المسرح الملحمي

أليس في عنوان هذا الكُتيِّب قَدْرٌ من التعسُّف نُحس فيه شيئًا من التناقُض؟ وإن نحن غيَّرنا فيه قليلًا فجعلناه «الدراما الملحمية»، أفلا يثير في نفوسنا مع ذلك شيئًا من الغرابة؟

الدراما — كما يعرف القارئ وكما يُعلِّمنا الفعل اليوناني الذي اشتُقَّت منه — هي الفعل. وهي فعلٌ مباشر في الزمن الحاضر، تامٌّ في ذاته، ينمو بين بدايته ونهايته نموًّا عضويًّا على هيئة مناجاة (مونولوج) أو حوار (ديالوج)، لا عن طريق الكلمة التي تُؤثِّر على الخيال، بل عن طريق حدثٍ أو تيارٍ من الأحداث يجري على خشبة مسرح، ويدعو المتفرِّج لِلغَوص في لُجَّته.

أمَّا الملحمة فهي نوعٌ آخر من أنواع التعبير الأدبيِّ الرئيسة، يمتد امتدادًا مُوغِلًا في المكان والزمان، ويُصوِّر صراع الآلهة والأبطال بلغةٍ شاعريةٍ فخمة. وسواءٌ أكانت الملحمة شعبيةً أم فنية، فقد وُجدَت عند كل الشعوب، وكانت أَقدمَ أشكال القصة وأشملها وأوفرها حظًّا من الجلال؛ فكيف يمكن الجمع بين هذين النوعَين المُستقلَّين؟ وكيف يمكن التوفيق بينهما على الرغم مما بينهما من اختلاف في البناء والأسلوب والحركة في المكان والزمان؟

لا شك أن القارئ يعرف هذا المصطلح، ولا شك أنه اطَّلع على بعض نماذجه أو شاهدها على المسرح. ولعله قد ارتبط في ذهنه باسمِ واحدٍ من أعظم كُتابه في الثلث الثاني من هذا القرن، وهو الشاعر الكاتب المخرج الألماني برتولت برشت (١٨٩٨–١٩٥٦م) الذي حدَّد المصطلح ودعمه بكتاباته النظرية. ولعله أيضًا قد قرأه على نحو آخر؛ لأن صاحبه يصفه بأوصافٍ أُخرى كالمسرح العلمي أو الجدلي أو غير الميتافيزيقي أو غير الأرسطي أو مسرح الاحتجاج … ولكن المسرح الملحمي قديمٌ قِدم المسرح الغربي كله، وجذوره ممتدة في تاريخ هذا المسرح، وبعض عناصره نجدها في المسرح الشرقي والصيني بوجهٍ خاص وفي كثير من ظواهر «المسرحة» في الحياة الشعبية والأدب الشعبي عندنا وعند غيرنا من الشعوب، كما أن مسرح برشت ليس هو المسرح الملحمي الوحيد؛ فهناك مسرح يول كلوديل المعاصر له، وهناك جوانبُ ملحميةٌ كثيرة نلمسها لدى كبار الكُتاب المُحدَثِين من أصحاب المسرح الشعري والمسرح الحيِّ ومسرح اللامعقول والمسرح التسجيلي أو مسرح الوثائق ومسرح التجارب اللغوية (عند بيتر هاندكه) … إلخ. وإذا كان برشت هو الذي حدَّد هذا المصطلح وأثراه بأعماله الفنية والنقدية في إطار النظرية الاشتراكية، فهو في الحقيقة يصف به بناءً دراميًّا لم يخترعه من العدم، وإنما وُجدت الدراما الملحمية أو غير الأرسطية خلال الدراما الغربية وعلى مَرِّ العصور، كما أن محاولة الفِكاك من النظرية الأرسطية المشهورة لم تتوقف منذ عهد التراجيديا اليونانية نفسها حتى يومنا الحاضر. وإذا كان من العسير علينا في هذا المجال أن نناقش هذه القضايا الكثيرة، فلا أقل من إلقاء نظرةٍ تاريخية عليها؛ لِنَتبيَّن ملامح الدراما غير الأرسطية وآثارها والجهود التي بُذلت للوصول بها إلى التجارب الجديدة التي ما زالت تشق طريقها وتبحث عن أنسب شكلٍ لها.

•••

ما زالت الدراما الغربية منذ عهد الرومان خاضعةً لتأثير أمها الأولى (وهي التراجيديا الإغريقية)، وما زالت واقعةً تحت تأثير النظرية الفنية الفريدة التي ورثناها عنها، وهي النظرية الواردة في كتاب الشعر لأرسطو. ويبدو أن اسم المعلم الأول لا بُدَّ أن يظهر في كلِّ نقاشٍ يدور حول نظرية الدراما قديمها وحديثها، وأن التشبُّث بقواعده أو الثورة عليها هما في الحالتَين اعترافٌ بفضله وسلطانه! فقد دَخلَت الأجيال على مَرِّ العصور في حوارٍ مع نظريته المشهورة (التي أشار إلى بعض أسسها أو استخلصها النقاد من كلامه المُوجَز وأجملوها في الوحدات الأساس المعروفة كالمكان والزمان والحدث، وعِلِّية التسلسل والاتساق في الفعل المسرحي، وتشابك المشاهد وتداخلها، والأزمة والصراع أو العقدة التي تنتهي بالحل والتكشُّف). وتَمسَّكَت بعض الأجيال بالنظرية، وخرج عليها بعضها الآخر وأخذ يُفسِّرها ويُعدِّل فيها أو يُخالفها ويثور عليها مُتأثرًا بمسرح شكسبير (وهو مسرحٌ غير أرسطيٍّ بالأصالة …) وهذا كله أمرٌ طبيعي؛ فلكل عصر مسرحه. وكل عصر ينتظر من المسرح شيئًا يخالف العصر السابق أو اللاحق. وقد لا نظلم الحقيقة إذا قلنا إنه كانت هناك على الدوام نظريةٌ أُخرى غيرُ أرسطية في بناء الدراما، ظَهرَت بصورةٍ واضحة في العصور الوسطى المسيحية عندما كُتبت المسرحيات الدينية المعروفة بتمثيليات الأسرار، كما ظَهرَت في العصر الحديث لِتثور على نظرية أرسطو عن قصد ووعي في بعض الأحيان، أو عن ضرورةٍ اقتضتها المادة الحديثة والمضمون الجديد في أحيان أخرى. وكلامنا عن الدراما غير الأرسطية لا يعني أنها تعارض تلك معارضةً تامة؛ فقد تلتقيان في بعض النقاط، ولكنها تغُضُّ النظر عن المكان والزمان ولا تخضع لعِلِّية التسلسل، كما نجد أن بناء المَشاهد والمَناظر يسير على مبدأ التجاور بحيث تستقل في وحداتٍ قائمة بنفسها، وبحيث يتسع أفق الدراما فيكون رحبًا شاملًا أقرب إلى أُفق الملحمة.

ونحن نشير بهذا الكلام عن الملحمة والدراما إلى مشكلة من أدق المشكلات التي عَرضَت للنقد الحديث وهي مشكلة الأنواع الأدبية. ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نَتعرَّض لها بالتفصيل في هذا المجال. ولكننا نلاحظ بوجهٍ عام أن المناقشات الطويلة التي دارت ولا تزال دائرةً حولها قد سارت في طريقَين. أحدهما يتابع تراث النقد المعياري وينظر إلى الأنواع الأدبية نظرةً ثابتةً مطلقة، والآخر ينظر إليها نظرةً جدَلية مُتأثرًا بفلسفة هيجل الذي أدخل التفكير التاريخي والجدلي على علم الجمال مما أدَّى إلى التوحيد بين الشكل والمضمون والنظر إلى الأنواع الأدبية نظرةً تاريخية تُخضعها للتطور الذي يسري على المجتمع والفكر والوجود. ولعل الرسائل الرائعة التي تبادلها الشاعران الكبيران جوته وشيلر أن تكون أهم وثيقةٍ أدبية سَجَّلَت الأزمة الدائرة حول مشكلة الأنواع الأدبية. وعبَّرَت عن الآلام التي كابداها في أعمالهما المتأخرة (مثل فاوست لجوته، وعذراء أورليانز أو جان دارك لشيلر، ومسرحياته الأخيرة التي تركها بغير أن تتم). لقد حاولا المحافظة على الشكل الموروث والقواعد الأرسطية التي التزما بها أو رغبا على الأقل في الالتزام بها. ولكنهما وجدا أنفسهما مع ذلك مدفوعَين دفعًا إلى الخروج عليها، بحيث اقتنعا في النهاية — كما يقول شيلر في رسالة إلى صاحبه بتاريخ ٢٦ من يوليو سنة ١٨٠٠ — بأن الشاعر يجب ألَّا يتقيد بفكرةٍ عامَّة، وإنما يجب عليه، وهو يواجه المادة الجديدة، أن يغامر بالبحث عن الشكل الجديد ويجعل فكرة النوع الأدبي فكرةً مرنة … وقد أدَّت بهما هذه المناقشة إلى الاشتراك في كتابة بيانٍ هامٍّ عن «الأدب الملحمي والأدب الدرامي» حدَّدا فيه طبيعة كلٍّ منهما، وذهبا إلى ضرورة امتزاجهما وتداخلهما؛ الأمر الذي نلمسه كما تقدم في «فاوست» التي تُعدُّ في الواقع قصيدةً ملحميةً كبيرة اختفى منها عنصر التوتر الدرامي أو كاد، وأصبح حلقةً واحدة من حلقاتٍ متصلة تُؤلِّف بينها رؤيةٌ متزنةٌ شاملة للكون والإنسان والمصير.

•••

لنحاول الآن أن نَتبيَّن بعض ملامح البناء غير الأرسطي في الدراما الغربية. ولا مناص لنا من البدء بالسؤال عن أصل التراجيديا. وهو موضوع لا يزال يحيط به الغموض ويثور حوله الجدل. ولعلنا لن نصل فيه إلى جوابٍ يقينيٍّ حتى يتم الكشف عن نصوصٍ مسرحية كتبها مُؤلِّفون سابقون على الشعراء الإغريق المعروفِين. والشيء المؤكَّد على كل حال هو أن الشكل الأرسطي للتراجيديا قد جاء نتيجة تطورٍ تم في مرحلةٍ متأخرة، وأن هذه التراجيديا قد نَشأَت عن روح الموسيقى، كما يقول نيتشه في كتابه المعروف عن مولد التراجيديا.

