الفصل الثالث

فيثاغورس

كان فيثاغورس — الذي سأجعل تأثيره في العصور القديمة والحديثة موضوع هذا الفصل — من أهم من شهدت الدنيا من رجالٍ من الوجهة العقلية، وهو بهذه الأهمية كلها في كلتا حالتيه؛ حين أصاب وحين أخطأ على السواء، فالرياضة بمعنى التدليل القياسي القاطع تبدأ بفيثاغورس، وهي عنده مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بصورةٍ عجيبة من التصوف؛ ولم يزل تأثير الرياضة في الفلسفة، الذي يُعزى إليه إلى حدٍّ ما، لم يزل منذ عهده حتى اليوم، متصفًا بالعمق وبعدم التوفيق في آنٍ معًا.

لنبدأ حديثنا بالقليل الذي نعرفه عن حياته؛ فهو من أبناء جزيرة ساموس، وازدهر شأنه نحو عام ٥٣٢ قبل الميلاد، ويزعم بعض أنه ابن مواطن له منزلته المرموقة، وهو مينسارنوس، في حين يزعم آخرون أنه ابن الإله أبولو، وسأترك للقارئ حرية الاختيار بين هذين اليديلين؛ وكانت ساموس في عهده يحكمها طاغية يدعى «بولكراتس»، وهو وغد كهل، أصبح مع الأيام عريض الثراء، وسيد أسطول قوي.

وكانت ساموس تنافس ملطية في التجارة، أوغل تجارها في أسفارهم حتى بلغوا طرطسوس في إسبانيا، الذي كان غنيًّا بمناجمه، وقد أصبح بولكراتس طاغيةً على ساموس حول سنة ٥٣٥ قبل الميلاد، ولبث يحكم حتى سنة ٥١٥ قبل الميلاد، ولم تكن الوساوس الخلقية لتلتمس سبيلها إلى نفسه، فتخلَّص من أخويه اللذين كانا على اتصالٍ به أول الأمر في طغيانه، واستخدم أسطوله في القرصنة بصفةٍ خاصة، وقد استفاد من خضوع ملطية للفرس، الذي وقع قبل ذلك بقليل، ولكي يحول دون التوسُّع الفارسي تجاه الغرب وعقد حلفًا مع أحمس ملك مصر، لكن لمَّا جاء قمبيز ملكًا على الفرس، وحصر جهده كله في غزو مصر، تبيَّن بولكراتس أن النصر قد يُكتب لقمبير؛ ولذا انقلب على عقبيه من فريقٍ إلى فريق، وأرسل أسطولًا مؤلفًا من أعدائه السياسيين ليهاجم مصر، لكن البحارة دبَّت بينهم الفتنة وعادوا إلى ساموس ليُهاجموه، غير أنه غلبهم على أمرهم، لولا أنه سقط آخر الأمر فريسة حركة غادرة لعبت على جشعه، وهي أن رجلًا من رجالات فارس في «سرديس» ادعى أنه معتزم أن يثور على «الملك العظيم»، وأنه يدفع مبالغ طائلةً من المال لبولكراتس إذا عاونه في ثورته، فذهب بولكراتس إليه في أرض وطنه بغية لقائه والاتفاق معه، وهناك أُلقي عليه القبض وصُلِب.

كان «بولكراتس» راعيًا للفنون، وازدانت ساموس على يديه بمنشآتٍ تستوقف النظر، وكان «أناكريون» هو شاعر البلاط في عهده، ومع ذلك كله فقد كره فيثاغورس حكومته وغادر ساموس، ويقال إن فيثاغورس قد زار مصر — وليس ذلك بالمستحيل — وإنه ظفر هناك بكثيرٍ من حكمته، ومهما يكن من أمر ذلك، فليس من شكٍّ في أنه ألقى رواسبه آخر الأمر في كروتون في جنوبي إيطاليا.

