الفصل الثلاثون

أفلوطين

كان أفلوطين (٢٠٤–٢٧٠ ميلادية)، وهو مؤسس الأفلاطونية الجديدة، آخر الفلاسفة الأعلام في العصر القديم، وحياته تطابق في بدايتها ونهايتها فترة من أنكب الفترات في التاريخ الروماني؛ فقد أدرك الجيش قوته قُبيل مولد أفلوطين، واتخذ لنفسه حق انتخاب الأباطرة لقاء مكافآت مالية، وكان يغتال هؤلاء الأباطرة لتسنح له فرصة جديدة يبيع فيها عرش الإمبراطورية؛ فلما انصرف الجنود إلى هذه المشاغل، لم يعودوا صالحين للدفاع عن الحدود، فمهَّد ذلك طريقًا للغزوات القوية الألمانية من الشمال، والفارسية من الشرق، أن تتوغل في البلاد، وتعاونت الحروب والأوبئة على تقليل سكان الإمبراطورية بما يقرب من الثلث، وفي الوقت نفسه عملت على زيادة الضرائب واضمحلال الموارد على خراب البلاد خرابًا ماليًّا، حتى في تلك الأقاليم التي ظلت بمنجاة من توغل القوات المعادية، وكانت الضربة أشد ما تكون في المدن التي كانت حملة للثقافة، ولاذ بالفرار أفراد ذوو شأن من أبناء البلاد، لاذوا بالفرار جماعات هربًا من جُباة الضرائب، ولم يعد النظام إلى البلاد إلا بعد موت أفلوطين؛ إذ أنقذت الإمبراطورية مؤقتًا بفضل الإجراءات العنيفة التي اتخذها «ديوقلتيان» و«قسطنطين».

ولست تجد ذكرًا لهذا كله في مؤلفات أفلوطين؛ إذ تنحَّى عن مشاهد الخراب والبؤس في دنيا الواقع، ليتأمل بفكره عالمًا آخر خالدًا، قوامه الخير والجمال، فكان في ذلك متفقًا أتم اتفاق مع كل أصحاب التفكير الجاد من أهل عصره؛ فدنيا الحياة العملية قد تبدَّت لهم جميعًا — المسيحيين منهم والوثنيين على السواء — خلوًا من الأمل، ولم يروا عالمًا جديرًا بالولاء إلا العالم الآخر، والعالم الآخر عند المسيحي هو مملكة السماء التي يمكن الاستمتاع بنعيمها بعد الموت، وهو عند الأفلاطوني عالم المُثل الأزلي الأبدي، فذلك عنده هو العالم الحقيقي بالقياس إلى عالم الظواهر الوهمي، وجاء رجال اللاهوت من المسيحيين وجمعوا هذه الوجهات من النظر، وأضافوا إليها كثيرًا من فلسفة أفلوطين، وقد أكَّد بحقٍّ «العميد إنج» في كتابه النفيس عن أفلوطين ما تدين به المسيحية له، فهو يقول: «إن الأفلاطونية جزء من البناء الحيوي للاهوت المسيحي، فلن تجد فلسفةً أخرى — في رأيي — تستطيع أن تقترن بذلك اللاهوت دون أن يحدث بينهما تعارض.» وهو يقول: «إنه يستحيل استحالة مطلقة أن تفصل الأفلاطونية عن المسيحية دون أن تمزق المسيحية تمزيقًا.» وهو يذكر لنا أن القديس أوغسطين يتحدث عن فلسفة أفلاطون فيصفها بقوله إنها «أصفى وأشرق ما في الفلسفة كلها». ويصف أفلوطين بقوله إنه رجل «عاش أفلاطون في شخصه حياةً ثانية». ولو قد عاش أكثر قليلًا مما عاش، لأمكنه أن «يغير كلمات قليلة وعبارات قليلة فيصبح مسيحيًّا». وفي رأي «العميد إنج» أن القديس توما الأكويني أقرب إلى أفلوطين منه إلى أرسطو الحقيقي.

ولذلك كانت لأفلوطين أهمية تاريخية، باعتباره عاملًا من العوامل التي شكلت مسيحية العصور الوسطى واللاهوت الكاثوليكي، فالمؤرخ إذا ما تحدث عن المسيحية، وجب أن يكون من الحرص بحيث يضع في اعتباره ما طرأ على المسيحية من تغيراتٍ شديدة جدًّا، ومختلف العصور التي قد تتخذها حتى في العصر الواحد؛ فمسيحية الأناجيل الأولى تكاد تخلو من الميتافيزيقا، ومسيحية أمريكا الحديثة هي من هذه الناحية شبيهة بالمسيحية البدائية، والفكر والشعور الشعبيان في الولايات المتحدة لا يسيغان الأفلاطونية؛ إذ معظم المسيحيين الأمريكان أشد اهتمامًا بالواجبات اللازمة ها هنا على هذه الأرض، وبالتقدم الاجتماعي في دنيا الحياة اليومية، منهم بالآمال في عالمٍ آخر، مما يلجأ إليه الإنسان للتسرية عن نفسه بالعزاء، حين يكون كل ما في الأمر باعثًا على اليأس. ولست هنا أقصد بالتغير الذي يطرأ على أصول الدين الجديد، بل أريد التغير بمعنى الاختلاف في نقطة التركيز وموضع الاهتمام، فما لم يفهم المسيحي في العصر الحديث كم كان هذا الاختلاف شديدًا، فسيتعذر عليه أن يفهم مسيحية العصور الماضية، وما دامت دراستنا في هذا الكتاب دراسة تاريخية، فنحن معنيون بعقائد الماضي التي كان لها أثر في العصور التالية، وفي هذا الصدد يستحيل علينا أن نختلف مع «العميد إنج» فيما يقوله عن تأثير أفلاطون وأفلوطين.

ومع ذلك فأهمية أفلوطين لا تقتصر على الناحية التاريخية، بل هو كذلك هام لأنه يمثل لونًا من النظر الفلسفي على نحوٍ يفضل فيه أي فيلسوفٍ آخر، فنحن نحكم على البناء الفلسفي المعين بالأهمية لأسبابٍ مختلفة كثيرة، أولها وأبرزها وضوحًا هو أننا نظن به الصدق، ولست تجد كثيرين من بين الباحثين في الفلسفة في الوقت الحاضر يظنون الصدق بفلسفة أفلوطين، وليس «العميد إنج» في الصدد إلا شذوذًا نادرًا، على أن الصدق ليس هو الحسنة الوحيدة التي توصف بها ميتافيزيقا معينة؛ إذ قد يكون لها جمال، ولا شك في أنك واجدٌ هذه الحسنة في أفلوطين، فله فقرات تذكر القارئ بالمقطوعات الأخيرة من «فردوس» دانتي، وهي بعد ذلك لا يكاد يدنو منها شيء في الأدب؛ فوصفه الذي يقدمه آنًا بعد آن عن دنيا المجد الخالدة يصور لخيالنا الجامح:

تلك الأغنية الخالدة ذات النغم الصافي،
التي ما تنفكُّ تُنشَد أمام العرش الياقوتي الأزرق،
لله الذي يتربع عليه.

