الفصل التاسع

الذَّرِّيون

اثنان هما اللذان وضعا أساس المذهب الذري؛ لوقيبوس، وديمقريطس. ومن العسير أن تفصل أحدهما عن الآخر؛ لأنهما يُذكران معًا في معظم الحالات، والظاهر أن بعض آثار لوقيبوس قد نُسبت فيما بعدُ إلى ديمقريطس.

جاء لوقيبوس الذي ازدهر — على ما يظهر — حوالي سنة ٤٤٠ق.م.١ من ملطية، وتابع الفلسفة العلمية العقلية المرتبطة بتلك المدينة، وقد تأثر أبلغ الأثر ببارمنيدس وزينون، لكنه بلغ من قلة الذكر حدًّا جعل أبيقور (وهو من أتباع ديمقريطس فيما بعد) يُنكر وجوده إنكارًا تامًّا فيما يقال؛ وقد عاد بعض المحدثين إلى نشر هذه النظرية، لكننا إلى جانب هذا نصادف عدة إشارات إليه عند أرسطو، ويظهر لنا من غير المعقول أن تُذكر هذه الإشارات (وبينها نصوص مقتبسة) لو كان الرجل أسطورةً لا أكثر.
وأمَّا ديمقريطس فشخصية معالمها أكثر وضوحًا من ذلك بكثير، وهو من أهالي أبديرا في تراقية، وأمَّا عن تاريخه فقد قال هو عن نفسه إنه كان يافعًا لمَّا كان أناكسجوراس شيخًا، فافرض أنه حوالي ٤٣٢ق.م. ويظن أنه ازدهر حوالي ٤٢٠ق.م. وقد أكثر من الأسفار في البلاد الجنوبية والشرقية طلبًا للمعرفة، ويجوز أن قد قضى زمنًا طويلًا في مصر، ولا شك في أنه زار فارس، وبعدئذٍ عاد إلى أبديرا حيث أقام، ويقول عنه «زلر Zeller»:

إنه يفوق كل من سبقه ومن عاصره من الفلاسفة في اتساع علمه، وهو يفضل معظم هؤلاء وأولئك في حدة تفكيره وسلامته المنطقية.

