الفصل الرابع

هرقليطس

يتخذ الناس في عصرنا الحاضر موقفَين متعارضين إزاء اليونان؛ أمَّا أحدهما — وهو الموقف الذي أوشك أن يكون عامًّا منذ النهضة حتى العصور الحديثة جدًّا — فينظر إلى اليونان باحترامٍ يكاد يبلغ حد الخرافة، فينظر إليهم على أنهم مبدعو أفضل الجوانب من كل شيء، وعلى أنهم رجالٌ ذوو نبوغ خارق للطبيعة البشرية يستحيل على المحدَثين أن يرجوا الوقوف معهم فيه على قدم المساواة؛ وأمَّا الموقف الآخر — وهو الموقف الذي أوحت به انتصارات العلم وإيمان مستبشر يتفاءل بتقدُّم الإنسان — فيعتبر سلطان القدماء كابوسًا جاثمًا، ويذهب إلى أن من الأفضل اليوم أن ننسى معظم ما أضافوه إلى عالم الفكر، ولست بمستطيع أن أعتنق أيًّا من هذين الرأيين المتطرِّفين؛ وعندي أن كلًّا من الرأيين بعضه صواب وبعضه خطأ. وقبل الدخول في أية تفصيلات، سأُحاول أن أقرِّر أي نوعٍ من الحكمة يمكننا حتى اليوم أن نحصِّله من دراستنا للفكر اليوناني.

إنه في حدود المستطاع أن نفرض عدة فروض في طبيعة العالم وتكوينه. وما تقدُّمُ الميتافيزيقا — بمقدار ما أصابت الميتافيزيقا من تقدُّم — إلا تهذيب تدريجي لهذه الفروض جميعًا، واستخراج لدقائق ما يترتَّب عليها من نتائج، وإعادة صياغة كل منها بحيث يصمد للاعتراضات التي يوجِّهها إليه أنصار الفروض المنافسة. وإنه لَما يمنع خيال الإنسان ويحد من شر الجمود الفكري أن نتعلَّم كيف نتصور الكون كما يصوِّره لنا كلٌّ من هذه الأنظمة الفلسفية؛ وفضلًا عن ذلك فحتى لو تعذَّر علينا أن نؤيِّد بالبرهان القاطع أيًّا من هذه الفروض، ففي مستطاعنا تحصيل معرفة — بمعنى هذه الكلمة الصحيح — حين نكشف عمَّا هو متضمن، وذلك إذ نحاول أن نجعل كلًّا من هذه الأنظمة الفلسفية متسقًا مع نفسه من جهة، ومع الحقائق المعروفة من جهةٍ أخرى. وتكاد الفروض التي سادت الفلسفة الحديثة أن تكون كلها قد سبق اليونان إلى التفكير فيها، فمهما قلت في الثناء على قدرتهم الابتكارية المبدعة في الأمور المجرَّدة، فلا إخالك تُجاوز بالثناء حد الإنصاف، وعلى هذا الأساس سأقول معظم ما أقوله هنا عن اليونان؛ فسأعتبر أنهم هم الذين خلقوا التفكير النظري خلقًا، ذلك التفكير الذي استقل لنفسه بحياةٍ خاصة به ونمو خاص به، الذي برهن على أنه قادرٌ على البقاء والتطور — على الرغم من أنه كان في البداية صبيانيًّا إلى حدٍّ ما — خلال أمدٍ يزيد على ألفين من السنين.

نعم إن اليونان قد خلقوا شيئًا آخر، دل على أنه أكبر نفعًا وأبقى أثرًا للفكر المجرد من النظريات؛ ذلك أنهم استكشفوا الرياضة وفن التدليل القياسي، فقل عن الهندسة بنوعٍ خاص إنها ابتكارٌ يوناني خالص، كان يستحيل بغيره أن تقوم للعلم الحديث قائمة، إلا أن ضيق نظر اليونان وانحصاره في جانبٍ واحد يظهر في الرياضة؛ فتفكير اليونان كان يتجه بهم في التدليل على نحوٍ قياسي، يبدأ ممَّا يظهر لهم أنه بديهي، ولم يكن تفكيرهم يسير سيرًا استقرائيًّا بادئًا ممَّا شاهدته الحواس، وقد وُفِّق اليونان في التفكير القياسي توفيقًا هائلًا، ضلَّل العالم القديم، بل جاوز ذلك وضلَّل الشطر الأعظم من العالم الحديث كذلك. ولم يستطع المنهج العلمي الذي يحاول أن ينتهي إلى مبادئ عامة بطريقٍ استقرائي يبدأ من مشاهدة الحواس للحقائق الجزئية الواقعية، أقول لم يستطع هذا المنهج العلمي إلا بخطواتٍ وئيدة أن يحل محل العقيدة الهلينية التي تؤمن بالاستدلال القياسي الذي يبدأ من بديهياتٍ جلية الوضوح، يشتقها الفيلسوف من عقله اشتقاقًا؛ ولهذا السبب — فضلًا عن غيره من الأسباب — نرى من الخطأ أن نُعامل اليونان باحترامٍ خرافي؛ فعلى الرغم من أن فئةً قليلة منهم هم الذين أشرقت عليهم أشعة المنهج العلمي لأول مرة، إلا أنهم بصفةٍ إجمالية لم يكونوا يستسيغون المنهج العلمي بطبيعة عقولهم، وإن محاولة تمجيدهم بالتصغير من شأن التقدم العلمي الذي تم في القرون الأربعة الأخيرة لممَّا يقعد بالفكر الحديث عن النهوض.