كذلك قد تكون الفلسفة هامة لأنها تحسن التعبير عما يميل الناس إلى الإيمان به في حالاتٍ نفسية معينة، أو في أحوال معينة، إن الغبطة الخالصة أو الحزن الخالص ليس موضوعًا للفلسفة، بل هما أقرب إلى أن يكونا موضوعًا لألوان الشعر والموسيقى التي هي أبسط من الفلسفة، وإنما تتولد النظريات الميتافيزيقية عن الغبطة أو الحزن إذا صحبهما التفكير في الكون؛ فقد يكون الإنسان متشائمًا مرحًا، أو متفائلًا عابسًا، وقد يكون «صموئيل بتلر» مثلًا يوضح الفريق الأول، وأفلوطين مثلًا جيدًا للفريق الثاني؛ ففي مثل العصر الذي عاش فيه أفلوطين كان الشقاء مدركًا إدراكًا مباشرًا، ولم يكن يسع إنسانًا أن يُغمض عنه العين، على حين كانت السعادة — إذا أمكن بلوغها إطلاقًا — فلا بُدَّ من التماسها بالتفكير في الأشياء البعيدة التي لا تقع تحت الإدراك الحسي، ومثل هذه السعادة لا بُدَّ دائمًا أن تحتوي بين عناصرها على عنصر التوتر العصبي، فهي سعادة بعيدة الشبه جدًّا بسعادة الطفل الساذجة، وما دامت هي سعادة لم تُستمد من دنيا الحياة اليومية، بل استُمدت من التفكير والخيال، فهي تتطلب قوة استنكار أو احتقار للحياة المعتمدة على الحواس؛ وإذَن فليس أولئك الذين يَنعمون بالسعادة الغريزية هم الذين يبتكرون ضروب التفاؤل الميتافيزيقي؛ فهذه تعتمد على الإيمان بوجود عالم فوق عالم الحس وجودًا حقيقيًّا، وإن أفلوطين ليحتل مكانةً عالية جدًّا بين الذين كانوا في حياتهم أشقياء بالمعنى الدنيوي للكلمة، لكنهم صمموا تصميمًا قاطعًا على أن يلتمسوا سعادةً أسمى في عالم التفكير النظري.

ولسنا نريد بهذا قط أن نحط من شأن مزاياه العقلية الخالصة؛ فقد ألقى الضوء على تعاليم أفلاطون من وجوهٍ كثيرة، وبسط (بكل ما يستطاع من اتساق واطراد في مثل هذا الموضوع) وجهة نظره التي يشاركه فيها كثيرون غيره، وأدلته التي يقيمها ضد المادية أدلة قوية، ومجمل فكرته عن علاقة الروح بالجسم أوضح من مثيلتها عند أفلاطون أو أرسطو.

وله مثل ما ﻟ «اسبينوزا» لون من الصفاء والترفع الخُلقيَّين؛ مما يخلع عليه هيبة بالغة، وهو متسم بالإخلاص دائمًا، لا ترتفع نغمة القول في كلامه إلى حد الصراخ، ولا هو يتوجه إلى قارئه بالتأنيب، بل لا ينفك حاصرًا همه في إحاطة قارئه علمًا — في أسلوبٍ أبسط ما يكون الأسلوب — بما يعتقد هو أنه هام حقًّا؛ فمهما يكن ظنك به باعتباره فيلسوفًا نظريًّا، فمحال ألا تحبه باعتباره إنسانًا.

إن ما نعلمه عن حياة أفلوطين مستمدٌّ من تاريخ حياته الذي كتبه صديقه وتلميذه فورفوريوس، وهو ساميٌّ، واسمه الحقيقي «مالكوس»، ومع ذلك ففي قصة فورفوريوس عن أفلوطين بعض العناصر الخارقة لطبيعة الأمور العادية؛ مما يتعذر معه علينا أن نثق كل الثقة في الأجزاء الأخرى من القصة، ولو أنها أقرب إلى التصديق من تلك الخوارق.

كان أفلوطين يعد مظهره المكاني الزماني شيئًا لا أهمية له، وكان يكره أن يتحدث عن الحوادث العرضية العابرة التي يتألف منها وجوده التاريخي، ومع ذلك فقد روى عن نفسه أنه وُلد في مصر، ومن المعلوم أنه في عهد شبابه درس في الإسكندرية، حيث أقام حتى بلغ التاسعة والثلاثين، وكان معلمه عندئذٍ هو «أمونيوس سكاس» الذي كثيرًا ما يُعتبر مؤسسًا لمذهب الأفلاطونية الجديدة، وبعدئذٍ انضم إلى الحملة الحربية التي ساقها الإمبراطور جورديان الثالث على الفرس. ويقال إنه قصد من ذلك إلى دراسة ديانات البلاد الشرقية، وكان الإمبراطور لم يزل شابًّا، واغتاله رجال الجيش، كما كانت العادة في ذلك العصر، حدث ذلك إبان حملته على بلاد ما بين النهرين سنة ٢٤٤ ميلادية، وعلى أثر ذلك، نفض أفلوطين يديه من خططه التي رسمها لنفسه فيما يختص بالبلاد الشرقية، واستقر في روما، حيث لم يلبث أن أخذ في نشر تعاليمه، وكان بين المستمعين إليه عددٌ كبير من أصحاب النفوذ، وقد لقي الحظوة عند الإمبراطور جالينوس.١ وحدث في وقتٍ ما من حياته أن فكَّر في مشروع لبناء جمهورية على غرار ما أراد أفلاطون، فيقيمها في «كامبانيا»، وأن تُبنى من أجل ذلك مدينة جديدة تُسمى أفلاطونوبوليس، وكان الإمبراطور بادئ الأمر مؤيدًا للمشروع، لكنه عاد في النهاية فأعفى نفسه مما وعد به، ولربما بدا لنا أمرًا غريبًا أن يكون هنالك متسَع لبناء مدينة جديدة قريبة من روما كل هذا القرب، لكن يجوز أن تلك المنطقة إذ ذاك كانت موبوءة بالملاريا — كما هي اليوم — غير أنها لم تكن كذلك قبل ذاك، ولم يكن أفلوطين قد كتب شيئًا حتى بلغ التاسعة والأربعين من عمره، ثم كتب كثيرًا بعد ذلك، وقام فورفوريوس بترتيب مؤلفاته ونشرها، وكان فورفوريوس ألصق بالمذهب الفيثاغوري من أفلوطين؛ ولذلك مال بالمدرسة الأفلاطونية الجديدة نحو أن تكون مصطبغة بصبغةٍ ما فوق الطبيعة بدرجةٍ أكبر مما لو كانت قد تابعت أفلوطين متابعةً أدق.