كانت التراجيديا ذات طابعٍ طقوسيٍّ تُعبِّر عنه بالرقص والموسيقى. وكانت هذه الطقوس تتم في صورة إنشادٍ متبادَل بين الكورس (الجوقة) وقائده الذي يُجسِّد الإله أو البطل. وارتَبطَت هذه الطقوس بعبادة ديونيزيوس، رَبِّ الخمر والنشوة، التي بلغت أَوْجها في القرن السادس قبل الميلاد، ثم دَخلَت الكلمة المنطوقة لأول مرة — ويُروى أن ثيسبيس هو الذي فعل هذا! — فجَعلَت المُنشد الذي كان يقوم بالرد على الكورس هو المتحدث الوحيد، كما وَضعَت بذلك أول حجر في البناء الدرامي …

كانت التراجيديا القديمة احتفالًا طقوسيًّا لا يمكننا أن نصفه بأنه تراجيديٌّ إلا على سبيل التجاوُز أو على سبيل المجاز. فقد كانت هذه الطقوس تحتوي على عناصرَ شعبيةٍ وديونيسية تُوضع بعضها بجوار بعض في حرية وبغير تقيُّد بموضوع أو غرضٍ مُعيَّن. ثم استُخدمَت بعد ذلك — على نَحوِ ما يروي أرسطو — موضوعاتٌ من الأساطير كيفما اتفق أو كيفما أحب الناس. حتى إذا جاء الشعراء المتأخرون اختِيرت أساطيرُ يمكن أن تُوصف بأنها تراجيدية. وبدأت مع إيسخيلوس — الذي أدخل الممثل الثاني — مرحلةٌ يمكن أن نُسمِّيها «درامية» تَمثَّلَت في تبادُل الحوار والأخذ والردِّ واستغراق الكورس في تأمُّلاته الطويلة. ولو نظرنا إلى «الفرس» لإيسخيلوس لوجدناها خاليةً من أي حدثٍ مسرحي؛ فنحن نسمع أخبار المعركة وهي تُروى أمامنا، فترُدُّ عليها الشخصيات والكورس بالتفجُّع والشكوى. الحدث إذًا غير مرئي، والدراما — إن جاز لنا أن نستخدم هذه الكلمة للدلالة على نوعٍ أدبيٍّ مُعيَّن — تقوم على عناصرَ ملحميةٍ وغنائية تُؤلِّف في مجموعها أحد الطقوس التي أشرنا إليها. ونفس الشيء ينطبق على مسرحيته الأخرى «السبعة ضد طيبة».

هذه العناصر الملحمية الغنائية التي أَخذَت تقل لمصلحة الحدث الدرامي — في مسرحيات سوفوكليس ومسرحيات إيسخيلوس المتأخرة — لم تَختفِ بعد ذلك ولم تنقطع عن القيام بدورها. فقد ظلَّت رواية الخبر وظل التأمُّل الشاعري عنصرَين أساسَين من عناصر الدراما. ومن يقرأ كتاب نيتشة السابق الذكر يجد كيف شاعت الجوانب الملحمية في أعمال يوريبيدز، وكيف ربط نيتشه هذه الملحمية بما سمَّاه التنوير السقراطي الذي جعله علامة على ضمور التراجيدية أو الديونيسية الأصلية وظهور المرحلة «الأبولونية» أو العقلانية التي كانت بداية انحلال الروح اليوناني البطولي وتدهوره …

•••

يبدو أن الدراما الغربية قد وُلدت ولادةً ثانية عن طقوس العبادات، ونقصد بهذا نشوء ما يُسمَّى بتمثيليات الأسرار في العصور الوسطى عن القُدَّاس المسيحي.

كانت الطقوس المسيحية الأولى تُصوِّر الأحداث الواردة في الأناجيل الأربعة في صورةٍ رمزية، كموت المسيح بعد العشاء الأخير وصَلبه وقيامته. ثم دَخلَت عليها بالتدريج ألوانٌ من الزخرفة والتمثيل الصامت أو المنطوق. وفي القرن التاسع كانت تتخلل تلاوة نص القُدَّاس إضافاتٌ نثريةٌ تُلقى بطريقةٍ تمثيليةٍ مُنغَّمة، كما كانت إشارات القساوسة والرهبان وحركاتهم الرمزية — من مسير إلى الأمام والخلف وتبخير المكان، وتسليم الأكفان تمهيدًا للقيام بتمثيلية عيد الفصح — تتزايد شيئًا فشيئًا وتحفل بألوانٍ من الزينة في الملبس والإشارة للتأثير على جمهور المُصلِّين. ثم دخل عليها نوعٌ من «الدرامية» بإضافة أصواتٍ أُخرى لم تكن قائمة من قبلُ، فانضمَّت إلى الإنشاد المُتبادَل بين القُسُسِ والمُصلِّين أصواتٌ أُخرى تُغنِّي على لسان الملائكة والرسل والنساء كلٌّ على حدة، وكان الرهبان والصبية الذين يُمثِّلون الجوقة يُنشِدون هذه الأدوار من المكان المُعَد للجوقة.

ثم اتسع الأمر في القرن الرابع عشر عندما أُضيفت إلى الأحداث التي تُصوِّر عيد الفصح أحداثٌ أُخرى مستمدة من الأناجيل، مما أدَّى بطبيعة الحال إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يُؤدُّونها. ولا ينبغي أن يغيب عنا أن هذه النزعة الدرامية المتزايدة كانت تعتمد باستمرار على طقوس القُدَّاس التي كانت تقطعها بين الحين والحين تراتيلُ يتبادلها القِسِّيس والمُصلُّون، وتأمُّلاتٌ شاعرية في نصوص الإنجيل أو أناشيد المُصلِّين … وعلى هذا الأساس الملحمي من نصوص الإنجيل — التي تُروى غناءً على لسان الرسل وتُمثَّل حركاتٍ وإشاراتٍ وإيماءاتٍ يتخللها حوار بين أشخاصٍ مختلفِين — نشأ شكلٌ تمثيليٌ قريب من الأوراتوريوم المعروف في عصر الباروك.

ويتألف قسم منه من عناصرَ ملحميةٍ غنائية، وقسمٌ آخر من عناصرَ دراميةٍ تُكوِّن في مجموعها تمثيليةً غنائيةً للأصوات الفردية والجوقة بمصاحبة عزف الأرغن أو الأوركسترا، وتقوم في الأصل على نصَّ ديني أُضيفت إليه بعد ذلك نصوصٌ دنيوية. وهو من الناحية الموسيقية قريب الشبه بالأوبرا، وإن كانت المشاهد فيه غير منظورة في الغالب. وقد نشأ في إيطاليا في أواخر القرن السادس عشر لمصاحبة قصص الإنجيل والصلوات والأدعية، ومن أهم من وضع أسسه نيري وأنيموشيا وبالسترينا وكافالييري، ثم بلغ الذروة عند «باخ» «الباسيونات أو عذابات المسيح» وهيندل «المسيح» وهايدن «الخلق والفصول».

ولما ازدادت هذه الزخرفة ولم يعد التمثيل مقصورًا على القُسُس والرهبان بل اتسع لسكان المدن وخرج من داخل الكنيسة ليُمثَّل في ساحتها، قَوِيَت هذه النزعة الدرامية وحَلَّت اللهجات المحلية محل اللاتينية، كما قام مقام الرسول شخصٌ آخر — كالقِدِّيس أوغسطين مثلًا — كان يتقدم بين المشهد والآخر ليروي الأحداث، ثم اختفى الراوية أيضًا، ولم يقف الأمر عند تمثيل أحداث عيد الفصح، بل أخذ يُحيط بحياة المسيح كلها في مشاهدَ متتالية. وأخيرًا أصبحت تمثيلية الأسرار تشمل أحداث العالم كما تَتصوَّرها المسيحية، ابتداءً من الخطيئة الأُولى حتى يوم القيامة والحساب الأخير.

ومع ذلك فقد بقي الطابع الملحمي هو الغالب على تمثيليات الأسرار (على الرغم من اختفاء الراوية) كما بقي الطابع الطقوسي عن طريق ما كان يدخل على التمثيل من الموسيقى وإنشاء الجَوْقة. ويجب أن نَتصوَّر التمثيل في صورةٍ رمزية. فقد كانت الأحداث التي تدور أمام جمهور المُتفرجِين معروفةً لكل واحدٍ منهم. ولم يكن على التمثيل إلا أن يُجسِّمها لهم ويُعمِّقها في صورةٍ غير واقعية. ولم يكن المُمثِّل يَتقمَّص الشخصية التي يقوم بها، ولم يكن الجمهور لِيُصدِّق بالطبع أن الممثل الذي يقوم بدَورِ المسيح هو المسيح نفسه. فالمُمثِّل كان يقوم بِعددٍ من الحركات التعبيرية والرمزية المدروسة من قبلُ. وكان يأتي من الحركات ما يُصوِّر للمُشاهِدِين أنه مُستغرِقٌ في حالةٍ نفسيةٍ مُعيَّنة. ولا يخفى على القارئ أن هذا موقفٌ ملحمي يعتمد على الحَكْي والرواية، على عكس ما نراه في تَقمُّص المُمثل للشخصية التي يُؤدِّيها في الدراما التقليدية.

وبَلغَت مسرحيات الأسرار ذروة الكمال شكلًا ومضمونًا في ذلك العدد الكبير الذي تركه لنا الشاعر الإسباني «بيدرو كالديرون دي لاباركا» (١٦٠٠–١٦٨١م) من المسرحيات المعروفة بالأوتو ساكر منتال١ أو الفصول المُقدَّسة التي تُعبِّر تعبيرًا رمزيًّا مُركَّزًا عن تمثيلية الأسرار بوجهٍ عامٍّ كما تنتقل بها نقلةً أدبيةً أساسًا. (وقد وصل عددها إلى ثلاثٍ وسبعين مسرحية!)
وتَبلوَرَت تمثيليات الأسرار، التي كانت قد تَضخَّمَت حتى امتدت فترة عرضها في القرن السادس عشر في مدينة بورج٢ الفرنسية مثلًا إلى خمسين يومًا! وتَركَّزَت في فصلٍ واحدٍ طويلٍ يُصوِّر العشاء الأخير. وتَطوَّر كالديرون بشكلها التقليدي فأدخل عليها الموسيقى وغناء الجَوقة، وأضفى عليها الطابع الطقوسي من جديد. ومن ثَمَّ كانت مسرحيات كالديرون تصويرًا رمزيًّا أو مجازيًّا للقُدَّاس المسيحي، يدخل فيه عددٌ كبير من الحكايات والأساطير والقصص الخُرافية والاستعارات المُستمَدة من العهد القديم والجديد، بل تَدخُل فيه كذلك بعض الأساطير القديمة إلى جانب الصور والأحداث المُبتكَرة التي تخدم الطقوس التمثيلية في إطار الفصل الواحد. هذه الطقوس التمثيلية المُعبِّرة عن نظامٍ فكري له قداسته تدل — إلى جانب طابعها الكنسي — على طابعٍ ملحمي؛ فلا مجال هنا للكلام عن الجانب التراجيدي والدرامي بالمعنى الذي فهمهما به أرسطو؛ لأن الحركة الدرامية في هذه التمثيليات تخضع للرؤية الدينية والكونية التي غَلبَت على العصور الوسطى.