عاصر ديمقريطس سقراط والسوفسطائيين، وكان ينبغي — لو اتخذنا الترتيب الزمني أساسًا — أن نضعه في مكانٍ بعد هذا من سلسلة تاريخنا، الذي يحول دون ذلك هو تعذُّر انفصاله عن لوقيبوس، وعلى هذا الأساس تراني أبحثه قبل سقراط والسوفسطائيين، على الرغم من أن جزءًا من فلسفته قصد به أن يكون ردًّا على بروتاجوراس الذي ينتمي إلى نفس المدينة التي ينتمي إليها ديمقريطس، الذي كان أشهر السوفسطائيين إطلاقًا. ولمَّا زار بروتاجوراس مدينة أثينا قوبل هناك مقابلةً حماسية، على حين ترى ديمقريطس من ناحيةٍ أخرى يقول: «ذهبتُ إلى أثينا فلم يعرفني أحد.» فقد أنكرت أثينا فلسفته زمنًا طويلًا، ويقول «بيرنت»: «ليس من المقطوع به أن أفلاطون قد عرف شيئًا على الإطلاق عن ديمقريطس … لكن أرسطو — من جهةٍ أخرى — يعرف ديمقريطس حق المعرفة؛ لأنه هو أيضًأ كان أيونيًّا من الشمال.»٢ فأفلاطون لا يذكره قط في محاوراته، ويقول «ديوجنيس ليرتيوس» إنه كان يكرهه أشد الكراهية حتى لقد تمنَّى أن تُحرق كتبه كلها، لكن «هيث Heath» يُعد رياضيًّا ممتازًا.٣
إن الأفكار الرئيسية التي يشترك فيها لوقيبوس وهرقليطس في الفلسفة التي تُعزى إليهما معًا، هي في الحقيقة من وضع الأول، لكننا لا نكاد نرى سبيلًا للفصل بين الرجلين في تحليل تلك الأفكار الرئيسية بحيث ننسب لكلٍّ منهما نصيبه، ولا نرى لهذا الفصل أهميةً بالنسبة لغرضنا الذي نهدف إليه، بحيث يستحق منا عناء المحاولة، الذي أدَّى ﺑ «لوقيبوس» — إن لم تقل ﺑ «ديمقريطس» — إلى القول بالمذهب الذري، هو محاولته أن يجد موقفًا وسطًا بين الواحدية والتعدد، كما يتمثلان في بارمنيدس وأنباذقليس على التوالي، وقد جاءت وجهة نظر الذريين قريبة الشبه بما يقوله العلم الحديث، على صورةٍ تستوقف النظر، وتراهما قد اجتنبا معظم الأخطاء التي كان التفكير التأملي عند اليونان أقرب إلى الوقوع فيها؛ فهما يعتقدان أن كل شيءٍ مكون من ذرات، والذرات لا تقبل الانقسام من الوجهة المادية، وإن تكن قابلةً لهذا الانقسام من الوجهة الهندسية؛ ويذهبان إلى أن الذرات يفصلها بعضها عن بعض فراغ، وأن الذرات يستحيل فناؤها، وأنها كانت منذ الأزل، وستظل إلى الأبد في حركةٍ دائمة، وأن هنالك من هذه الذرات عددًا لا نهاية له، بل لا نهاية لعدد أنواع الذرات التي يختلف بعضها عن بعض شكلًا وحجمًا. ويقول أرسطو:٤ إن الذَّرِّيين يذكرون أيضًا أن الذرات تختلف في درجة الحرارة، فأشدها حرارةً هي الذرات الكرية التي تتألف منها النار، وأنها كذلك تختلف في الثقل، وهنا يقتبس من ديمقريطس العبارة الآتية: «كلما كبر حجم الذرة غير القابلة للانقسام، ازداد ثقلها، لكن هذا الرأي القائل بأن آراء الذَّرِّيين قد نصَّت على أن للذرات — بحكم طبيعتها الأولية — ثقلًا، لا يزال موضع خلاف بين الباحثين.
كانت الذرات منذ الأزل في حركة، لكن الشراح يختلفون على طبيعة الحركة الأولى؛ فبعضهم — خصوصًا «زلر» — يذهبون إلى أن أصحاب الفلسفة الذرية كانوا يظنون أن الذرات ساقطة أبدًا إلى أسفل، وأن أثقلها كان أسرعها هبوطًا، فكانت في هبوطها تلحق بالذرات الأخف، وتصدمها، فتنحرف هذه هنا وهناك كما تنحرف كرات البلياردو حين يخبط بعضها بعضًا؛ ولا شك في أن هذا هو الرأي الذي أخذ به أبيقور، وأبيقور إنما أقام آراءه في معظم نواحيها على أسس من آراء ديمقريطس في محاولته — التي أعوزتها البصيرة النافذة أحيانًا — أن يهتدي بما أورده أرسطو من أوجه النقد، لكن ثمة من المبررات ما يكفي لإقناعنا بأن الثقل لم يكن عند لوقيبوس وديمقريطس صفةً أصيلة في الذرات، والأرجح أنهما كانا يعتقدان أن الذرات في أول أمرها كانت تتحرك حركات لا انتظام فيها، كالذي يقال في النظرية الحديثة عن الحركة في الغازات، فمن أقوال ديمقريطس أنه لم يكن في الفراغ اللانهائي أعلى ولا أسفل، وشابه بين حركة الذرات في النفس وحركة جزئيات الغبار في شعاع الشمس حين تسكن الريح؛ فهذه وجهة نظر أقرب إلى العقل من وجهة نظر أبيقور، وفي رأيي أن من حقنا أن نعزوها إلى لوقيبوس وديمقريطس.٥

ونتج عن تصادم الذرات أن كوَّنت مجموعتها دُوامات، ويمضي المذهب الذري بعد ذلك في شرح هذه الحركة الدائرية على نحو ما قال به أناكسجوراس، لكن وجه التقدم هو أن تشرح الدوامات شرحًا آليًّا، أكثر ممَّا تفسَّر بفعل العقل.

كان من الشائع قديمًا أن يوجَّه اللوم إلى الذَّرِّيين على نسبتهم كل شيء للمصادفة، مع أنهم، على خلاف ذلك، كانوا جبريين متزمتين، يؤمنون بأن كل شيءٍ يحدث وفق قوانين طبيعية، حتى لقد أنكر ديمقريطس صراحةً إمكان أن يحدث أي شيءٍ بفعل الصدقة.٦ وعلى الرغم من أن لوقيبوس مشكوكٌ في وجوده إلا أن المعروف عنه هو أنه قال شيئًا واحدًا وهو: «لا شيء يحدث بلا شيء، بل يحدث كل شيءٍ على أساس وبحكم الضرورة.» نعم إنه لم يبين لماذا لزم للعالم أن يكون في البداية على الصورة التي كانت، فيجوز أن تكون هذه البداية عنده هي وحدها نتيجة المصادفة، أما وقد تم للعالم وجوده، فطريق سيره بعدئذٍ محدد على صورةٍ واحدة بمقتضى القوانين الآلية؛ وقد توجه أرسطو وغيره باللائمة إليه وإلى ديمقريطس؛ لأنهما لم يُفسِّرا كيف نشأت الحركة في الذات بادئ ذي بدء، لكن الذَّرِّيين كانوا في هذا أقرب إلى المنهج العلمي من ناقديهم؛ فالسببية لا بُدَّ لها أن تبدأ من شيء، وما دامت قد بدأت، فلا يمكن أن نلتمس سببًا لذلك الشيء الأول الذي عنده بدأت؛ فقد تنسب العالم إلى «خالق» لكنك في هذه الحالة نفسها لا بُدَّ أن تترك «الخلق نفسه» بغير تعليل؛ فالواقع أن نظرية الذَّرِّيين أقرب إلى نظرية العلم الحديث من أية نظريةٍ أخرى ممَّا ذهب إليه القدماء.

