السَّعيدُ حَسَن

(١) حَدِيثُ الْجَدَّةِ

جَلَسَتْ راوِيَةُ هذِهِ الْقِصَّةِ بَيْنَ أَوْلَادِها وَحَفَدَتِها، أَعْني: أَوْلادَ أَوْلادِها.

كانَتِ الْجَدَّةُ — حِينَئِذٍ — فِي الثَّمانِينَ مِنْ عُمُرِها. وَقَدْ تَعَوَّدَ الْحَفَدَةُ — مِنْ بَنِينَ وَبَناتٍ — أَنْ يَجْتَمِعُوا حَوْلَها قُبَيْلَ النَّوْمِ؛ لِيَسْتَمِعُوا مِنْها طَرَائِفَ مِنَ الْقَصَصِ، وَبَدائِعَ مِنَ الْأَخْبارِ وَالْأَسْمارِ.

وَكانَتِ الَّليْلةُ مِنْ لَيالِي الشِّتاءِ الْبارِدَةِ.

جَلَسَ الْحَفَدَةُ مُلْتَفِّينَ حَوْلَ جَدَّتِهِمُ الْعَجُوزِ، يَسْأَلُونَها — عَلَى عادَتِهِمْ — أَنْ تُحَدِّثَهُمْ بِعَجِيبَةٍ مِنْ أَقاصِيصِها الْمُبْدَعَةِ الَّتِي أَلِفُوا سَماعَها مِنْها.

فَأَسْرَعَتْ إِلَى تَلْبِيَةِ رَجائِهِمْ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ، تَرْوِي لَهُمُ الْقِصَّةَ التَّالِيَةَ؛ فَأَرْهَفُوا لَها آذانَهُمْ مُنْصِتِينَ.

•••

قالَتِ الْجَدَّةُ الْعَجُوزُ: «ما أَعْجَبَ سَيْرَ الزَّمَنِ، وَما أَسْرَعَ كَرَّ الْأَيَّامِ، وَمَرَّ الْأَعْوامِ!

لَقَدْ سَمِعْتُ هذِهِ الْقِصَّةَ الْمُعْجِبَةَ مُنْذُ سَبْعِينَ عامًا، وَلا أَزالُ — الَّليْلَةَ — أَذْكُرُها؛ كَأَنَّما سَمِعْتُها مِنْ جَدَّتِيَ الْبَارِحَةَ (أَقْرَبَ لَيْلَةٍ مَضَتْ).

وَما زالَتْ حَوادِثُها تَتَمَثَّلُ فِي خاطِرِي، وَصَوْتُ جَدَّتَيَ الْعَذْبُ الْحَنُونُ يَرِنُّ فِي أُذُنِي!

كُنْتُ فِي الْعَاشِرَةِ مِنْ عُمُرِي حِينَئِذٍ، أَيْ: فِي مِثْلِ سِنِّكَ، يا «نَجِيبُ».

وَكُنْتُ أَصْغَرَ مِنْ إِخْوَتِي، كَما أَنْتَ — يا «نَجِيبُ» — أَصْغَرُ مِنْ إِخْوَتِكَ.

وكانتِ الْأَرْضُ مُغَطَّاةً بِما تَساقَطَ مِنَ الثَّلْجِ فِي الصَّباحِ.

فَلَمَّا جاءَ الَّليْلُ، شَهِدْنا لَيْلَةً كانَتْ — عَلَى شِدَّةِ بَرْدِها — صافِيَةَ السَّماءِ، لامِعَةَ النُّجُومِ.

وَأَخَذَتِ الْأُسْرَةُ تَحْتَفِي بِالْعِيدِ كَما نَحْتَفِي بِهِ الْآنَ.

(٢) أَسْعُد النَّاسِ

وَكانَتْ جَدَّتِي قَدْ وَعَدَتْنا أَنْ تَقُصَّ عَلَيْنا — مَتَى حَلَّتْ لَيْلَةُ الْعِيدِ — قِصَّةَ «السَّعِيدِ حَسَنٍ».

فَلَمَّا ذَكَّرْناها وَعْدَها قالَتْ: «لَعَلَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ «السَّعِيدَ حَسَنًا» كانَ سُلْطانًا مِنَ السَّلاطِينِ، أَوْ أَمِيرًا مِنَ الْأُمَراءِ.

لَكُمُ الْعُذْرُ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَحْسَبُونَ أَنَّ السَّعادَةَ لَا تُوجَدُ إِلَّا حَيْثُ الْغِنَى وَالْجَاهُ.