كانت سلسلة التقاليد المسرحية قد انقطعت خلال عدة قرون. صحيحٌ أن رجال الدين في العصور الوسطى عرفوا المسرح الروماني تمام المعرفة. ولكن تأثير هذا المسرح كان تأثيرًا نظريًّا أكثر منه عمليًّا، كما كان ينحصر في مجال المسرح الهَزْلي في تمثيليات بلاوتوس وتيرينس.

ولا نريد أن نُطيل الوقوف عند هذه النقطة، ونكتفي بالحديث عن نوعٍ من سوء الفهم له أهميته في كلامنا عن المسرح الملحمي الحديث. فقد عَرفَت العصور الوسطى، كما قَدَّمتُ، مسرحياتِ بلاوتوس وتيرينس الهَزْلية، ولكنها عرَفَتها كمسرحياتٍ للقراءة؛ أي من ناحيتها الأدبية قبل كل شيء، فلما حاول القوم أن يُحقِّقوها بالفعل على المسرح، تَصوَّروا — نتيجة خطأ في الترجمة! — أن من الضروري أن تُتلى على لسان شخصٍ يقرؤها، على حين تُصوَّر النصوص على المسرح في صورة تمثيلٍ صامتٍ فحسب (بانتوميم). بهذا فصلوا بين الحدث والكلام. ولِسوء الفهم هذا أساسُه في أصول تمثيليات الأسرار، وهو يتفق مع الموقف العام في العصر الوسيط، كما يتمثل في الطقوس التي كانت تُصاحِب القُدَّاس الكنسي. أضف إلى هذا أن الفصل بين الكلمة والصورة أو بين الراوية الذي كان يتلو النصوص الدينية من مَشهَد٣ أو بيتٍ صغيرٍ مستقل عن المسرح وبين الحدث المُقدَّس الذي كان يُعرض مستقلًّا عنه، شيءٌ يتصل بعقلية العصور الوسطى وتَصوُّرها، وسوف نلاقيه في المسرح الحديث عندما نرى كيف يتم الفصل بين الكلمة والحدث الذي يُجسِّمها في بعض التمثيليات المعاصرة.
هذا الطابع الملحمي لمسرح العصور الوسطى — الذي نجده في تمثيليات الشاعر والكاتب والإسكافي الألماني هانز زاكس (١٤٩٤–١٥٧٦م) التي بلغت حوالَي مائتَي تمثيلية تُعرف بتمثيليات أربعاء الرماد٤ — ستحتفظ به كذلك تمثيليات الجزويت الكبرى. ربط الجزويت أخبار بعض النفوس الخاطئة وحكاياتها التي كانت تُتلى لغرضٍ تعليميٍّ وأخلاقيٍّ بكثيرٍ من التهاويل والزخارف المسرحية التي أخذوها عن عصر الباروك. ومن أوضح الأمثلة على ذلك مسرحيتا «أكولاستوس»٥ لجنافيوس٦ وكينودوكسوس٧ ليعقوب بيدرمان٨ (١٥٧٨–١٦٣٩م). ويتمثل الطابع الملحمي في مثل هذه المسرحيات في إغراق المناظر بكثير من الزخارف والأحداث الجانبية التي لا ضرورة لها ولا تتصل كثيرًا بالحدث الدرامي الأساسي.
وظل الأمر على هذه الحال حتى جاء العصر الإليزابيثي حاملًا معه وعي عصر النهضة ليجعل من هذا الشكل المعتمد على الحكايات والأخبار المتفرقة شكلًا دراميًّا يتميز بالوحدة والترابط. وهكذا وجدنا البناء الزخرفي، المُعقَّد عند الجزويت، يُخلي مكانه لبناءٍ آخر يختار المشاهد ويرتبها بعضها إلى جانب بعض بطريقة يمكن أن نصفها بأنها غير إيقاعية، ويخضع في ذلك لقانونٍ آخر يُعنَى بقوة الأثر الدرامي المباشر لا مجرد الزخرفة أو تكديس المشاهد التي ترمز إلى معنًى دينيٍّ أو خلقيٍّ مُعيَّن. وجدير بالذكر أن الحركة الأدبية المعروفة في تاريخ الأدب الألماني بحركة العاصفة والاندفاع أو العصف والدفع٩ (والتي تُؤرَّخ عادةً من حوالي سنة ١٧٦٧ إلى سنة ١٧٨٥ وتُنادِي بإطلاق العبقرية الخلَّاقة من كل القيود) قد سارت على هذه الطريقة غير الإيقاعية في ترتيب المَشاهِد مُتأثرةً بمسرح الجزويت ومسرح شكسبير. ويكفي أن يتصفح القارئ مسرحية «جوتس» المشهورة لجوته ليتيقن ذلك.

لن نقف عند هذه المرحلة الطويلة التي تحتاج لتفصيلات أوفى، بل سنتخطاها لمرحلة أكثر أهمية بالنسبة لتتبُّعنا للظواهر الملحمية التي سَبقَت المسرح الحديث ومَهدَت له. وسنجد أن إنتاج الحركة الرومانتيكية في المسرح — ودلالته الأدبية والشعرية أكبر بكثير من دلالته المسرحية — ينطوي على ظاهرةٍ نلاحظ استمرارها في الدراما الملحمية الحديثة من الناحيتَين الشكلية والموضوعية، ألا وهي ظاهرة التأمُّل الذي يُوقِف الحدث ويَكسِر حاجز الخيال ويقوم بتبديد الوهم. وأوضح مثلٍ على هذا مسرحية الشاعر الكاتب الرومانتيكي لودفيج تيك (١٧٧٣–١٨٥٣م) المعروفة «القط ذو الحذاء»؛ إذ نجد «حدُّوتة» الأطفال المشهورة تتحول إلى مناسبةٍ لتوجيه النقد والسخرية بحركة التنوير وتكلُّف كُتاب المسرح وغباء الجمهور … إلخ. ويستمر التحطيم للوهم المسرحي بحيث تبدو مستويات الوهم والواقع المختلفة كأنها مسرحٌ يكشف القناع عن نفسه أو يؤكد أنه ليس إلا مسرحًا أو تمثيلًا في تمثيل! بهذا يظهر الواقع والتمثيل في صورتَين، تبدو إحداهما لدى المُمثِّل الذي يكسر الموقف المسرحي ويخترق الخشبة متجهًا بحديثه للجمهور، وتبدو الأخرى لدى الجمهور الذي لا يتوقف عن توجيه تعليقاته أو صفيره للمُمثلِين فيكسر بدوره حاجز الوهم! ومن الصعب القول بأن الأمر هنا يقتصر على تذويب الشكل وحده؛ فالمضمون أيضًا يذوب معه، وتصبح المسألة كشفًا مستمرًّا للأقنعة يتعذَّر تفسيره من الناحية الجمالية الصِّرْفة. ولعل التفسير الذي قدَّمه جورج لوكاتش لهذه الظاهرة من الناحية التاريخية والاجتماعية أن يكون هو أصحَّ تفسير لها؛ فهو يرى أن الرومانتيكية جاءت في عصرٍ هرب من مواجهة الواقع التاريخي للثورة الاجتماعية؛ ولهذا انقلبت لديه العاطفة إلى نوع من التهكُّم والمُعارَضة والسخرية التي تُحاوِل أن تخلق من موقف النفي الذي وَقفَته لونًا من الواقع تعويضًا عن الواقع التاريخي الذي هَربَت منه إلى الخيال. ويزداد هذا التفسير وضوحًا إذا ألقينا نظرة على بقية المسرحيات الرومانتيكية، ورأينا كيف يُثقِل السرد الملحمي والشاعرية الغنائية القائمان على العاطفة والشعور البحت مَشاهد هذه المسرحيات وفُصولَها، بحيث تُعطِّل التأثير المسرحي بل تُلغيه إلغاءً. وليس مرجع هذا إلى إدخال الراوية — كما في مسرحية تيك الأخرى «حياة وموت القديسة جنيفوفا» — ولا إلى ترتيب المَشاهِد الكثيرة بعضها بجانب بعض بشكلٍ تاريخي، ولا نثر القصائد والأُغنيات هنا وهناك، ولا تغيير المكان والوثب من زمن إلى آخر — فقد تزيد هذه الوسائل جميعًا من فاعلية التأثير المسرحي ولا تُقلِّل منه — بل مرجعه إلى أن «الحكاية» في هذه المسرحيات الرومانتيكية تقوم على موقفٍ شعريٍّ خالص، بحيث يصبح المكان وسيلةً للتناول العاطفي المثالي، كما يصبح الحدث سببًا لخلق الموقف الشعري؛ ولهذا كان العنصر السائد في هذا المسرح هو «الجو العام» والمناظر الزُّخرُفية الجانبية، كما أن الخوارق والمُصادَفات تتحكم في تكوين مشاهِده، ويكثر استخدام الرمز والاستعارة والموسيقى بتأثيرٍ من كالديرون الذي أساء الرومانتيكيون فهمه (وإن كانوا قد ترجموه فيما ترجموا من روائع). وخلاصة القول أنَّ الواقع التاريخي والمسرحي أَفلَت من أيدي الرومانتيكيِّين، وكان لا بُدَّ من الانتظار حتى يأتي نفرٌ من المُتأخِّرِين الذين أتقنوا فن التهكُّم والسُّخرية والمُعارَضة بعد أن ملكوا رؤيةً أعمق وأشمل للواقع والتاريخ …

•••

إذا كانت أرض المسرح قد زَلقَت تحت أقدام الرومانتيكيِّين، فقد ثَبتَت تحت أقدام كاتبَين لهما دورٌ خطير في تاريخ المسرح الحديث. وهما كرستيان ديتريش جرابه١٠ (١٨٠١–١٨٣٦م) وجورج بوشنر١١ (١٨١٣–١٨٣٧م) اللذان يظهر لدَيهِما الشكل غير الأرسطي للدراما بصورةٍ واضحة؛ فهو عند «جرابه» مرتبط بطموحه لتصوير المواقف التاريخية الكبرى؛ إذ يتمثل الواقع في نظره في عصرٍ تاريخيٍّ بأكمله. وهو يُعيد بناء هذا العصر في صور تُمثِّل مواقف وأحوالًا مفردة، وترسم لوحاتٍ ضخمة للجماهير العريضة إلى جانب لوحاتٍ أُخرى ضيقةٍ ومحدودة. هذه الرغبة في تصوير موقفٍ تاريخيٍّ كامل تقوم — كما قدَّمتُ — على أساس نظرةٍ ملحمية، كما تلجأ لتحقيق غرضها إلى مجموعةٍ من الصور واللوحات المرصوصة بعضها إلى جنب بعض في شكل وثباتٍ سريعة؛ الأمر الذي سيظهر بعد ذلك ويَتأكَّد في الدراما الملحمية للعصر الحديث.