وقد أراد الذَّرِّيون — على عكس سقراط وأفلاطون وأرسطو — أن يفسروا العالم بغير اعتماد على فكرة الغاية أو العلة الغائية؛ «فالعلة الغائية» لحادثةٍ ما، هي حادثة في المستقبل من أجلها حدثت الحادثة التي نحن بصددها، وهذه الفكرة الغائية لها تطبيق في الأمور الإنسانية، فلماذا يخبز الخباز الخبز؟ لأن الناس سيُحسون بالجوع؛ ولماذا تُعَد السكك الحديدية؟ لأن الناس ستنشأ عندهم رغبة في السفر؛ وفي مثل هذه الحالات تفسَّر الأشياء بغاياتها، فإذا سألنا «لماذا» عن حادثةٍ ما، فنحن إنما نقصد أحد أمرين؛ فإما أن نقصد: «إلى أي غرضٍ تؤدِّي هذه الحادثة؟» وإمَّا أن يكون المقصود: «ما الظروف السابقة التي سبقت الحادثة فسبَّبتها؟» والجواب عن السؤال الأول تفسير غائي للشيء، أعني تفسيرًا للشيء بعلله الغائية، وأمَّا الجواب عن السؤال الثاني فتفسيرٌ آلي؛ ولست أرى كيف كان يمكن للناس أن يعلموا مقدمًا أي هذين السؤالين ينبغي للعلم أن يسأل، أم هل ينبغي للعلم أن يسأل السؤالين معًا، لكن التجربة قد دلَّت على أن السؤال الآلي هو الذي يؤدي إلى المعرفة العلمية، على حين لا يؤدِّي السؤال الغائي إليها، وقد ألقى الذَّرِّيون السؤال الآلي، وأجابوا عنه إجابةً آلية، ثم جاء من بعدهم حتى عصر النهضة، فكانوا أكثر اهتمامًا بالسؤال الغائي، وبهذا ساروا بالعلم في طريقٍ مسدود.

على أن السؤالين كليهما محدودان بحدٍّ كثيرًا ما يُنسى في التفكير العامي وفي الفلسفة على السواء؛ فليس في مستطاع الإنسان أن يسأل أيًّا من السؤالين عن العالم باعتباره كلًّا واحدًا (بما في ذلك الله)، وكل ما يمكن هو أن نسأل عن أجزاء العالم؛ أمَّا التفسير الغائي فسرعان ما يصل بك عادةً إلى «خالق» أو على الأقل إلى «مدبر» يحقِّق أغراضه في مجرى الطبيعة، لكن إذا أخذ العناد مأخذه من شخصٍ بحيث تمسَّك بالغائية تمسُّكًا شديدًا فسيسأل بعد ذلك: ما الغاية التي يحقِّقها وجود «الخالق»؟ وعندئذٍ يتضح في جلاء أن سؤاله خروجٌ على الدين، فضلًا عن أن سؤاله هذا بغير معنًى؛ لأنه لكي يكون ذا معنًى، لا بُدَّ لنا أن نفرض أن «الخالق» قد خلقه «خالق أعلى منه» أراد بخلقه إياه أن يحقِّق لنفسه غرضًا، وعلى ذلك ففكرة الغاية لا يمكن تطبيقها إلا داخل حدود الكون، لا على الكون بأسره دفعةً واحدة.

ومثل هذا يمكن أن يقال عن التفسيرات الآلية؛ فحادثةٍ تسبِّبها حادثة أخرى، وهذه الأخرى تسبِّبها ثالثة وهكذا؛ أمَّا إذا سألنا عن سببٍ للكل، ألفينا أنفسنا منساقين مرةً أخرى «للخالق» الذي لا بُدَّ أن يكون هو نفسه غير معلول لعلة، وعلى ذلك فكل التفسيرات السببية لا بُدَّ أن تكون لها بداية نفرضها فرضًا جزافًا، ومن هذا يتبيَّن أن الذَّرِّيين لم يكن بهم عيب حين تركوا الحركات الأولى للذرات بغير تعليل.