وإن أفلوطين ليحمل لأفلاطون احترامًا مبالغًا جدًّا؛ فكثيرًا ما كان يشير إليه بضميرٍ يكتبه بحرف التاج تمييزًا له. ولئن كان «الأقدمون المباركون» يلقون عنده الإجلال لم يكن ليتسع بحيث يشمل جماعة الذَّرِّيين. وكان الرواقيون الأبيقوريون ما يزالون ينشطون في نشر تعاليمهم، فتوجه إليهم أفلوطين بالمعارضة، وهو يعارض الرواقيين في ماديتهم فقط، لكنه يعارض الأبيقوريين في كل جوانب فلسفتهم على الإطلاق، ويلعب أرسطو دورًا أهم مما يبدو في فلسفة أفلوطين؛ إذ ترى هذا يقتبس من أرسطو فقرات كثيرة بغير أن يذكر أنها لأرسطو، وكذلك يشعر القارئ لأفلوطين أنه متأثر ببارمنيدس في مواضع كثيرة.

وليس أفلاطون الذي تراه عند أفلوطين بالرجل النابض بقوة الحياة كأفلاطون الحقيقي، فتكاد تقتصر صورة أفلاطون كما يبدو في «التاسوعات» (وهو الاسم الذي تُسمى به كتب أفلوطين) على نظرية المثل، وعلى التعاليم الصوفية التي وردت في فيدون وفي الجزء السادس من الجمهورية، وعلى مناقشة الحب الواردة في محاورة المائدة، أما الاهتمامات السياسية، والبحث عن تعاريف للفضائل المختلفة، والاستمتاع بالرياضة، وتقدير الأفراد تقديرًا فيه حياة وعاطفة، وفوق ذلك كله الروح الطروب الذي عرف به أفلاطون، فلا تصادف منه شيئًا عند أفلوطين، فأفلاطون — كما يقول عنه كارلايل — كثيرًا ما يطلق نفسه على سجيتها، أما أفلوطين فهو على خلاف ذلك يلتزم أفضل أنواع السلوك دائمًا.

تبدأ ميتافيزيقا أفلوطين ﺑ «ثالوث مقدس»: «الواحد» و«الروح» و«النفس». وليس هؤلاء الثلاثة بالمتساويات ﮐ «أشخاص» «الثالوث المسيحي»؛ ﻓ «الواحد» أسماها، و«الروح» يتلوه، و«النفس» أدناها.٢
أما «الواحد» فهو غامضٌ بعض الشيء؛ فهو يُسمى أحيانًا ﺑ «الله» وأحيانًا ﺑ «الخير»، وهو يعلو على «الكون» الذي هو أول كائن يترتب وجوده على وجود «الواحد»، ولا يجوز لنا أن نحمل عليه الصفات، بل لا بُدَّ أن نكتفي بمجرد قولنا عنه «إنه موجود» (وهذا يُذكرنا ببارمنيدس)، ويخطئ من يتحدث عن «الله» بقوله إنه «الكل»؛ لأن «الله» يعلو على «الكل»، والله حاضرٌ في كل شيء، ومن الممكن ﻟ «الواحد» أن يكون حاضرًا بغير حركة الحضور؛ «فبينما هو بغير مكان، لا يخلو منه مكان». وعلى الرغم من أن المتحدث قد يتحدث عن «الواحد» أحيانًا بأنه «الخير»، إلا أنه يُقال عنه كذلك إنه سابق على «الخير» و«الجميل».٣ و«الواحد» أحيانًا يظهر مُشابهًا لله عند أرسطو، ويُقال لنا «الله» لا حاجة له إلى الكائنات التي صدرت عن وجوده، وهو يتجاهل وجود العالم المخلوق. إن «الواحد» مستحيل على التعريف، وأنت أصدق في وصفه إذا التزمت الصمت، منك إذا استخدمت عددًا كبيرًا من الألفاظ كائنةً ما كانت.
ننتقل الآن إلى «الشخص الثاني» الذي يسميه أفلوطين «ناوس»، ولو أنه من العسير دائمًا أن نجد لفظة (في الإنجليزية) تدل على معنى «ناوس»؛ لأن كلمة عقل لا تحمل المفهوم الصحيح للكلمة الأصلية، خصوصًا إذا ما استُعملت هذه الكلمة في فلسفةٍ دينية؛ فإذا كنا نقول إن أفلوطين وضع العقل فوق النفس، فقد نعطي بذلك فكرةً غاية في الخطأ عما أراده، ويستعمل «ما كنا Mcke nna» مترجم أفلوطين (إلى الإنجليزية) كلمتَي «مبدأ عقلي» ليدل بهما على مراد أفلوطين، لكنها تسمية فيها غرابة، ولا تصور لنا شيئًا مما يصح أن يكون موضوعًا للتقديس الديني. ويستعمل «العميد إنج» كلمة «روح»، ولعلها خير ما نستطيع من كلمات لتدل على المعنى المراد، لكن عيبها هو أنها لا تشتمل على الجانب العقلي الذي كانت له أهميته في الفلسفة اليونانية كلها بعد فيثاغورس؛ فقد كان للرياضة وعالم المُثل وكل تفكير فيما ليس بمحسوس، جانب إلهي عند فيثاغورس وأفلاطون وأفلوطين، وهذه كلها تؤلف فاعلية «الناوس»، أو على الأقل فهي أقرب ما يمكن أن يصور لنا فاعليته، وقد كان هذا الجانب العقلي في ديانة أفلاطون، هو الذي أدى بالمسيحية — وخصوصًا بصاحب إنجيل القديس يوحنا — أن توحد ما بين المسيح واللوغوس (أي الكلمة)، وإذا أردنا ترجمة لكلمة لوغوس في هذا السياق، وجب ترجمتها بكلمة عقل، لكننا إن فعلنا ذلك، حيل بيننا وبين أن نعود فنستعمل كلمة عقل لندل بها على «الناوس». وسآخذ باستعمال «العميد إنج» لكلمة «روح»، مع التحفظ الآتي، وهو أن «الناوس» يحتوي في مفهومه على جانبٍ عقلي، لا تدل عليه كلمة «روح» كما تُفهَم هذه الكلمة عادة، وعلى كل حال فسألجأ في الغالب إلى استعمال كلمة «ناوس» نفسها بغير ترجمة.

