الفصل الثالث

واحدة من أكثر قصص الحب عاشها دستويفسكي قوةً ترجع إلى مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر. أمَّا بطلة هذه القصة وهي أبوليفاريا سوسلوفا؛ الفتاة الشابة التي تركت أثرًا عميقًا في إبداع الروائي الروسي الكبير بعد ذلك.

يمكننا استقطاع بعض المعلومات الشخصية عن بالينا١ من كتاب لوبوف دستويفسكايا (ابنة دستويفسكي الكبرى). عاشت أبوليفاريا سوسلوفا في مطلع الستينيات (من القرن التاسع عشر) في بطرسبورج، حيث خالطت الشباب التقدمي. وعلى الرغم من أن دستويفسكي لم يكن يشارك كثيرًا في الأمسيات الأدبية للشباب، فضلًا عن أنه لم يكن قد حظي بهذا القدر من النجاح، الذي حظي به بعد ذلك في السبعينيات، فمن المؤكَّد أن سوسلوفا قد تعرَّفت عليه في إحدى هذه الأمسيات، وعلى الرغم من أن الأراشيف الموجودة لدستويفسكي لا تضم أي خطابات غرامية أرسلتها له أبوليفاريا، فإننا يمكن أن نثق في ابنة الكاتب التي تؤكِّد أن دستويفسكي قد تلقَّى بالفعل خطابًا من هذا النوع كان له أثر عميق على أبيها بفضل نبرته المُخلصة وما فيه من شاعرية.

يبدو أن الفتاة الشابة وقد بهرتها عبقرية الفنان العظيم، راحت تُعبِّر له عن إعجابها به، وقد استجاب دستويفسكي لهذا الشعور الملتهب الذي بثَّته فتاة في شرخ الصبا.

على أية حال لا يُخامرنا أي شك في أن قصة الحب بينهما قد بلغت ذروتها في عام ١٨٦٣م. في صيف هذا العام يسافر دستويفسكي بصحبة سوسلوفا إلى الخارج. وفي خطاباته إلى إخوته يتحدَّث بصراحة تامة عن السعادة في السفر مع كائن تُحبه. والحقيقة فإن شكوكه المعتادة وميله إلى العبوس، والأهم خسائره الفادحة على مائدة القِمار، قد عكَّرت صفو هذه الرحلة التي قام بها عبر أوروبا بصحبة محبوبته الشابة.

«مغامرات عديدة متنوِّعة، لكنها رديئة إلى حد مخيف على الرغم من وجود أبوليفاريا سوسلوفا. من الصعب أن يشعر المرء هنا بالسعادة؛ لأنك انفصلت عن الجميع، عن الذين ما زلت حتى الآن تحبهم، والذين تعذَّبت مرارًا بسببهم، وحتى لو هجرت السعادة كلها، وهجرتك حتى تلك الأشياء التي يمكن أن تكون مفيدة، فإن الأنانية تظل هي الفكرة التي تكرِّر سعادتي (إن كانت هناك سعادة بالفعل)».٢

إن رفيقة سفر دستويفسكي تعاني من الخسارة، ترهن خاتمها، تعاني معه من رعب الإفلاس المفاجئ، عندما يحين موعد الارتجاف عن سداد مستحقات الفندق. تعكس رواية «المقامر» بشكل مرتَّب تاريخ علاقة دستويفسكي وسوسلوفا، وما تضمَّنته من العديد من المشاهد الغرامية.

لم تكن علاقات دستويفسكي سوسلوفا متكافئة؛ كانا يتخاصمان ثم يعودان، تنتابهما سَورات من الهوس الجامح الذي بدا أنه لا ينطفئ. لم ينقطعا عن تبادل الرسائل من حين لآخر حتى بعد الزواج الثاني لدستويفسكي.٣