ولا ينبغي أن يذهب بك الظن إلى أن العلل التي ساقوها تأييدًا لنظرياتهم، كانت تجريبيةً كلها؛ فلقد عادت العصور الحديثة إلى النظرية الذرية لتفسِّر بها حقائق كيميائية، لكن هذه الحقائق لم تكن معروفةً لدى اليونان، فلم يكن في الأزمان القديمة حدٌّ فاصل كل الفصل بين المشاهدة التجريبية والتدليل المنطقي! نعم إن بارمنيدس قد ازدرى الحقائق المشاهدة بالحس ازدراء، لكن أمباذقليس وأناكسجوراس أبيا إلا أن يمزجا ميتافيزيقاهما بمشاهداتٍ أجرياها على الساعات المائية والدِّلاء التي تتحرَّك حركةً دوارة، فإلى أن جاء السوفسطائيون لم يتطرَّق الشك لأحدٍ من الفلاسفة — فيما يظهر — بأنه من الممكن للميتافيزيقا والفلسفة الكونية الكاملتين أن يقوما على مزيجٍ من تدليل عقلي في الأغلب مع قليلٍ من المشاهدة الحسية؛ وقد شاء حسن الحظ للذَّرِّيين أن يضعوا أصابعهم على فرضٍ علمي لم يقُم الدليل على صدقه إلا بعد ألفَي عام، لكن إيمانهم به — رغم صدقه — كان إذ ذاك لا يقوم على أي أساسٍ سليم.٧
كان لوقيبوس كسائر فلاسفة عصره، يعنيه أن يلتمس وسيلةً للتوفيق بين آراء بارمنيدس وبين الحقيقة الصارخة، حقيقة أن في العالم تغيرًا وحركة، فكما يقول أرسطو:٨

«على الرغم من أن هذه الآراء (آراء بارمنيدس) تبدو كأنما تلزم منطقيًّا في البحث الديالكتيكي، إلا أن الإيمان بصدقها يظهر قريبًا جدًّا من الجنون إذا ما جعل المرء في اعتباره الحقائق الواقعة؛ إذ إنك لن تجد مجنونًا قد أوغل في جنونه إلى حد أن يفترض بأن النار والثلج «شيء واحد»، لكنك قد تجد من الناس من يكتفون من درجات الجنون بدرجةٍ تجعلهم لا يرَون فرقًا بين ما هو صحيحٌ فعلًا وبين ما يبدو صحيحًا بحكم العادة.»

على أن لوقيبوس قد ظنَّ أنه وُفق إلى نظريةٍ لا تتنافى مع الإدراكات الحسية، ولا تُناقض النشأة والزوال، ولا الحركة وتكثر الأشياء؛ فقد تساهل في الرأي ليصون حقائق الواقع الذي تدركه الحواس، كذلك تنازل من جهةٍ أخرى لأصحاب المذهب الواحدي فسلَّم معهم بأنه لا يمكن أن تكون هنالك حركة بغير فراغ، فنتج عن تساهله هنا وهنالك، الرأي الذي صاغه كما يأتي: «إن الفراغ لا وجود، وليس بين أجزاء الوجود جزء ممَّا يدخل في دائرة اللاوجود؛ لأن ما هو موجود بمعنى الكلمة الدقيق هو امتلاء مطلق، على أن هذا الامتلاء ليس بواحدٍ بل هو على خلاف ذلك كثرة لا نهاية لعددها ولا ترى العين أجزاءها بسبب ضآلة حجمها، والكثير يتحرك في فراغ (لأن ثمة فراغًا)، فإذا ما اجتمع هذا الكثير بعض مع بعض تكوَّن من اجتماعه نشأة جديدة، ثم إذا تفرَّق تكوَّن من فرقته زوال، فضلًا عن أن أجزاء هذه الكثرة تفعل وتنفعل كلما تصادف اتصال بعضها ببعض (لأنها عندئذٍ لا تكون واحدة)، وهي تلد جديدًا باجتماعها وتشابكها؛ ومن جهةٍ أخرى يستحيل أن ينشأ من الواحد بمعنى الواحدية الصحيح تكثُّر، ولا أن ينشأ من الكثرة بمعنى التكثُّر الصحيح واحد؛ فذلك مستحيل.»