سَتَتَبَيَّنُونَ — بَعْدَ سَماعِ قِصَّتِهِ — أَنَّ مَنْ يَظُنُّونَ مِثْلَ هذَا الظَّنِّ بَعِيدُونَ عَنِ الصَّوابِ، بُعْدَ الْأَرْضِ عَنِ السَّماءِ:

لَمْ يَكُنِ «السَّعِيدُ حَسَنٌ» سُلْطانًا وَلا أَمِيرًا، وَلا وَزِيرًا. كَلَّا، لَمْ يَكُنْ واحِدًا مِنْ هؤُلاءِ. بَلْ لَعَلَّهُ كانَ فِي عَصْرِهِ مِنْ أَفْقَرِ الْفُقَراءِ. وَلكِنَّهُ عاشَ — مَعَ هذا — مِنْ أَسْعَدِ النَّاسِ.

لَقَدْ صَدَقَ «السَّعِيدُ حَسَنٌ» حِينَ كانَ يَقُولُ لِنَفْسِهِ دائِمًا: «إِذا عَجَزَ الْإِنْسانُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ، فَلَنْ يَعْجِزَ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَشْرَفَ النَّاسِ. لَنْ يُكَلِّفَهُ ذلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَتَحَلَّى بِالشَّجاعَةِ والصِّدْقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ.»

(٣) عِيدُ الْفَقِيرِ

لَعَلَّكُمْ تَدْهَشُونَ إِذا قُلْتُ لَكُمْ: إِنَّ «السَّعِيدَ حَسَنًا» كانَ فَلَّاحًا فَقِيرًا، يَعِيشُ فِي كُوخٍ صَغِيرٍ، تُحِيطُ بِهِ بَعْضُ الْحَشائِشِ، عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ غابَةٍ كَثِيفَةٍ، مَمْلُوءَةٍ بِالْأَشْجارِ.

وَقَدْ أَقْعَدَهُ الْمَرَضُ عَنِ الْعَمَلِ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ الْعِيدُ عَلَى الْأُسْرَةِ وَلَيْسَ فِى الْكُوخِ أَكْثَرُ مِنَ الْخُبْزِ الْيابِسِ: الْخُبْزِ الْيابِسِ وَحْدَهُ.

أَمَّا الْحَلْوَى وَالْفَطَائِرُ وَاللَّحْمُ وَاللَّبَنُ وَالْقِشْدَةُ وَما إِلَيْها مِنْ أَلْوانِ الطَّعامِ، فَقَدْ بَعُدَ عَهْدُ الْأُسْرَةِ بِهِ، فَنَسِيَتْهُ.

عَلَى حِينِ كانَ الْأَغْنِياءُ يَحْتَفِلُونَ بِالْعِيدِ، وَمَوَائِدُهُمْ تَزْخَرُ بِما لَذَّ وَطَابَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ، والْأَشْرِبَةِ السَّائِغَةِ الهَنِيَّةِ.

عَلَى أَنَّ الْبُؤْسَ والْفَاقَةَ لَمْ يَنالا مِنْ نُفُوسِ هذِهِ الْأُسْرَةِ الطَّيِّبَةِ الْخَيِّرَةِ مَنَالًا.

لَبِثَ رَبُّ الْأُسْرَةِ وَزَوْجُهُ الْمَرِيضانِ صابِرَيْنِ، لَمْ يَفْقِدَا الثِّقَةَ بِاللهِ والْإيمانَ بِهِ، وَلَمْ يَيْأَسَا مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَمْ تَعْرِفِ الشَّكْوَى إِلَى قَلْبَيْهِما سَبِيلًا.

كانا يَعُولانِ أَطْفالًا أَرْبَعَةً، بَرَّحَ بِهِمُ الْجُوعُ، واشْتَدَّ بِهِمُ الضَّعْفُ والْهُزَالُ؛ فَأَصْبَحُوا لا يَكادُونَ يَسْتَطِيعُونَ الْحَرَكَةَ. فَجَلَسُوا مُتلاصِقِينَ: بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، عَلَى صُنْدُوقٍ قَدِيمٍ مِنَ الْخَشَبِ الْبَالِي، إِلَى جِوارِ قِطْعَةٍ خَشِنَةٍ مِنَ الْحَصِيرِ، اتَّخَذُوها مَقْعَدًا لِجُلُوسِهِمْ نَهارًا، وفِرَاشًا لِنَوْمِهِمْ لَيْلًا.

لَمْ تَتَمالَكِ امْرَأَةُ الْحَطَّابِ — فِي لَيْلَةِ الْعِيدِ — أَنْ تَذْرِفَ مِنْ عَيْنَيْها دَمْعَتَيْنِ، بَعْدَ أَنْ أَطالَتْ تَفَكُّرَها فِيما وَصَلَتْ إِلَيْهِ حالُها وَحالُ أَوْلادِها مِنَ الْعَوَزِ والْفَاقَةِ.

لكِنَّها سُرْعانَ ما نَدِمَتْ عَلَى اسْتِسْلامِها لِلضَّعْفِ، وَخَشِيَتْ أَنْ يَفْطُنَ إِلَيْها أَطْفالُها الصِّغارُ، فَتَكُونَ لَهُمْ مَثَلًا سَيِّئًا.