في الثالث والعشرين من أبريل (الخامس من مايو بالتقويم القديم) من عام ١٨٦٧م؛ أي بعد شهرَين من زواجه بأنَّا جريجوريفنا، في الأسبوع الثاني من رحلة زواجهما، يرسل دستويفسكي من درزدن إلى سوسلوفا خطابًا يخبرها فيه تفصيلًا عن التحوُّل الكبير في حياته. وبنبرة ملؤها الحنان والصراحة، يكتب كلمات يكشف فيها عن شخصية مراسلته: «لقد ترك خطابك لي انطباعًا حزينًا في نفسي. تقولين إنك حزينة للغاية. لا أعرف عن حياتك في العام الأخير شيئًا، كما لا أعرف كذلك عن أحوالك العاطفية أي شيء، ولكن استنادًا إلى معرفتي التامة بك، فإن من الصعب أن تعرفي معنى السعادة. أواه يا عزيزتي! لست أدعوك إلى أن تأخذي طريق السعادة الرخيصة الضرورية. إنني أحترمك (وكان هذا شعوري دائمًا) لِمَا تتحلَّين به من عزيمة وإصرار، لكنني أعرف أن قلبك لا يستطيع إلا أن يسعى للحياة، وأنت نفسك تعتبرين الناس إمَّا متألقين دومًا، وإمَّا أنهم على الفور أوغاد سفلة. إنني أُصدر حكمي هنا بِناءً على حقائق، وعليك أن تصلي إلى النتائج بنفسك. إلى اللقاء أيها الصديق دومًا.»

يتضح لنا من يوميات أنَّا جريجوريفنا التي سجَّلتها في درزدن أن مراسلات دستويفسكي مع سوسلوفا، والتي كانت تتسم بالحيوية، أصابتها بالغم والكدر. لقد تركت خطابات باليفا لديها انطباعًا صادمًا. ها هي أنَّا جريجوريفنا تصف قراءة دستويفسكي لخطاب من خطابات سوسلوفا أرسلته من درزدن في الخامس عشر من مايو: «كنت أُراقب طول الوقت تعبيرات وجهه عندما كان يقرأ هذا الخطاب الشهير. لقد راح يُعيد قراءة الصفحة الأولى المرة تلو الأخرى، كما لو كان في حالة لا يستطيع معها أن يفهم ما يقرؤه، ثم في النهاية أتمَّ قراءة الخطاب لتكسو وجهه كله حمرة شديدة، وقد خيِّل لي أن يدَيه كانتا ترتجفان. تظاهرت بأنني لا أعرف عن الخطاب شيئًا، وسألته: ماذا كتبت سونيتشكا؟٤ فأجاب أن الخطاب ليس من سونيتشكا، وبدت على وجهه ابتسامة تشوبها المرارة. ابتسامة لم أرَها على وجهه إطلاقًا من قبل. كانت إمَّا ابتسامة احتقار أو أسًى. الحقيقة لا أعرف، لكنها ابتسامة ذاهلة أسيانة على نحو ما. ثم بدا لي مرتبكًا على نحو شديد وكأنه لم يفهم عمَّا أتحدَّث.»
figure
سوسلوفا.

لا بد أن ندرك أن أبوليفاريا سوسلوفا كانت محط رغبات دستويفسكي الجامحة. امرأة متطرِّفة، تندفع بمشاعرها إلى منتهاها لتصل إلى الذروة النفسية والمعيشية. لقد أظهرت طوال حياتها هذا «الإصرار» الذي يدل على طبيعة شهوانية شديدة الولع؛ طبيعة نهمة إلى المشاعر الحسية. إن ميلها لتقسيم الناس إلى قديسين وأوغاد أمر مميَّز لولعها الحسي الدائم وتفانيها، وكما يبدو لكونها كانت كائنًا جهنميًّا بحق. إن لديها قلبًا يتوق إلى المظاهر النبيلة، للتعاطف والطيبة (دموعها على شقيق دستويفسكي المريض)، وهذا القلب نفسه ليس أقل نزوعًا نحو النزوات الحسية الخرقاء واضطهاد الآخرين، بل وحتى الانتقام منهم. هذه الصفات بكل تأكيد تكشَّفت بفضل شهادة ف. ف. روزانوف، الذي تزوَّج من عشيقة دستويفسكي السابقة في نفس عام وفاته.