وكانت المدن اليونانية في جنوبي إيطاليا غنيةً مزدهرة، كما كانت مدينتا ساموس وملطية، يضاف إلى ذلك أنها لم تكن معرضةً لخطر الفرس،١ وأكبر تلك المدن اثنتان، هما «سيبارس» و«كروتون»؛ أما سيبارس فقد لبثت مضرب الأمثال في ترف الحياة فيها، ويزعم «ديودورس» أن عدد سكانها في أزهر أيامها بلغ ثلاثمائة ألف نسمة، ولكن هذه مبالغة لا شك فيها؛ وكانت «كروتون» تقرب من «سيبارس» في حجمها؛ والمدينتان معًا كانتا تعتمدان على استيراد البضائع الأيونية إلى إيطاليا لاستهلاك بعضها في إيطاليا نفسها، ثم لإعادة تصدير بعضها الآخر من سواحل إيطاليا الغربية إلى بلاد الغال وإسبانيا؛ وكانت المدن اليونانية في إيطاليا في قتالٍ عنيف بعضها مع بعض، وفي الوقت الذي وصل فيه فيثاغورس إلى «كروتون» كانت هذه المدينة قد هُزمت لتوها في حربها مع «لوكري»، غير أنها لم تلبث بعد قدومه إليها أن ظفرت بنصرٍ كامل على «سيبارس» التي اندكت من أساسها (سنة ٥١٠ق.م.) وكانت سيبارس هذه وثيقة الصلة مع ملطية من حيث التجارة، واشتهرت «كروتون» بالطب؛ فطبيب من أطبائها يُدعى «ديموسديز» هو الذي أصبح طبيبًا لبولكراتس، ثم طبيبًا لدارا.
أسَّس فيثاغورس في كروتون جماعةً من الأتباع، كانت قوية التأثير في تلك المدينة حينًا من الدهر، لكن أهل المدينة عادوا في النهاية فانقلبوا على فيثاغورس، حتى ارتحل هذا إلى «متابونتيون» (وهي أيضًا في جنوبي إيطاليا) حيث قضى نحبه، ولم يلبث بعدئذٍ أن أصبح شخصيةً أسطورية تُنسب إليه المعجزات والقوة السحرية، لكنه كان كذلك مؤسس مدرسة من الرياضيين،٢ وهكذا تنازعت ذكراه روايتان متعارضتان، ومن العسير أن تستخلص الحق من خليط ما يروى.
وفيثاغورس بين من شهدهم التاريخ من رجال، هو من أشدهم استثارةً للعجب والحيرة؛ فليس يقتصر الأمر على كون الروايات التي تروى عنه خليطًا يكاد يستحيل على إنسانٍ أن يفصل صوابه من باطله، بل إن الحقائق التي هي أقرب إلى الحق الصُّراح وأبعد أجزاء تلك الروايات عن اختلاف الرأي، تصوِّر لنا نفسيةً غاية في العجب، وتستطيع أن تصف فيثاغورس وصفًا موجزًا فتقول إنه مزيجٌ من «أينشتين» و«مسز إدي» فهو مؤسس ديانة، أهم اتجاه فيها هو مذهب تناسخ الأرواح٣ وجعل أكل الفول خطيئة؛ وقد صُبت ديانته في مذهبٍ ديني يضع نفسه في بعض أجزائه رقيبًا على الدولة، ويجعل للقديسين كلمةً في الحكم، لكن أصحاب الجمود النفسي لم يطيقوا حرمانهم من الفول، وأعلنوا الثورة بعد حينٍ قصر أو طال.
وهاك بعض القواعد التي جاءت في مذهب فيثاغورس الديني:
  • (١)

    أن تمتنع عن أكل الفول.

  • (٢)

    ألَّا تلتقط ما قد سقط.

  • (٣)

    ألَّا تمس ديكًا أبيض.

  • (٤)

    ألَّا تكسر الخبز.

  • (٥)

    ألَّا تخطو من فوق حاجز.

  • (٦)

    ألَّا تحرك النار بالحديد.

  • (٧)

    ألَّا تأكل من رغيفٍ كامل.

  • (٨)

    ألَّا تنزع الزهر من إكليل.

  • (٩)

    ألَّا تجلس على مكيال.

  • (١٠)

    ألَّا تأكل قلبًا.

  • (١١)

    ألَّا تمشي في الطرق العامة.

  • (١٢)

    ألَّا تسمح للعصافير أن تبني أعشاشها في دارك.

  • (١٣)

    إذا رفعت القدر عن النار، فلا تترك أثرها على الرماد، بل امزج الرماد بعضها في بعض.