كَفْكَفَتْ دَمْعَتَيْها فِى الْحَالِ، والْتَفَتَتْ قائِلَةً: «هَلُمُّوا أَيُّها الْأَطْفالُ الصَّابِرُونَ، هَلُمُّوا نَبْتَهِلْ إِلَى اللهِ دَاعِينَ أَنْ يَكشِفَ عَنَّا هذَا الْبَلاءَ، وَيُفَرِّجَ هذِهِ الضَّائِقَةَ؛ فَإِنَّهُ لا يَرُدُّ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذا دَعَاهُ.»

وَجاءَ الْمَساءُ مُظْلِمًا بارِدًا، وَبَدَأَتِ السَّهْرَةُ الْعابِسَةُ، لِهذِهِ الْأُسْرَةِ الْفَقِيرَةِ التَّاعِسَةِ.

كانَ خَيْرًا لَهُمْ لَوْ أَنَّهُمْ رَقَدُوا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُمُ الَّليْلُ؛ فَإِنَّهُمْ — إِذْ يَنامُونَ — يَنْسَوْنَ آلامَهُمْ.

لكِنَّ هؤُلاءِ الْفُقَراءَ الْأَخْيارَ أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْعِيدَ بِالسَّهَرِ، وَيَقْطَعُوا لَيْلَهُ بِالْحَدِيثِ وَالسَّمَرِ.

وَلَمَّا رَجَعَ أَبُوهُمْ إِلَى بَيْتِهِ قالَ لَهُمْ: «أَعادَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْعِيدَ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكاتِ.»

فَرَدُّوا عَلَيْهِ تَحِيَّتهُ شاكِرِينَ، مُبْتَهِجِينَ بِعَوْدَتِهِ فَرحينَ.

(٤) جِذْعُ الشَّجَرَةِ

ثُمَّ وَضَعَ الْأَبُ خَلْفَ بابِ الْكُوخِ مِلْطَسَهُ وَفَأْسَهُ، وَقالَ: «إِذَا كانَتْ تَنْقُصُكُمْ مُتَعُ الْعِيدِ وَحَلْوَاؤُهُ، فَلا يَزالُ أَمامَكُمْ مَجالٌ لِلْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ بِحَياةِ وَالِدَيْكُمْ، وَبِما مَنَّ اللهُ بهِ عَلَيْكُمْ مِنْ صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَهُدُوءِ بالٍ.

لَيْسَ يَنْقُصُنا فِي هذِهِ الَّليْلَةِ الْبارِدَة إِلَّا الدِّفْءُ وَحْدَهُ. وَقدْ مَنَّ الله عَلَيْنا بِهِ، وَهَيَّأَ لَنا أَسْبَابَهُ.

فَلْنُحْضِرْ جِذْعَ «بَلُّوطِ الْمَلِكِ»: هذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُجاوِرَةِ لِبَيْتِنا.»

فَقالَ أَوْلادُهُ: «أَتَعْنِي شَجَرَةَ «الْكَسْتَنا» الْجَافَّةَ الَّتِي نُسَمِّيها: شَاهْ بَلُّوط؟»

فَقالَ لَهُمْ باسِمًا:

«لَسْتُ أَعْنِي غَيْرَها. وَقَدْ بَقِيَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سَنَواتٍ دُونَ أَنْ نُفَكِّرَ فِي الاِنْتِفاعِ بِها.

ثُمَّ ذَكَرْتُها الْيَوْمَ؛ فَقَطَعْتُ جِذْعَها لِأُهَيِّئَ لَكُمُ الدِّفْءَ.

وَلا أَكْتُمُ أَنَّنِي عَجِبْتُ مِنْ صَلابَةِ هذا الْجِذْعِ وَثِقَلِهِ، وَأَنا أُعْمِلُ فِيهِ فَأْسِي وَمِلْطَسِي.

فَلْنَحْمَدِ اللهَ عَلَى ما يَسَّرَ لَنا مِنْ أَسْبَابِ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ.

نَحْنُ — عَلَى فَقْرِنا — قَدْ أَصْبَحَ لَدَيْنا الَّليْلَةَ مِنْ وَسائِلِ الدِّفْءِ مِثْلُ ما عِنْدَ أَمِيرِ الْبَلَدِ فِي قَصْرِهِ.

اِذْهَبُوا — يا أَوْلادِي — وَجِيئُوا بِالْجِذْعِ.

فِي إِمْكانِكُمْ — أَنْتُمُ الْأَرْبَعَةَ — أَنْ تُحْضِرُوهُ مَعًا.»

فَرِحَ الْأَوْلادُ، وَخَرَجُوا — هُمْ وَأُمُّهُمْ — مِنَ الْكُوخِ، ثُمَّ عَادُوا يَحْمِلُونَ الْجِذْعَ الْكَبِيرَ.

كانَ الْجِذْعُ شَدِيدَ الثِّقَلِ كَما وَصَفَ أَبُوهُمْ؛ فَأَتْعَبَ الْأَبْناءَ حَمْلُهُ، حَتَّى بَلَغُوا الْكُوخَ.