يقول لنا إن «الناوس» هو صورة «الواحد»، وإنما تولد لأن «الواحد» في بحثه عن نفسه يستعمل قوة الإبصار، وهذا الإبصار هو «الناوس». وليس من اليسير تصور هذه الفكرة؛ فأفلوطين يقول إن «الكائن» الذي ليس له أجزاء قد يعرف نفسه، وفي هذه الحالة يكون الرائي والمرئي شيئًا واحدًا. وإذا تصورنا «الله» على نحو ما تصوره أفلاطون، أي على أنه يشبه الشمس، كان باعث الضوء والشيء المضاء شيئًا واحدًا. وإذا ما سِرنا في التشبيه، قلنا إن «الناوس» هو الضوء الذي يمكِّن «الواحد» من رؤية نفسه، إنه في مستطاعنا أن نعرف «العقل الإلهي» الذي ننساه بفعل من إرادتنا، ولكي نعرف «العقل الإلهي» وجب أن ندرس النفس فينا حين تقرب جدًّا في شبهها بالله، وجب أن ننحي الجسد ومعه ذلك الجزء من النفس الذي قام بتشكيل الجسد، وأن ننحي كذلك «الحس والشهوات والاندفاعات وكل ما إلى ذلك من ألوان العبث»، فما يتبقى بعد ذلك هو صورة ﻟ «العقل الإلهي».

إن هؤلاء الذين تملؤهم روح الله ويحركهم إلهامه، يعلمون أقل ما يعلمون أنهم يحملون في أجوافهم شيئًا أعظم، وإن لم يكن في مستطاعهم أن يقولوا ماذا عسى أن يكون ذلك الشيء. إنهم من الحركات التي تحركهم، ومن العبارات التي يتفوهون بها، يمكنهم إدراك القوة التي تحركهم، لا إدراك أنفسهم، ولا بُدَّ أن يكون حالنا من «الأسمى» شيئًا شبيهًا بهذا؛ فنحن نقف إزاءه على هذا النحو حين يكون فينا «الناوس» خالصًا. إننا نعرف «العقل الإلهي» الكامن فينا، ذلك الذي يهب «الوجود» وغيره مما هو في مستواه، ولكننا نعرف أيضًا أنه أسمى مبدأ من كل ما نعرفه ونطلق عليه اسم «الوجود»، نعرف أنه أكمل وأعظم من كل ما عداه، نعرف أنه فوق العقل والشعور، فما دام هو واهب هذه القوى، فلا يجوز أن نخلط بينه وبينها.٤

وعلى ذلك فحين «تملؤنا روح الله ويحركنا بإلهامه»، فنحن لا نرى «الناوس» وحده، بل نرى كذلك «الواحد». وإذا ما اتصلنا ﺑ «الإلهي» على هذا النحو، عجزنا عن التدليل أو التعبير عن رؤيتنا بكلمات؛ فمثل هذا التعبير يأتي مؤخرًا، أما ساعة المس نفسها، فلا يكون لدينا قوة لإثباته، لا يكون لدينا متسع من الوقت لهذا، وإنما يجيء التدليل على رؤيتنا فيما بعد؛ فربما نعلم أننا قد مرت بنا الرؤية إذا أشرقت النفس إشراقًا مباشرًا، ومثل هذا الضوء الذي تشرق به النفس هو من عند «الأسمى»، بل هو «الأسمى». وقد نؤمن ﺑ «حضور الله فينا»، وذلك حين يشرق علينا الله بضوئه، فيكون برهانًا على حضوره، وعلى ذلك فالنفس التي لا تضاء بضوئه، تظل بغير رؤية، أما إن أضيئت، فإنها تحتوي على ما تنشده، وهذه هي الغاية الحقيقية التي تسعى النفس نحوها؛ أعني أن نقتبس ذلك الضوء، أن ترى الأسمى ﺑ «الأسمى» لا بضوء أي مبدأ آخر غيره، أن ترى «الأسمى» الذي هو في الوقت نفسه وسيلة الرؤية؛ لأن ما يضيء النفس هو نفسه الذي تريد رؤيته، كما أننا نرى الشمس بضوء الشمس نفسه.

لكن كيف لنا بلوغ هذا؟

بأن نبتر كل شيء.٥

وكثيرًا ما حدث لأفلوطين أن مارَس «النشوة الروحية» (ومعناها أن يخرج الإنسان عن حدود جسده):

«حدثت مراتٌ عدة، ارتفعت خارج جسدي بحيث دخلت نفسي، وأصبحت بالنسبة لكل شيء خارجَه؛ إذ انحصرت في دخيلة نفسي، وقد شهدت عندئذٍ جمالًا باهرًا، وعندئذٍ أيقنت أكثر من يقيني في أي وقت مضى، باندماجي في النظام الأعلى، كنت عندئذٍ أحيا أشرف حياة، وأظفر باتحاد مع الإلهي، وركَّزت نفسي داخل العنصر الإلهي حين بلغت تلك الفاعلية الروحية؛ فأنا إذا ما وضعت نفسي في أعلى مقام ممكن من عالم العقل، كنت لا أزال أدنى من مكانه «الأسمى»، ومع ذلك فقد تأتي لحظة أهبط فيها من المنزلة العقلية الخالصة إلى المنزلة التدليلية، وبعد أن أقيم ما أقمت في مرتبة الإلهي، أسأل نفسي: كيف حدث لي أن أعود فأهبط؟ وكيف جاز للنفس أن تدخل قط في الجسد، تلك النفس التي حتى وهي داخل الجسد نظل ذلك الشيء الرفيع كما قد تبين من فعلها؟»٦

وينتهي بنا هذا إلى «النفس»، وهي ثالث أعضاء الثالوث وأدناها منزلة؛ فالنفس وإن تكن أدنى مكانة من «الناوس» إلا أنها خالقة الكائنات الحية جميعًا، فهي التي خلقت الشمس والقمر والنجوم وسائر العالم المرئي جميعًا، وهي وليدة «العقل الإلهي». وللنفس جانبان؛ جانبٌ باطني يمس «الناوس»، وجانبٌ آخر يواجه العالم الخارجي. وهذا الجانب الثاني مرتبط بحركةٍ نازلة تولد النفس خلالها صورة، وما صورتها هذه إلا «الطبيعة» وعالم الحس؛ فلئن وحَّد الرواقيون بين «الطبيعة» و«الله»، فقد اعتبر أفلوطين الطبيعة أدنى الأفلاك؛ لأنها شيء ينبعث عن «النفس» حين تنسى النفس أن تنظر إلى أعلى تجاه «الناوس». وقد يكون هذا الكلام مؤيدًا للنظرة الغنوسطية القائلة بأن العالم المرئي شر، لكن أفلوطين لا يأخذ بهذه الوجهة من النظر، إن العالم المرئي جميل، وهو موطن أرواح مباركة، وكل ما في الأمر أنه أقل خيرية من العالم العقلي، ولقد سلَّم في مناقشةٍ غاية في الإمتاع لوجهة النظر الغنوسطية بأن الكون وخالقه شر، سلَّم بأن بعض أجزاء المذهب الغنوسطي، مثل كراهية المادة، ربما يُعزى إلى أفلاطون، لكنه يعتقد أن سائر الأجزاء التي لم تُستمد من أفلاطون ليست صدقًا.