وهنالك — فضلًا عن ذلك — حجة أعم من هذه التي أسلفناها، نسوقها ضد المغالاة في احترام غيرنا، يونانًا كانوا أو غير يونان، فإذا أقبلت على دراسة فيلسوف، كان الموقف الصحيح هو ألَّا تشعر نحوه باحترام ولا باحتقار، بل أن تنظر إليه أول الأمر بنوعٍ من مشاركته وجدانه مشاركةً تقوم على افتراض أنك توافقه في وجهة النظر؛ حتى يمكنك أن تعرف كيف يكون شعورك في الواقع حين تؤمن بنظرياته، وعندئذٍ فقط، لك أن تثير في نفسك موقف الناقد، وهو موقف يجب أن يكون شبيهًا — ما استطعت إلى هذه المشابهة سبيلًا — بالحالة العقلية لشخصٍ في سبيله إلى نبذ آراء كان يعتقد في صدقها. على أن الاحتقار قد يتسلَّل إلى موقفنا في النصف الأول من هذه المراحل التي ذكرناها، والاحترام قد يتسرَّب إلى موقفنا في نصفها الثاني، على شريطة أن تظل ذاكرًا لنقطتين؛ الأولى هي أن الرجل الذي استحقت آراؤه ونظرياته أن تكون موضع درس، لك أن تفرض فيه أن كان على قدرٍ من الذكاء، والثانية هي أنه لا يحتمل أبدًا لأي إنسانٍ أن يكون قد بلغ الحق النهائي الكامل في أي موضوعٍ كائنًا ما كان. إن الرجل الذكي إذا ما عرض أمامك رأيًا ظاهر البطلان، لا ينبغي أن تحاول البرهنة على أنه مصيبٌ على وجهٍ ما من أوجه الصواب. إننا بهذا المِران على الخيال التاريخي والنفسي، تزداد في أفق تفكيرنا، وفي تبيُّن مقدار الحماقة في كثيرٍ من أهوائنا الفكرية العزيزة على نفوسنا، إذا نظر إليها أبناء عصر آخر يختلفون في مزاجهم العقلي عن أبناء عصرنا.

لقد ظهر بين فيثاغورس وهرقليطس — الذي سنتناوله بالدرس في هذا الفصل — فيلسوفٌ آخر يقل عنهما أهمية، وهو أكسانوفان، ولسنا نعلم اليقين عن تاريخه الزمني، وأهم ما يحدِّده لنا هو أنه يشير إلى فيثاغورس، ثم يشير إليه هرقليطس، وهو أيوني المولد، لكنه عاش معظم حياته في جنوبي إيطاليا، وذهب إلى أن الأشياء كلها من ترابٍ وماء، وكان فيما يختص بالآلهة حرًّا في تفكيره بغير تردُّد. «إن هومر وهزيود قد نسبا إلى الآلهة كل ما يجلب العار والصغار للبشر، فنسبا إليهم السرقة والزنا والخداع بعضهم تجاه بعض … إن البشر ليظنون أن الآلهة قد وُلدوا كما وُلدوا، ولهم ثياب يرتدونها كثيابهم، ولهم صوت وصورة … نعم، ولو كان للثِّيَرة وللخيل أو الأسد أيد، وكان في مستطاعها أن ترسم الرسوم بأيديها، وأن تنتج الأعمال الفنية كما ينتجها الإنسان، إذن لصوَّرت الخيلُ الآلهةَ على صورة الخيل، والثِّيَرة على صورة الثِّيَرة، ولَجَعل كل نوعٍ منها أجسام الآلهة على غرار نوعه هو … إن أهل إثيوبيا يجعلون آلهتهم سُود البشرة، فطس الأنوف. ويقول التراقيون إن آلهتهم زرق العيون، حمر الشعر.» وكان أكسانوفان يعتقد في إلهٍ واحد يختلف عن الناس شكلًا وتفكيرًا؛ فهو «بغير جهد يسير الأشياء جميعًا بقوة عقله». وتهكَّم أكسانوفان من المذهب الفيثاغوري في تناسخ الأرواح؛ «فيُروى أنه (أي فيثاغورس) كان ذات يوم سائرًا في طريقه، فشهد شخصًا يسيء إلى كلب، فقال له: قف ولا تضربه؛ لأنه يحتوي على روح صديق! ولقد عرفت ذلك لمَّا سمعت صوته». كذلك ذهب أكسانوفان إلى أنه من المستحيل على إنسانٍ أن يثبت الصدق في أمور اللاهوت؛ «فالحقيقة المؤكدة هي أنه ليس بين الناس، ولن يكون بينهم أبد الدهر، من يعرف شيئًا عن الآلهة أو عن كل هذه الأشياء التي أتحدَّث عنها، نعم حتى ولو شاءت المصادفة لشخصٍ أن يقول الصواب التام في أمرٍ من الأمور، فسيظل هو نفسه على غير علمٍ بصوابه. إنك لن تجد غير التخمين أينما وجهت النظر.»١