(٥) فِي الْمَوْقِدِ

وَمَا إِنْ وَضَعُوا الْجِذْعَ حَتَّى قالُوا لِأَبِيهِمْ: «يُخَيَّلُ إِلَيْنا أَنَّ فِي الْجِذْعِ شَيْئًا خَفِيًّا، لا نَدْرِي حَقِيقَتَهُ. لَئِنْ صَحَّ ظَنُّنا لَيَكُونَنَّ هذا الْجِذْعُ مَسْحُورًا.»

فَقالَ لَهُمْ وَالِدُهُمْ: «أَنْتُمْ تَحْلُمُونَ، يا أَوْلادِي. أَنْتُمْ لَمْ تَتَعَوَّدُوا أَنْ تَسْهَرُوا إِلَى مِثْلِ هذا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ مِنَ الَّليْلِ. لا تَسْتَسْلِمُوا لِلْأَوْهامِ. تَعَالَوْا نَضَعْ هذا الْجِذْعَ فِي النَّارِ لِنَتَدَفَّأَ عَلَيْهِ.»

تَعاوَنَ الْوَالِدُ وابْنُهُ الْبِكْرُ عَلَى وَضْعِ الْجِذْعِ الثَّقِيلِ فِي الْمَوْقِدِ، بَعْدَ أَنْ تَكَبَّدَا عَنَاءً شَدِيدًا فِي حَمْلِهِ؛ ثُمَّ جَمَعَ الْحَطَّابُ حُزَمَ الْأَخْشابِ الَّتِي كانَتْ مِنْ قَبْلُ مُوقَدَةً، فَأَدْناها إِلَى الْجِذْعِ لِتُشْعِلَهُ.

ثُمَّ جَلَسَتِ الْأُسْرَةُ كُلُّها مُسْتَسْلِمَةً لِلتَّفْكِيرِ — فِي صَمْتٍ — عَلَى مَقاعِدِ الْخَشَبِ، حَوْلَ الْمَوْقِدِ، لِيَبْهَجُوا نُفُوسَهُمْ بِرُؤْيَةِ جِذْعِ الشَّجَرَةِ وَهُوَ يَحْتَرِقُ.

(٦) سُكَّانُ الْجِذْعِ

كانَ الْجِذْعُ — كَما قالَ أَبُوهُمْ — أَصْلَ شَجَرَةٍ مِنَ «الْكَسْتَنَا». كانَ جِذْعًا مُعَقَّدًا، أَيْبَسَتْهُ حَرَارَةُ الشَّمْسِ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَالسِّنِينَ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَشَقَّقَ وَكَثُرَتْ فِيهِ الثُّقُوبُ. كانَتِ النَّارُ تَسْرِي فِي الْجِذْعِ بَطِيئَةً.

أَقْبَلَ رَبُّ الْأُسْرَةِ عَلَى أَبْنائِهِ يَقُصُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا وَعاهُ فِي طُفُولَتِهِ مِنْ عَجائِبِ الْأَسْمارِ. كانَ الدُّخَانُ يَتَصَاعَدُ مِنَ الْمَوْقِدِ حَلَقاتٍ حَلَقاتٍ.

سُرْعَانَ ما بَرَزَتْ فَجْأَةً مِنْ أَحَدِ ثُقُوبِ الْجِذْعِ نَحْلَةٌ خائِفَةٌ مُرْتاعَةٌ، وَهِيَ تَطِنُّ وَتَهُزُّ جَناحَيْها الشَّفَّافَيْنِ.

لا تَسْأَلُوا عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى الْأُسْرَةِ مِنَ الرُّعْبِ وَالْفَزَعِ حِينَ رَأَوْا نَحْلَةً ثانِيَةً تَنْدَفِعُ مِنَ الثَّقْبِ، تَتْبَعُها ثالثَةٌ، فَرَابِعَةٌ، وَهكَذا، حَتَّى تَأَلَّفَ مِنْها ثَوْلٌ (جَماعَةٌ مِنَ النَّحْلِ).

انْطَلَقَ الثَّوْلُ يَطِيرُ فِي أَرْجَاءِ الْكُوخِ حائِرًا، لا يَعْرِفُ لَهُ وِجْهَةً يَقْصِدُ إِلَيْها.

(٧) حَدِيثُ النَّحْلَةِ

اسْتَقَرَّتْ مَلِكَةُ النَّحْلِ عَلَى قِمَّةِ كُومَةٍ مِنَ الْحَطَبِ.

ظَلَّتْ تَشْحَذُ إِبْرَتَها (تُحِدُّها) بِرِجْلَيْها، وتَقُولُ لِلْأُسْرَةِ فِي غَضَبٍ شَدِيدٍ: «يَا لَكُمْ مِنْ قُسَاةِ الْقُلُوبِ! لِماذَا تُحْرِقُونَ مَسْكَنَنا؟

لَقَدِ اخْتَرْتُ — أَنا وَإِخْوَانِي — ثَقْبَ هذا الْجِذْعِ، لِنَرْقُدَ فِيهِ بِهُدُوءٍ طُولَ الشِّتَاءِ، حَتَّى يَجِيءَ الرَّبِيعُ فَنَسْتَأْنِفَ فِيهِ أَعْمالَنا النَّافِعَةَ.

