غزل المؤنث والمذكر

الحب والغزل

قال أبو نواس في جنان:

ما هوَى إلا له سببُ
يبتدي منهُ وينشَعب
فتنت قلبي محجبةٌ
وجهُها بالحسن منتقب
خليت والحسن تأخُذُه
تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه
واستزادت بعض ما تهب
فهي لو صيرت وفيه لها
عودةٌ لم يثنها أرب١
صار جدًّا ما لعبت به
رب جدٍّ جره اللعب

وقال في عريب:

صيَّرني عبدًا لها مذعنًا
حبي لها، والحبُّ شيء عجب
لو وعدتني موعدًا صادقًا
أو كاذبًا، بالجد أو باللعب
ظننت أني نلت ما لم ينل
ذو صبوة من عجم أو عرب

وقال:

جفنُ عيني كاد يسـ
ـقط من طول ما اختلج
وفؤادي لحرِّ حبـ
ـك والهم قد نضج
خبريني فداك نفسـ
ـي وأهلي متى الفرج
كان ميعادُنا خرو
ج زيادٍ، وقد خرج
أنت من قتل عائذٍ
بك في أضيق الحرج

وقال في دنانير:

صليت من حبها نارين واحدةً
بين الضلوع وأخرى بين أحشائي
وقد حميت لساني أن أبينَ به
فما يعبر عني غير إيمائي
يا ويحَ أهلي أبلى بين أعينهم
على الفراش وما يدرون ما دائي
لو كان زهدك في الدنيا كزهدك في
وصلي مشيت بلا شكٍّ على الماء

وقال في حسن:

طفلة خوذٌ رداحٌ
هام قلبي بهواها
قدها أحسن قدٍّ
فاسألوا من قد رآها
ما براها الله إلا
فتنةً حين براها
تنثر الدر إذا غنـ
ـت علينا شفتاها
وترى للعود زهوًا
حين تحويه يداها
ربما أغضيت عنها
بصري خوفَ سناها
هي همي ومناي
ليتني كنتُ مناها

وقال في عنان:

لولا حذاري من جنان
لخلعت عن رأسي عناني
وركبتُ ما أهوى ولم
أحفل مقالة من نهاني
وخرجت أخبط سادرًا
لم أغن عن حب الغواني
قد ذُبت غير حشاشةٍ
في النفس تحسبها الأماني
يا من يلوم على الصبا
دعني فشأنك غير شاني
لم تلق من حرِّ الهوى
ما قد لقيت على عنان
أني ترد عليَّ قلبـ
ـًا راح في غلق الرهان؟
قلبًا إذا كلفته
غير الذي يهوى عصاني
قد خضت في لجج الهوى
وشربت صافية الدنان
ومضمَّخاتٍ بالعبـ
ـير نزلن من غرف الجنان
راضعتهن من الصبا
كأسًا عقدن بها لساني
أقبلن من باب الرصا
فة كالتماثيل الحسان
يحففن أحور كالغزا
ل أمر إمرار العنان
يمشي بردفٍ كالنقا
يختال تحت قضيب بان
ولقد أقول لمن دعا
ه من الهوى ما قد دعاني
أبلغ هواك من الغنا
والكأس واغن عن الزمان
لا يشغلنك غير ما
تهوى فكل العيش فان
ودع الهوان لأهله
إن زلت عن دار الهوان

وقال في جنان:

دع جنانًا وحبَّها
عنك إن كنت عاقلا
لا تذكر بنفسك المو
ت إن كان غافلا
أنت إن لم تمت بها الـ
ـعام لم تنج قابلا
رجمت نفسك التي
ذهبت عنك باطلا

وقال فيها:

ولقد سباك منعمٌ
ميسان مبتهجٌ ربيب
خودٌ يحول وشاحها
في طي مئزرها كثيب
وإذا تقوم لشأنها
يمشي بأعلاها قضيب
فالويل لي ما حل بي؟
قد شفني حزنٌ مذيب
بين الجوانح والمفا
صل كالشرار له لهيب

وقال في منية:

أبت عيناي بعدك أن تناما
وكيف ينام من ضمن السقاما
بكيت من الفرق لما ألاقي
وراجعت الصبابة والغراما
رجعت إلى العراق برغم أنفي
وفارقت الجزيرة والشآما
على شط الشآم وساكنيه
سلام مسلِّمٍ لقي الحماما
مذكرة مؤنثة مهاة
إذا برزت تشبهها الغلاما
تعاف الماء والعسل المصفى
وتشرب من فتوتها المداما

وقال مورِّيًا أو مصرحًا:

لما تكشف عني أنني كلفٌ
كشفت عمدًا لهم عمن به الكلف
جيمٌ وجدت لها نونين بينهما
لمن تهجى اسمها أو خطه ألف
يضمه من ثقيفٍ بعض دورهم
ما بينكم بعد ذا التبيان مختلف