إن أكسانوفان لينخرط في سلك العقليين الذين كانوا يعارضون الميول الصوفية التي ظهرت في فيثاغورس وغيره، ولكنه لا يحتل مكانةً في الصف الأول إذا نظرنا إليه باعتباره مفكرًا لا يعتمد على سواه.

وقد رأينا أنه من الصعب جدًّا أن نميِّز مذهب فيثاغورس من مذهب تلاميذه، وعلى الرغم من أن فيثاغورس قد ظهر في عصرٍ مبكر جدًّا، إلا أن تأثير مدرسته قد ظهر أغلبه بعد تأثير فلاسفة آخرين، وفي طليعة هؤلاء الذين ابتكروا نظريةً لا يزال لها أثر، هرقليطس الذي ازدهر حوال ٥٠٠ قبل الميلاد، ولسنا نعلم عن حياته إلا قليلًا جدًّا؛ فنعلم أنه كان من الطبقة الأرستقراطية في أفسوس، وأهم ما يشتهر به بين الأقدمين رأيه بأن كل شيءٍ في تغيُّرٍ دائم، لكننا سنرى أن هذا الرأي جانب واحد من فلسفته عمَّا بعد الطبيعة.

وعلى الرغم من أن هرقليطس أيوني، إلا أنه لم يتصف بالنظرة العلمية التي تميَّز بها أهل ملطية،٢ بل كان صوفيًّا من نوعٍ فريد، وذهب إلى أن النار هي العنصر الرئيسي؛ فكل شيء — مثل لهب النار — يولد بموت غيره. «إن أصحاب الفناء خالدون، والخالدون هم من أصحاب الفناء، وكل واحدٍ يعيش بموت غيره ويموت بحياة غيره». وفي العالم وحدة، لكنها وحدة مؤلفة من اجتماع الأضداد. «إن الأشياء جميعًا تخرج من الواحد، والواحد يخرج من الأشياء جميعًا»، لكن الكثرة أقل واقعيةً من الواحد، الذي هو الله.

والظاهر ممَّا بقي لنا من كتاباته أنه لم يكن ذا شخصية محبَّبة؛ فقد كان كثير الازدراء لغيره، وكانت ميوله تناقض الميول الديمقراطية؛ فهو يقول عن أبناء وطنه ما يأتي: «إن أهل أفسوس يُحسنون صنعًا لو شنقوا أنفسهم بحيث لا يبقى من رجالهم رجل واحد، فتترك المدينة للصبية غير ذوي اللحى؛ ذلك لأن رجالهم طردوا همودورس — وهو أفضلهم جميعًا — قائلين: «إننا لن نبقي بيننا من هو أفضل منا، فإن كان ثمة بيننا من ينطبق عليه هذا الوصف فليسكن مكانًا آخر، وبين قومٍ آخرين». كذلك أساء هرقليطس القول عن مشاهير أسلافه، ولم يستثنِ منهم إلا واحدًا، و«هومر لا بُدَّ أن يحذف من القائمة ليضرب بالسياط»، و«لم أجد واحدًا بين كل من سمعت أحاديثهم، استطاع أن يفهم أن الحكمة لم يبلغها أحد». «إن تَعَلُّم أشياء كثيرة لا يعلِّم الفهم، وإلا لتعلَّم الفهم هزيود وفيثاغورس وأكسانوفان وهيكانيوس». «إن فيثاغورس … قد زعم لنفسه حكمةً لم تكن سوى معرفة أشياء كثيرة وفن إيقاع الأذى.» أمَّا الاستثناء الوحيد الذي أفلت من هجومه، فهو «تيوتاموس» الذي أفرده دون الآخرين بقوله عنه «إنه يَرجحُ بفضله فضل الباقين جميعًا»، فإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الثناء، وجدنا أن «تيوتاموس» قال: «إن معظم الناس أشرار.» وقد انتهى به ازدراؤه للناس جميعًا إلى الظن بأن القوة وحدها هي التي تستطع أن تُرغمهم على العمل في صالح أنفسهم. «إن كل حيوانٍ يسافر إلى مرعاه بالضربات.» وقال أيضًا: «إن الحمير تؤثر لنفسها القش على الذهب.»