ماذا أَفَدْتُمْ مِنْ إِزْعاجِنا، وَطَرْدِنا مِنْ مَسْكَنِنا الْآمِنِ وَتَشْتِيتِ جَمْعِنا؟ تُرَى: أَيْنَ نَذْهَبُ وكَيْفَ يَكُونُ مَآلُنا؟ كَيْفَ نَحْتَمِلُ بَرْدَ الشِّتَاءِ الَّذِي تَضْعُفُ فِيهِ أَجْسَادُنا؟»

فَبادَرَتِ الْأُمُّ قائِلَةً: «لا تَحْزَنِي — أَيَّتُها النَّحْلَةُ الطَّيِّبَةُ — وَلا تَتَأَلَّمِي؛ فَما نُرِيدُ بِأَحَدٍ سُوءًا.

كُنَّا نَجْهَلُ أَنَّكُنَّ سَاكِناتٌ فِي هذا الْجِذْعِ. لَوْ عَرَفْنا هذا ما أَزْعَجْنا واحِدَةً مِنْكُنَّ.

كُنَّ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّكُنَّ لَنْ تَبْقَيْنَ طَوِيلًا بِغَيْرِ مَأْوًى، وَلَنْ تَتَعَرَّضْنَ لِبَرْدِ الشِّتَاءِ الْقَارِسِ وَزَمْهَرِيرِهِ.

هَاكُنَّ بَيْتَنَا. أَقِمْنَ فِيهِ عَلَى الرُّحْب وَالسَّعَةِ آمِناتٍ مُطْمَئِنَّاتٍ، وَاخْتَرْنَ فِيهِ مَكانًا حَارًّا مُوَافِقًا لِراحَتِكُنَّ.

إِنِّي لَيُسْعِدُنِي أَنْ تُقِمْنَ عِنْدَنا فَلا تُفارِقْنَنا أَبَدًا. تَعالَيْنَ، أَيَّتُها النَّحْلُ. لَنْ تَرَيْنَ إِلَّا مَا يَسُرُّكُنَّ. لَنْ يُكَدِّرَ أَحَدٌ صَفَاءَ الرَّاحَةِ والنَّوْمِ عَلَيْكُنَّ.

لَنْ يَمَسَّ أَحَدٌ خَلِيَّتَكُنَّ. كَلَّا، لَنْ يَشْتَارَ (لَنْ يَجْنِيَ) شَيْئًا مِمَّا جَمَعْتُنَّ مِنَ الشُّهْدِ، يا أَمِيرَةَ النَّحْلِ. هَاكِ ثُغْرَةً أَمامَكِ فِي حائِطِ الْكُوخ، عَلَى يَمِينِ الْمَوْقِدِ؛ فَهَلْ تَرَيْنَها تُوَافِقُكِ أَنْتِ وَرَفِيقَاتُكِ؟»

•••

أُعْجِبَتْ أَمِيرَةُ النَّحْلِ بِأَدَبِها فَقالَتْ: «شُكْرًا لَكِ، أَيَّتُها الْمَرْأَةُ الطَّيِّبَةُ. أَنْتُمْ — عَلَى مَا أَرَى — أَهْلٌ لِلتَّكْرِيمِ. أَنا أَقْبَلُ الضِّيَافَةَ بِسُرُورٍ وابْتِهاجٍ. سَنَعِيشُ جَمِيعًا تَحْتَ سَماءِ هذا الْبَيْتِ الْوادِعِ الْجَمِيلِ. لَنْ تَفُوتَنا السَّعادَةُ فِيهِ.»

•••

طَارَتْ مَلِكَةُ النَّحْلِ إِلَى الثَّغْرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَوْقِدِ، ثُمَّ تَبِعَها الثَّوْلُ (جَماعَةُ النَّحْلِ) واخْتَفَيْنَ جَمِيعًا فِي الْخَلِيَّةِ.

(٨) حَدِيثُ الطَّائِرِ

الْتَهَبَ الْجِذْعُ فانْبَعَثَتْ مِنْهُ — فَجْأَةً — صَرْخَةُ أَلَمٍ مِنْ طائِرٍ صَغِيرٍ،خَرَجَ مِنْ ثَقْبٍ آخَرَ.

ظَلَّ الطَّائِرُ الصَّغِيرُ يُرَفْرِفُ بِجَناحَيْهِ الْأَزْرَقَيْنِ بِسُرْعَةٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَلَى مَسْنَدِ كُرْسِيٍّ، وَقالَ لِلْحَطَّابِ وَزَوْجِهِ بِصَوْتٍ عالٍ، فِيهِ رَنَّةُ الْغَضَبِ: «شَدَّ مَا قَسَوْتُما عَلَيَّ، إِذْ تُخَرِّبانِ بَيْتِي وَتُحْرِقانِهِ.

