معقول

الحر الشديد، الشديد، يذيب الصخر ويطمس مرآة الحياة، أبخرة متصاعدة من الأرض وكأنما هي موضوعة على مراجل من نار جهنم، والناس يسيرون في الطريق وأعباؤهم على وجوههم تقطيب وألم وضيق ويأس، الأرض تذوب تحت أقدامهم، وينتزعونها من الحياة انتزاعًا ويقتلعونها من الزمن اقتلاعًا بالجهد الشديد، والحر الشديد، شديد.

مسكين هذا السائر، إنه موظف في الوزارة، لا أعرفه، ولكنه دائمًا يسير معي في الطريق، ودائمًا يحمل هذا الكيس في يده اليمنى، وقرطاسًا صغيرًا من البلح أو الجوافة في اليد اليسرى. مسكين، إنه لا يحتمل هذا الذي يحدث له، لقد التصق حذاؤه المتهرئ بالأرض فانخلع ووجد جوربه يغوص في الخطوة التالية في أتون الزفت. إننا الآن لسنا في موسم البلح أو الجوافة فما هذا الذي بيده؟ عجيب أمر هذا المسكين، إنه لم يطق أن يسير في الطريق بدون أن يشغل يده اليسرى. إنها جريدة الصباح يمسك بها كما يمسك بالقرطاس، ولا يحاول حتى أن يجعل منها وقاءً لرأسه من هذا الحر الشديد، الشديد، إنه يمسك بالجريدة بصورة رأسية ويحاول دائمًا أن يجعلها مستقيمة كأنما يخشى على الكلام الذي فيها أن يندلق على الأرض. ماذا يفعل إذن في هذه المشكلة التي انشقت عنها الأرض الذائبة، ها هو ذا يتلفت حوله يبحث عمَّن يعينه. ليتلفت ما يشاء، لديَّ ما يكفيني، أين أضع هذه البطيخة والعيش؟ لو أن الأرض مسَّتها وتركت عليها جزءًا من زفتها لجعلت زوجتي حياتي كلها زفتًا، ما الذي جعلها مسعورة كما هي الآن؟ دائمًا أسأل هذا السؤال وكأني لا أعرف الجواب، ولكني أحب دائمًا أن أذكر الأيام الأولى في زواجنا، بعيدة هذه الأيام، بعيدة، مضت عليها سنوات وسنوات وسنوات، لماذا لم أنسها؟ كيف لم تستطع أعمالها في هذه السنوات أن تنسيني ما كنت عليه في أيامنا الأولى؟ هل كنت سعيدًا في هذه الأيام حقًّا، إذن فما لي أذكرها؟

الرجل يتمايل على قدم واحدة، لقد يئس أن يجد من يعينه، لقد لجأ إلى نفسه، وهل يستطيع إلا أن يلجأ إلى نفسه، استدار على قدم واحدة والجريدة في يده ما تزال وإن كانت تتخلج توشك أن تندلق، يحاول أن يدير حذاءه فيتمكن من إدخال قدمه فيه، استدار الحذاء ولكنه ابتعد، الرجل يتلفت مرة أخرى، لا سبيل لك يا أخي، لا سبيل، كلٌّ له شأن يغنيه، ليس لك إلا أنت. قفز الرجل كالأطفال الذين يلعبون «الأولى» وأخيرًا استطاع أن يضع قدمه في الحذاء ويواجه طريقه ويده اليمنى تحمل كيسًا ويده اليسرى تشهر الجريدة يحاذر على الكلام فيها أن يندلق. كلنا نسير، وكلنا نخاف الطريق، وكلنا يحاذر على ما في يده وإن كانت اليد لا تحمل شيئًا، وهل أستطيع ألا أحمل شيئًا، لو أنني دخلت إلى زوجتي بلا شيء في يدي جعلت يومي أسود من هذا الزفت الذي يجاذبني حذائي، والغريب أنني لو دخلت إليها ومعي شيء قالت في لهجتها المعهودة الملتوية: «يما جاب الغراب لامه!» ولكنها على كل حال تقول أكثر من هذا. كيف أصبحت نبوية على هذا القدر من سلاطة اللسان والجبروت والوقاحة؟ كل يوم أسأل نفسي هذا السؤال وأجيب عليه ثم أعود إلى السؤال والإجابة، وما لي لا أفعل، وماذا يمكن أن أفعل والطريق ما زال أمامي طويلًا والحر شديد؟ شديد. إن الست زنوبة منذ جاورتنا وأصبحت صديقة لنبوية انقلبت وحشًا ضاريًا، كانت زنوبة تعطيها دروسًا منتظمة: كيف تسيطر على زوجها، كيف تمحوه من الوجود، كيف تكون هي صاحبة الكلمة دائمًا، والحق أن نبوية كانت تلميذة موفَّقة كل التوفيق، وأنا ساعدتها؛ هي تظن أنني مغلوب على أمري وأنني مسكين لا أملك لها دفعًا، ولو علمت الحق لروِّعت؛ لقد قبلت منها ما تفعل حتى أرتاح، وماذا يجري لو أنها قالت كلمتين تريد أن تظهر بهما أنها صاحبة نفوذ؟