وأنت على صوابٍ إذا توقَّعت أن يكون هرقليطس ممَّن يؤمنون بالقتال، فهو يقول: «الحرب أب للجميع وملكٌ على الجميع، والحرب هي التي جعلت بعض الأفراد ناسًا وبعضهم آلهة، وهي التي جعلت بعض الناس أحرارًا وبعضهم عبيدًا.» ويقول أيضًا: «لقد أخطأ هومر حين قال: «وددت لو أن الكفاح امَّحى من بين الآلهة والناس! فهو بذلك لم يُدرك أنه كان يدعو بخراب العالم؛ ذلك لأنه لو استجيبت دعوته، لزال كل شيء.» ويقول أيضًا: «لا بد أن نعلم أن الحرب مشتركة بين الجميع، وأن الكفاح عدل، وأن كل شيء يوجد ويفنى بالكفاح.»

ونزعته الخلقية ضربٌ من التقشُّف الشامخ بأنفه، وهو أقرب شيء إلى تقشُّف نيتشه؛ إذ يذهب إلى أن النفس مزيجٌ من نارٍ وماء، والنار منها جانب شريف، والماء جانب وضيع، ويسمِّي النفسي التي رجحت فيها النار نفسًا «جافة»: «إن النفس الجافة أحكم النفوس وأفضلها.» «إنه ممَّا يلذ الأنفس أن تصبح رطبةً بمائها.» «حين يسكر الرجل يضع زمامةً في يد غلام لا لحية له، يظل يثب به ولا يدري أين يضع قدميه؛ ذلك لأن نفسه بها بلل.» «إن فناء الأنفس في صيرورتها ماء.» «إنه لمن العسير على الإنسان أن يحارب رغبات قلبه، فكل ما يشتهيه القلب إنما يُشترى على حساب النفس.» «ليس من الخير للناس أن يحصلوا على كل ما يريدون الحصول عليه.» فلعلنا من هذه الأقوال نصيب إذا قلنا إن هرقليطس يقدِّر القوة إن ظفر بها الإنسان من سيطرته على نفسه، ويحتقر العواطف التي تصرف الناس عن مطامحهم الأساسية.

ويقف هرقليطس موقفًا عدائيًّا إلى حدٍّ كبير إزاء العقائد الدينية في عصره أو على الأقل إزاء الديانة الباخية، لكن عداءه إزاءها ليس هو العداء الذي يكون عند صاحب النزعة العقلية العلمية؛ فله مذهبه الديني الخاص، ويفسِّر اللاهوت السائد في عصره بحيث يلتئم مع ذلك المذهب، وهو يرفض بعد هذا اللاهوت السائد في كثيرٍ من الازدراء. وقد تجد من ينسبه إلى الديانة الباحية (مثل كورنفورد) ومن يعدُّه مفسرًا لخفايا الأسرار (مثل بفليدرر Pfliderer)، لكنني لا أظن أن العبارات الباقية لنا منه تؤيِّد هذا الرأي، فهو يقول مثلًا: «إن الأسرار (الدينية) الشائعة بين الناس أسرار لا قدسية فيها.» وذلك يدل على أن ثمة — في رأيه — أسرارًا ممكنة لا توصف «بعدم القدسية»، لكنها تختلف عمَّا هو شائعٌ في عصره، ولولا أنه كان شديد الازدراء بحيث لا يُحب لنفسه أن يشتغل بالدعاوة، لأمكن أن يكون مصلحًا دينيًّا.