كُنْتُ رَاقِدًا فِي ثَقْبٍ مِنْ هذا الْجِذْعِ مُطْمَئِنًّا. كُنْتُ آمُلُ أَنْ أَظَلَّ نائِمًا رَيْثَما يَنْتَهِي فَصْلُ الْبَرْدِ، وَتَهُبُّ نَسَماتُ الرَّبِيعِ اللَّطِيفَةُ، وَتَسْتَيْقِظُ الْأَزْهارُ.

لكِنَّ سُوءَ حَظِّي قادَكُما إِلَيَّ؛ فَأَبَيْتُما إِلَّا أَنْ تُزْعِجانِي، وَتُعَرِّضانِي لِلْهَلاكِ بَيْنَ الْعَواصِفِ وَتَحْتَ الثُّلُوجِ.»

هُنا قالَتْ زَوْجَةُ الْحَطَّابِ: «كَلَّا. لَنْ تَمُوتَ، أَيُّها الطَّائِرُ الظَّرِيفُ. سَتَجِدُ فِي قُرْبِ مَوْقِدِنا دِفْئَكَ وَمأْواكَ، حيْثُ يَغْمُرُكَ حُبُّنا، وَيُغَذِّيكَ فُتاتُ مَائِدَتِنا. وَمَتَى جاءَ الرَّبِيعُ: فَصْلُ الْأَزْهارِ، واعْتَدَلَ الْجَوُّ، بَنَيْتَ — إِنْ شِئْتَ — عُشًّا لِأَفْراخِكَ، بَيْنَ الْأَوْراقِ، مِنَ الْحَشائِشِ الصَّغِيرَةِ.»

•••

فَرِحَ الطَّاِئُر الْأَزْرَقُ وَقالَ: «شُكْرًا لَكِ، ما أَكْرَمَكِ!» ثُمَّ طارَ واسْتَقَرَّ عَلَى الصِّوانِ (دُولابِ الثِّيابِ) الْقَدِيمِ الْمُحَطَّمِ.

(٩) حَدِيثُ الضِّفْدِعِ

خَرَجَتْ مِنْ ثَقْبٍ ثالِثٍ ضِفْدِعٌ غَضْبَى، مُنْتَفِخَةٌ غَيْظًا. جَلَسَتِ الضِّفْدِعُ عَلَى مُقَدَّمَةِ الْمَوْقِدِ.

كانَ حَجْمُ الضِّفْدِعِ أَكْبَرَ مِنْ قَبْضَتَيِ الْيَدَيْنِ مُجْتَمِعَتَيْنِ. انْفَتَحَ فَمُها، وَتَدَلَّى لِسانُها الطَّوِيلُ مِنْهُ. بَرَزَتْ مِنْ رَأْسِها عَيْنانِ صَفْراوانِ نَجْلاوانِ (واسِعَتانِ).

•••

تَراجَعَ الْأَطْفالُ مَدْهُوشِينَ حِينَ رَأَوْها، واسْتَمَعُوا إِلَيْها، وَهِيَ تَقُولُ بِصَوْتٍ كالرَّعْدِ: «تَبًّا لَكُمْ مِنْ قُسَاةٍ! كَيْفَ تَجْرُءُونَ عَلَى تَخْرِيبِ بَيْتِي وَإِحْراقِ مَسْكَنِي، بَعْدَ أَنْ عِشْتُ فِيهِ مِائَتَي عامٍ كامِلَةً، لَمْ أُسِئْ خِلالَها إِلَى أَحَدٍ؟»

•••

أَقْبَلَ عَلَيْها الْحَطَّابُ الشُّجاعُ قائِلًا: «هَدِّئِي مِنْ رَوْعِكِ (سَكِّنِي مِنْ خَوْفِكِ)، أَيَّتُها الضِّفْدِعُ الْكَرِيمَةُ. أَيْقِنِي أَنَّنا لَمْ نُفَكِّرْ — لَحْظَةً — فِي إِلْحاقِ الْأَذَى بِكِ وَلَا بِغَيْرِكِ.

لَنْ تَبْقَيْ بِغَيْرِ سَكَنٍ. هاكِ جُحْرًا عَمِيقًا تَحْتَ الْمَوْقِدِ. اِتَّخذِيهِ — إِنْ شِئْتِ — سَكَنًا هَادِئًا لَكِ.

سَتَجِدِينَ فِيهِ ما يَكْفِيكِ مِنْ قَرَارٍ وَدِفْءٍ. سَنُعْطِيكِ — كُلَّ يَوْمٍ — مَا يُغَذِّيكِ مِنَ الْكَسْتَنَا، وَالْخُضَرِ الْمَسْلُوقَةِ. لَوْ كُنَّا أَحْسَنَ حالًا لَقَدَّمْنَا لَكِ كُلَّ ما تَشْتَهِينَ.»