إن روزانوف، وقد أصبح زوجًا لها، يكشف بوضوح تام عن شخصية سوسلوفا بكل سماتها العاصفة والحادة. ينبغي فقط أن نضع في اعتبارنا أن الحديث يدور هنا عن امرأة لم تعد في شرخ شبابها (في مطلع الثمانينيات كانت أبوليفاريا سوسلوفا قد تخطَّت الأربعين)، وأن شهادة روزانوف يمكن أن تكون منحازةً إلى الجانب الرديء فيها. ومع ذلك فإن هذه الشهادة تكتسب أهميةً لا شك فيها من الناحية الفعلية، وهي تتفق في الكثير من جوانبها مع شهادات أشخاص آخرين.

يتحدَّث روزانوف عن سوسلوفا قائلًا: «تزوَّجت منها وأنا في الفصل الثالث من الجامعة، هجرتني لتقع في غرام شاب يهودي بعد ست سنوات من حياتنا معًا لتعيش في نيجني، في بيتها هناك.» فيما بعدُ وفي وثيقة قدَّمها روزانوف لإدارة السينود بشأن حياته العائلية، يتحدَّث فيها عن زوجته الأولى (متحدِّثًا عن نفسه بضمير الغائب) فيقول: «أبوليفاريا، اسم العائلة سوسلوفا، روزانوف بعد الزواج، هجرت زوجها ف. ف روزانوف في عام ١٨٨٦م بحجة أن زوجها — خلافًا لِما بذله لها من وعد — يلتقي بشاب يهودي يُدعى جولدوفسكي، وهو الشخص الذي يدير توزيع كتبه على المكتبات، وقد وقعت (أبوليفاريا) في غرام هذا الجولدوفسكي، ثم لم تجد منه تعاطفًا تجاهها. وعلى نحو لم يُسمع به من قبل، راحت تلاحقه، وبواسطة خلافات لا يمكن وصفها دفعت زوجها ليقطع كل صلة به. وجولدوفسكي شاب ينتمي لعائلة يهودية محترمة، دعته سوسلوفا نفسها لاستضافته صيفًا لدى آل روزانوف. عمومًا كانت هذه إحدى نزوات سوسلوفا البشعة من ناحية سخافتها.»

كان لهذا الانفصال أثره المؤلم على روزانوف. يكتب روزانوف في أحد خطاباته قائلًا: «أذكر عندما هجرتني سوسلوفا أنني انخرطت في البكاء، وأنني ظَلِلت لمدة شهرَين لا أعرف مكانًا أذهب إليه، ولا أعرف فيما أُنفق كل ساعة من الوقت الذي يمر بي.»

ثم يتحدَّث روزانوف بعد ذلك عن نزوات زوجته ورغبتها في الانفصال عنه، وهو ما رفضه بحسم.

قبل ذلك، عندما انتقل روزانوف من عمله في بريانسك إلى يليتس، دعا زوجته للعيش معه آملًا أن تسير الحياة في مكان جديد، ووسط أناس جدد وظروف مختلفة على نحو أفضل، لكنها رفضت وعلى نحو قاسٍ بأسلوب فظ، وأجابته بقولها: «آلاف الأزواج يعيشون في نفس وضعك (أي هجرتهن زوجاتهن)، ومع ذلك فهم لا ينبحون. الناس ليسوا كلابًا.» وحتى أبوها، الذي خاطبه روزانوف راجيًا أن يؤثر في ابنته وأن يحثَّها على العودة إلى زوجها، أجابه قائلًا: «عدو الجنس البشري يسكن في بيتي الآن، وقد أصبح من المستحيل عليَّ أنا نفسي أن أعيش فيه.» ظلَّت سوسلوفا تشك دائمًا أن هذا العجوز الذي تخطَّى السبعين من العمر سوف يتزوَّج، ومن ثم راحت تُشهِّر به أمام أصدقائه ومعارفها.»

في عام ١٨٩٧م وافق روزانوف على الطلاق من سوسلوفا، لكن حياة روزانوف العائلية ظلَّت مثقلةً بالهموم بسبب رفض سوسلوفا الطلاق. أبلغني أحد أصدقاء روزانوف أن الكاتب الراحل أوفده في عام ١٩٠٢م إلى سيفاستوبول؛ حيث كانت أبوليفاريا سوسلوفا تعيش آنذاك، لينتزع منها الموافقة الضرورية. كانت سوسلوفا قد بلغت آنذاك حوالي الستين من العمر. كانت تعيش وحيدةً في بيتها الخاص (الذي اشتهر باسم «بيت أبوليفاريا روزانوف»). كان بيتها يثير الدهشة بنظافته وأناقته، ويخلق انطباعًا بأن صاحبته امرأة عملية ذات شخصية حازمة.