واعتراضه على الغنوسطية قسمان؛ فمن جهة هو يقول إن «النفس» حين تخلق العالم المادي، فإنما تخلقه وَفْق ما قد عَلِق بذاكرتها عن الإلهي، وليست تخلقه بسبب هبوطها؛ فهو يرى أن عالم الحس يبلغ من الكمال كل ما يمكن لعالمٍ محسوس أن يبلغه، فهو يدرك أقوى الإدراك ما في المحسوسات من جمال:

«من ذا يستطيع أن يدرك حقًّا ما في «العالم العقلي» من توافقٍ نغمي، ثم لا يستطيع — إذا كان له أي ميل إلى الموسيقى — أن يدرك ما في الأصوات المحسوسة من مثل هذا التوافق النغمي. أين هذا العالم بالهندسة أو بالحساب، الذي لا يجد متعةً في التماثل والتطابق ومبادئ النظام التي يمكن إدراكها في الأشياء المرئية؟ بل انظر إلى الصور مثلًا، فإن أولئك الذين ينظرون بحواسهم الجسدية إلى نتاج الفن في عالم التصوير، لا يرون الشيء الواحد بطريقةٍ واحدة لا ثانية لها، بل إنهم ليتأثرون أثرًا عميقًا، حين يرون في الأشياء التي رُسمت أمام أعينهم صورًا تمثل ما هو كائن في المثال العقلي، وعلى ذلك تراهم يتذكرون الحقيقة بما يرون. وهذه هي نفس الخبرة التي عنها ينشأ «الحب»؛ فإذا ما رأى إنسان منظر «الجمال» قد تمثل في صورةٍ رائعة على أحد الوجوه، ثم انتقل عقله بفضل ما رأى انتقالًا سريعًا إلى ذلك «العالم» الآخر، فلن يعد ذلك بعثرة مسرفة للجمال في عالم الحس؛ هذا النظام الفسيح الأرجاء، هذه الصورة التي تنم عنها النجوم رغم بعدها الشاسع، فيستحيل على إنسانٍ أن يكون من بلادة الحواس وجحود القلب، بحيث لا يحمله ما يراه في دنيا الحس إلى تذكرِ ما كان رآه في العالم الآخر، وبحيث لا تأخذه الرهبة المهيبة حين يملأ فكره هذا كله، هذا الشيء العظيم الذي نبع من مصادر العظمة؛ فإذا لم يستجب إنسانٌ لعالم الحس على هذا النحو، كان معنى ذلك أنه لم يسبر غَوْر هذا العالم، ولم يرَ قط ذلك العالم الآخر» (تاسوع ٢، ٩، ١٦).

وهناك كذلك مبرر آخر لرفض النظرة الغنوسطية؛ فالغنوسطيون يظنون أنه لا يرتبط بالشمس أو القمر والنجوم شيءٌ قدسي، بل إن هذه أشياء خلقها روحٌ شرير، وليس يتصف بأقل الخير إلا نفس الإنسان دون المدركات جميعًا، لكن أفلوطين مقتنعٌ تمام الاقتناع بأن الأجرام السماوية أجسام لكائنات مشابهة لله، أسمى من الإنسان بدرجةٍ لا تحد. ويقول الغنوسطيون: «إن النفس في أحط كائن بشري لا يعتورها فناء، وهي إلهية، أما السماوات كلها، والنجوم التي في أرجائها، فلا صلة لها إطلاقًا ﺑ «المبدأ الخالد»، مع أن هذه النجوم أكثر جمالًا وصفاءً من نفوس الناس» (تاسوع ٢، ٩، ٥). ووجهة نظر أفلوطين تجد لها سندًا في محاورة «طماوس»، وقد اتخذها بعض «الآباء المسيحيين»، مثل «أوريجن Origan»، وهي نظرة تجذب الخيال، وتعبر عن مشاعر توحي بها الأجرام السماوية إيحاءً طبيعيًّا، وتؤنس الإنسان في وحشته إبان وجوده في الكون الطبيعي.

وليس في تصوف أفلوطين شيء من الاكتئاب أو الكراهية للجمال، لكنه آخر معلم ديني منذ قرون طوال، ممن يمكن أن يقال عنهم مثل هذا الكلام؛ فقد أصبح الجمال، وكل أنواع المتعة المتصلة به، أصبح فيما بعد يُنسب إلى الشيطان، وراح الوثنيون والمسيحيون على السواء يُمجدون القبح والقذارة، وأخذ «جوليان المرتد» — مثله في ذلك مثل الأولياء الأورثوذكس المعاصرين — يفاخر بكثرة ما يضطرب في لحيته من كائناتٍ حية، وليس في أفلوطين شيء من هذا كله.

والمادة عنده من خلق «النفس»، وليس لها وجود واقعي مستقل، ولكل «نفس» ساعتها؛ فإن دقت لها تلك الساعة، هبطت ودخلت الجسد اللائق بها، وليس الدافع إلى ذلك مبرر عقلي، بل هو شيء أقرب شبهًا بالرغبة الجنسية؛ فإذا ما غادرت النفس الجسد، كان لزامًا عليها أن تدخل جسدًا آخر لو كانت نفسًا آثمة؛ لأن العدالة تقتضي أن تعاقب هذه النفس الآثمة؛ فإذا قتلت أمك في هذه الحياة الدنيا، أصبحت في الحياة التالية امرأة ليقتلك ابنك (تاسوع ٣، ٢، ١٢). إنه لا بُدَّ من معاقبة الخطيئة، غير أن العقاب يقع بصورةٍ طبيعية؛ إذ يؤدي إليه القلق الناجم عن خطايا الآثم.

لكن هل نتذكر هذه الحياة بعد أن يلحق بنا الموت؟ الجواب على ذلك عند أفلوطين منطقي لا غبار عليه من هذه الناحية، لكنه جواب لا يُقرُّه عليه معظم رجال اللاهوت المحدثين؛ فالذاكرة مختصة بحياتنا الواقعة في حدود الزمان، على حين يتصف خير جوانب الحياة فينا وأصدقها بالأبدية؛ وعلى ذلك تقلُّ قدرة التذكر عند النفس شيئًا فشيئًا، كلما ازدادت قربًا من حياة الأبدية، فتنسى الأصدقاء والأبناء والزوجة نسيانًا متدرجًا، حتى نبلغ في النهاية مرحلةً لا ندري فيها شيئًا قط عن هذا العالم وما فيه، وكل ما يكون لنا عندئذٍ هو أن نتأمل العالم العقلي، لن يكون ثَمة ذاكرة تعي الحالات الشخصية ولا تعي نفسها أثناء الرؤية التأملية؛ لأن النفس ستتَّحد مع «الناوس» لكنه اتحاد لا يعني فناءها؛ ﻓ «الناوس» والنفس الفردية ستكونان اثنتين وواحدة في آنٍ معًا (تاسوع ٤، ٤، ٢).