فرِحَتِ الضفْدِعُ وَقالَتْ: «يا لَكَ مِنْ كَرِيمٍ! شُكْرًا لَكَ. أَنْتَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْعَالَمِ أَخْيَارًا شُرَفاءَ. إِنَّي لَيُسْعِدُنِي أَنْ أَكُونَ ضَيْفَكَ.»

ثُمَّ قَفَزَتِ الضِّفْدِعُ مُتَباطِئَةً حَتَّى دَخَلَتِ اْلجُحْرَ.

(١٠) حَدِيثُ الْحَطَّابِ

بَعْدَ قَلِيلٍ، خَرَجَ الْحَطَّابُ وَزَوْجُهُ وَأَوْلادُهُما، بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنُوا ضُيُوفَهُمْ.

اِنْطَلَقُوا يَتَحَدَّثُونَ — فِي أَثْناءِ تَجْوَالِهِمْ — عَمَّا رَأَوْهُ مِنَ الْعَجَبِ فِي لَيْلَتِهِمْ.

قالَ الْوالِدُ لِأَبْنائِهِ: «هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تَرَوْنَ أَنَّ الْإنْسانَ يَسْتَطِيعُ — عَلَى قِلَّةِ مالِهِ — أَنْ يَعِيشَ سَعِيدًا. كَما تَرَوْنَ أَنَّهُ قادِرٌ — مَهْمَا يَبْلُغْ بِهِ الْفَقْرُ — عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ الْمَعْرُوفَ لِمَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ قُوَّةً وَأَتْعَسُ حالًا.

إِذا أَرَدْتُمُ السَّعادَةَ الْحَقَّ، فَلا تَتَرَدَّدُوا فِي إِسْعادِ مَنْ تَسْتَطِيعُونَ إِسْعادَهُ. لَنْ يَكْمُلَ الْإنْسَانُ إِلَّا إِذَا جَمَعَ بَيْنَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَحُسْنِ الْعَمَلِ.»

(١١) الْقَصْرُ الْجَدِيدُ

مَشَوْا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى كُوخِهِمْ، وَقَدِ امْتَلَأَتْ نُفُوسُهُمْ فَرَحًا وَإِينَاسًا، وَثِقَةً واطْمِئْنَانًا، بِما نَعِمُوا بِهِ مِنْ مَناظِرَ فاتِنَةٍ، تَحْتَ السَّماءِ: تِلْكَ الْقُبَّةِ الزَّرْقاءِ، الَّتِي انْتَثَرَتْ فِيها النُّجُومُ الْبَدِيعَةُ.

كانَ الْجُوعُ قَدِ اشْتَدَّ بِهِمْ، فَأَسْرَعُوا لِيَأْكُلُوا ما أَعَدُّوهُ فِي دَارِهِمْ، مِنْ خُبْزٍ يابِسٍ، وَحَسَاءٍ قَلِيلٍ.

وَلكِنَّهُمْ شَدَّ مَا دَهِشُوا إِذْ رَأَوْا نُورًا يَظْهَرُ لِأَعْيُنِهِمْ — فَجْأَةً — مِنْ بَعِيدٍ، خُيِّلَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ يَنْبَعِثُ مِنْ دَارِهِمْ. لكِنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا أَعْيُنَهُمْ.

وَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْبَيْتِ رَأَوْا أَضْواءً لا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِها: رَأَوْا مَكَانَ الْكُوخِ قَصْرًا فاخِرًا، مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: «السَّعِيدُ حَسَنٌ الْحَطَّابُ».

كادُوا يَحْسَبُونَ — لَوْلَا هذَا اللَّوْحُ الْمَكْتُوبُ — أَنَّهُمْ ضَلُّوا الطَّرِيقَ فَدَخَلُوا قَصْرَ الْأَمِيرِ. وَزادَ مِنْ دَهْشَتِهِمْ أَنَّ قَصْرَ أَمِيرِهِمْ لَيْسَ عَلَى مِثْلِ هذِهِ الْفَخَامَةِ والرَّوْعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِثْلُ هذا الْأَثاثِ الْبَدِيعِ.

رَأَوْا مَائِدَةً كَبِيرَةً حافِلَةً بِالصِّحَافِ والْأَطْبَاقِ، وَإِلَى جانِبِها كَرَاسِيُّ لَها كِسْوَةٌ مِنَ الْمُخْمَلِ (النَّسِيجِ فِيهِ قَطِيفَةٌ) الْأَحْمَرِ، مُزَرْكَشَةٌ بِالذَّهَبِ، وَقَدْ غَصَّتِ الْمائِدَةُ بِأَجْمَلِ الْأَزْهَارِ والْوُرُودِ.