وفيما يلي كل ما بقي لنا من أقواله، ممَّا له علاقة بموقفه إزاء اللاهوت في عصره: إن مولانا الذي نرى راعيه في دلفي، لا هو يفصح عمَّا يريد، ولا هو يكتمه، لكنه يدل على مراده بما يرمز إليه.

والعرَّافة بشفتين هاذيتين تنطق أشياء لا مرح فيها ولا زُخرف ولا عطر، فتُعبر ألف سنة بصوتها بفضل الإله الكامن فيها.

إن الأنفس تتشمَّم في العالم السفلي.

الميتات العظمى تظفر بأنصبةٍ أوفر (ومن يموتون هذه الميتات العظمى يصبحون آلهة).

المشاة بالليل والسحرة وكهنة باخوس وكاهنات دِنان الخمر، كل هؤلاء يتاجرون بالأسرار.

إن الأسرار الذائع أمرها بين الناس هي أسرار بغير قدسية، والناس يتوجَّهون بصلواتهم إلى هذه الأوثان، كأنما يتوجه الإنسان بالدعاء إلى بيته؛ إذ هو لا يدري ماذا عسى أن تكون الآلهة أو يكون الأبطال.

لأنهم إذا لم يتوجَّهوا إلى ديونيسيوس باحتفالاتهم الدينية وإذا لم يتوجَّهوا إليه حين يتغنَّون بالترنيمة الجنسية المخجلة، كانوا يفعلون ما يفعلون دون أن يعرفوا للخجل معنًى، لكن هادس (العالم الأسفل) هو بعينه ديونيسيوس، الذي يُجنون جنونًا في تكريمه والذي في سبيله يقيمون عيد دنان الخمر.

إنهم يطهِّرون أنفسهم عبثًا حين يدنِّسون أنفسهم بالدماء، فهم في ذلك أشبه بمن يخوض في الطين ليغسل قدميه من الطين، فكل من رآه يصنع هذا، لا بُدَّ أن يُحكم عليه بالجنون.

لقد ذهب هرقليطس إلى أن النار هي العنصر الأول الذي خرج منه كل شيء آخر، ولعل القارئ يذكر أن طاليس كان يعتبر الماء أصل الأشياء، وأن أناكسمانس ظن أن العنصر الأول هو الهواء، وها هو ذا هرقليطس قد آثر النار، وأخيرًا جاء أمباذقليس واقترح حلًّا يوفِّق بين وجهات النظر، كأنه في ذلك من أصحاب السياسة، وذلك بأن قَبل العناصر الأربعة: التراب والهواء والنار والماء. وها هنا عند هذا الحد وقفت كيمياء القدماء وقفة الأموات، ولم يخطُ هذا العلم خطوةً أخرى إلى الأمام حتى أخذ الكيمياويون المسلمون في بحثهم عن حجر الفيلسوف، وإكسير الحياة، وعن طريقة يحوِّلون بها المعادن الخسيسة ذهبًا.

إن ميتافيزيقا هرقليطس فيها من الديناميكية قذرٌ يُقنِع أشد المحدثين ميلًا إلى الحركة:

«إن هذا العالم الذي يستوي عند الجميع، لم يخلقه إلهٌ ولا إنسان، لكنه كان، وهو لا يزال، وسيظل إلى الأبد «نارًا» ما تنطفئ فيها الحياة، فتشتعل بمقدارٍ وتخبو بمقدار.»

«إن النار تتحوَّل أولًا إلى بحر، ثم يتحوَّل نصف البحر إلى تراب، ونصفه الثاني إلى ريح.»

«وإن الإنسان ليتوقع في عالمٍ كهذا تغيرًا لا ينقطع، وهذا التغير الذي لا ينقطع هو ما آمن به هرقليطس.»

لكن له إلى جانب ذلك مذهب آخر، اهتمَّ به أكثر من اهتمامه بمذهب التغيُّر الدائم، وأعني به مذهب امتزاج الأضداد؛ فهو يقول: «إن الناس لا يعرفون كيف يعود ما هو متباين التكوين إلى الاتفاق مع نفسه، والأمر هنا عبارة عن اتساق الأنغام الصادرة من أوتارٍ متضادة، كنغم النفوس، ونغم القيثارة.» وعقيدته في الكفاح مرتبطة بهذه النظرية؛ لأنه في الكفاح تشترك الأضداد لتنتج حركةً هي حركة الانسجام، إن في العالم وحدة، ولكنها وحدة نتجت عن تباين:

«أزواج الأشياء هي أشياء كاملة وأخرى غير كاملة، هي ما ينجذب بعضه إلى بعض وما ينفصل بعضه عن بعض، هي المتناغم والناشز. إن الواحد متألفٌ من كل الأشياء، وكل الأشياء صادر عن الواحد.»