وهو يخصص «الفقرة السابقة» من «التاسوع الرابع» لمناقشة فكرة الخلود.

فواضحٌ أن الجسد ليس بخالد لأنه مركبٌ من عناصر؛ وإذَن فلو كان الجسد جزءًا منا، كنا غير خالدين خلودًا تامًّا، لكن ما علاقة النفس بالجسد؟ يقول أرسطو (وهو لا يذكر اسمه ذكرًا صريحًا) إن النفس هي صورة الجسد، لكن أفلوطين يرفض هذا الرأي، على أساس أن الفعل العقلي يستحيل وقوعه إذا كانت النفس تكون أية صورة من صور الجسد. ويذهب الرواقيون إلى أن النفس مادية التركيب، لكنَّ وحدة النفس تقوم برهانًا على استحالة هذا الرأي. وفضلًا عن ذلك، فلما كانت المادة قابلة للفناء، فيستحيل عليها أن تكون هي خالقة نفسها، ولم تكن المادة لتوجد إذا لم تكن النفس قد خلقتها، وإذا لم تكن النفس موجودة، تلاشت المادة في مثل الغمض بالعين؛ فالنفس لا هي بالمادة، ولا هي بالصورة لجسدٍ مادي، إنما هي «جوهر»، و«الجوهر» أبدي، وهو رأيٌ متضمن في الدليل الذي أقامه أفلاطون على خلود الروح، معللًا ذلك بأبدية المثل، ولم يخرج الرأي من الوجود الضمني إلى الوجود الصريح إلا على يدَي أفلوطين.

وكيف يتاح للنفس أن تدخل الجسد بعد أن كانت في رفعة من العالم العقلي؟ الجواب هو أنها تدخل الجسد عن طريق الشهوة، غير أن الشهوة — وإن تكن أحيانًا وضيعة — فقد تكون شريفة نسبيًّا، فالنفس في خير حالاتها «ترغب في تنظيم الأمور تنظيمًا يقوم على غرار ما قد شهدته في «المبدأ العقلي» (أي الناوس)». ومعنى ذلك أن النفس تتأمل عالم الجوهر الباطني، ثم ترغب في أداء شيء يجيء شبيهًا بذلك الجوهر الباطني ما استطاعت إلى الشبه سبيلًا، بحيث يكون هذا الذي تؤديه شيئًا مرئيًّا لمن ينظر إليه من الخارج، بدل الجوهر الذي كان ينظر إليه داخل — مثال ذلك (على ما أظن) منشئ الموسيقى الذي يتصور موسيقاه أولًا، ثم يرغب بعد ذلك في سماعها معزوفة على آلات الجوقة الموسيقية.

غير أن هذه الرغبة التي تحسها النفس في الخلق لها نتائج سيئة؛ فطالما كانت النفس قائمة في عالم الجوهر الخالص، ظلت غير منفصلة عن سائر النفوس التي تعيش في العالم نفسه. أما بمجرد اتصالها بجسد، وقعت عليها مهمة الإمساك بزمام ما هو دونها منزلة، وبهذه المهمة تنفصل عن سائر النفوس التي توكل إليها أجساد أخرى. وإذا استثنينا رجالًا قلائل، في لحظاتٍ قلائل، أمكن أن نقول إن النفس تصبح مغلولة في البدن، «والبدن يحيط الحقيقة بالغموض، أما هناك٧ فكل شيء يبرز واضحًا قائمًا بذاته» (التاسوع الرابع، ٩، ٥).

وتقوم في وجه هذا المذهب مشكلة، كالتي تقوم في وجه مذهب أفلاطون، وهي مشكلة اجتناب الرأي القائل بأن الخلق كان خطأً؛ فالنفس في خير حالاتها راضية ﺑ «الناوس»، وهو عالم الجوهر، ولو ظلت دائمًا في خير حالاتها لما خلقت شيئًا، بل لبثت تتأمل وكفى. والظاهر أن عملية الخلق لا يُلتمس لها خير عالم ممكن منطقيًّا، غير أنه نسخ من العالم الأبدي؛ ولذا ففيه الجمال الذي يكون في النسخة دون الأصل، وأوضح عبارة أوردها أفلوطين في هذا الصدد هي في «الفقرة» الخاصة بالغنوسطيين (التاسوع الثاني، ٩، ٨):

لأن تسأل: لماذا خلقت النفس الكون؟ مساوٍ لسؤالك: لماذا كان هنالك «نفس» ولماذا يخلق «الخالق»؟ وكذلك يتضمن هذا السؤال أن الأزلي له بداية، فضلًا عن أن يصور الخلق على أنه فعلٌ تم على يدَي «كائن» متغير، لا يلبث أن ينظر في شيء حتى يتحول عنه إلى سواه.

ولا بُدَّ من هداية أولئك الذين يذهب بهم الظن هذا المذهب — ذلك إذا كانوا ممن يقبلون الهداية — لا بُدَّ من هدايتهم فيما يختص بطبيعة «الكائنات العليا» بحيث يقلعون عن الكفر بالقوى السامية، وهو كفر سرعان ما يرد على خواطرهم، مع أنه لا ينبغي أن يخطر لهم إلا الهيبة المرهوبة.

بل إنه لا مبرر لمثل هذا الهجوم فيما يختص بتدبير الكون؛ لأنه تدبيرٌ يقيم لنا برهانًا قاطعًا على عظمة «الجانب العقلي».

إن هذا «الكل» الذي خرج في صورة الحياة، ليس بناءً جاء كما اتفق بغير تحديد — كما تجيء الصور الأدنى التي يتم تكوينها داخل ذلك الكل، مما يولد ليلًا ونهارًا نتيجة لإسراف الحياة في حيويتها. إن الكون حياة فيها وحدة عضوية، وهي حياة منتجة، مركبة، شاملة لكل شيء، تنبئ عن حكمة ليس لعمقها حد يُقاس، فكيف إذَن يمكن لأي إنسانٍ أن ينكر أنها صورة واضحة، تكونت على نسقٍ جميل ﻟ «الكائنات الإلهية العقلية»؟ نعم هي نسخة لا أصل، ما في ذلك شك، لكن تلك هي طبيعتها في الصميم، إنها يستحيل أن تكون في وقتٍ واحد رمزًا وحقيقة، ومع ذلك فقولك عنها إنها نسخةٌ ناقصة، قولٌ باطل؛ لأنها نسخة لا ينقصها شيء أبدًا مما كان يمكن أن يشتمل عليه بناء طبيعي أريد به أن يكون تصويرًا جميلًا (للأصل العلوي).

