تقديم

يقول دستويفسكي في معرض وصفه لواحد من أبطاله إنه: «برغم ما كان يتمتَّع به من ذكاء، لم يكن يدرك من أمور النساء شيئًا، ومن ثم فإن دائرةً كاملة من الأفكار والظواهر ظلَّت مجهولةً بالنسبة له.»

هذا العالم الخاص من المشاعر والهواجس والمعاناة جذب إليه دستويفسكي بشكل غير عادي في فترة ازدهاره الإبداعي. في شبابه كان ما يزال غريبًا بدرجة كبيرة عن دائرة «هذه الظواهر». يقول عنه أحد رفاقه في سنوات الشباب: «لم أسمع مطلقًا منه أنه كان مغرمًا بواحدة ما، أو حتى أنه أُعجِب بشدة بامرأة بعينها … بعد عودته إلى بطرسبورج قادمًا من المنفى في سيبيريا أصبحت دراسة وتحليل شخصية أيٍّ من معارفنا من النساء والفتيات … واحدةً من هواياته المحبَّبة.»

وبالفعل، انفتح في سيبيريا عصر حكايات دستويفسكي الغرامية. ومنذ ذلك الحين ظهرت في طريق حياته شخصيات نسائية رائعة انعكست سماتهن بقوة في بطلات رواياته. هذا هو السبب وراء ولعه الشخصي الهائل بدراسة العديد من النماذج النسائية التي ظهرت في فترة نضجه الإبداعي.

في شبابه الباكر أغفل دستويفسكي تمامًا حياته العاطفية، غارقًا في مخطوطات كتبه. لقد صرفه السعي وراء الظهور الأدبي بقوة أكبر عن الانفعالات الرومانسية.

تكتب أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا (زوجته الثانية) في مذكراتها قائلة: «سألت فيودور ميخايلوفيتش عن غرامياته، وقد أدهشني، بِناءً على ذكرياته، أنه لم يقع في هوى أي امرأة على نحو جاد في شبابه. ويرجع السبب في ذلك، من وجهة نظري، إلى أنه بدأ في سن مبكرة للغاية في الانخراط في حياة عقلية محضة. لقد ابتلعه الإبداع كلية، ومن ثم تراجعت حياته الخاصة إلى خلفية المشهد، ليندمج بعد ذلك بكل خياله في السياسة، وهو ما دفع بسببه ثمنًا باهظًا.

كانت الجميلة أفدوتيا ياكوفليفنا بانايفا هي الحب الأول لدستويفسكي. كانت عاطفة روحية سرية، وبالطبع كانت من طرف واحد؛ فقد كانت بانايفا هي «زوجة الشاعر نكراسوف» معبود جيل شباب الأربعينيات، التي استطاعت أن تأخذ بلبِّ ألكسندر دوما نفسه. ويبدو أن بانايفا كانت تعامل دستويفسكي بحنوٍّ واهتمام وتلقائية دون أن يخطر ببالها — على الأرجح — ما سوف يؤدي إليه هذا الأمر من أثر في «حياته العاطفية».»

في رسالة لأخيه ميخائيل، مُؤرَّخة السادس عشر من نوفمبر عام ١٨٤٥م، يقول دستويفسكي: «قمت بالأمس بأول زيارة لي إلى «بانايف»، ويبدو أنني وقعت في هوى زوجته. امرأة ذكية وجميلة، إضافةً إلى استقامتها وعطفها.»

ثم يبعث إليه برسالة ثانية بعد عدة أسابيع يخبره فيها بأنه كان: «مغرمًا ببانايفا حقًّا، ولكن الأمر انتهى الآن، ولا أعرف بعد …»

تتجاهل أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا هذا الجانب في «مذكراتها» (التي كتبتها في زمن آخر)، وفي محاوراتها الخاصة تُولي هذا الأمر قليلًا من الاهتمام: «كان غرامه ببانايفا أمرًا عابرًا، ولكن هذا الغرام كان على أية حال هو الوحيد في سنوات شبابه. في بيت بانايفا، بدأ الناس يسخرون من دستويفسكي، بينما راحت بانايفا التركية، صاحبة الحس المرهف في إسباغ مشاعر الشفقة على دستويفسكي الذي قابل مشاعرها بامتنان قلبي وحب رقيق مخلص …»

لكن هذا الحب المبكر المكتوم لم يكن سوى مشهد واحد من تاريخ حياته العاطفية.

في سيبيريا فقط كان مُقدَّرًا عليه أن يعاني أول حب له؛ الحب الأكثر تعذيبًا وتمزيقًا وكآبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