وفي حديثها مع مندوب زوجها أبدت صلابةً وإصرارًا لا يلين. ولم تستطع أي حجج أن تثنيها عن إرادتها. تحدَّثت عن روزانوف بحقد بالغ. وعلى الرغم من إلحاح مبعوث زوجها، فقد رفضت أي شكل من أشكال التنازل على نحو قاطع. ووفقًا لِمَا ذكره لي صاحب الحديث مع سوسلوفا، فمن الواضح أنه ظلَّ يتذكَّر بكثير من العذاب هذه المباحثات التي دارت بينه وبين أبوليفاريا سوسلوفا الحديدية.

هناك وثيقة شديدة الأهمية بالنسبة لتوصيف سوسلوفا أخبرني بها أيضًا أ. س. فولجسكي. كان فولجسكي باحثًا في أعمال دستويفسكي، وكان على معرفة شخصية بروزانوف. وقد توجَّه هذا الباحث إلى روزانوف بسؤال عن زوجته الأولى، وقد ردَّ روزانوف عليه بخطاب يتضمَّن تصويرًا رائعًا لطبيعة هذه المرأة المتفرِّدة.٥
التقيت بسوسليخا،٦ للمرة الأولى في منزل تلميذتي أ. م شيوجلوفا (كنت أبلغ من العمر سبعة عشر عامًا، وكانت شيوجلوفا تبلغ العشرين، أمَّا سوسلوفا فكانت في الثلاثين من عمرها). كانت ترتدي ثوبًا أسود اللون دون ياقات أو أكمام (حِدادًا على أخيها). كان وجهها يحتفظ بآثار جمال غابر «رائع». كانت روسية مناصرة للملكية. كانت تترقَّب انتصار البوربون في فرنسا (حيث تركت فيها أفضل أصدقائها، أمَّا في روسيا فلم يكن لها فيها أي أصدقاء)، وفي روسيا لم تحب سوى التقاليد الأرستقراطية.
وبنظرة امرأة لَعوب خبيرة، أدركت أنها تركت أثرًا صادمًا في نفسي، فراحت تتحدَّث ببرود وهدوء. إنها باختصار يكاترينا ميديتشي. كانت تُشبهها تمامًا. امرأة بمقدورها ارتكاب جريمة دون مبالاة، أن تقتل بدم بارد، وربما تطلق النار على الهوجينون (الكاثوليكيين الفرنسيين) في ليلة القديس بارتولومي٧ وبكل حماس.

عمومًا فقد كانت سوسلوفا امرأةً عظيمة بالفعل. أعرف أن الناس (ومنهم صديقة لها تُدعى أنَّا أوسيبوفناج، كانت تكبرها بخمسة عشر عامًا) كانوا مفتونين بها، أسرى لشخصيتها. لم أرَ روسيةً مثلها. كانت من وجهة روحها روسيةً تمامًا، منشقةً دينية أو ربما أفضل من ذلك، السيدة العذراء لجماعة الخليستيين الذين كانوا يؤمنون في القرن السابع عشر بالتوحد مع الروح القدس.

وبمناسبة الحديث عن سوسلوفا يتذكَّر روزانوف إحدى الشخصيات من رواية «المُذلُّون والمُهانون»، تلك الأميرة التي يحكي عنها الأمير فالكوفسكي لإيفان بتروفيتش. تقول عنها الرواية: «حسناء من الطراز الأول. يا له من صدر، يا له من قوام، يا لها من مشية! كانت نظرتها حادةً ثاقبة مثل أنثى نسر، وإنما مليئتان بالقسوة دائمًا وبالحذر. كانت تتصرَّف بوقار ومنعة وبكبرياء كامرأة صعبة المنال. كانت مشهورة بسلوكها البارد مثل الشتاء القارس، وكانت تبث الخوف في قلوب الجميع بفضيلتها الرهيبة التي لا سبيل إليها. كانت تنظر للجميع نظرةً خالية من أي رغبة، مثل راهبة في كنيسة من العصور الوسطى … ما الذي يمكن قوله عنها؟

لم تكن هناك امرأة أكثر عُهرًا من هذه المرأة … كانت فتاتي شهوانيةً إلى حد أن الماركيز دي ساد كان يمكنه التعلم منها … كانت الشيطان نفسه مُجسَّدًا، ولكنه شيطان جذاب، شديد الجاذبية، لا يمكنك التغلب عليه، وهَلمَّ جرًّا.»