فلنلاحظ أن هنالك نقطةً واحدة لم يختلف عليها أحدٌ حتى الآن، وهي أن الحركة مستحيلة في الامتلاء، وهم جميعًا في هذا الرأي مخطئون؛ فقد تحدث حركةٌ دائرية في الامتلاء، على شرط أن تكون هذه الحركة موجودةً في ذلك الامتلاء منذ الأزل؛ إنهم رأَوا ما رأَوه على أساس أن الشيء لا يتحرَّك إلا في مكانٍ خالٍ، وأنه لا خلاء في الامتلاء؛ ولقد يجوز بحق أن يقول قائل إن الحركة يستحيل أن تبدأ في الامتلاء، لكنه لا يجوز أن يزعم الزاعم وهو صادق في زعمه أن الحركة يستحيل عليها الحدوث في الامتلاء على أية صورة من الصور؛ ومهما يكن من أمرٍ فقد خُيل لليونان أن الإنسان إمَّا أن يسلِّم تسليمًا بعالمٍ ثابت لا يتغيَّر كالذي يقول به بارمنيدس، وإمَّا أن يسلِّم بوجود الفراغ.

لقد بدت حجج بارمنيدس ضد اللاوجود مستحيلة التنفيذ من الوجهة المنطقية، وهي تثبت عدم وجود فراغ، ثم تأيَّدت تلك الحجج حين تبيَّن لهم أنه حيثما كان يُظن ألَّا شيء موجود، كان ثمة هواء (وفي هذا مثل يوضِّح المزج المهوش من المنطق ومشاهدة الحواس، الذي كان شائعًا)، ونستطيع أن نحدِّد موقف بارمنيدس على الوجه الآتي: «إنك تزعم أن ثمة فراغًا موجودًا، وإذن فالفراغ ليس عدمًا، وإذن فليس فراغًا»؛ ولسنا نزعم أن الذَّرِّيين قد ردُّوا على هذه الحجة وكل ما فعلوه هو أنهم أعلنوا عزمهم على إهمالها على أساس أن الحركة حقيقة واقعة ندركها بخبرتنا»، وعلى ذلك فلا بُدَّ أن يكون ثمة فراغ، مهما يتعذَّر علينا تصوُّره.٩

ولتأخذ الآن في استعراض ما طرأ على هذه المشكلة فيما بعد ذلك؛ فأول وأوضح طريقة لاجتناب المشكلة المنطقية هو أن تفرق بين المادة والمكان، فبناءً على هذه النظرية ليس المكان عدمًا، لكنه في طبيعته شبيه بالوعاء الذي يجوز أن يمتلئ أو لا يمتلئ أي جزء منه بالمادة. ويقول أرسطو (علم الطبيعة ٢٠٨ ب): «إن النظرية القائلة بأن الفراغ موجود تتضمَّن وجود المكان؛ لأنك تستطيع أن تعرِّف الفراغ بأنه المكان تجرَّد من الجسم.» وجاء نيوتن فعرض هذا الرأي عرضًا أوضح ما يكون العرض؛ إذ هو يثبت وجود المكان المطلق، وهو يميِّز — تبعًا لذلك — الحركة المطلقة من الحركة النسبية؛ وفي الخلاف الذي نشب على رأي كوبرنيق، كان الجانبان المتعارضان كلاهما يسلِّمان بهذه الوجهة من النظر (مهما يكن إدراكهما بهذا التسليم ضئيلًا) ما داما قد ظنا أن هنالك اختلافًا بين قولنا: «إن أجرام السماء تدور من الشرق إلى الغرب»، وقولنا: «إن الأرض تدور من الغرب إلى الشرق.» فلو كانت الحركة كلها نسبيةً لكان هذان القولان عبارتين مختلفتين تُعبِّران عن حقيقةٍ واحدة بطريقتين، كقولنا: «جون هو والد جيمز» و«جيمز هو ابن جون.» لكن لو كانت الحركة كلها نسبية، وكان المكان غير ذي وجود قائم بذاته، لألفينا أنفسنا أمام حجج بارمنيدس ضد وجود فراغ، لا نجد لها ما يفنِّدها.

لقد قال ديكارت — الذي أورد من الحجج ما أشبه به على وجه الدقة حجج الفلاسفة اليونان الأولين — قال إن الامتداد هو جوهر المادة، وعلى ذلك تكون المادة موجودةً في كل مكان، والامتداد في رأيه صفة يوصف بها موضوع، لا موضوع تُحمل عليه صفة ما، والموضوع الذي يوصف بالامتداد هو المادة، وبغير وجود المادة الموصوفة بالامتداد لا يكون للامتداد نفسه وجود، وعنده أن المكان الفارغ عبارة لا معنى لها، كالسعادة بغير كائن حساس يقال عنه إنه سعيد؛ وكذلك آمن ليبنتز بالامتلاء (أي عدم وجود فراغ)، وبنى إيمانه ذاك على أسسٍ تختلف بعض الشيء عن أسس ديكارت، لكنه ذهب إلى أن المكان عبارة عن مجموعة علاقات لا أكثر؛ ولقد دار نقاشٌ مشهور حول هذا الموضوع بين ليبنتز ونيوتن، ومثل نيوتن في ذلك النقاش نائبٌ عنه هو كلارك، ولبث الخلاف قائمًا بغير حسم حتى جاء أينشتين، فكانت نظريته هي العامل القاطع في نصر ليبنتز.