وقال من غزل المذكر:

غزالٌ به فتر وفيه تأنثٌ
وأحسن مخلوقٍ وأجمل من مشى
أقول له يومًا وقد مضَّني الهوى:
أطلت عذابي فيك يا خير من نشا
فقال: ألمَّا يأن أن نترك الصبا
وما لك يا هذا؟ وما لي؟ وما تشا؟
فقلت له: أقصر عن اللوم سيدي
فمن ذا يطيق الصبر عن مشبه الرشا
أرى لك وجهًا فتَّت القلب حسنه
به ينجلي كربي وقد ينجلي الغشا
أتقتلني إن قلت: إني أحبه
ولا ذنب لي إن كان في الناس قد فشا
كتمت الهوى حتى أضر بمهجتي
وكان الهوى طفلًا صغيرًا فقد نشا
فرقَّ لي المولى ففزت بموعدٍ
وقال: انتظرني قبل مقتبل العشا

وقال منه:

ومعشوق الشمائل والدلائل
كقرن الشمس في قدِّ الغزال
تأزَّر بالملاحة وارتداها
وسربل بالكمال وبالجمال
ضيا شمسٍ تفرَّع في قضيبٍ
ودعص نقا ترجرج في اعتدال
له في خده خالٌ مليحٌ
بنفسي ذاك من خذٍّ وخال

وقال:

مستيقظ اللحظ في أفنان وسنان
قبلت فاه فحيَّاني بريحان
مستبعد للأماني حسن منظره
عف الضمير ولكن لحظه زان
يا من تأنق باريه وصوَّره
دعصًا من الرمل في غصن من البان

وقال:

وظبيٍ تقسم الآجا
ل بين الناس عيناه
وتورى البثَّ والأشجا
ن في القلب ثناياه
وتحكي البدر وقت التمِّ
للأعين خداه
تعالى الله ما أحسـ
ـن ما صوَّره الله
ولو مُثِّل نفس الحسـ
ـن شخصًا ما تعداه
له آخرة قد أشـ
ـبهت في الحسن دنياه
فلو أنا جحدنا اللـ
ـه يومًا لعبدناه
بنفسي من إذا ما النأ
ي عن عيني واراه
كفاني أن جُنح الليـ
ـل يغشاني وأغشاه

وقال:

مُتَتَايِهٌ بجماله صلفٌ
لا يستطاع كلامه تيها
للحُسن في وجناته بدعٌ
ما إن يمل الدهر قاسيها
لو كانت الأشباح تعرفه
أجللنه إجلال باريها
لو تستطيع الأرض لانقبضت
حتى يكون جميعه فيها

وقال:

أيها الناس ارحموني
وتمشَّوا بي إليه
كلِّموه في سكون
لا تشُقُّنَّ عليه
كلموه اليوم يرضى
عن أسيرٍ في يديه
لو رأيتم حين يمشي
كاسرًا من حاجبيه
في إزار قد لواه
ثم دلى طرفيه
قلتم: ذا الفتك حقًّا
ليس ما نحن عليه

وقال موريًا أو مصرحًا:

لكن إذا عيل صَبري
ذكرته في هجاتي
عينٌ ولامٌ وميمٌ
مليحة النغمات

وقال كذلك:

لم أزل أخلع في الحب الرسن
وفؤادي عند طبي مرتهن
وجفوني ساكبات دمعها
والحشا في حشوه مني الحزن
منذ أبصرت هلالًا طالعًا
يتثنى بقوام كالغصن
ميمه شف فؤادي في الهوى
وبحاءٍ، فيه قلبي قد فتن
وبميمٍ بعدها أقلقني
وبدال سلَّ روحي من بدن

هذه أمثلة متفرقة من غزل أبي نواس في المؤنث والمذكر، جمعناها بين جدها وهزلها، ومبالغتها واعتدالها، وجيدها ورديئها، وعرضناها معًا ليقابل بينها من يشاء كما قابلنا بينها، فهي على ما نرى سواء في لبابها وقشورها، لا يجزم الناقد برجحان غزل المؤنث منها على غزل المذكر، ولا برجحان غزل المذكر منها على غزل المؤنث، وإذا اتفق تفضيل قطعة من هذا الغزل على قطعة من ذلك الغزل، فكما يتفق تفضيل القطعة على الأخرى في الغزل الواحد، أو كما يتفق التفاضل بين كلام الشاعر في بعض أغراضه أو في جميع أغراضه، فلا يكون الشاعر مجيدًا في كل ما يقول ولو قصر النظم على بابه الذي فرغ له، ولم يستحسن له قول في غيره.