وتراه أحيانًا يتحدَّث كأنما الوحدة آصل من التباين:

«الخير والشر واحد.»

«كل الأشياء بالنسبة لله عادلة وخيرة وصحيحة، أمَّا الناس فيرَون بعض الأشياء خطأً وبعضها صوابًا.»

«الطريق الصاعد والطريق الهابط هما طريق واحد بعينه.»

«الله هو النهار والليل والشتاء والصيف والحرب والسلام والشبع والجوع، لكنه يتخذ أشكالًا عدة، كما يطلق على النار أسماءً تختلف — إذا ما امتزجت بالتوابل — باختلاف الشذى الذي يفوح في كل حالة.»

ومع ذلك فإذا لم يكن هناك أضداد يلتئم بعضها مع بعض، لَما كان هناك اتحاد: «إنه الضد الذي يكون مصدر الخير لنا.»

وهذا المذهب ينطوي على جرثومة فلسفة هيجل، التي تبدأ بالتأليف بين الأضداد.

وتشبه الميتافيزيقا عند هرقليطس قرينتها عند أناكسمندر، في أن فكرة العدالة الكونية تسودها، وهو عدالة تمنع الكفاح بين الأضداد من أن ينتهي بنصر تام لضد على ضد.

«إن كل الأشياء تتحوَّل إلى نار، والنار تتحوَّل إلى أي شيء، كما يتحوَّل الذهب إلى سلعٍ والسلع إلى ذهب.»

«إن النار تحيا بموت الهواء، والهواء يحيا بموت النار، والماء يحيا بموت التراب، والتراب يحيا بموت الماء.»

«لن تجاوز الشمس مدارها، وإن تجاوزته، كشف أمرها خادمات العدالة.»

«لا بد أن نعلم أن الحرب مشتركة بين الجميع، وأن الكفاح عدل.»

وما فتئ هرقليطس يتحدث عن «الله» باعتباره متميزًا من «الآلهة»: «إن سبيل الإنسان لا حكمة فيها، أما سبيل الله ففيها الحكمة … إن الله يسمي الإنسان رضيعًا، حتى إن كان يافعًا في نظر الإنسان … إن أحكم الناس قرد بالنسبة لله، كما أن أجمل القردة قبيح إذا قورن بالإنسان.»

ولا شك أن الله هو تجسيد العدالة الكونية.

والمذهب القائل بأن كل شيء في تحولٍ دائم، هو أشهر آراء هرقليطس، وهو الرأي الذي زاده أتباعه تأكيدًا، كما يصف لنا أفلاطون في محاورة ياتيتوس.

«إنك لا تستطيع أن تخطو مرتين في نهرٍ بعينه؛ لأن ماءً جديدًا سيظل دفاقًا عليك.»٣

«إن الشمس تتجدد كل يوم.»

والرأي الراجح عند معظم الباحثين هو أن هرقليطس قد عثر عن عقيدته في التغير الشامل لكل شيء بقوله: «إن الأشياء كلها دفاقة.» لكن قد تكون هذه العبارة رمزيةً كقول وشنطن: «لا أستطيع يا أبت أن أقول الكذب.» وقول والنجتن: «انهضوا أيها الحراس، واهجموا عليهم.» فكلمات هرقليطس — كما هي الحال في سائر الفلاسفة قبل أفلاطون — لا تصادفها إلا في سياق اخترعه أفلاطون وأرسطو اختراعًا، بغية أن يدحضوها. إننا إذا تخيلنا ما يصيب أي فيلسوفٍ حديث، لو كانت الوسيلة الوحيدة لمعرفة فلسفته هي مناقشة منافسيه لتلك الفلسفة، عرفنا أن الفلاسفة قبل سقراط لا بُدَّ أن يكونوا بلغوا من الإبداع حدًّا بعيدًا، ما داموا يحتفظون بالعظمة حتى حين ننظر إليهم خلال ضباب الحقد الذي اكتنفهم به أعداؤهم. ومهما يكن من أمر ذلك، فإن أفلاطون وأرسطو يتفقان على أن هرقليطس ذهب إلى أنه «لا شيء قط موجود، وكل شيء في حالة الصيرورة» (أفلاطون)، وأنه «لا شيء قط موجود وجودًا دائمًا» (أرسطو).