وبينما ترى عالم الطبيعة الحديث لا يزال يعتقد أن المادة ذرية التركيب بوجهٍ من الوجوه، فإنه لا يؤمن بوجود مكان فارغ، فحيث لا تكون مادة، فإن شيئًا ما يكون موجودًا، وعلى الأخص موجات ضوئية، فلم يعد للمادة تلك المكانة الرفيعة التي ظفرت بها في عالم الفلسفة بفضل ما أورده بارمنيدس من حجج؛ إنها ليست عنصرًا ثابتًا لا يتغيَّر، بل هي لا تزيد على كونها طريقة لتجمع مجموعاتٍ من حوادث؛ وبعض الحوادث ينتمي إلى مجموعاتٍ يمكن اعتبارها أشياء مادية، وبعضها الآخر — كموجات الضوء مثلًا — لا تنتمي إلى مثل تلك المجموعات؛ إن الحوادث هي قوام العالم، ولكل حادثةٍ أجل قصير؛ وعلى هذا الوجه يكون علم الطبيعة الحديث في جانب هرقليطس ضد بارمنيدس، لكنه كان في جانب بارمنيدس حتى عهد أينشتين ونظرية النشاط الذري (الكوانتم).

أما النظرة الحديثة في موضوع المكان، فهي أن المكان لا هو عنصر كما ذهب نيوتن، وكما كان ينبغي أن يذهب لوقيبوس وديمقريطس، ولا هو صفة توصف بها أجسام ممتدة، كما ظن ديكارت، لكنه مجموعة علاقات كما ارتأى ليبنتز؛ ولسنا نستطيع قولًا قاطعًا فيما إذا كان هذا الرأي لا يتعارض مع وجود الفراغ، فيجوز إذا ما استعنا بالمنطق المجرد وحده ألَّا نجد تعارضًا بينه وبين الفراغ، فكل ما نستطيع قوله هو إن أي شيئين ينفصل أحدهما عن الآخر بمسافةٍ معينة تطول أو تقصر، ولا يلزم عن تلك المسافة وجود أشياء متوسطة بين ذينك الشيئين، لكن هذه النظرة ليست بذات نفع إطلاقًا لعلم الطبيعة الحديث؛ فمنذ ظهر أينشتين أصبحت المسافة بين حوادث لا بين أشياء، وهي تتضمَّن الزمان كما تتضمَّن المكان، إن النظرة الأولى هي في جوهرها فكرة تنبني على أساس السببية، وليس في علم الطبيعة الحديث فعل من بعد، وعلى كل حالٍ فهذا كله قائمٌ على أسسٍ تجريبية أكثر ممَّا يقوم على أسسٍ منطقية، فضلًا عن أن النظرة الحديثة لا يمكن وضعها إلا في صورة المعادلات التفاضلية، وهي على هذه الصورة لا يفهمها فلاسفة العصر القديم.

وقد يظهر تبعًا لذلك، أن التطور المنطقي لآراء الذَّرِّيين ينتهي إلى نظرية نيوتن في المكان المطلق، وهذا المكان المطلق يحل لنا مشكلة وصف اللاموجود بأنه حقيقةٌ واقعة، وليس في الإمكان أن تجد ما تعارض به هذه النظرية من الوجهة المنطقية، وإنما الاعتراض الرئيسي هو أن المكان المطلق يستحيل إطلاقًا أن نعرف عنه شيئًا، وعلى ذلك فلا يمكن اتخاذه فرضًا ضروريًّا في علمٍ يقوم على التجربة الحسية، واعتراضٌ آخر أقرب إلى النزعة العملية ممَّا ذكرنا، وهو أن علم الطبيعة يمكنه أن يستغني عن ذلك المكان المطلق؛ ومع ذلك فالعالم الذي تصوَّره الذَّرِّيون ما يزال ممكنًا من الوجهة المنطقية، وهو أقرب شبهًا بالعالم الواقعي من أي عالمٍ آخر ممَّا تصوَّر الفلاسفة القدماء.