لقد كان يتحتم أن تجيء هذه الطبيعة صورة للأصل — ولو أنها صورة لم تجئ عن عمد ومحاولة — ذلك لأن «الكائن العقلي» يستحيل عليه أن يكون آخر الكائنات، بل لا بُدَّ أن يكون له «فعل» مزدوج؛ أحدهما داخل نفسه، والآخر خارج عن نفسه؛ وإذَن فلا بُدَّ أن يجيء شيءٌ متأخر في الزمن عن الكائن الإلهي؛ لأنه لا يعجز عن سلخ جانب من نفسه وقذف أسفله إلا كائن تنتهي عنده كل ضروب القوة.

ولعل هذا أن يكون خير رد على الغنوسطيين، مما يمكن استخلاصه من مبادئ أفلوطين. ولقد ورث اللاهوتيون المسيحيون هذه المشكلة عينها، ولو أنها عندهم لبست ثوبًا لغويًّا يختلف قليلًا عما لبسته عند أفلوطين، فهم كذلك قد رأوا من الصعب عليهم أن يعللوا الخلق دون أن يسلموا بالنتيجة التي تحيد بهم عن جادَّة الدين، وهي أنه قد كان يعوز «الخالق» شيء قبل أن يقوم بعملية الخلق، لا بل إن المشكلة بالنسبة لهم، أصعب منها بالنسبة لأفلوطين؛ لأنه كان في وسع أفلوطين أن يقول إن طبيعة «العقل» قد جعلت الخلق شيئًا لا مندوحة عن وقوعه، على حين أنه من وجهة نظر المسيحي، قد جاء العالم نتيجة لممارسة الله لإرادته الحرة التي لا يقف في سبيلها شيء.

لقد كان لأفلوطين إدراكٌ غاية في القوة لنوع من الجمال المجرد؛ فهو حين يصف موضع «العقل» في مكانٍ متوسط بين «الواحد» و«النفس» تراه فجأةً يتدفق في بلاغةٍ نادرة فيقول:

«إن «العليَّ» في سيره قُدمًا، لا يمكن أن يُحمَل على أداةٍ لا نفس فيها، بل لا يمكن حمله على «النفس» مباشرة، بل لا بُدَّ أن تسبقه البشائر الرائعة الجمال؛ ﻓ «الملك العظيم» في موكبه تتقدمه حاشية ممن هم أدنى منه، ثم تظل الصفوف تتدرج عظمة وعلوًّا صفًّا بعد صف، بحيث تزداد جلالًا كلما دنت من جلاله، ويجاوره في الموكب جوارًا مباشرًا جماعته التي خصها بالشرف، وأخيرًا ينتهي هذا الموكب الفخم بأفخم ما فيه؛ إذ يبدو فجأةً «الملك العلي» بنفسه، وعندئذٍ يلقي الجميع بأنفسهم طرحى على الأرض أمامه رافعين له الدعاء، ما عدا أولئك الذين اكتفوا بمشاهدة المنظر الذي سبق قدومه، ومضوا بعد ذلك في سبيلهم» (التاسوع الخامس، ٥، ٣).

وهنالك «فقرة» عن «الجمال العقلي» تعبر عن شعورٍ شبيه بهذا تمامًا (التاسوع الخامس، ٨) جاء فيها:

لا شك في أن الآلهة جميعًا لهم من الجلال والجمال ما يقصر دونه الكلام، وما الذي جعلهم هكذا؟ إنه «العقل»، وخصوصًا «العقل» الذي يعمل داخل كيانهم (وهم الشمس والنجوم الإلهية) عملًا ينتهي إلى شيءٍ مرئي …

إن «الحياة المسترخية» تجدها «هناك»، والصدق بالنسبة لهذه الكائنات الإلهية هو الأم وهو المرضعة، وهو الوجود وهو القوام؛ فتلك الكائنات الإلهية ترى كل ما له وجود صحيح — ما ليس في طريق التكون — ثم هي ترى أنفسها رؤيةً كاملة؛ لأن كل موجود يشف عن نفسه، لا شيء معتم ولا شيء نافر، إن كل شيء ناصع الوضوح لكل شيءٍ آخر، عرضًا وعمقًا؛ فالضوء يسري خلال الضوء، وكلٌّ منها يحتوي على كل شيء في داخل نفسه، وهو في الوقت نفسه يرى كل شيء في أي شيء منها، بحيث يرى الكل أينما وجه البصر، وكل شيء فرد فيه كل شيء آخر، ولكل شيءٍ مجد لا ينتهي، إن كل كائن عظيم، الصغير من الكائنات عظيم، فالشمس «هناك» هي النجوم كلها، وكل نجمة كذلك هي سائر النجوم والشمس جميعًا، فبينما لكل شيء خصيصة غالبة عليه تشكل وجوده بحيث يباين سائر الأشياء، ترى كل شيء منعكسًا على مرآة أي شيء.

ويعتقد أفلوطين — كما يعتقد المسيحيون — أنه فضلًا عما في العالم من نقص لم يكن عنه محيص بحكم كونه صورة لا أصلًا، ففيه كذلك شرٌّ أكثر إيجابًا من ذلك، وهو الشر الذي ينجم عن الخطيئة، والخطيئة نتيجة للإرادة الحرة، التي يعتقد فيها أفلوطين معارضًا بذلك الجبريين، ومعارضًا بها كذلك المنجمين بوجهٍ أخص؛ فلئن لم يجد في نفسه الشجاعة التي ينكر بها صحة التنجيم إنكارًا مطلقًا، إلا أنه حاول أن يحده بحدود، بحيث يجعل ما يبقى عليه منه غير متعارض مع الإرادة الحرة، وهو يقف نفس الموقف من السحر؛ فهو يقول إن الرجل الحكيم بمنجاة من قوة الساحر، ويروي فورفوريوس أن فيلسوفًا منافسًا لأفلوطين، حاول أن ينال منه (من أفلوطين) بفعل السحر الخبيث، لكن نفثات السحر ارتدت إلى فاعلها، لما كان يتمتع به أفلوطين من قدسية وحكمة. ولقد كان فورفوريوس كما كان أتباع أفلوطين جميعًا، أكثر اعتقادًا في الخرافة مما كان هو؛ إذ الاعتقاد في الخرافة عنده قد بلغ أدنى حد ممكن في ذلك العصر.