وسأعود إلى بحث هذا المذهب حين أتحدَّث عن أفلاطون، الذي اهتمَّ اهتمامًا كبيرًا بتفنيده، فلن أحاول الآن أن أتقصَّى بالنظر ما عسى أن تقوله الفلسفة في هذا المذهب، وسأكتفي بأن أذكر كيف أحس الشعراء إزاءه، وماذا قال رجال العلم حياله.

إن البحث عن شيءٍ يتصف بالدوام، هو من أعمق الغرائز التي تؤدِّي بالإنسان إلى الفلسفة، ولا شك أنه مشتقٌّ من حب الإنسان لداره ورغبته في مأوًى يسكن إليه من الخطر؛ ولذا نرى هذا الميل على أشده عند أولئك الذين هم أكثر من سواهم تعرُّضًا للكوارث، والدين ينشد هذا الدوام في صورتين: الله والخلود؛ فليس في الله تغير ولا ظل فيه للتحول، وكذلك الحياة بعد الموت سرمدية لا يطرأ عليها تغير، فلمَّا جاء القرن التاسع عشر بِبِشره، حول أنظار الناس عن هذه الأفكار الساكنة. حتى إن اللاهوت الحديث الحر ليعتقد أن عالم السماء في تقدم، وأن الله في تطور، لكن حتى في هذه الفكرة لا تزال تلمس شيئًا من الدوام، وهو التقدم نفسه وما ينطوي عليه من هدفٍ منشود، فإذا نزلَت بالناس أدنى الكوارث، فالأغلب أن يرتدُّوا بآمالهم إلى ما كانت تتعلَّق به قديمًا من صورٍ أسمى من أرضنا هذه وما عليها، فإذا ما بئس الإنسان من الحياة فوق هذه الأرض، لم يعد أمامه غير السماء يبحث فيها عن السلام.

لقد شكا الشعراء من قوة «الزمن» الذي يكتسح أمامه كل ما يولونه الحب:

إن الزمان ليذوي نضارة الشباب،
ويحفر الأخاديد في جبهة الجمال،
ويَطعَم على أغلى ما في الطبيعة من دررٍ نوادر،
وليس يصمد شيء أمام منجله الذي يحصد.

غير أن الشعراء عادةً يُضيفون إلى مثل هذا القول إيمانهم بأن أشعارهم هي التي تستحيل على الفناء.

لكن شعري سيظل راسخًا في وجه الزمان
ينطق بالثناء عليك، رغم يده القاسية.

لكن ذلك لا يزيد على غرورٍ أدبي توارثه الشعراء.

أما المتصوفة الذين يميلون إلى التفلسف، فتراهم لا يستطيعون إنكار أن كل ما هو في الزمن صائر إلى الزوال؛ ولذلك ابتكروا فكرة الأبدية، وهم لا يعنون بها مقاومةً تناهض الزمن الذي لا ينتهي، بل يريدون بها وجودًا خارج نطاق الزمن بأجمعه؛ فالحياة الأبدية في نظر بعض رجال اللاهوت — مثل «إنج» شيخ الدين — لا تعني وجودًا خلال كل لحظةٍ زمنية من لحظات الزمن المقبل، بل تعني نوعًا من الوجود مستقلًّا عن الزمن كل الاستقلال، ليس فيه «قبل» و«بعد»، وبالتالي يستحيل فيه التغير استحالةً منطقية، وقد عبَّر فون Vaauhgu عن هذا الرأي تعبيرًا شعريًّا فقال:
رأيت الأبدية ذات مساء
تشبه حلقةً كبيرة من الضوء النقي الذي لا ينتهي،
كلها ساكن وكلها ساطع،
وأسفلها رأيت «الزمان» ساعات وأيامًا وأعوامًا
تجره أفلاك السماء،
فيتحرك كأنه ظلٌّ كبير، قُذف فيه.
بالعالم وكل ما يتصل به.

وحاولت فلسفاتٌ كثيرة من أشهر ما أنتجه الفلاسفة من نظمٍ فكرية، أن تضع هذه الفكرة في نثرٍ رصين، تُدلي فيه بالحجة التي لو تابَعْتهم فيها متابعة الصابر، أرغمتك في نهاية الأمر على الإيمان بها.

بل إن هرقليطس نفسه، رغم قوة إيمانه بالتغيُّر، أبقى على «شيء» يكون له الدوام، فلئن خلت فلسفته من فكرة الأبدية (متميِّزة من فكرة الزمن الذي يمتد إلى غير نهاية) التي جاءتنا من بارمنيدس، إلا أنك واجدٌ في فلسفته أن النار الأبدية لا تخبو أبدًا؛ فالعالم «كان أبدًا، ولا يزال، ولن يزال إلى الأبد نارًا لا تخبو فيها الحياة»، لكن النار شيء يتحوَّل تحولًا لا ينقطع، ودوامها هو أقرب إلى دوام الفاعلية منه إلى دوام العنصر الثابت، ولو أنه لا ينبغي أن نعزو هذه الفكرة إلى هرقليطس.