لقد عمد ديمقريطس إلى تحليل نظرياته تحليلًا على كثيرٍ من التفصيل، وإن بعض تحليله هذا ليسترعي منا الاهتمام، فقال إن كل ذرةٍ لا يمكن النفاذ خلالها ولا تقسيمها لأنها تحتوي على فراغ؛ فأنت إذا استخدمت سكينًا لقطع تفاحة، كان على السكين أن تلتمس لنفسها أماكن خاليةً حتى تستطيع أن تنفذ خلال التفاحة، ولو كانت التفاحة لا تحتوي على خلاء، لكانت صلبةً إلى حد الصلابة اللانهائي، ولكانت تبعًا لذلك غير قابلة للانقسام انقسامًا ماديًّا؛ فكل ذرةٍ لا يطرأ عليها تغيُّر من الداخل، وهي في حقيقة أمرها بمثابة «الواحد عند بارمنيدس»، وكل ما تفعله الذرات هو أن تتحرَّك ويخيط بعضها بعضًا، ثم يشتبك بعضها مع بعض إذا تصادف أن كانت في أوضاعٍ تسمح لها بالتشابك؛ إنها مختلفة الأشكال اختلافًا شديدًا؛ فالنار قوامها ذرات كرية صغيرة، وكذلك النفس؛ وتصادم الذرات يُحدث دوامات، والدوامات تنشئ أجسامًا، ثم تنشئ في النهاية عوالم مختلفة؛١٠ فهناك عوالم كثيرة، بعضها في طريقه إلى النماء وبعضها في طريقه إلى الفناء، وبعضها قد لا يكون فيه شمس ولا قمر، وبعضها قد يكون فيه شموس وأقمار عدة، ولكل عالمٍ مبدأ ونهاية، وقد يدمَّر عالم إذا اصطدم به عالم أكبر، ويمكن تلخيص هذه الفلسفة الكونية بهذه الأبيات التي نظمها شيلي:
ما زالت عوالم تكر على عوالم
منذ بداية الخلق حتى الفناء،
كأنها الفقاقيع على صفحة النهر،
تلمع وتنفجر وتختفي مع التيار.

وتطوَّرت الحياة من الطينة اللزجة الأولى؛ وهنالك بعض النار في كل أجزاء الكائن الحي، لا سيما في الدماغ أو في الصدر (على خلاف في ذلك بين الثقات) والفكر ضربٌ من الحركة، وعلى ذلك فهو قادر على إحداث الحركة فيما عداه، والإدراك والتفكير عمليات فيزيقية؛ والإدراك نوعان؛ إدراكٌ بالحواس وإدراكٌ بالعقل، والإدراكات التي من النوع الثاني لا تعتمد إلا على الأشياء المدرَكة، بينما إدراكات النوع الأول تعتمد إلى جانب ذلك على الحواس؛ ولذا فهي معرَّضة للخداع. وذهب ديمقريطس إلى ما ذهب إليه لوك من أن صفاتٍ كالحرارة والطعم واللون ليست حقيقةً في الشيء المدرَك نفسه، بل هي راجعة إلى أعضاء الحس فينا، بينما صفات كالثقل والكثافة والصلابة تكون في الشيء نفسه حقًّا.

كان ديمقريطس ماديًّا صميمًا؛ فعنده — كما رأينا — تتركَّب النفس من ذرات، والتفكير عملية فيزيقية، وليس للكون في رأيه غاية ينشدها؛ إذ ليس هناك إلا ذرات تسير بمقتضى قوانين آلية، ولم يؤمن بالديانة الشعبية، وفنَّد العقل الذي قال به أناكسجوراس، وفي الأخلاق اعتبر البهجة غاية الحياة، وعدَّ الاعتدال والثقافة خير وسيلتين تؤديان إلى تلك الغاية، وكره كل ما يتصف بالعنف وحِدة العاطفة، ولم يشجِّع على الاتصال الجنسي؛ لأنه — كما قال — ينطوي على طغيان اللذة على الإدراك الشعوري طغيانًا ساحقًا، وكان للصداقة عنده قيمة كبرى، لكنه أساء الظن بالنساء ولم يرغب في أن يكون له أبناء؛ لأن تربيتهم تعطِّل الفلسفة، وهو في كل ذلك شديد الشبه ﺑ «جرمي بنثام Jeremy Bentham»، وهو شبيه به أيضًا في حبه لما كان اليونان يسمونه بالديمقراطية.١١