  • (١٤)

    لا تنظر إلى المرآة بجانب الضوء.

  • (١٥)
    إذا ما نهضت من فراشك، فاطوِ الفراش وسوِّ موضع جسدك منه.٤

وكل هذه الأوامر ينتمي إلى نوع التحريم الذي كان يفكِّر فيه البدائيون، ويقول كورنفورد في كتابه «من الدين إلى الفلسفة» إنه يرى أن «مدرسة فيثاغورس تمثِّل التيار الأساسي في الاتجاه الصوفي الذي جعلناه أحد المجريَين الرئيسيين، حين جعلنا الآخر الاتجاه العلمي»؛ وهو يعتبر بارميندر الذي نسمِّيه «مستكشف المنطق» «نتيجةً تفرعت عن الفيثاغورية، ويرى أن أفلاطون نفسه قد وجد المعين الرئيس لوحيه في الفلسفة الإيطالية»، ويقول إن «الفيثاغورية حركة إصلاح في المذهب الأورفي، والمذهب الأورفي نفسه حركة إصلاح في عبادة ديونيسوس»، إن التعارض بين الاتجاه العقلي من ناحيةٍ والاتجاه الصوفي من جهةٍ أخرى، ذلك التعارض الذي يمتد ما امتد التاريخ، يظهر أول ما يظهر بين اليونان، في صورة التعارض بين آلهة أولمب، والآلهة الآخرين الذين كانوا أقل من هؤلاء مدنية، وأعني بهم أولئك الآلهة الذين كانوا أقرب من آلهة الأولمب شبهًا بالعقائد البدائية التي يعالجها علماء الأجناس البشرية. وترى فيثاغورس في هذا التقسيم يقع في الجانب الصوفي، وإن تكن صوفيته من ضربٍ عقلي فريد في نوعه؛ فقد كان ينسب إلى نفسه صفات شبيهةً بالصفات الإلهية، والظاهر أنه قال هذه العبارة: هنالك ناس وهنالك آلهة، كما أن هنالك كائنات مثل فيثاغورس — لا هم من هؤلاء ولا أولئك». ويقول كورنفورد: «تميل المذاهب الفلسفية التي أوحى بها فيثاغورس إلى البحث في العالم الآخر؛ إذ تجعل القيمة كلها لوحدة الله التي لا تراها العيون، وتتهم العالم المرئي بالبطلان والخداع؛ فهو سطح عكر تتكسَّر عليه أشعة الضوء السماوي، وتتعثَّم في ضبابٍ وظلام.»

قال «ديكاياركوس» إن فيثاغورس علم «أولًا أن الروح خالدة، وأنها تتحول ضروبًا أخرى من الكائنات الحية، ثم علمَ أن كل ما يظهر في الوجود يعود فيولد في دورةٍ معلومة، فلا شيء جديد كل الجدة، وأن كل ما يولد وفيه دبيب الحياة، ينبغي أن ننظر إليه جميعًا نظرتنا إلى أبناء الأسرة الواحدة».٥ ويقال إن فيثاغورس كان يعظ الحيوان، كما فعل القديس فرنسيس، وكانت الجمعية التي أسَّسها، تقبل الرجال والنساء على قدم المساواة، وكانت الملكية فيها مشاعًا للجميع، كما أنهم جميعًا كانوا يعيشون على غرارٍ واحد، بل إن ما يستكشفونه في العلم والرياضة، كانوا يعتبرونه كشفًا جمعيًّا، وينسبونه إلى فيثاغورس حتى بعد موته، نسبةً فيها معنًى من معاني التصوف، وحدث أن خرج «هباسوس» من أهالي «مينابونتيون» على هذه القاعدة، فتحطَّمت به السفينة جزاءً من عند الآلهة الغضبى عمَّا اقترف من إثم.