وحاول العلم ما حاولته الفلسفة من هروبٍ يفر به من مذهب التغير الدائم، بأن يلتمس قاعدةً ثابتة وسط الظواهر المتغيرة، والظاهر أن الكيمياء قد أشبعت هذه الرغبة عند الإنسان؛ إذ وجد أن النار التي يبدو أنها تفنى ما تلحق به، لا تفعل في الحقيقة أكثر من تحويل المادة من صورةٍ إلى صورة، فالعناصر يُعاد تركيبها على صورةٍ جديدة، لكن كل ذَرةٍ ممَّا كان موجودًا قبل الاحتراق لا تزال موجودةً بعد تمام الاحتراق، وبناءً على ذلك زعم الزاعمون أن الذرات لا يطرأ عليها فناء، وأن كل ما يُصيب العالم من تغيرٍ إن هو إلا إعادة ترتيب العناصر التي لا تفنى، وظلت هذه النظرة سائدةً حتى كشف على فاعلية الإشعاع، وما يترتَّب عليها من نتيجة هي أن الذرات يمكن أن يطرأ عليها الانحلال.

لكن علماء الطبيعة لم يفزعوا لهذا، وابتكروا وحداتٍ جديدة أضأل حجمًا من الذرات، أطلقوا عليها اسم «إلكترونات» و«بروتونات»، هي التي تتألف الذرات من تركيبها، وافترض العلماء — مدى بضعة أعوام — أن هذه الوحدات تتصف بعدم قابليتها للفناء، وهو ما كانت توصف به الذرات فيما مضى، لكن شاء سوء الحظ أن يتبيَّن أن البروتونات والإلكترونات، يمكن أن تلتقي وأن تنفجر، فلا يتكوَّن عن ذلك مادة جديدة، بل تتكوَّن موجة من الطاقة تنتشر في الكون بسرعة الضوء، وهكذا حلَّت الطاقة محل المادة من حيث اعتبارها أساسًا ثابتًا، لكن الطاقة تختلف عن المادة في أنها ليست تهذيبًا لفكرة العامة عن «الشيء»، وإنما مجرد صفة تميِّز العمليات الفيزيقية، ويجوز لنا أن نجمح بخيالنا فنجعل هذه الطاقة هي النار التي دعا إليها هرقليطس، على أن نتصوَّر الاحتراق نفسه لا ما يحترق، «فما يحترق» قد اختفى من علم الطبيعة الحديث.

وإذا ما انتقلنا من الصغير إلى الكبير، وجدنا علم الفلك لم يعد يسمح لنا أن نعتبر الأجرام السماوية سرمدية؛ فالكواكب خرجت من الشمس، وخرجت الشمس من السديم، وقد دام وجودها حينًا، وسيدوم وجودها حينًا آخر، لكنها عاجلًا أو آجلًا — وربما كان ذلك بعد مليون مليون عام — ستنفجر وتدمِّر الكواكب كلها، أو على الأقل هذا ما يقوله علماء الفلك، وإذا ما دنا هذا اليوم الآخر، ربما وجدوا أنهم قد أخطئوا الحساب.

إن مذهب التغير الدائم، كما بشَّر به هرقليطس، يبعث الأسى، وليس في وسع العلم — كما رأينا — أن يفنِّده. وإن من بين الغايات الرئيسية التي يطمع إليها الفلاسفة، أن يُحيوا الآمال التي يظهر أن العلم قد قضى عليها؛ ولهذا جاهد الفلاسفة جهادًا لا يفتر، في البحث عن شيءٍ لا يخضع لحكم «الزمن»، ويبدأ هذا البحث ﺑ «بارمنيدس».

١  اقتبسنا هذا النص من كتاب Edwyn Bevan: «الرواقيون والمتشككون»، أكسفورد، ١٩٣٣م، ص٢١.
٢  راجع كورنفورد في المرجع المذكور آنفًا (ص١٨٤)، فهو يؤكد هذا تأكيدًا منه قد أصاب فيه؛ فكثيرًا ما يساء فهم هرقليطس إذ يظن أنه شبيه بسائر الأيونيين.
٣  لكن راجع قوله: «إننا نخطو ولا نخطو في نهرٍ بعينه، نحن موجودون وغير موجودين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