وَإِلَيْكمْ بَعْضَ ما حَوَتْهُ الْمائِدَةُ:

هذا دِيكٌ رُومِيُّ كَبِيرٌ مَقْلِيٌّ بِالسَّمْنِ. إِلَى جانِبِهِ لَذائِذُ مِنَ الشِّوَاءِ يَتَطايَرُ قُتارُها الشَّهِيُّ (رَائِحَتُها الَّلذِيذَةُ).

عَلَى مَسَافَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْهُ كُومَةٌ مِنْ شَمْعِ الشُّهْدِ (عَسَلِ النَّحْلِ)، فِى مِثْلِ صُفْرَةِ الذَّهَبِ الْخَالِصِ.

إِلَى الْيَسَارِ جَمِيعُ أَصْنَافِ الْفَوَاكِهِ، مِنْ: تُفَّاحٍ وَكُمَّثْرَى وَبُرْتُقالٍ وَعِنَبٍ.

هُنا أَدْرَكُوا أَنَّ الطَّائِرَ والنَّحْلَةَ والضِّفْدِعَ إِنَّما قَصَدُوا إِلَى مُكافَأَتِهِمْ عَلَى مَعْرُوفِهِمْ فَأَعَدُّوا لَهُمْ هذِهِ الْمُفاجَأَةَ السَّارَّةَ.

الْتَفَتَتْ إِلَيْهِمُ الضِّفْدِعُ قائِلَةً: «نَحْنُ جِنِّيَّاتُ الشَّجَرَةِ وحارِساتُها. أَرَدْنا أَنْ نَجْزِيَكُمْ عَلَى صَبْرِكُمْ وَمَعْرُوفِكُمْ خَيْرًا. اِنْتَهَزْنا فُرْصَةَ الْعِيدِ لِتَحْقِيقِ ما أَرَدْنا.»

هُنا تَحَوَّلَتِ الضِّفْدِعُ طاهِيًا صَنَاعًا كَبِيرَ الْبَطْنِ، أَحْمَرَ الْوَجْهِ، يَفِيضُ مُحَيَّاهُ (وَجْهُهُ) بِشْرًا وَسُرُورًا، وَعَلَى صَدْرِهِ فُوطَتَانِ كَبِيرَتانِ بَيْضَاوَانِ. تَفَنَّنَتِ الضِّفْدِعُ فِي صُنْعِ الْحَلْوَى لَهُمْ.

أَقْبَلَتْ مَلِكَةُ النَّحْلِ سَاهِرَةً عَلَى خِدْمَتِهِمْ، فِى صُورَةِ فَتاةٍ رَائِعَةِ الْحُسْنِ، عَلَى رَأْسِها خِمارٌ (سِتَارٌ) حَرِيرِيٌّ مُزَرْكَشٌ بِالذَّهَبِ.

ظَهَرَ الطَّائِرُ فِي هَيْئَةِ مُوسِيقِيٍّ بَارِعٍ، يَرْتَدِي سِرْوَالًا قَصِيرًا مِنَ الْمُخْمَلِ الْأَخْضَرِ، عَلَى رَأْسِهِ قَلَنْسُوَةٌ زَرْقاءُ، مُحَلَّاةٌ بِرِيشِ النَّعَامِ. كانَ يَعْزِفُ عَلَى الْعُودِ وَيُغَنِّي أَطْيَبَ الْأَلْحَانِ.

لَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ، رَأَوْا حَدِيقَةً غَنَّاءَ، تُحِيطُ بِقَصْرِهِمُ الْعَظِيمِ.

رَأَوْا خِزَانَةً كَبِيرَةً مَمْلُوءَةً بِأَثْمَنِ الْيَوَاقِيتِ وَأَنْفَسِ الَّلآلِئِ الَّتِي لا تُوجَدُ فِي خَزَائِنِ الْمُلُوكِ.

مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ، أَطْلَقَ النَّاسُ عَلَى الْحَطَّابِ لَقَبَ: «الْحَطَّابِ السَّعِيدِ»، بَعْدَ أَنْ كانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهِ لَقَبَ: الْحَطَّابِ الْفَقِيرِ.»

(١٢) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَلَمَّا انْتَهَتِ الْجَدَّةُ مِنْ قِصَّتِها، الْتَفَتَتْ قائِلَةً: «هكَذَا تَرَوْنَ — أَيُّها النُّجَباءُ — أَنَّ فِي قُدْرَةِ أَفْقَرِ إِنْسَانٍ أَنْ يُحْسِنَ إِلَى مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ وَأَشَدُّ فَقْرًا، وَأَنَّ فِعْلَ الْخَيْرِ لَنْ يَضِيعَ أَبَدًا، وَأَنَّ السَّعِيدَ الْحَقَّ لَيْسَ هُوَ الْغَنِيَّ الْكَثِيرَ الْمَالِ.

بَلْ هُوَ مَنْ يَرْتاحُ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، وَتَبْهَجُ نَفْسُهُ بعَمَلِ الْخَيْرِ وَصُنْعِ الْجَمِيلِ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