الحق أنها تجرح كرامتي، والحق أنني أشعر بالمهانة، لكن يبدو أنني تعودت، لا أظن أن أحدًا يستطيع أن يتعود الإهانة أبدًا، الحق أنني أصبحت لا أطيقها، لكن أتمنى أن أموت، يا ليتها تموت، إنها إن لم تمت سأموت أنا، ماذا يحدث لو أنني مت، يا ليت؛ لكَم أتمنى أن أموت لأغيظها، إنها حينئذٍ لن تجد أحدًا لتمارس عليه سلطاتها الواسعة، لو أن الأرواح تستطيع أن ترى ما في الحياة حقًّا لظللت مقيمًا معها في البيت لأرى ماذا ستفعل حين تبحث عن أحد تشتمه فلا تجد، تصبح مسكينة ذليلة لا قيمة لها ولا وجود؛ فإن قيمتها الوحيدة ووجودها يتمثلان في وجودي أنا، وفي أنها تستطيع أن تمارس عليَّ وقاحتها، وفي أن تدمي آدميتي وتمتهن إنسانيتي وتهدر وجودي الذي يحقق وجودها، لا بد أن أموت حتى تجد نفسها ضائعة لا وجود لها ولا كيان، وهي تعلم أنني لو مت لانتهى صرح عظمتها الشامخ، وهدأ فيها هذا العملاق الذي تحس به كلما أهانتني وأذلتني مسكينًا ذليلًا بلا حقوق ولا رأي ولا حتى كلمة. هي تعلم ذلك، هي تعلم أنها محتاجة إليَّ أكثر من حاجتها إلى الهواء الذي تتنفسه، لقد قالت لي ذلك، لا لم يكن ذلك في وقت من أوقات الصفاء، فلا صفاء بيننا؛ إنما هي حياة نقطعها، هي في المكان الأعلى وأنا في المكان الأدنى؛ فلا صفاء. إن الصفاء غاية الصفاء عندنا أن تكون الشتيمة أقل إقذاعًا من غيرها، وهذا كل ما في الأمر، ثم هي تحب الخُطب، ولو تهيَّأ لها في البيت منبر لظلت واقفة عليه عمرها كله لتقول لي إنني لولاها لكنت مت منذ زمن طويل؛ فإنها تسلَّمتني من أمي جيفة فجعلتني إنسانًا، وأنا اسم بلا كيان فجعلت مني اسمًا وكيانًا.

وغيَّرت اسمي، نعم اسمي الحقيقي لا تنطقه زوجتي فهو اسم قديم بالٍ لا يعجبها، وهي لا تقول في خطبها أبدًا إنها محتاجة إليَّ أكثر من أي شيء في الوجود، ولا تقول إن فيَّ ميزة أبدًا أي ميزة، وطبعًا أمي تتمتع بأكبر نصيب من الشتيمة؛ فهي وحدها التي جعلت مني هذا الاسم الذي لا كيان له. وطبعًا زوجتي لا تفكر مطلقًا أنها قضت على الاسم والكيان جميعًا إنما هي تفكر أن تقتطب وفي أن تغمرني في المهانة كلما تكلمت، أقصد خطبت، وأعود فأقول إنها تعلم أنني لو مت لقضي عليها نهائيًّا، وقد قالت لي ذلك يوم مات زوج أستاذتها زنوبة، كان يومًا عجيبًا، الست زنوبة تزاول حرفتها وهوايتها وحياتها اليومية العادية من إهانة زوجها في صوت مرتفع يكفي لأن يجعل إهانة عبد النبي أفندي علنية، والزوج طبعًا طرف موجود بلا وجود؛ فالصوت الذي تسمعه العمارة أو المنطقة واحد هو صوت زنوبة، والزوج غير موجود وكانت زنوبة في ذلك اليوم في أوج قمتها؛ فالكلام منتقى من النوع الذي يجمع إلى الوقاحة البالغة فنِّية العرض ولماحية الاختيار، وقد كنت أسمع صوتها وأتخيل وجهها الأبيض؛ لا بد أن بعض الحمرة قد صعدت إليه؛ فقد كان واضحًا من نغمات الكلام أن الست تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الحنجرة، وكنت أتخيل وقفتها في قوامها الفارع الطول المليء قد ثنت ذراعيها ووضعت يديها على جانبَي وسطها، وكنت أتخيل شعرها الأسود يهتز مع توقيع الألفاظ التي تختارها في دربة ومهارة وفن. كنت أتخيل هذا جميعه لا عن ذكاء؛ فقد رأيت عرضًا مبسطًا له حين كانت تتفاهم — على طريقتها — مع بائع اللبن، وهكذا كان تخيلي قائمًا على المشاهدة القديمة. كنت أتخيل وأسمع وعيناي على زوجتي، كانت في حالة نشوة لا مثيل لها. لقد رأيت السكارى إذا ما انتشوا من الخمر، ورأيت النشوان الذي يسمع ما يهوى من الغناء، ورأيت المنتشين من ذكر الله وهم يذكرون، ورأيت نشوة نبوية وهي تسمع إلى زنوبة. هيهات أن يصل أحد من شاربي الخمر أو سامعي الغناء أو ذاكري الله إلى ما وصلت إليه نبوية من وصول وهي صامتة في خشوع، على شفتيها ابتسامة عريضة. أسمع وأنا منها على مبعدةٍ صوتَ قلبها يدق في فرح وتهلل، عضلات وجهها تختلج في فرح طاغٍ، والست زنوبة تواصل حديثها في فنية وبراعة. لا أدري لماذا توهمت في هذه اللحظة أن زوجتي ستموت من الفرحة، تموت فعلًا، يتوقف قلبها عن الوجيب من كثرة ما دق، توهمت هذا وأنا أسمع الست زنوبة وهي ما تزال تقول وتقول في صوتها المرتفع ونغمات حنجرتها المدرَّبة، وفجأة وبلا أي مقدمات انشق صوت الست زنوبة عن صراخ مروع، في الوهلة الأولى حسبت أن الست زنوبة تجدد في أسلوبها وأنها تضيف هذا اللون الجديد من الإهانة إلى عرضها الفني، ولكن الصراخ تكرر وتكرر حتى لم تعد إلى الحديث، واستمرت في الصراخ، وفي خبرة فنية هائلة أدركت زوجتي أن خللًا ما قد وقع، فهي تهبُّ واقفة في سمة المُقدِم على واجب لا بد من أدائه، وانشقت حنجرتها هي الأخرى عن صراخ هائل فلم أتمالك نفسي من السؤال: ما لك؟

