛ فالجبر من ابتكار يونانيي الإسكندرية، لكن المسلمين تقدموا به شوطًا، وأما ألفاظ «الكيمياء» و«الإنبيق» و«القلوي» فألفاظٌ مرتبطة بمحاولاتهم أن يحولوا المعادن الخسيسة ذهبًا، وهي محاولات أخذَها العرب عن اليونان، واعتمدوا في القيام بها على الفلاسفة اليونان.٧ ولفظتا «سمت السموت» و«الأوج» كلمتان فلكيتان، كانتا نافعتين للعرب بصفةٍ خاصة فيما يتعلق بالتنجيم.

    على أن مثل هذه الدراسة اللفظية قمينة أن تخفي ما نحن مدينون به للعرب في علمنا بالفلسفة اليونانية؛ لأن الغربيين حين تناولوا تلك الفلسفة بالدراسة في أوروبا من جديد، أخذوا المصطلحات الفنية اللازمة لها من اليونان أو اللاتينية، وكان العرب في ميدان الفلسفة شُراحًا أقدر منهم مفكرين أصيلين، وأهميتهم لنا قائمة على كونهم هم — لا المسيحيين — الذين كانوا ورثة مباشرين لتلك الجوانب من التراث اليوناني، التي لم تكن موجودة إلا في الإمبراطورية الشرقية. ولقد عرف الغرب أرسطو عن طريق اتصاله بالمسلمين في إسبانيا، ثم اتصاله بهم بدرجةٍ أقل في صقلية، وهذا الاتصال نفسه هو الذي أحاط الغرب علمًا كذلك بالأعداد العربية وبالجبر والكيمياء، هذا الاتصال هو الذي كان الخطوة الأولى في إحياء العلوم إبان القرن الحادي عشر، ذلك الإحياء الذي انتهى إلى الفلسفة الإسكولائية، ولم يحدث إلا في عهدٍ متأخر، أعني من القرن الثالث عشر فصاعدًا، أن تمكَّن الناس بفضل دراستهم لليونانية أن يقصدوا مباشرة إلى مؤلفات أفلاطون وأرسطو وغيرهم من الكُتاب اليونان الأقدمين؛ فإذا لم يكن العرب قد احتفظوا بالتراث لجاز ألا يتنبه رجال النهضة إلى أهمية ما يمكن استفادته من إحياء العلوم القديمة.

١  تاريخ العالم القديم، ج٢، ص٢٥٥.
٢  انظر روستوفتسف، «تاريخ العالم القديم»، ج٢، ص٣٣٢.
٣  انظر «كيومونت Cumont» في كتاب الديانات الشرقية في الوثنية الرومانية.
٤  انظر Benn في كتابه «الفلاسفة اليونان»، ج٣، ص٢٢٦.
٥  جبن Gibbon، فصل ٦.
٦  «تاريخ العالم القديم»، ج٢، ص٣٤٣.
٧  انظر كتاب «الكيمياء وليد الفلسفة اليونانية» لمؤلفه Arthur John Hopkins، طبعة كولمبيا ١٠٣٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