لكن ما شأن هذا كله بالرياضة؟ إن الرابطة بينه وبين الرياضة هي رابطة خُلقية؛ لأنه كان بهذا يعلي من شأن الحياة التأملية، ويلخِّص لنا «بيرنت» ما في هذه التعاليم من صبغةٍ خُلقية فيقول:

نحن في هذا العالم غرباء، والجسم هو مقبرة الروح، ومع ذلك فلا يجوز لأحدٍ منا أن يلتمس الفرار بالانتحار؛ لأننا ملك الله، هو راعينا، وما لم تشأ لنا إرادته الفرار، فلا حق لنا في تهيئته لأنفسنا بأنفسنا، والناس في هذه الحياة ثلاثة ضروب تقابل الضروب الثلاثة من الناس الذين يفدون إلى الألعاب الأولمبية؛ فأحط الطبقات جماعة جاءت تبيع وتشتري، ويتلوها ارتفاعًا أولئك الذين جاءوا يتنافسون في المضمار، وخير الناس جميعًا هم أولئك الذين جاءوا ينظرون إلى ما يجري وحسبهم ذلك؛ وعلى ذلك فأعلى درجات التطهير النفسي هو العلم الذي لا يجعل الهوى أساسه، وإنَّ من يستطيع تكريس نفسه لذلك لهو الفيلسوف الحق، الذي فك الأغلال التي تربطه «بعجلة الميلاد».٦

إن ما يطرأ على معاني الألفاظ من تغيراتٍ كثيرًا ما يكون كبير الفائدة جدًّا؛ فقد أسلفت لك القول في لفظة «عربدة» وما تطوَّر إليه معناها (في اللغة الإنجليزية)، وها أنا ذا أحدِّثك عن لفظة «نظرية»؛ فهذه الكلمة (في الإنجليزية أيضًأ) كانت في الأصل لفظةً أورفية، يفسِّرها كورنفورد بمعنى «تأمل عاطفي وجداني»، وهو يقول في ذلك ما يأتي: «إن المشاهد يوحِّد بين شخصه وبين الإله المتألم، يموت بموته، ويبعث من جديدٍ في ولادته الجديدة»؛ و«التأمل العاطفي الوجداني» عند فيثاغورس، كان يفهم بمعناه العقلي ويتمثَّل في المعرفة الرياضية؛ وعلى هذا النحو، أكسبت الفيثاغورية كلمة «نظرية» معناها الحديث شيئًا فشيئًا، لكن الكلمة ما زالت تحتفظ بعنصر الكشف النشواني في معناها، بالنسبة إلى كل أولئك الذين استمدوا وحيهم من فيثاغورس، وقد يبدو هذا غريبًا في أعين من تعلم قليلًا من الرياضة في المدرسة وهو كاره. أمَّا أولئك الذين مارسوا بالفعل تلك النشوة المسكرة التي تنشأ عن الفهم المفاجئ الذي تتيحه الرياضة آنًا بعد آنٍ، أعني أولئك الذين يحبون الرياضة حبًّا، فسيرون النظرة الفيثاغورية جد طبيعية، حتى ولو لم تكن صوابًا؛ فقد يظهر لنا أن الفيلسوف التجريبي عبد لمادته، أمَّا الرياضي البحت فهو كالموسيقي يخلق عالمه بتنسيقه الجميل خلقًا حرًّا.

ومن المفيد أن نلاحظ في شرح «بيرنت» للعنصر الأخلاقي في الفيثاغورية، تعارضه مع القيم الحديثة؛ ففي مباراة الكرة، ترى أصحاب العقول الحديثة يعتبرون اللاعبين أعظم شأنًا من المتفرجين، وكذلك في الدولة تراهم أكثر إعجابًا بالساسة الذين يعتركون في المضمار منهم بمن يكتفي بالنظر، وهذا التغير في القيم مرتبطٌ بتغير مثله في النظام الاجتماعي؛ فلكلٍ من الجندي والرجل المهذب والغني الحاكم والحاكم المستبد، معياره الخاص في قياس ما هو خير وما هو حق؛ أما السيد المهذب فرباطه بالتفكير النظري الفلسفي قوي طويل؛ لأنه مرتبطٌ بفكرة النبوغ عند اليونان؛ ولأن فضيلة التأمل الفكري قد وجدت سندًا يؤيدها من اللاهوت، ولأن المثل الأعلى في صورة الحقيقة البعيدة عن الهوى هو الذي أكسب الحياة العلمية وقارها. ولكن أن تعرف السيد المهذب بأنه عضو في جماعةٍ تساوى أفرادها وتعيش على مجهود العبيد، أو على الأقل تعيش على مجهود طائفة لا يكون دنو منزلتها محلًّا لريبة مرتاب، ولا بُدَّ لنا أن نلاحظ هنا أن هذا التعريف يشمل التقديس ويشمل الحكيم بمقدار ما تكون حياة هذين تأملًا فكريًّا أكثر منها نشاطًا عمليًّا.