هذا المقطع في رأي روزانوف كان من الممكن أن يمثِّل شخصية سوسلوفا أفضل تمثيل، على الرغم من أنه لا يمت إليها بصلة. لقد كتب دستويفسكي رواية «المُذلُّون والمُهانون» قبل أن يلتقي ببالينا، لكن إشارة روزانوف ذات أهمية كبرى لفهم شخصية سوسلوفا.

روزانوف يقارن هنا بينها وبين بطلات دستويفسكي الأخريات، وهي مقارنة يمكن أن تكون واقعيةً تمامًا.

«إن دونيا، شقيقة راسكولنيكوفا تشبهها تمامًا وكذلك أجلايا،٨ إلا أنها لا تشبه جروشينكا٩ في شيء، أبدًا، أبدًا، أبدًا. جروشينكا امرأة روسية، بذيئة، أمَّا سوسليخا فلم تكن بذيئةً ولا فظة …»

«لقد عاشت مع دستويفسكي.

– لماذا انفصلت أبوليفاريا سوسلوفا عن دستويفسكي؟

– لأنه لم يرغب في تطليق زوجته المسلولة إلى أن تموت.

– لكنها ماتت؟

– نعم، ماتت. بعد نصف عام، ماتت، لكنني هجرته.

– ولماذا هجرته؟

– لأنه لم يرغب أن يطلِّقها، أصمت. لقد سلَّمت نفسي لحبه، دون أن أسأل، دون حسابات، وكان عليه أن يفعل مثلما فعلت، لكنه لم يفعل، ومن ثم فقد هجرته.

كان هذا أسلوبها، مثل هذا الحديث وقع لي معها حرفيًّا تقريبًا. نفس الأفكار وفي جميع الأحوال.»

يؤكِّد روزانوف أن سوسلوفا لم تكن شديدة الذكاء، لكنها تميَّزت بجاذبية منقطعة النظير تمامًا. نوع من الأنوثة الطاغية الآسرة، لكنها على ما يبدو، ظلَّت «معذبة» حتى في شهواتها، حيث أظهرت فيها أيضًا قدرًا من الخروج على المعايير، لتسير في منعطفات خاطئة نتيجة طبيعتها المركَّبة من شظايا حُطام. بعد مرور ثلاثين عامًا لا يستطيع روزانوف أن يتذكَّر فتنة هذه المرأة الغربية دون أن ينتابه اضطراب عميق وشيء ما من الإعجاب الحاد، هذه المرأة التي هي ليست «يكاترينا ميديتشي»، ولا «السيدة العذراء».