وفي احتقار شديد قالت: اخرس أنت، صاحبتي وأجاملها.

– ألا تعرفين أولًا لماذا تصرخ؟

– ودون أن أعرف.

وتركتها تصرخ وذهبت إلى شقة عبد النبي أفندي. رحمة الله عليه، لم يستطع أن يظل صامتًا فكان احتجاجه هو الموت.

وحين علَّقت زوجتي بعد ذلك على الحادث قالت: إياك أن تموت. يا حبيبتي يا زنوبة من يوم موت زوجها لم نسمع لها حسًّا.

وهكذا أنا أعرف أنها تريدني ليسمع الجميع حسها، ولتعلن بوجودي وجودها. الحر شديد، شديد.

الحر شديد، شديد، ولكنني وصلت البيت أخيرًا، ما هذا الجمع أمام المنزل؟ خيرًا، لقد ماتت نبوية، زوجتي، نبوية، ماتت نبوية، ما هذه البطيخة؟ لقد كنت خائفًا أن يمسها شيء من الزفت، أستطيع الآن أن أُلقي بها جميعًا إلى الزفت ولن يسألني أحد لماذا فعلت هذا، وهذا العيش أستطيع أن أهبه لهؤلاء الواقفين، على روح المرحومة، أمرحومة هي؟ إذا رحمها الله فسوف أطلب منه سبحانه وتعالى أن يرسلني إلى جهنم.

حلوة هي الحياة الحرة الطليقة، سعيد أنا، أعود حين يحلو لي أن أعود، وأذهب إلى المقهى حين أشاء، وأتغدى حيث أشاء، وأتعشى أينما أشاء، حلوة هي هذه الحياة الحرة، قد يعتريني بعض الملل أو قد أحب أن أتغدى في البيت فلا أستطيع، ولكن حلوة الحرية. لقد مرت ستة شهور وأنا أتمتع بحريتي كاملة، لكَم أنا سعيد بحريتي هذه! اليوم سأخرج في موعدي في الصباح لأذهب إلى المكتب، وحين أعود لن أكون حاملًا شيئًا، وسأهز ذراعي ما حلا لي الهز، لا أدري لماذا أجد ذراعي مثنيًّا كلما انتبهت إليه وأنا سائر؟ لماذا أحس دائمًا أنني أحمل شيئًا مع أنني لا أحمل شيئًا؟ اليوم سأتحرى أن أهز ذراعي لأنني لا أحمل شيئًا.

– أهلًا ست زنوبة، صباح الخير.

– أهلًا وسهلًا، صباح الخير، هل جاء ميعاد المكتب؟

– والله أمامي وقت.

– اتفضل اشرب قهوة.

– لقد كنت أريد أن أجيء إليك من زمان.

– أهلًا وسهلًا، أحضر لك القهوة.

– اقعدي فقد تغيرين رأيك وتحضرين شيئًا آخر.

– أمرك.

– أنا الآن كما تدرين عازب، وأنتِ أيضًا، ما رأيك لو تزوجنا؟

– والله معقول.

– على بركة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