وتعريف الحقيقة في عصرنا الحديث، كتعريف البراجماتية والذرائعية لها، وهما اتجاهان عمليان أكثر منهما تأملين نظريين؛ أقول إن تعريف الحقيقة عند أصحاب هذه الاتجاهات العملية قد أوحى به العصر الصناعي بالقياس إلى عصر سيادة الأرستقراطية.

ومهما يكن الرأي في النظام الاجتماعي الذي يبيح الرق، فإننا مدينون للسادة المهذبين — بالمعنى الذي أسلفناه لهذه الكلمة — بالرياضة البحتة. ولما كان المثل الأعلى التأملي قد أدَّى إلى خلق الرياضة البحتة، فإنه إذن مصدر نشاط نافع، وهذا بدوره زاد من قيمته في أعين الناس، وأدَّى إلى نجاحه في اللاهوت والأخلاق والفلسفة، وهو نجاح لم يكن ليظفر به لولا ما أظهره من نفعٍ في عالم الرياضة.

وحسبنا ما ذكرناه شرحًا لفيثاغورس من وجهيه؛ باعتباره نبيًّا دينيًّا من جهة، وباعتباره عالمًا في الرياضة البحتة من جهةٍ أخرى؛ فهو قوي الأثر إلى حدٍّ بعيد جدًّا في كلا الجانبين، ولم يكن الجانبان منفصلين بمقدار ما يبدو من انفصالهما للعقل الحديث.

إن معظم العلوم في بدايتها تكون مرتبطةً بشيءٍ من العقائد الباطلة يخلع عليها قيمةً وهمية؛ فعلم الفلك كان مرتبطًا بالتنجيم، والكيمياء كانت مرتبطةً بمحاولاتٍ بدائية لاستخراج الذهب من النحاس وما إلى ذلك؛ كذلك كانت الرياضة مرتبطةً بنوعٍ من الخطأ، لكنه خطأ ألف في نوعه ممَّا ذكرنا؛ فقد خُيل للناس أن الرياضة يقينية ومضبوطة ويمكن انطباقها على العالم الواقع، أضف إلى ذلك أن وسيلة الحصول عليها هي الفكر الخالص الذي لا حاجة فيه إلى المشاهدة بالحواس؛ ونتيجة هذا كله، ظن الناس أنها تهيِّئ لهم مثلًا أعلى للمعرفة يقصر دونه نوع المعرفة الحسية التي استمدها من الحياة اليومية، وحسب الناس — معتمدين في ذلك على الرياضة — أن الفكر أعلى منزلةً من الحس، وأن الحدس أهدى إلى الحق من الملاحظة، فإذا وجدنا أن عالم الحس لا يطابق الرياضة فلننبذ عالم الحس؛ وهكذا جعل الناس يلتمسون بالوسائل المختلفة ذلك المثل الأعلى للرياضة، ونجم عن ذلك من الآراء ما أصبح مصدرًا لكثيرٍ من الخطأ في الميتافيزيقا وفي نظرية المعرفة، وإنما يبدأ هذا الضرب من الفلسفة بفيثاغورس.

وكلنا نعلم أن فيثاغورس قد ذهب إلى أن «الأشياء كلها أعداد»، ونحن إذا فهمنا هذه العبارة من وجهة نظر حديثة وجدناها كلامًا ليس له معنًى، لكن ما أراده فيثاغورس بعبارته لم يكن يخلو من المعنى خلوًّا تامًّا؛ فقد أدرك أهمية الأعداد في الموسيقى، ولا تزال بعض المصطلحات الرياضية المستعملة اليوم تنبئ عن العلاقة التي كانت بين الحساب والموسيقى، مثل قولنا «الوسط التوافقي» و«المتوالية التوافقية»؛ فالأعداد كانت ترد في ذهن فيثاغورس على هيئة أشكال، كما تبدو في زهر اللعب وورق اللعب، وما زلنا حتى اليوم نقول: «مربع العدد» و«مكعب العدد» وهي ألفاظ ورثناها عنه؛ كذلك كان فيثاغورس يتحدث عن أعدادٍ مستطيلة وأعدادٍ مثلثة وأعداد هرمية وهلم جرًّا، وكان يقصد بذلك عدد الحصى المطلوب لتكوين هذه الأشكال؛ وأرجح الظن أنه تصوَّر العالم مؤلفًا من ذرات، والأجسام تشكيلات من ذريرات الذرات رُتبت على أشكالٍ مختلفة؛ وبهذا أراد أن يجعل علم الحساب هو الدراسة الرئيسية في علم الطبيعة وفي علم الجمال.