وتتشابه الصفات والملامح التي يهواها الشاعر في معشوقاته ومعشوقيه، ويهوى المعشوقة أحيانًا؛ لأنها «مذكرة مؤنثة» ويهوى المعشوق أحيانًا؛ لأنه «متفتر وفيه تأنيث»، فكما يكون من محببات الأنثى إليه أنها تشبه الغلام في بعض أوصافه، كذلك يكون من محببات الأنثى إليه أنها تشبه الأنثى في بعض الأوصاف.

إنما جزم بعض النقاد برجحان غزله في المذكر على غزله في المؤنث؛ لأنهم ساقوا أنفسهم اضطرارًا إلى هذا الترجيح، وفرضوا فرضهم الأول بغير فهم لحقيقته، ثم ألزموا أنفسهم نتائجه عن اعتساف لا دليل عليه.

فرضوا أن الشذوذ الجنسي شيء واحد يستلزم أن يكون الشاذ منحرفًا إلى هوى أبناء جنسه، ثم وجدوا أبا نواس يتغزل بالجواري كما يتغزل بالغلمان، ووجب أن يعللوا هذه الغرابة فعللوها بالصدق في أحد الغزلين والكذب في الغزل الآخر، ولكنهم إذا رجعوا إلى الحقيقة لم يجدوا علامة من علامات الصدق عندهم ينفرد بها غزل المذكر أو غزل المؤنث، سواء نظروا إلى التعبير عن الشعور، أو نظروا إلى الإجادة الفنية، وهذا على فرض أن الإجادة الفنية شرط من شروط الشعور الطبيعي في أهل الفنون وفي سائر الناس.

وتصحيح هذا الخطأ إنما يكون بالرجوع إلى العلل النفسية، كما شرحتها الدراسات الأخيرة، فأصل الخطأ سوء فهم الشذوذ الجنسي الذي انطوت عليه طبيعة أبي نواس، فلم يكن شذوذه يستلزم الشغف بأبناء جنسه دون غيرهم، ولم يكن جنسه هو سويًّا غير مشترك حتى يظن أنه يميل إلى جنس واحد، وإنما كانت له طبيعة جنسية تشتبه بكلا الجنسين، وتتشكل بهذا الشكل مرة وبذلك الشكل مرة أخرى، على حسب غوايات الطبيعة النرجسية، ومن ثم حبه الفتى؛ لأنه كالفتاة وحبه الفتاة لأنها كالفتى، ونظرته إلى الرجولة بعين المرأة في بعض الأحايين.

وإذا اعتبرنا رجحان الغزل بما ينم عليه من حرارة الشعور، فربما توافقت الآراء على أن غزله في جنان أنم على حرارة الشعور من سائر غزله، فإن لم تتوافق الآراء على ذلك فلا نعرف قصيدة في غزل المذكر يحسبها النقاد راجحة بحرارة الشعور على سائر القصائد الغزلية.

والمدار في غزل أبي نواس جميعه على الصورة التي يشخص بها نفسه في ذات معشوقه أو معشوقته على دأب النرجسيين، وقد مر بنا أنه كان يعجبه ممن يتغزل به أن يلثغ بالراء وأن يتشبه بالأدباء، وأن يقتدي به يوم كان معشوقًا في صباه، ولم تفارقه هذه الخليقة النرجسية حتى بعد أن كبر واكتهل، فكان يقول في معشوق ملتحٍ:

قال الوشاة: بدت في الخد لحيته
فقلت: لا تكثروا، ما ذاك عائبه
الحسن منه على ما كنت أعهده
والشعر حرزٌ له ممن يطالبه
بهى وأكثر ما كانت محاسنه
أن زال عارضه واخضر شاربه
وصار من كان يُلحي في مودته
إن سال عني وعنه قال: صاحبه

وبديه أن النظر في غزل أبي نواس لا محل فيه للكلام على وفاء العشاق بالمعنى، الذي عرفه قراء الأدب العربي من أخبار العذريين، بل لا محل فيه حتى للتجمل الذي كان يناسب سمت الشعراء الغزليين من أمثال ابن أبي ربيعة، فقد كانت بيئة أبي نواس بعيدة عن بساطة البداوة، وبعيدة عن تجمل ذوي البيوتات من الفتيات والعقائل، وكانت بيئته على الأكثر بين الجواري والقيان وبين المتعرضين لشعراء المجون من الغلمان، وقد زاد عدد معشوقاته المذكورات في ديوانه على عشر، منهن جنان ودر ودنانير ونبات وحسن ومنى ومنية وسمجة وعنان ومكنون وعريب وقاتل، عدا اللاتي تغزل بهن ولم يذكر أسماءهن، وكان يبث لوعته لعنان في إبان مناجاته لجنان، فيقول:

لولا حذاري من جنان
لخلعتُ عن رأسي عناني
… … … …
… … … …
يا من يلوم علي الصبا
دعني فشأنك غير شأني
لم تلق من حرق الهوي
ما قد لقيتُ على عنان

وتغزل بمثل هذا العدد أو أكثر من المعشوقين، فلم يحرص على ظاهر الوفاء فضلًا عن مضمره ومكنونه، ولم يكن عرف البيئة يتطلب منه هذا المظهر في غزله بالمؤنث أو غزله بالمذكر، فما كان الغزل في عرفهم إلا تسلية وتزجية فراغ وشغلانًا بثرثرة المجالس، ووشايات المجتمع ومناوشات الأندية التي يجتمع فيها الشاربون، وطلاب السماع والمسمعات أو المسمعون من القيان والمغنيين.

ذلك كان ديدن العصر بجملته. أما الزيادة من أبي نواس على عرف عصره، فهي زيادة الطبيعة الموكلة بالعرض والتشخيص، وهي زيادة الطبيعة النرجسية التي تجعل العاطفة نحو غيره كالمنقولة أو العارية المستردة؛ لأن النرجسي كما تقدم يتمثل نفسه في غيره، ولا يحب ذلك الغير إلا بمقدار الدور الذي يحكيه أو الزي الذي لا يلبث أن يخلعه، وبخاصة حين يكون النرجسي كأبي نواس «مشترك الجنس» قادرًا على تمثل شخصه في الإناث والذكور، وعلى تمثل نفسه محبوبًا للرجال والنساء.

ويبدو لنا أن شعره الذي يعلن فيه زهده في المرأة إنما كان من إعراض المرأة عنه لا من إعراضه هو عن المرأة، وأنه كان يشتهي المرأة فلا يستهويها فيداري خيبته معها، ويوهم الناس أنه يتركها باختياره، ولا يتركها على الكره منه.

وكان يعجب الناس أن يتحدثوا بعجائبه وشذوذ طبعه، فيجمع المتكلمون عنه على رفض الزواج، ولم يصدقوا كل الصدق على ما يظهر من قوله يخاطب ابنة له:

يا ابنتي أبشري بميرة مصرٍ
وتمني وأسرفي في الأماني

وقوله عمن تركها في بيته:

تقول التي عن بيتها خفَّ مركبي
عزيزٌ علينا أن نراك تسير

ولا بد من الرجوع بشيء من مبالغات أبي نواس في الولع بالغلمان إلى البدعة التي نشأت في زمانه ولم تكن لها سابقة في الأدب العربي قبله، فلم يسمع عن شاعر من الجاهليين والمخضرمين أنه نظم الشعر غزلًا بالمذكر، ولم يكن غزل ابن مناذر قبيل أبي نواس بقليل على هذا التهتك والمجون، الذي فشا حوالي منتصف القرن الثاني وقبل نهايته، ففي هذه الفترة كان غزل المذكر بدعة يلهج بها من لم يكن من أهل الفسوق والمجانة، ومن أخبار ابن منظور التي رواها عن أبي نواس أنه عشق فتى يسمى جمالًا الدارمي، وكان لا يشرب الخمر ولا يغشى معارض الشبهات، وقد تغزل بخمسين غلامًا ولما يجاوز العشرين. وفي هذا الفتى يقول أبو نواس:

يا واصفَ الخمسين لو تعدل
لكان فيهم اسمك الأول
وصفت خمسينَ فميَّزتهم
وأنت أنت الظبية المغزل
جمالُ دع عنك لنا وصفهم
أنت وربي منهم أجمل

وما كان من شيم أبي نواس — وهو المطبوع على العلانية والتحدي — أن يشهد البدعة، ولا يتمادى فيها حتى يسبق مبتدعيها، فالإفراط في غزل المذكر لا يحسب كله على أبي نواس، ولا يتخذ كله دليلًا على نوازعه وأهوائه، ويصدق عليه في هذه الخلة ما يصدق على الشيطان في أمثال الغربيين، فليس هو من السواد الحالك بحيث يرسمه الرسامون!

ثم تنحسر الشهرة عن زياداتها وتثوب الطبيعة إلى حدودها، فتبدي لنا الحسن بن هانئ في تلك الحدود على حقيقة شذوذه الجنسي، الذي يفسر غزله بالمؤنث وغزله بالمذكر، ويفسر تأنثه في صباه ويفسر مبالغته ودعواه، وذلك هو شذوذ الطبيعة النرجسية التي مكنتها فيه بيئته من أهله وعصره ومعاشريه.

١  أي أنها اختارت فلم تبق ما تختار إذا عادت إلى المحاسن لتأخذ منها غير ما عندها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