إن خطاب روزانوف يلقي بمزيد من الضوء على طابع هذه العلاقة الغرامية المعقَّدة التي عاشها دستويفسكي. إن شخصية سوسلوفا قد كشفت له عن عدد من الجوانب الخفية في الطبائع الغائرة «للفتيات المتكبرات» أو «النساء الجهنميات»؛ ففي جميع رواياته التي كتبها في فترة النضج نجد أمامنا هذا النموذج النسائي الجديد، الذي أخذ في الصعود نحو شخصية رفيقته المتسلِّطة الآسرة إبَّان رحلته التي قام بها في عام ١٨٦٣م.١٠
١  بالينا: اسم التدليل أبوليفاريا (المترجم).
٢  إليكم بعض من الذكريات عن سوسلوفا وخطابات دستويفسكي من الخارج: «تسألني كيف يمكنك أن تنغمس في القِمار وأنت في رحلة مع من تحب …» «تسألني لماذا غادرت باريس على هذا النحو من السرعة، أولًا: لأن هذه المدينة أثارت في نفسي النفور، وثانيًا: لأنني تنبَّهت إلى وضع المرأة التي أصحبها في رحلتي …» (في جينيف)، رهنت خاتمها …» «قابلت تورجينيف في بادن، زرته مرتَين كما زارني هو أيضًا. لم يرَ تورجينيف أبوليفاريا سوسلوفا، أخفيتها عنه». وفي أحد خطاباته إلى ابنة أخت صوفيا إيفانوفنا يكتب دستويفسكي عن أخت أبوليفاريا سوسلوفا التي أنهت الجامعة في الخارج (هذا المقطع غير منشور).
٣  عثرنا في أحد دفاتر دستويفسكي في الستينيات على عنوان سوسلوفا: Belgique, Spa, Rue Hotel de Ville, 90 A. Souslowa.
٤  أنَّا جريجوريفنا تقصد سونيا ابنة أخت دستويفسكي (المترجم).
٥  أنتهز هذه الفرصة لكي أعبِّر ﻟ «أ. س. فولجسكي» عن عظيم امتناني لإطلاعي على هذه الوثيقة الثمينة.
٦  سوسليخا: اسم التدليل لسوسلوفا (المترجم).
٧  جرت فيها مذبحة جماعية للهوجينون في ليلة الرابع والعشرين من أغسطس عام ١٥٧٢م (ليلة القديس بارثولومي) في باريس على يد يكاترينا ميديتشي (المترجم).
٨  أجلايا: بطلة من بطلات رواية «الأبله» (المترجم).
٩  جروشينكا: بطلة من بطلات رواية «الإخوة كارامازوف» (المترجم).
١٠  قمنا بكتابة هذا الفصل عن سوسلوفا في عام ١٩٢٤م، وقد نُشر وأعيدت طباعته هنا دون أي تعديلات. أمَّا المواد الجديدة عن سوسلوفا، والتي نشرها أ. س. دولينين في كتابه «دستويفسكي»، الجزء الثاني، ثم منفصلة (أ. ب. سوسلوفا «سنوات القرب من دستويفسكي». موسكو، ١٩٢٨م)، فهي تؤكِّد على أكمل وجه صحة الوصف الذي قدَّمناه. وممَّا يؤكد أيضًا على صحة ما أوردناه، خطاب دستويفسكي إلى شقيقة سوسلوفا المؤرَّخ ١٩ أبريل ١٨٦٥م، والذي عثر عليه البروفيسور ي. ف. بيتوتوخوف، وفيه يصف دستويفسكي أبوليفاريا بروكفيفنا باعتبارها امرأةً ذات طبيعة متسلِّطة، متقلبة المزاج، عديمة الشفقة. واستنادًا إلى المواد الجديدة التي نشرها أ. س. دولينين، أُشير باختصار إلى أن سوسلوفا وُلدت في عام ١٨٣٩م أو ١٨٤٠م في عائلة الأمير شيريميتيف، وكان سابقًا من الأرقاء. نشرت سوسلوفا في مطلع الستينيات عددًا من القصص في مجلة دستويفسكي «الزمن»، وانضمَّت إلى الشباب الراديكالي. انضمَّت في الخارج إلى أوساط المهجر الثوري، كما اقتربت من عائلة جيرتسين. بعد أن عادت إلى روسيا في نهاية الستينيات، افتتحت سوسلوفا مدرسةً في قرية إيفانوفو فوت نيسينسكي، سرعان ما أغلقت نظرًا «للاشتباه السياسي» لمؤسَّستها. في النصف الثاني من الستينيات وُضعت سوسلوفا تحت مراقبة لجنة التحقيق في بطرسبورج نظرًا لوجود معلومات بوليسية تُفيد احتفاظها بإضبارة كبيرة من منشورات «روسيا العظمى» (أول مطبوعة غير شرعية في روسيا). في عام ١٨٧٢م ظهرت للمرة الأولى وسط الطالبات الأوائل اللائي شاركن في الفصول النسائية الدراسية بإشراف المؤرِّخ الروسي جيريه. بعد عدة سنوات تدخل في علاقة مع روزانوف، تحدَّثنا عنها سابقًا. من الثابت أن سوسلوفا ظلَّت على قيد الحياة حتى عام ١٩١٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