وأعظم كشف قام به فيثاغورس، أو قام به أتباعه المباشرون، هو النظرية الخاصة بالمثلثات القائمة الزوايا، وهي أن مجموع المربعَين القائمين على الضلعين المجاورين للزاوية القائمة يساوي المربع القائم على الضلع الثالث، وهو وتر المثلث؛ وكان المصريون قبل ذلك يعلمون أن المثلث الذي يكون طول أضلاعه ٣ و٤ و٥ يكون فيه زاوية قائمة؛ لكن يظهر أن اليونان هم أول من لاحظوا أن ٣٢ + ٤٢ = ٥٢، فلمَّا جعلوا هذا الفرض أساسًا لسلوكهم، تبيَّن لهم برهان النظرية العامة.
ولكن شاء سوء الحظ لفيثاغورس أن تؤدِّي نظريته إلى نتيجةٍ مباشرة، وهي الكشف عن الأطوال التي يستحيل قياسها، وهو كشفٌ يهدم فلسفته كلها من أساسها فيما يظهر؛ ففي المثلث القائم الزاوية المتساوي الساقين، يكون المربع المقام على الوتر ضعف المربع المقام على أيٍّ من الضلعين الآخرين، فافرض أن طول ضلع من أضلاع المثلث بوصة واحدة، فكم يكون طول الوتر؟ افرض أن طول الوتر هو م/ن من البوصات، إذن م٣٢ = ٢، فإذا كان هنالك مضاعف مشترك بين م ن، فاقسمهما عليه، فيكون إما م أو ن عددًا فرديًّا؛ ولمَّا كانت م٢ = ٢ ن٢ كانت م٢ عددًا زوجيًّا، وكانت بالتالي م عددًا زوجيًّا كذلك وتكون ن على ذلك عددًا فرديًّا، ثم افرض أن م = ٢ب، إذن ٤ب٣ = ٢ن٢ وإذن ن٣ = ٢ب٢، وإذن تكون ن عددًا زوجيًّا، وهو عكس الفرض، وإذن فليس هناك كسر م/ن يكون قياسًا لطول الوتر؛ هذا البرهان السالف هو في جوهره البرهان المذكور في إقليدس الكتاب العاشر.٧
هذا التدليل يبرهن على أنه مهما تكن الوحدة الطولية التي تتخذها، فسنجد أن هناك أبعادًا ليس بينها وبين تلك الوحدة العلوية نسبة عددية مضبوطة، بمعنى أنك لن تجد عددين م، ن بحيث إذا كررنا ذلك البعد المعين عدد م من المرات كان مساويًا للوحدة الطولية عدد ن من المرات، فاتخذ علماء الرياضة اليونان من ذلك دليلًا على أن الهندسة لا بُدَّ لها أن تقوم على أساسٍ غير علم الحساب؛ وفي محاورات أفلاطون فقرات تبيِّن أن معالجة الهندسة على أساسٍ مستقل خاص بها، كانت شائعةً في عهده شيوعًا ملحوظًا، وهي طريقة بلغت كمالها عند إقليدس؛ فإقليدس يبرهن في الكتاب الثاني بالبرهان الهندسي عدة أشياء نُبرهن عليها نحن اليوم بالجبر برهانًا لا تكلُّف فيه، مثال ذلك: «أ + ب»٢ = أ٢ + ٢ أب + ب٢ وإنما ظن إقليدس أن اتخاذ برهان هندسي للعمليات الهندسية ضرورة لا مندوحة عنها، بسبب الصعوبة التي تترتَّب على الأبعاد المستحيل قياسها بالعدد الحسابي قياسًا مضبوطًا؛ وتراه يطبِّق نفس الطريقة حين يتناول التناسب بالدرس في الكتابين الخامس والسادس؛ وعلى الجملة فنظامه الهندسي كله يمتعك من وجهة النظر المنطقية، وفيه سبقٌ لِما شهدناه في علماء الرياضة في القرن التاسع عشر من تعسفٍ صارم، ولبثت طريقة إقليدس أفضل طريقة ممكنة في الهندسة ما دام لم يكن هناك نظرية حسابية شاملة لموضوع الأبعاد المستحيل قياسها شمولًا يفسر لنا كل شيء فيه، ولمَّا أنشأ ديكارت الهندسة العددية، جعل الحساب في منزلة السيادة من جديد، وقد زعم بطريقته إمكان حل مشكلة الأبعاد المستحيل قياسها، حلًّا لم يكن قد اهتدى إليه أحدٌ إلى عهده.
لقد كان تأثير الهندسة في الفلسفة وفي الطريقة العلمية عميقًا؛ فالهندسة، كما بدأها اليونان، تبدأ ببديهياتٍ واضحة بذاتها (أو ظن أنها كذلك)، ثم تمضي في تدليلها بخطواتٍ قياسية، لكي تنتهي إلى نظرياتٍ أبعد جدًّا من أن تكون واضحةً بذاتها، وهم يسلِّمون بأن البديهيات والنظريات على السواء تصوِّر المكان الحقيقي تصويرًا صحيحًا، مع أن المكان يأتينا العلم به عن طريق الخبرة، ومن ثم خُيل إليهم أنه من الممكن للإنسان أن يحصِّل بعض العلم عن الدنيا الواقعة إذا ما بدأ أولًا باستخراج الحقائق الواضحة بذاتها، ثم استخدام طريقة الاستنتاج القياسي بعد ذلك، ولقد أثَّرت هذه النظرة في أفلاطون وكانْت ومعظم من جاء بينهما من الفلاسفة، وإذا ما رأيت «إعلان الاستقلال» يتضمن هذه العبارة: «نحن نعتقد أن هذه الحقائق واضحة بذاتها»، فاعلم أنه قد صيغ على غرار إقليدس، ومذهب الحقوق الطبيعية الذي ظهر في القرن الثامن عشر يستخدم البديهيات الإقليدية في السياسة،٨ وكتاب نيوتن «الأصول» متأثرٌ بالطريقة الإقليدية تأثرًا تامًّا في صورته، على الرغم من أن مادته قائمة على التجربة الحسية قيامًا لا سبيل إلى الشك فيه، وكذلك اللاهوت في صوره الإسكولائية الدقيقة، يستمد أسلوبه من المصدر نفسه؛ فالديانة الشخصية مستمدة من النشوة، واللاهوت مستمدٌّ من الرياضة، وكلاهما يمكن تعقَّب أصوله إلى فيثاغورس.