إن رأيي أنا على الأقل، هو أن ديمقريطس آخر الفلاسفة اليونان الذين تخلَّصوا من غلطةٍ معينة أفسدت كل ما تلاه من فكرٍ عند القدماء ورجال العصور الوسطى؛ فكل الفلاسفة الذين تناولناهم بالبحث حتى الآن، قد شغلوا أنفسهم بمجهودٍ لا يشوبه الهوى الشخصي، محاولين به أن يفهموا العالم، وقد حسبوا فهم العالم أيسر ممَّا هو على حقيقته، ولكنهم بغير هذا التفاؤل لم يكن من الممكن لهم أن يشجعوا فيبدءوا المسير؛ وكان موقفهم في أغلبه علميًّا سليمًا، إلا حين اقتصروا على بلورة الأهواء الشائعة في عصرهم، لكن موقفهم لم يكن علميًّا فقط، بل كان كذلك قوي الخيال شديد المِراس، مليئًا بلذة المغامرة؛ وكان كل شيءٍ يستثير اهتمامهم؛ الشهب والكسوف والخسوف، والأسماك والأعاصير والدين والأخلاق؛ واجتمع فيهم نفاذ الذكاء وحماسة الأطفال.

ومنذ ذلك العهد فصاعدًا، بدأت أول الأمر بذور الفساد تُبذَر، على الرغم ممَّا أدَّوه من مجهوداتٍ فلم يسبق لها نظير، ثم أعقب ذلك انحلال تدريجي؛ فوجه الخطأ — حتى عند خيرة الفلاسفة بعد ديمقريطس — هو الاهتمام الزائد عمَّا ينبغي بالإنسان، بالقياس إلى اهتمامهم بالكون؛ فأولًا طغت موجة الشك مع السوفسطائيين، وأدَّى ذلك الشك إلى دراسة الطريقة التي بها نعرف ما نعرفه، أكثر من بذل مجهود لتحصيل معرفة جديدة؛ ثم تبع ذلك اهتمام بالأخلاق صحب سقراط، وجاء أفلاطون فنبذ عالم الحس إيثارًا منه لعالم الفكر الخالص الذي خلقه لنفسه بنفسه؛ ومع أرسطو جاءت العقيدة بأن الغاية هي الفكرة الرئيسية في العلوم، فعلى الرغم من عبقرية أفلاطون وأرسطو، كان لتفكيرهما شرور انتهت إلى ما لا حد له من الأذى؛ وبعد عهدهما فتر النشاط وعادت الخرافات الشعبية إلى سطوتها القديمة شيئًا فشيئًا، ولمَّا انتصرت الأورثوذكسية الكاثوليكية نشأت نظرة فيها بعض الجدة؛ غير أن الفلسفة لم تستعد ما كان لها من القوة والاستقلال اللذين تميَّز بهما أسلاف سقراط في عصر النهضة.

١  يرى Cyril Bailey في كتابه «الذَّريون اليونان وأبيقور» أنه ازدهر حوالي ٤٣٠ق.م. أو قبل ذلك بقليل.
٢  راجع «من طاليس إلى أفلاطون» ص١٩٣.
٣  راجع «الرياضة عند اليونان» ج١، ص١٧٦.
٤  «الكون والفساد».
٥  أخذ «بيرنت» بهذا التفسير، كما أخذ به — على الأقل فيما يخص لوقيبوس — بيلي Bailey (نفس المرجع المذكور سابقًا، ص٨٣).
٦  انظر: Bailey (نفس المرجع ص١٢١ في موضوع جبرية ديمقريطس).
٧  ارجع في موضوع الأسس المنطقية والرياضية لنظريات الذَّرِّيين إلى Gaston Milhaud في كتابه «الفلاسفة الرياضيون عند اليونان» فصل ٤.
٨  «الكون والفساد» ٣٣٥.
٩  يرى Bailey (نفس المرجع المذكور ص٧٥) نقيض هذا الرأي؛ إذ يرى أن لوقيبوس كان عنده ما يُجيب به على حجة بارمنيدس، وأن جوابه هذا كان «غايةً في الدقة» وجوهر جوابه هو اعترافه بوجود شيء لا جسدي (وهو الفراغ)، وكذلك يقول Burnet: «إنه من الحقائق العجيبة أن الذَّرِّيين الذين يُعتبرون عادةً أكبر دعاة النزعة المادية في العصور القديمة، كانوا في حقيقة الأمر أول من قال في وضوحٍ إن الشيء يمكن أن يكون حقيقًا دون أن يكون جسمًا.»
١٠  انظر Burnet «نفس المرجع المذكور ص١٢٨ وما بعدها» لترى الطريقة التي كان المفروض عندهم أن هذا الأمر يحدث بها.
١١  يقول: «الفقراء في الديمقراطية أفضل ممَّا يسمونه ازدهارًا في ظل الطغاة، بمقدار ما تفضل الحرية العبودية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