فلنحاول الآن أن نلخِّص ما كان للمذهب الذي بشَّر به أفلوطين من حسنات وسيئات، ذلك المذهب الذي قبله اللاهوت المسيحي من حيث الأساس؛ إذ قبل منه ما كان متسقًا وعقليًّا؛ فهنالك أولًا وقبل كل شيء ترى أفلوطين يبني ما زعم أنه ملاذ آمن يمكن أن تأوي إليه الآمال والمثل العليا، وهو بناء — فضلًا عن ذلك — ينطوي على بذل مجهول خلقي وعقلي معًا؛ فقد أوشكت المدنية الغربية على الدمار التام في القرن الثالث، وفي القرون التي تلت غزوة البرابرة، ومن حسن الحظ أنه بينما كاد اللاهوت أن يكون هو الوحيد الباقي من أوجه النشاط العقلي، لم يكن المذهب المقبول (وهو مذهب أفلوطين) خرافيًّا خالصًا، بل كان مذهبًا يحتفظ — ولو أنه كان أحيانًا يدس ما يحتفظ به تحت أطباقٍ عميقة — يحتفظ بتعاليم كانت تحتوي على كثير من نتاج العقل اليوناني، وعلى كثير من الإخلاص الخلقي الذي نألفه في الرواقيين وفي أتباع الأفلاطونية الجديدة؛ فقد تمهَّد بذلك السبيل لظهور الفلسفة الإسكولائية، كما تمهد السبيل بعدئذٍ — إبان النهضة — إلى العودة إلى دراسة أفلاطون من جديد، دراسة كانت للناس حافزًا، ومن دراستهم لأفلاطون تفرَّعت دراستهم لسائر الأقدمين.

على أن فلسفة أفلوطين من جهةٍ أخرى كانت لها سيئة، وهي تشجيعها للناس على التوجه بأنظارهم إلى الداخل أكثر مما يتوجهون بها إلى الخارج؛ فنحن إذا ما نظرنا إلى الداخل رأينا «ناوس» وهو عنصرٌ إلهي، على حين أننا إذا نظرنا إلى الخارج، رأينا نقائص العالم المحسوس، وهذا الضرب من ضروب النظر الذاتي، قد جاء نتيجة لتطورٍ تم على درجاتٍ متتابعة، فأنت تصادفه في مذاهب فيثاغورس وسقراط وأفلاطون، كما تصادفه كذلك عند الرواقيين والأبيقوريين، لكنه كان بادئ ذي بدء تفكيرًا عقليًّا أكثر منه مزاجًا خلقيًّا، ولبث أمدًا طويلًا عاجزًا عن قتل روح التطلع العلمي، ولقد رأينا فيما سلف كيف سافر بوزيدونيوس — حوالي سنة ١٠٠ق.م. — إلى إسبانيا وإلى الساحل الأطلسي من أفريقيا، لكي يدرس حركات المد والجزر، غير أن النظرة الذاتية أخذت شيئًا فشيئًا تغزو مشاعر الناس كما غزت مذاهبهم الفكرية سواءً بسواء، فبطل بعدئذٍ التماس العلم، وأصبحت الفضيلة هي وحدها ذات الأهمية، وكانت الفضيلة — كما تصورها أفلاطون — تحتوي على كل ما كان إذ ذاك مستطاعًا من ضروب الإنتاج العقلي، لكنها في القرون التالية أخذت في رأي الناس تبعد عن ذاك تدريجًا، بحيث أصبحت لا تشمل إلا على الإرادة الفاضلة، ولم تعد رغبة في فهم العالم الطبيعي، ولا في إصلاح أنظمة الحياة البشرية، ولم تنجُ المسيحية من هذا العيب في تعاليمها الأخلاقية، ولو أنه من الوجهة العملية، قد جاءت العقيدة في أهمية نشر الديانة المسيحية، بمثابة الهدف الذي يمكن للفاعلية الأخلاقية أن تسعى نحو بلوغه؛ وبهذا لم تعد تلك الفاعلية الأخلاقية محصورة في الوصول بنفس صاحبها إلى مرتبة الكمال.

إن أفلوطين نهاية وبداية في آنٍ معًا؛ هو نهاية بالنسبة لليونان، وهو بداية بالنسبة للعالم المسيحي. ولقد كان يجوز لمذهبه أن يصادف قبولًا في العالم القديم الذي أنهكته قرون متتابعة من خيبة الأمل، وأعياه اليأس، لكن ذلك المذهب إن يصادف القبول عندئذٍ لا يكون حافزًا إلى الطموح، أما بالنسبة للعالم المتبربر الذي كان أغلظ طبعًا من العالم القديم، فقد كانت تعاليم أفلوطين نافعة حيث حلت؛ لأن ذلك العالم المتبربر كان فياضًا بالنشاط، فكانت الحالة تتطلب شكيمة تلجم ذلك النشاط الفائض، أكثر مما تتطلب حافزًا يستزيد منه، والشر القائم الذي ينتظر المقاومة حينئذٍ هو الوحشية لا الخمود. وكان الفلاسفة المسيحيون في آخر عصور روما هم الذين قاموا بمهمة نقل ما بقي حيًّا من فلسفة أفلوطين.

١  يقول جبن عن جالينوس ما يأتي: «كان أستاذًا في علومٍ كثيرة غريبة لكنها ليست بذات نفع، فهو خطيبٌ مرتجل، وشاعر رشيق، وبستاني ماهر، وطاهٍ ممتاز، وأمير بلغ الغاية من ازدراء الناس له في إمارته، فلما تطلبت أحداث الدولة الجسام أن يكون حاضرًا متنبهًا، كان عندئذٍ مشتغلًا في نقاش مع أفلوطين الفيلسوف، يضيع وقته في التوافه أو في أنواع المتعة الداعرة، يعد نفسه للانخراط في عالم الأسرار اليونانية، أو يطالب لنفسه بمكان بين رجال الدولة في أثينا» (الفصل العاشر).
٢  كان أوريجن Origen — الذي عاصر أفلوطين وتعلم معه الفلسفة على معلمٍ واحد — يعتقد أن الشخص الأول أعلى من الثاني، والثاني أعلى من الثالث، وهو في ذلك متفق مع أفلوطين، غير أن وجهة نظر أوريجن قد رُميت بعد ذلك بالخروج على الدين.
٣  التاسوع الخامس، الفقرة الخامسة، فصل ١٢.
٤  التاسوع الخامس، ٣، ١٤، ترجمة ما كنا Mcke nna.
٥  التاسوع الخامس، الفقرة ٣، ١٧.
٦  التاسوع الرابع، ٨، ١.
٧  يستعمل أفلوطين عادةً كلمة «هناك» كما قد يستعملها المسيحي، مثل ذلك استعمالها فيما يأتي:
إن الحياة التي لا تعرف لها نهاية،
الحياة الخالية من العبرات، إنما تقع هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