فعقيدتي هي أن الرياضة كانت المصدر الأساسي الذي عنه تفرع الاعتقاد في حقيقةٍ أبدية مضبوطة، وفي عالمٍ معقول فوق مستوى الحس. إن الهندسة تبحث في دوائر مضبوطة، لكن ليس بين ما يقع تحت الحس من أشياء دائرة مضبوطة؛ فمهما حرصت في استعمال الفرجار، فلا بُدَّ أن يكون في الدوائر التي ترسمها به بعض أوجه النقص وعدم الاطراد، وهذا فيه إيحاء بأن كل تدليل مضبوط ينطبق على موضوعات الفكر لا موضوعات الحواس. ومن الطبيعي أن نمضي وراء ذلك خطوة، فنقيم الحجة على أن الفكر أسمى منزلةً من الحواس، وأن ما ندركه بالتفكير أقرب إلى الحق ممَّا ندركه بالحواس، كذلك ترى الرياضة البحتة عاملًا يؤيد المذاهب الصوفية في العلاقة بين الزمان والأبدية؛ ذلك لأن موضوعات الرياضة — كالأعداد مثلًا — إذا كانت صحيحةً إطلاقًا، فهي أبدية ولا تقع في الزمان، ويمكن أن نتصور أمثال هذه الأشياء الأبدية على أنها أفكار الله، ومن ثم جاء مذهب أفلاطون بأن الله عالم بالهندسة، كما جاءت عقيدة «سير جيمز جينز» بأن الله قد اختص نفسه بعلم الحساب. إن العقائد الدينية العقلية — مميزة من العقائد التي هبط بها الوحي — ما فتئت منذ فيثاغورس — ومنذ أفلاطون على وجهٍ أخص — متأثرةً بالرياضة وبالمنهج الرياضي تأثرًا كاملًا شاملًا.

كان امتزاج الرياضة باللاهوت، الذي بدأ على يدَي فيثاغورس، صفةً تميَّزت بها الفلسفة الدينية في اليونان، وفي العصور الوسطى، وفي العصور الحديثة حتى «كانت»، وكانت الأورفية قبل فيثاغورس شبيهةً بالديانات الآسيوية التي يكتنفها الخفاء، أمَّا عند أفلاطون والقديس أوغسطين وتوما الأكويني وديكارت واسبيوزا وليبنتز، فترى امتزاجًا وثيقًا بين العقيدة الدينية والتدليل العقلي، بين الطموح الخلقي والإعجاب المنطقي بما هو غير خاضع لقيود الزمن، وإنما هبط إليهم ذلك الامتزاج الوثيق بين الجانبين من فيثاغورس، وأصبح يميِّز اللاهوت المصطبغ بصبغة العقل في أوروبا، يميِّزه من تصوف آسيا الذي تراه أكثر صراحةً في نزعته الصوفية. ولم نستطع أن نبيِّن في وضوحٍ جلي مواضع الخطأ عند فيثاغورس إلا في العصور الحديثة جدًّا؛ فلست أعلم عن رجلٍ آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان لفيثاغورس، وأقول ذلك لأن ما قد يبدو لك أفلاطونيًّا، ستجده عند التحليل فيثاغوريًّا في جوهره؛ فكل الفكرة القائلة بوجود عالم أزلي، ينكشف للعقل ولا ينكشف للحواس، مستمدة من فيثاغورس، ولولاه لَما فكَّر المسيحيون في المسيح على أنه «الكلمة»، ولولاه أيضًا لَما حاول رجال اللاهوت أن يلتمسوا البراهين على وجود الله وخلود الروح؛ غير أن هذا كله كان في فيثاغورس ما يزال كامنًا، وسيتضح في غضون كلامنا كيف أصبح الكامن ظاهرًا صريحًا.

١  كانت المدن اليونانية في صقلية مهددةً بالقرطاجنيين، أما في إيطاليا فلم يكن يحس أحدٌ بأن ذلك خطر داهم.
٢  يروي عنه أرسطو أنه «اشتغل أولًا بالرياضة والحساب، ثم تنازل بعدئذٍ في جزءٍ من حياته إلى الاشتغال بالألاعيب التي كان يمارسها فيريسديز.
٣  جاء في مسرحية «الليلة الثانية عشرة» لشكسبير ما يأتي:
المضحك : ما رأي فيثاغورس في الطيور البرية؟
مالفوليو : رأيه هو أن روح جدتنا وبما كانت حالة في جسد طائر.
المضحك : وما رأيك أنت في هذا الرأي؟
مالفوليو : أنا أسمو بالروح عن هذا، ولا أوافق على ذلك الرأي أبدًا.
المضحك : مع السلامة، ما زلت في ظلام جهلك، فإمَّا أن تعتنق رأي فيثاغورس وإمَّا شكَّكت في قدرتك العقلية.
٤  مقتبسٌ من كتاب «بيرنت»، «الفلسفة اليونانية الأولى».
٥  كورنفورد، نفس المرجع، ص٢٠١.
٦  «الفلسفة اليونانية الأولى»، ص١٠٨.
٧  لكنه ليس برهان إقليدس نفسه، راجع كتاب Heath «الرياضة اليونانية». من الجائز أن يكون أفلاطون قد عرف هذا البرهان.
٨  عبارة: «واضحة بذاتها»، وضَّعها فرانكلين (في إعلان الاستقلال الأمريكي) بدل العبارة التي كان جفرسن قد استعملها وهي: «مقدسة ولا تحتمل الشك».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