ويستحق بوشنر وقفةً أطولَ وأعمقَ من زميله، لا لقدرته وعمقه وأصالته ومعاناته فحسب، بل لأثره العظيم على المسرح الحديث بوجهٍ عام. وبوشنر شديد القرب من جرابه من الناحية الزمنية، ولكنه يُخالفه في أنه يُمهِّد تمهيدًا مباشرًا للمسرح الملحمي الحديث، بقَدْر ما يُمهِّد لكثيرٍ من التيارات المعاصرة في المسرح الاشتراكي والتعبيري والشعري واللامعقول. ويزداد اهتمامنا بهذا الكاتب الطبيب إذا تذكرنا أنه لم يترك في عمره القصير كالزهور أو الشموع سوى ثلاث مسرحيات، ظلت اثنتان منها شذرتَين لم يتمكن من إتمامهما. والواقع أنه لم يُؤثِّر على المسرح الملحمي فحسب، بل ترك له ثلاثة نماذجَ دراميةٍ تقوم على رؤيته الفكرية والوجدانية للعالم والتاريخ والإنسان؛ ولذلك لن نقف عند حدود الشكل الفني لَدَيه، بل ستمتد نظرتنا إلى هذه الرؤية المتشائمة المُعذَّبة.

لا يسع الدارسَ لمسرح بوشنر إلا الدهشة والإعجاب بالتحوُّل الهائل الذي تم على يديه بالقياس إلى النزعة المتفائلة المؤمنة بالتطوُّر والتقدُّم نتيجةً لحركة التنوير والثورة الفرنسية. إنه لا يؤمن بالتاريخ ذلك الإيمان الطيب الأعمى، بل يعتقد أنه يدوس البطل ويُحطِّمه، ويعبث بقَدَره وسعادته عَبَثه بالدُّمية العاجزة المسكينة. ومسرحيته الكبرى «موت دانتون» تُصوِّر الثورة الفرنسية تصويرًا متشائمًا، وتكفر بما تَردَّد في عصره عن خلاص الإنسان على يد التاريخ. إن دانتون يقف على خشبة المسرح وقفة المُتشكِّك المرتاب الذي يُفكر ويُطيل التفكير حتى يَشُلَّ هذا التفكير نشاطه ويمنعه من إنقاذ نفسه وإنقاذ أصدقائه من حد المِقصَلة. ومرجع هذا إلى إيمانه بأن التاريخ يُعجز الإنسان ويَشُلُّ إرادته. ولن نستطيع أن نفهم بوشنر حتى نَتتبَّع هذه الفكرة التي ستُؤدِّي دورًا هامًّا في تفسيرنا للدراما الحديثة، وندرس تأثيرها على بناء الشكل لَدَيه.

تتضح هذه الفكرة في مسرحية موت دانتون (١٨٣٥م). وبوشنر يقترب هنا من «جرابه» في ميله لتصوير الواقع التاريخي في صورةٍ شاملة تتشابك فيها العوامل المُؤثِّرة. فنحن نرى أمامنا جماعاتٍ من الشعب وأفرادِ الطبقة المتوسطة وقادةِ الثورة وأنصارهم وأعدائهم كما نرى الشحَّاذِين والجلَّادِين والعاهرات؛ كل هذا في مَشاهد متتابعةٍ مُكثَّفة تسري فيها — على العكس من مسرح جرابه — نبضات إيقاعٍ يُشبه الإيقاع الذي نجده في الدراما الإليزابيثية وفي مسرح حركة العاصفة والاندفاع. ويظهر الطابع الملحمي في محاولة الكاتب تصوير الموقف بكل أبعاده ومستوياته، كما يظهر في استقلال اللوحات والمَشاهِد استقلالًا يوشك أن يجعل منها تمثيلياتٍ قائمةً بذاتها. وتَتقدَّم الفكرة خطوةً أُخرى في مَلْهاته «ليونس ولينا»، فتتغلغل في الشكل نفسه، وتذوب — بكل ما فيها من مأساة — في السخرية والملهاة، وإن كانت الحكاية الخُرافية التي تقوم عليها الملهاة تعود مرةً أُخرى فتلتقطها من ناحية المضمون. إن ليونس ولينا — هذه الملهاة المبكية أو المأساة الباسمة! — لا تخرج عن كونها تفسيرًا للحياة بما هي ملهاة. إنها تُصوِّر الإنسان في لحظة انتصار التاريخ عليه، بل في لحظة تدميره إيَّاه فتصبح الحياة وجهًا له أكثر من قناع، كما يصبح الإنسان دُميةً تشدُّها خيوطٌ غير مرئية، على نحو ما يقول دانتون في المسرحية.

لنقرأ ما يقوله بوشنر لعروسه التي لم يُقَدَّر له أن يُزفَّ إليها: «لقد دَرَستُ تاريخ الثورة، وشَعَرتُ بأن قدَرية التاريخ البشعة تُدمِّرني. إنني أُحس في الطبيعة البشرية تشابُهًا مُفزعًا، كما أجد في العلاقات الإنسانية قوةً قاهرةً لا مفر منها، أُعطيَت لكل إنسان ولم تُعطَ لأحد … ليس الفرد إلا زبدًا يطفو على سطح الموجة، وليست العظمة إلا مصادفةً مُضحكة، ولا سلطان العبقرية سوى لُعبةٍ من ألعاب الدُّمَى، وصراعٍ مضحك مع قانونٍ حديدي معرفتُنا له هي أقصى ما نستطيع بلوغه، وسيطرتنا عليه ضربٌ من المحال.»

ويُعبِّر دانتون عن هذا المعنى نفسه بقوله: «نحن نقف دائمًا على المسرح، وإن كنا نُطعن طعنةً جادةً في نهاية الأمر.» كما يقول هذه العبارة التي يُمكِن أن تلخص مسرحية ليونس ولينا وتفكير بوشنر كله: «ما نحن إلا دُمًى، تشدنا من الخيوط قُوًى مجهولة، والفارق الوحيد هو أننا لا نرى الأيدي التي تجذبها، كما يحدث في الحكايات الخرافية تمامًا …»

وقد عارض بوشنر هذه الحكاية الخرافية وسَخِر بها في شكل الحكاية أو الحدُّوتة أو في صورة المسرح المألوفة في المسرح الحديث. يدل على هذا ما يقوله أحد المواطنِين لزميله في مسرحية موت دانتون: «أجل، الأرض قشرةٌ رقيقة، إنني أخشى على الدوام أن أسقط حيثما وَجَدتُ فيها ثقبًا. يجب على المرء أن يخطو فوقها بحذر وإلا سقط فيها. ولكن اذهب إلى المسرح. إني أنصحك بهذا!»

المسرح إذًا هو المرآة الساخرة بالحياة التي أصبَحَت هي نفسها مسرحًا، كما أصبح المسرح بدوره نوعًا من العزاء، أو نوعًا من التهكُّم من ملهاة الحياة. تلك هي حقيقة ليونس ولينا. إن القناع الذي يُجسِّد الجانب المسرحي من الحياة يصبح في هذه السخرية قناع القناع، كما تصبح المسرحية كلها تمثيلًا للتمثيل. وإن مُضحِك الأمير (فاليريو) يسأل وهو يُقلِّب الأقنعة المختلفة بين يدَيه: «أأنا هذا، أو هذا؟ حقًّا إنني لأخشى أن أنتزع عن نفسي قِشرتها وأَتصفَّحها أمامي.»

ودانتون يقول لصديقه كولو الذي يطالبه بانتزاع الأقنعة: «قد تُنتزع معها الوجوه.»

وتعود مسرحية فويسك (التي نُشرت سنة ١٨٣٩م) لتعالج الموضوع نفسه، وهو تدمير التاريخ للإنسان وشل إرادته. فإذا كان الثوار مثل دانتون لا يزالون قادرِين على نوعٍ من الفعل، فإن فويسك — وهو شخصيةٌ مُنتزَعة من غِمار الشعب الكادح البائس — هو المخلوق المسكين الذي لا يقوى على الفعل؛ لأن هناك قُوًى غيبيةً مجهولة تدفعه على الحركة وكأنه أداةٌ عاجزة في يدها. يظهر فويسك على خشبة المسرح فتظهر بظهوره شخصية البطل السلبي في المسرح الحديث. إن الوسط الاجتماعي هو الذي يحدد قدَره، والمؤلف يحاول من خلاله أن يرسم طريقةً لعلاج مجتمعٍ مزَّقَته الأمراض وسَحقَه الظلم والادعاء (راجع مشهد فويسك مع الطبيب في المسرحية). إنه ضحية هذا المجتمع. وهو البطل المضاد — إن صح هذا التعبير الذي شاع اليوم — الذي سيلعب دورًا بارزًا في الدراما الحديثة. وشكل المسرحية يُعبِّر عن هذا المضمون أفضل تعبير؛ إذ نجد فويسك المُضطهَد المُطارَد يجري كالمجنون من مشهد إلى مشهد، ومن لوحة إلى أخرى، باحثًا عن مخرج من الكابوس المخيف الذي يخنقه ويحاصره من كل ناحية. إنه أسلوب في بناء المَشاهِد وشحنها بالرموز والإشارات يُذكِّرنا بالأسلوب الذي سارت عليه الحركة التعبيرية فيما بعدُ.

نخلُص من هذا كله إلى أن مسرحيتَي بوشنر الأخيرتَين (ليونس ولينا، وفويسك) علامتان هامَّتان على طريق المسرح الملحمي المعاصر، وأنهما تنطويان — من ناحية الشكل والمضمون — على مواقف وعناصر ساهمت إلى حدٍّ كبير في تحديد صورة هذا المسرح.

•••

رأينا من الكلام السابق عن مسرح بوشنر كيف بَدأَت مرحلةٌ جديدة في الشكل والبناء المسرحي. لقد اقتضت المادة أو المضمون الذي عالجه بوشنر أن يخلق لنفسه بالضرورة أشكالًا جديدة تلائمه، فنفذ إلى أرضٍ جديدة لا سبيل إلى تفسيرها من خلال المفاهيم الفكرية والفلسفية العامة، بل لا بُدَّ من تفسيرها تفسيرًا اجتماعيًّا وحضاريًّا؛ فلقد بدأت بمسرح بوشنر عمليةٌ تاريخية أَخذَت تنفُذ شيئًا فشيئًا في أعماق الدراما الحديثة وتُعيِّن شكلها إلى حدٍّ كبير، كما ظهرت صورةٌ جديدة للبطولة والفعل والفرد بوجهٍ عام.

وإذا كانت الدراما الكلاسيكية الألمانية قد واجَهَت مسألة الفرد والفردية وحاولت أن تنقذها وتحافظ عليها وتنظر إليها نظرتها إلى مسألةٍ حيويةٍ هامَّة، فقد وجدنا الفرد يفقد فرديته فجأةً في مسرحية بوشنر، أو بمعنًى أدق وجدنا فرديته تُحدَّد من خارجه، بحيث اكتسبت البطولة معنًى جديدًا ولم تعُد هي بطولة الفعل، بل بطولة العذاب والتحمُّل والانكسار. أصبح الإنسان ملتقى قُوًى تاريخيةٍ وغيبيةٍ مجهولة تُوجِّهه وتحكم تصرفاته التي لم يعُد من المُستطاع محاسبته عليها. أصبح دُميةً عاجزة في عالمٍ تحكمه قيمٌ ومواضعاتٌ اجتماعية يعجز عن فهمها والمشاركة فيها.

ولكن ما تأثير هذه البطولة السلبية الجديدة على الدراما؟ كيف أَثَّر عليها هذا الشلل الذي أصاب الفعل بعد أن تحدد من خارج الإنسان لا من داخله؟ كانت نتيجتها المباشرة هي تَفتُّت لحظة الفعل وانهيار الحدث في الدراما؛ فالفعل والتجربة اللذان لا يجدان مكانًا في الحياة الخارجية ينسحبان إلى باطن الإنسان ويُفتِّشان عن مكانٍ لهما في مسرح ذاته. ولقد كانت لهذا آثاره في أوائل القرن التاسع عشر على الدراما التي حاوَلَت أن تُحافظ على البناء الأرسطي بأي ثمن، فقد عدَّلَت فكرة الدراما نفسها، وبعد أن كانت في أصولها الأولى تعبيرًا عن صراع مع القدَر والآلهة، أصبَحَت تعبيرًا عن صراع مع حتمية التاريخ وقانونه الحديدي، كما أصبَحَت مسرح الصراع مع المجتمع. وما فتئت تسير في هذا الطريق حتى صارت مسرحيةً اجتماعية، ومسرحيةَ حوارٍ فكري، ومسرحيةً مُتقَنة الصنع. وأصبح موضوعها ملحميًّا صريحًا، وبدأ نوعٌ من الانفصال بين الشكل والمضمون، كشف بصورةٍ واضحة عن أزمة الدراما الأرسطية إزاء العالم الحديث ومشكلاته الجديدة.

احتفظت الدراما عند أصحاب النزعة الطبيعية بالبناء الأرسطي من حيث التزامها بوحدة الزمان والمكان وتشابك الأحداث وتسلسُلها تسلسُلًا علِّيًّا مبنيًّا على أساسٍ نفسيٍّ وواقعي. غير أنها اختَرقَت هذا البناء الأرسطي بتضييقها لمعنى الفعل كما فهمه القدماء. فالبطل السلبي يُعطِّل في معظم الأحيان نمو الدراما وتطوُّرها بالمعنى الأرسطي، بل إنه يوقف حركة الأحداث الخارجية ويقيدها في حدود الحدث النفسي. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نتتبع هذا التطور بالتفصيل؛ إذ يكفي من وجهة النظر السابقة نظراتٌ عاجلة على المسرح الحديث لنرى كيف تطوَّرَت أزمة الدراما وكيف حاولت أن تجد لها مخرجًا في محاولاتٍ وتجاربَ عديدةٍ من أهمها تجربة المسرح الملحمي.

•••

ونبدأ بمسرح إبسن (١٨٢٨–١٩٠٦م) فنلاحظ أن أسلوبه التحليلي في الدراما يتفق مع البناء الأرسطي. ولكننا لو نظرنا إليه نظرةً أَدقَّ لوجدناه يختلف عن الأسلوب التحليلي الذي أشاد به أرسطو في حديثه عن أوديب سوفوكليس؛ فإبسن لا يجعل من الماضي وظيفةً للحاضر كما فعل سوفوكليس، بل هو يهيب بالماضي ويدعوه من خلال الحاضر؛ ولذلك يصبح التحليل الدرامي عنده وسيلة يلجأ إليها لِيُدخل مادة الماضي (التي كانت تحتاج إلى معالجةٍ ملحمية) في نسيج الحاضر. وأوضح مَثلٍ على هذا نجده في مسرحيته جون جابرييل بوركمان (١٨٩٦م). إنه مدير بنكٍ سابق يعيش مع زوجته جونهيلد في بيتٍ واحد، ولكنه يحيا بعيدًا عنها في وحدةٍ تامة ولم يرَها من سنوات طويلة … وفي إحدى ليالي الشتاء تزور البيت «إلارنتهايم» شقيقة جونهيلد وحبيبة بوركمان السابقة. ويدور الحوار فنَتبيَّن ماضي هذه الشخصيات الثلاث، ونرى كيف يعيشون في ذكريات الماضي بَعيدِين كل البُعد عن العالم الخارجي. إن قوة الماضي وجبروته لا تدع أي مجالٍ يتنفس فيه الحاضر. إنها تخنقه في بدايته، فلا يكاد البطل يُجرِّب الفعل حتى ينتهي نهايةً فاجعة. فحين يُقرِّر بوركمان الهرب من سجن الماضي لِيُجرِّب الحياة تنتهي محاولته بالموت.

ومسرحية «الأشباح» (١٨٨١م) تُصوِّر هذا الموقف نفسه بشكلٍ أوضح؛ فالبطل الفنج الذي تسيطر آثامه الماضية على جو المسرحية وتتسبب في وقوع الكارثة قد مات قبل بداية المسرحية نفسها بزمنٍ طويل. ويَتكشَّف لنا ماضيه من خلال التذكُّر والرواية، فنعرف مدى سلطانه وبأسه، ونرى أنه لا يترك للحاضر إلا بقايا ثلاث شخصياتٍ محطمةٍ بائسة. وليس نمو الحدث الخارجي إلا تكثيفًا خانقًا لأشباحٍ عاشت في حياةٍ سابقة، فنراه يَتجسَّد أمامنا في شخصية أزفالد الفنج الذي يُجَنُّ في نهاية المسرحية، وتُسدل عليه الستار وهو يمد يده عبثًا إلى نور الشمس.

•••

ويصل تشيكوف (١٨٦٠–١٩٠٤م) إلى أبعد مما وصل إليه إبسن. بل إنه ليقترب بموضوعاته من عالم صمويل بيكيت وإن لم يستخلص النتائج الدرامية اللازمة عنها. وتشيكوف هو كاتب المُتعَبِين من الحياة — إن صح هذا التعبير المصري القديم! شخصياته — مثل إيفانوف والخال فانيا — أُسارَى عجزهم عن الفعل. وحوارهم لا يدور في حقيقته إلا حول العجز عن الحياة والعمل، أي حول السَّأَم والملل. ها هو ذا إيفانوف يقول: «الكسل يُقيِّد روحي. وأنا عاجز عن أن أفهم نفسي. إنني لا أحس بحب ولا تعاطف؛ فكل ما أشعر به هو نوعٌ من الفراغ والإرهاق … أمَّا الآن فأنا لا أعمل شيئًا ولا أُفكِّر في شيء، بل أُحِس التعب في جسدي وروحي. إنني أجلب الملل على نفسي.» فإذا ما قرر إيفانوف أن يعمل، كان أول عمل يقوم به هو محاولة الانتحار. والواقع أنه ليس وحده في هذا، ومن الخطأ أن ننظر إليه كحالة مَرَضِيَّة. فمشكلته ترزح فوق صدور شخصيات تشيكوف كلها. وسواءٌ أكان اسم هذه الشخصيات هو إيفانوف أم الخال فانيا أم غيرهما من الأسماء فهم يُوشِكون أن يهتفوا بصوت واحد: «لا بُدَّ أن يعمل الإنسان شيئًا … لا بُدَّ أن نعمل … نعمل!»

ولكنهم مساكين مُتعَبون، يُحاوِلون بثرثرتهم الدائمة عن العمل والأخلاق أن يُدارُوا موقف عجزٍ وإحباطٍ لا نجاة منه.

ومسرحيات تشيكوف الأخرى تتناول نفس الموضوع. فطائر البحر (١٨٩٩م) يسيطر عليها ذلك الماضي الذي لمسنا جبروته في مسرح إبسن. والشقيقات الثلاث (١٩٠١م)، يتخلَّين عن الحاضر ويَحيَين في ذكريات الماضي. فإذا بحثنا عن الفعل وجدناه يتأثر بأحداث تنفذ إلى العالم الساكن الذي تعيش فيه الشقيقات ولكنها لا تُؤثِّر عليه تأثيرًا يُذكر. فالحدث الحقيقي ساكن وجامد في مكانه. والحوار لا يُولِّد فعلًا ولا يدفع حدثًا إلى الأمام. والشخصيات التي صَدَّت نفوسها عن الحاضر تكتفي بتحليل ذاتها واجترار سَأَمها أو أملها في مستقبلٍ خياليٍّ لا أساس له في أرض الواقع. وكل من قرأ «بستان الكرز» (١٩٠٤م) يعلم أن تشيكوف قد جعل هذا التعب من الحياة عنوانًا على طبقةٍ اجتماعية تَتحلَّل وتنهار، وما بستان الكرز إلا رمز حياتها الباطنة التي تتحطم. والمسرحية لا تنمو ولا تتطور بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، بل تصف حالةً تزداد سُوءًا على سوء. والشخص الوحيد الذي يمكن أن يُقال عنه إنه يعمل ويفرح بنتيجة عمله — وهو «لوباخين» الذي سيرث البستان — إنما يُجسِّد في الواقع روح العصر الجديد، روح رجل الأعمال الصغير الذي لا سبيل إلى التفاهم بينه وبين الشخصيات. ولعل بستان الكرز هي أوضح مسرحيات تشيكوف تعبيرًا عن الجُزر المنعزلة التي تعيش فيها شخصياته مُنطويةً على أحزانها. ما من أحدٍ يجد جسرًا يصله بالآخر، بل كلٌّ منها يعيش وحيدًا في عالمه الوحيد. كلُّ واحدٍ يتحدث في الحقيقة مع نفسه، ويتكلم بكلام لا يفهمه غيره، حتى يُصبِح الحوار في النهاية وسيلةً للاغتراب والتباعد، لا للاقتراب والتفاهم. إنه يُفرَّغ من مضمونه، ويُصبِح نوعًا من المونولوج الذي يدور في الفراغ، وهو ما سنجده في مسرح بيكيت فيما بعدُ.

والنتيجة الطبيعية المُترتِّبة على هذا الموقف هي أن الشخصية التي تقف خارج المجتمع ويُجسِّد فيها بيكيت رفضه لهذا المجتمع ويجعلها المحور الذي تدور عليه رؤيته للعالم هي الشخصية البارزة في مسرح تشيكوف. ونحن إذا استعرضنا شخصيات بستان الكرز وجدناها تضم نُبَلاء بُؤَساء، وطلبةً صعاليك، وعاجزِين فاشلِين من كل نوع، وفتاةً تشيخ وتَتحسَّر على العمر الذي يفلت منها، كما نجد المُربِّية شارلوت التي نسمع في كلماتها تلك النَّغْمة الأساسية التي تُحدِّد طابع المسرحية كلها: «إنني لا أملك بطاقةً شخصيةً صحيحة ولا أعرف سنِّي … عندما كنت صغيرةً كان أبواي يرحلان إلى كل الأسواق ويعرضان ألعابهما الممتازة، أمَّا أنا فكان عليَّ أن أقفز قفزاتِ الموت … إنني دائمًا وحيدة، دائمًا وحيدة، وما من أحدٍ يمكنني أن أقول عنه إنه ينتمي إليَّ أو إنني أنتمي إليه … أنا لا أعرف أبدًا من أنا ولا لماذا وُجدت.»

والمهم أن الطبقة الاجتماعية التي تعيش هذه الشخصيات في ظلها وتأكل من طعامها — وتمثلها صاحبة الضَّيعة وشقيقها — طبقةٌ تقف على شَفَا السقوط والاندثار. وهم جميعًا ينطوون في النهاية على عجزهم ووحدتهم، ويَخفِقون في صراع الحياة مُكتفِين بأن يحلُموا بالبدء من جديد، دون أن يعرفوا كيف ولا من أين يبدءون …

وأخيرًا نجد في بستان الكرز أسلوبًا مسرحيًّا يظهر ويتكرَّر ظهوره في مسرح اللامعقول فيما بعدُ، وتعني به ملء خشبة المسرح وإخلاءها، فوصول الشخصيات ورحيلها — وهما العنصران اللذان يُمثِّلان الحدث المرئي فوق الخشبة — تصبح لهما وظيفةٌ محدودة. وفي ختام المسرحية تظل الخشبة خاليةً لفترةٍ طويلة قبل أن يُسدل الستار. ولو رجعنا لإرشادات تشيكوف للمخرج لوجدناه يقول: «تُغلق النوافذ من الخارج وتُوصد بالمسامير، يحل الظلام على خشبة المسرح. ثم يعود النغم البعيد كأنما يهبط من السماء، ويُسمع صوتُ عزفِ على القيثارة، يتوثب ثم يُحتضَر في حزن. يُخيِّم السكون ولا يبقى إلا صوتُ ضرباتِ الفئوس المُختنِق فوق الأشجار آتيًا من أعماق البستان.»

هكذا يصل مسرح العالم الباطن عند تشيكوف إلى أقصى درجات التعبير. فالكلمة التي لم تعُد تحمل الفعل ولا تربط بين الشخصيات تُحتضر وتموت، ووسائل التعبير تَتركَّز في الصوت والصورة.

أين هي أوجه التعارض مع الدراما الأرسطية؟

ليس من العسير أن نَتبيَّن أن التركيز على عالم الباطن والتذكُّر، والعجز عن الفعل، واستحالة التواصل بين الشخصيات، والغربة والإحساس بالفراغ والسَّأَم، كلها عناصر تتجاوز الدراما الأرسطية وتُجرِّدها من معناها.

•••

إذا كان أبسن وتشيكوف من الكُتاب الذين استطاعوا أن ينفُذوا من إطار الدراما الأرسطية عن غير قصدٍ أو وعيٍ منهم، فإن هناك كاتبًا متأخرًا عنهما فعل ذلك عن قصدٍ ووعي. ذلك هو الكاتب النمسوي روبرت موزيل (١٨٨٢–١٩٤٢م) الذي نلاحظ لديه نفس التباعُد بين الشكل والمضمون، في مسرحيته المسماة «المتحمسون». لنقرأ معًا ما يقوله في مذكراته: «إن مسرحي، وهو مسرح المُتحمِّسِين وستانسلافسكي، مسرح يوتوبي١٢ ومضاد للتطور أو بمعزل عنه.» أمَّا عنوان المسرحية فيدل على مضمونها، وأمَّا الإشارة إلى اسم المخرج الروسي الكبير فلَعلَّها تشير إلى النزعة الطبيعية التي تغلب على جو المَشاهِد فيها.

وموزيل كاتب يشغل القُراء والنقاد في هذه الأيام. وقد اشتُهر بروايته الكبرى «رجل بلا أوصاف» التي تستعرض انهيار الأفكار والمُثل الأوروبية بطريقةٍ موسوعيةٍ هائلة. وهو يُعَدُّ من هذه الناحية خلفًا لجيل كُتاب الرواية الاجتماعية وإن كان الشكل المعروف لهذه الرواية قد تَفجَّر لديه نتيجةً لتوسُّعه في أسلوب البحث والمقال في فصولها المختلفة. وهو يفعل نفس الشيء في مسرحيته «المتحمسون» التي يمكن أن تُعَدَّ من ناحية الشكل من مسرحيات المجتمع، وإن كان يُفجِّره من ناحية الموضوع الذي سبق له أن عالجه بطريقةٍ ملحمية في روايته القصيرة «إضرابات الفتى تورليس».

والمتحمسون — أو الفوضويون كما سمَّاها في مبدأ الأمر — تتناول شخصياتٍ تتحرك في مجال الحياة الاجتماعية، وإن كانت مُنشقةً عليها من الناحية النفسية والوجدانية. وموزيل نفسه يصفها بأنها «ضباب من مادةٍ روحية»، وأن موضوعها يحتاج أن يُخلق خلقًا؛ أي يحتاج إلى إعادة خلقه حتى يملأ إطار البنية الأرسطية للدراما. وهي تعالج مُشكلة فقدان العاطفة … إنها تبحث عن باعثٍ على الفعل والحياة بعد أن ضاع الباعث عليها. وشخصياتها عاجزةٌ عن التواصل الذي يتم بين إنسان وإنسان، عاجزة عن الفعل. لقد تَحوَّلت حياتها إلى الداخل. فهي تحيا في وهَج الوَهْم والحماس والخيال المشبوب. وإذا جاز أن نتحدث عن بناءٍ أرسطيٍّ في هذه المسرحية فلا بد من القول بأن المُؤلِّف يَتعسَّف طبيعة المضمون الذي يتناوله، أعني أنه لا يُصوِّر هذا المضمون في صورة لوحاتٍ درامية، بل يَتفكَّر فيه ويتأمَّله. ومن الصعب أن نتائج أحداث المسرحية؛ إذ إنها لا تزيد عن كونها هيكلًا خارجيًّا يُعطي المؤلف فرصة التفكير والتأمُّل دون أن يُبرِّرها تبريرًا كافيًا. لِنسمَع البطل توماس الذي يقف في النهاية مع شقيقة روحه ريجينا ويُلخِّص عالمه الباطن في هذه العبارة: «لا يا ريجينا. إن كان هناك أحدٌ يحلم فأنا هو هذا الحالم، وأنت أيضًا حالمة.»

إنهم أناسٌ بلا عاطفة أو شعور. إنهم يَسعَون في الأرض، وينظرون ما يعمله الناس الذين يَتوهَّمون أنهم يعيشون في هذا العالم كله كما يعيشون في بيوتهم! وهم يحملون في نفوسهم شيئًا لا يشعر به هؤلاء الناس. إنه الغوص كل لحظة في أعماق كل شيء إلى غير قرار، دون أن يندثروا أو يَهلِكوا، إنها حالة الخلق.

ومن الخير أن نُسجِّل هنا تلك اللوحة التي دَوَّنها «موزيل» في مُذكِّراته عن شخصيات المُتحمِّسِين، ويمكن أن نلمح وصفًا نفسيًّا للتطور الاجتماعي، كما يمكن — بطبيعة الحال — أن نجد فيها تعبيرًا عن خصائص المسرح الملحمي والأرسطي على الترتيب:

غير محدد محدد
يتجاوز الحقيقة حقيقي
يتجاوز نطاق المشروع مشروع
حالمون مجردون من العاطفة متعاطفون
غير اجتماعيين اجتماعيون
قلقون من الناحية الميتافيزيقية مطمئنون من هذه الناحية
منبوذون منتمون
سلبيون ومعارضون لكل نظام قائم ولكل إصلاح عمليون
وتعود مشكلة التفاهم والتواصل بين الناس في المجتمع الحديث إلى الظهور عند شاعر وكاتبٍ كبير من مُواطِنِي موزيل، وهو «هوجو فون هوفمنستال» (١٨٧٤–١٩٢٩م) في ملهاته التي سمَّاها «الصعب»،١٣ وهذا الصعب أو المُتعنِّت هو الدوق «بول» الذي صور الشاعر في شخصيته طبقة النبلاء النمسويِّين في القرن الماضي لحظة سقوطهم في الحضيض. وجعله رمزًا لكل علامات التدهور والانحلال. ويصبح هذا الدوق العاجز عن اتخاذ قرارٍ حاسم في حياته، الخائف كل الخوف من التعبير عن نفسه بوضوح أو الإقدام على أي فعل أو تحقيق أي اتصال بينه وبين غيره من الناس؛ يصبح رمزًا للواقع المتغير من حوله. ونجد البيئة المحيطة به التي لا تَكُف عن الإلحاح عليه بالفعل والكلام أَوْلى منه بالسخرية وأَبعَثَ على الضحك، وإن كان نشاطها لا يُؤدِّي إلا إلى سلسلةٍ من سوء التفاهم شبيهةٍ بما نعرفه من مسرح تشيكوف: إن أكثر ما يشغل بال كارل فون بول هو شَكُّه في قيمة الكلمة وجدواها، إنه يقول لهيلينة ألتنفيل: «مما يبعث قليلًا على الضحك أن يَتوهَّم الإنسان في نفسه القدرة على إحداث تأثيرٍ كبير عن طريق كلماتٍ محبوكة، في حياة يتوقف فيها كل شيء في نهاية الأمر على آخر الأمور وأعصاها على التعبير، إن الكلام يقوم على تقديرٍ سخيفٍ مُبالَغ فيه.» ويَعمِد هوفمنستال في أثناء اللقاء الذي يتم بين بول وهيلينة إلى القضاء على صعوبة التفاهم بينهما في اللحظة التي يُهدد فيها هذا التفاهم بأن يصبح شيئًا فاجعًا وساخرًا، ثم يعود فيُحقِّق التوازن في شكل كوميديا اجتماعيةٍ تُعَد من خير الكوميديات التي عَرفَتها اللغة الألمانية القليلة الحظ من هذا اللون الأدبي. ذلك لأن الكوميديا، كما يقول هوفمنستال لصديقه ومواطنه بورخارت، هي أصعب الفنون الأدبية. فهي قادرة على تصوير أعقد الأمور وأحفلها بالخطر والرهبة في صورة من التوازن المشحون بأقصى طاقةٍ ممكنة، بحيث تُثير دائمًا ذلك الانطباع الذي يُوحي بالخفَّة واللعِب.

هنا نجد، مَرَّةً أُخرى، كيف تمكَّن المؤلف من التعبير بالشكل الكلاسيكي عن موضوعٍ يتجاوز هذا الشكل ويُنافيه. وطبيعيٌّ أن هذا الموضوع الذي عالجه الكاتب بحيطةٍ وحذَر أَبعَدُ ما يكون عن ملاءمة الإطار التقليدي للدراما الأرسطية.

•••

فإذا اتجهنا إلى كاتبٍ آخر مثل جرهارت هاوبتمان (١٨٦٢–١٩٤٦م) وجدنا صعوبة التفاهم تُعبِّر عن نفسها بشكل أوضح قليلًا. ومن المعروف أن شخصيات هاوبتمان تفقد القدرة على الكلام في المواقف الحافلة بالإثارة والانفعال. إنها عندئذ تتعثر وتبحث عبثًا عن الكلمة المناسبة. ولقد لاحظ الكاتب النمسوي موزيل أن شخصيات مسرحية هاوبتمان المشهورة «ميخائيل كرامر» لا تستطيع أن تُعبِّر تعبيرًا دقيقًا عما يُحرِّكها ويَهُزَّها، وإنما تشير فحسب إلى أن هناك شيئًا يُحرِّكها ويَهزُّها. ولهذا نجد «روزه بيرند» و«أرنولد كرامر» يَهلِكان بسبب عجزهما عن الكلام. فالمخلوقة البائسة روزه بيرند لا تستطيع أن تتكلم ولذلك تدفعها البيئة المحيطة بها إلى الموت. وأرنولد كرامر يكتم سِرَّه فيُحرِّم الحياة على نفسه. وهكذا تتحول كلمات كرامر العجوز على تابوت ابنه إلى تعبيرٍ شاعريٍّ خالص عن عالمه الباطن: «أين نرسو؟ إلى أين نسير؟ لِمَ نهلل في بعض الأحيان للمجهول؟ نحن الصغار، الضائعين في العالم المخيف؟ وكأننا نعرف إلى أين. هكذا هلَّلتُ وفَرِحتُ! وماذا عَرفتُ؟ لا أَثَر لأعياد الأرض ولا لِسماء القديسِين! لا هذه ولا تلك، فماذا … ماذا سيكون المصير في النهاية؟»

هذه الكلمات التي لا تكاد تُفهَم، والتي تلمس ذلك الشيء الذي طالما حاول الدوق «بول» عند «هوفمنستال» أن يُعبِّر عنه فوجده عصيًّا على التعبير، هذه الكلمات لا تكاد تعبر عن شيء. إنها تنتهي بسؤالٍ حائرٍ حزين.

إن مسرحيات هاوبتمان الأولى ذات النزعة الطبيعية تلتقي مع مسرحيات إبسن وتشيكوف وموزيل وهوفمنستال التي تلمس مشكلة الفعل كما تُعبِّر عن عجز شخصياتها عن التفاهم مع المجتمع أو الاتصال بالغير. ومن المعروف أن هاوبتمان تأثر تأثرًا كبيرًا بأعمال «بوشنر»، وأن معظم أبطاله في مرحلته الطبيعية أبطال سلبيون — مثلهم مثل فويسك لبوشنر — يَتبدَّد فعلهم في دَوَّامة الصراع بين ذواتهم وبين العالم المحيط بهم. وإذا كانت الظروف والضغوط الاجتماعية تحاصرهم من كل ناحية، فإن عواطفهم المشبوبة تغلهم وُتقيِّدهم. وإذا كان العالم الخارجي يُحدِّد تصرُّفاتهم، فإن عالمهم الباطن ليس بأقل تحديدًا لهم. إن شخصيات مثل «أرنولد كرامر» أو السائق «هينشل» أو «روزة بيرند» أو هيلنه كراوزة في مسرحية «قبل شروق الشمس»؛ كل هذه الشخصيات تَختنِق في جو البيئة المحيطة بها كما تختنق في مأساتها الباطنة. ولا يكفي أن نُردِّد هنا شعار الطبيعيِّين عن البيئة والوارثة؛ فالمضمون في هذه المسرحيات أكبر من أن يَحُدَّه إطارٌ تقليدي.

•••

ثم جاء من يعارض هاوبتمان ويواجه النزعة الطبيعية بأشكالٍ دراميةٍ جديدة. ها هو ذا فرانك فيديكند١٤ (١٨٦٤–١٩١٨م) يُوسِّع من نطاق مسرحية فويسك — التي كانت في جوهرها دراما غنائية قصصية — ويضيف إليها نغمة الاحتجاج، ويصوغ مسرحياته في ثوب الأشكال المسرحية البسيطة — الصاخبة بالتهريج والألوان والصُّراخ — التي نعرفها في الموالد والأسواق والاحتفالات الشعبية والسيرك حيث يروي الراوية حكايةً مخيفة أو يطالب بأخذ ثأرٍ أو إنقاذ عِرض. كان المجتمع في المسرحية الطبيعية موضع هجوم واحتجاج، ولكنه ظل وسطًا معترفًا به. وجاء «فيديكند» فعَبَّر عن رفضه له واحتجاجه عليه عن طريق مسرحياته (غير الاجتماعية) التي تدور في جو السيرك أو أوساط الفنانِين والفنانات. وتتغلغل العناصر الفنية الراقصة في بناء الدراما وتُصبِح وسيلته للهجوم على النظام الاجتماعي السائد. وهكذا يُفسِح «فيديكند» مجالًا واسعًا للمشهد الراقص ومَشاهِد التمثيل الصامت (البانتوميم) على خشبة المسرح، كما يتابع تراث «بوشنر» و«جرابه» وحركة العاصفة والاندفاع فيسير مثلًا في بنائه لمشاهد مسرحيته «صحوة الربيع» (١٨٩١م) على طريقة اللوحات المفردة المستقلة بعضها عن البعض، التي تبدو كأنها مراحلُ متعددةٌ من حدثٍ واحد، صُفَّت إلى جانب بعضها البعض كما تُصف قطع الفُسَيفِساء. وقد كتب فيديكند مسرحيته «شراب الحب» (١٨٩١م) التي يحتل فيها التمثيل الصامت حيزًا أوسع، ثم اتجه بعد ذلك إلى تأليف مسرحيات توشك أن تكون تمثيلياتٍ صامتةً خالصة، وراح يُؤكِّد أسلوب ألعاب الأسواق الشعبية والأعياد السنوية، فجعل لكل لوحةٍ عنوانًا ملحميًّا على طريقة المُنادِين والهتَّافِين في تلك الأسواق، كأن يقول مثلًا في بداية إحدى اللوحات:١٥ «كيف راحت الإمبراطورة فيليسيا تشكو لكبير مُعلِّمِيها عن آلامها النفسية، وأي أنواع العلاج وصفَها لها طبيبها الخاص دبدي زويدوس للتغلُّب على هذه الآلام والاختيار العجيب الذي صمَّمَت عليه الإمبراطورة فيليسيا لتبني عليه سعادتها؟»

حاول فيديكند أن يكمل خشبة المسرح التقليدية بالمشاهد والمناظر المعروفة في مسارح المُنوَّعات الاستعراضية، فخرج على اتجاه المدرسة الطبيعية وأخذ يؤكد الجانب الملحمي، والرقص، واستخدام الأقنعة، والدلالة الرمزية والمعنوية للمحسوسات. وإذا كانت شخصيات هاوبتمان لم تستطع أن تُعبِّر عما يجيش في باطنها تعبيرًا صريحًا، فقد راحت شخصيات فيديكند تتكلم بوضوح وتعرض على الأنظار ما يجب على كل عين أن تراه. ولهذا تَحوَّلت الغنائية الشاعرية في المسرح الطبيعي إلى ألوان من التهكُّم والمعارضة الساخرة، عَبَّرَت عنها القصائد القصصية التي تُتلى في الأسواق، واقتَربَت بهذا كله من طريقة المُغنِّين المُتجولِين والشحَّاذِين والدجَّالِين. وهذا التركيز على عناصرَ ملحميةٍ إلى جانب عناصرَ أُخرى مسرحيةٍ خالصة، واستخدامها معًا للاحتجاج والسخرية بأوضاعٍ اجتماعية بعينها، يخلق أهم ركيزة يعتمد عليها المسرح الملحمي، ألا وهي البُعد عن الحدث الدائر على خشبة المسرح أو ما يمكن أن نصفه تجاوزًا بالموضوعية المُتهكِّمة. ولا شك أن هذه العناصر التي ظَهرَت في مسرح فيديكند كان لها أثَرٌ كبير على تطور الشكل الدرامي فيما بعدُ، وبالأخص عند برشت.

أمَّا أوجست استرندبرج (١٨٤٩–١٩١٢م) فقد كان له دورٌ كبير في «خلخلة» المسرح الطبيعي والنفاذ من جدران النزعة الطبيعية. هنا نجد أن الرؤيا أو اللوحة الباطنة هي التي فَجَّرَت بناء الدراما الأرسطية ونَقلَت المشهد، إن جاز هذا التعبير، من الخارج إلى الداخل. فبعد أن أسَّس استرندبرج ما سماه ﺑ «المسرح الحميم» سنة ١٩٠٦م انتقل إلى شكل الفصل الواحد فيما يُسمَّى بمسرحيات الغُرفة مثل المحرقة، والبرق، وصوناتة الأشباح. ونستطيع أن نعتبر كل هذه المسرحيات بمثابة لوحةٍ واحدةٍ مُركَّزة في عدة مشاهد. لم يعُد الحدث هو الذي يسيطر عليها، بل أصبح الآن يقوم بدور الوسيط ويحمل الرؤيا الباطنة في أعماق النفس.

ثُمَّ سار استرندبرج في تطوُّره من مسرح الغرفة إلى مسرحية الحلم (١٩٠١-١٩٠٢م) وإلى دمشق (١٨٩٧–١٩٠٤م). وما حدث في مسرحيات الفصل الواحد تَكرَّر في مسرحيته المشهورة «حلم»، نَفذَت الرؤيا الباطنة من إطار المسرحية الطبيعية، وأفسح المنطق والتسلسل العلِّيُّ مكانهما لمنطق الحلم وقوانينه الداخلية، وأصبح المكان والزمان مجرد وسائلَ درامية لا وحداتٍ تقليدية، يلجأ الكاتب إليها لتجسيم عالم الذكريات والوعي الباطن في مشاهِد ولوحات، وبذلك يسبق التحليل النفسي وعلم النفس الفردي بسنواتٍ طويلة، ويُزوِّده بحقائقَ قيِّمة عما يجري في عالم اللاشعور من غرائب وأسرار ومتناقضات. لِنقرأ ما يقوله استرندبرج نفسه في تقديمه لمسرحية الحلم: «حاول المُؤلِّف في هذه المسرحية أن يحاكي الشكل غير المترابط للحلم، وهو الذي يبدو مع ذلك في شكل منطقي. كل شيء يمكن أن يحدث، وكل شيء جائز ومحتمل. الزمان والمكان لا وجود لهما، والمُخيِّلة تواصل نسج خيوطها على أساسٍ واقعي لا أهمية له وتستحدث نماذجَ جديدة. خليطًا من الذكريات والتجارب والخواطر الحرة والأفكار المتناقضة المفاجئة. إن الشخصيات تنقسم وتتضاعف وتذوب وتتكاثف وتسيل وتتجمع. غير أن هناك شعورًا يُسيطر على كل شيء. ذلك هو شعور الحالم، وليس هناك بالنسبة إليه أسرارٌ ولا تناقُض ولا شكوك ولا قانون. إنه لا يُدين ولا يُبرِّئ، بل يقرر ما يجده فحسب.»

وليس من العسير أن نلاحظ من هذا النص أن استرندبرج يتحدث بنفسه عن وصفٍ موضوعي يقوم على أساس موقفٍ ملحمي. فالواقع أن دراما الحلم والدراما المرحلية (أي التي تبني الدراما من مواقف أو مشاهِدَ متتابعة تمثل كلٌّ منها مرحلةً قائمة بذاتها) يلتقيان التقاءً كاملًا من حيث البناء والأسلوب. ومن هنا نجد في مسرح استرندبرج مجموعةً من المشاهد المتتالية التي لا يجمع بينها حدث أو فعلٌ واحد بقَدْر ما تُؤلِّف بينها ذات الحالم نفسه أو «أنا» البطل. وهذا الحالم يمكن في الحقيقة أن نُسمِّيَه «الأنا الملحمية» التي تتحرك خارج الحدث المسرحي وتعلق عليه وتصفه عن بُعد. والواقع أن مسرحية «الحلم» تحافظ على الشكل الاستعراضي المألوف في عروض المُنوَّعات أكثر مما تحرص على شكل الحلم. ولهذا يسود المسرحية طابع العرض والبيان، بحيث تصبح محاولةً لعرض العالم الذي تعيش فيه بكل ما يزخر به من مآسٍ وآلام، على ابنة الإله أندرا. وينطبق هذا الكلام على مسرحيات فيديكند التي تحدثنا عنها؛ فهي تحرص على طابع العرض والاستعراض الذي سيلعب دورًا هامًّا في مسرح برشت فيما بعدُ. صحيحٌ أن الفرق بين الكاتبَين فرقٌ أساسي؛ إذ اهتم فيديكند بإبراز الحركة الخارجية على عكس استرندبرج الذي اعتمد على الصورة الداخلية أو الرؤية الباطنة التي تحدد البناء الدرامي لدَيه. ومع ذلك فقد فتَحَا للمسرح أبواب عالمٍ جديد تتناثر فيه الأفكار والآراء والمشاعر دون أن تدور حول مركزٍ واحد، ويهتم بواقعٍ جديد هو واقع الحلم والرؤية الذي يختلف عن الواقع المحسوس. لم تعُد اللوحة فوق خشبة المسرح مجرد ديكور أو زينةٍ تابعة للنص أو الشخصية. بل أصبحت رمزًا وموضوعًا من موضوعات الأدب والفن. ويكفي أن نتذكر مشهد الباب السري أو مغارة الدموع التي تَتسمَّع لها أذن أندرا «في مسرحية الحلم»، أو قاعة انتظار الأرواح «في مسرحية إلى دمشق».

ولا شك أن استرندبرج قد مَهَّد الطريق للحركة التعبيرية، بل لعله قد عَبَّده كذلك للحركة السيريالية. والمهم أن الدراما لديه قد أصبحت هي دراما الأنا أو الذات الباطنة، وأن تفاصيل الحدث الواقعي — من مشاعر الإثم والذنب أو المنازعات العائلية المألوفة أو مشكلة المال الذي يحصل عليه البطل — صارت مسائلَ تافهة، بل إن فلسفة المُؤلِّف ورأيه في الكون والحياة لم تعُد ذات خطر؛ لأن مسرحية مثل «إلى دمشق» قد أصبحت مسرحية «الأنا» التي تعرض المراحل التي تمر بها هذه الأنا عرضًا ملحميًّا هائلًا، ولأن هذه الأنا قد أصبحت هي الدراما نفسها، وكل ما نراه أمامنا من شخوص وأحداث وصور ولوحات وحوار ليس في حقيقة أمره غير مناجاة (مونولوج) يتحدث فيها المُؤلِّف مع نفسه ويحاور رؤياه الباطنة أو يحاول استكشاف أغوارها والتعليق على ما يدور فيها، وكأن كل هذه الشخصيات التي تتحرك على خشبة المسرح من شحاذِين وأطباء وقُسُس وأمَّهات وأبناء … إلخ لا تخرج عن كونها تعبيراتٍ ماديةً عن ذات الكاتب القلقة، صورًا تُجسِّم ما يضطرب فيها من قوًى مُتناقِضة. ولذلك ليس عجيبًا أن نرى الحدث الخارجي والحوار يتحولان إلى الشكل الطقوسي المعروف في مسرح العصور الوسطى، وأن نلاحظ اتساع الرقعة التي تشغلها المسرحية فتتخذ بأجزائها الثلاثة شكلًا ملحميًّا تدور أحداثه في دائرة بحيث تُخرج المشاهدين من نقطة المركز لترجع إليها في النهاية وتُقفل هذه الدائرة مع ختام المسرحية، ولا شك أننا نلتقي هنا بذلك الشكل الساخر المتجانس الذي التقينا به في ملهاة «ليونس ولينا»، كما نلتقي كذلك بالشكل الذي عرفناه في «فويسك» بمشاهِدها التي تتتابع لاهثةً محمومة، لنتبين في الحالين أننا أمام صورةٍ جديدة من صور الدراما غير الأرسطية سيكون لها شأنٌ كبير فيما بعدُ.

وعلى العكس من استرندبرج الذي تُعبِّر رؤاه الباطنة عن واقعٍ خارجيٍّ مُمزَّقٍ منهار، نجد أنفسنا الآن أمام «بيراندللو ١٨٦٧–١٩٣٦م» الذي يتفكر في هذا الواقع ويتأمله. إن أعماله الأدبية كلها تدور حول مشكلة المَظهَر والحقيقة، والقناع والوجه، والواقع الخارجي والواقع الداخلي، وانقسام شخصية الإنسان في المجتمع الحديث أو بالأحرى تفتُّتها إلى شخصياتٍ (ذَرِّية) عديدة … إنه يسأل في كتاباته كلها هذا السؤال البسيط: أين القناع وأين الوجه؟ لذلك يصبح المسرح عنده، كما كان عند بوشنر، رمزًا للمجتمع الحديث. كما يصبح وسيلة للكشف عن وجهه الحقيقي أو عن الهاوية الفاصلة بين المظهر والحقيقة، وهي الهاوية التي انشقَّت بالفعل تحت قدمَي بوشنر.

وليس من المُستطاع في هذا المجال الضيِّق أن نستعرض مسرحيات بيراندللو العديدة أو رواياته وأقاصيصه التي لا تقل عنها أهمية. ولكننا سنكتفي بالنظر في بعض هذه المسرحيات التي تخدم الغرض الأصلي من هذه السطور. فمسرحية «كل على طريقته» (١٩٢٤م) هي في الحقيقة مسرح في مسرح، على النحو الذي رأيناه من قبلُ عند «لودفيج تيك». فهناك مسرحيةٌ اجتماعية تُعرض على خشبة المسرح، وفي الفترات التي يتوقف فيها التمثيل يتناقش المتفرجون «من فوق الخشبة» حول المسرحية، وتتكشف فضيحةٌ عامة فيُوقَف عرض الفصل الثالث. ويعلِّق بيراندللو على هذا بقوله: «إن إظهار ممرَّات المسرح والجمهور الذي شاهد الفصل الأول يهدف إلى بيان أن التمثيل الذي ظهر منذ البداية كأنه شأن من شئون الحياة اليومية ليس في حقيقته إلا وهمًا أو خيالًا متقن الصنع …» فالكوميديا التي تُعرض على خشبة المسرح تعكس كوميديا المجتمع، والكاتب يكشف القناع عنها ويُوجِّه الهجوم إليها وهي على الخشبة.

أمَّا مسرحيته المعروفة «هنري الرابع» (١٩٢٢م) فبطلها نبيلٌ شابٌّ يعتقد المحيطون به أنه مصاب بالجنون. وهو يقوم بتمثيل دَورِ الملك البائس العظيم هنري الرابع (١٥٥٣–١٦١٠م) ويتقمَّص شخصيته إلى الحد الذي يدفع من حوله لمحاولة شفائه من هذا الجنون. ولكن الأحداث تكشف عن أنه ليس مجنونًا كما يظن الناس، وأنه لعب دوره عن وعيٍ كامل ليفصح حقيقة بيئته وأصدقائه. إن الثوب الذي لبسه هو — على حد قوله — صورةٌ مشوهة من تلك اللعبة الضخمة الساخرة التي نقوم فيها مُختارِين بدور الحمقى عندما نتنكر عن غير علم منا في زيٍّ ما يبدو لنا أنه الواقع. وهكذا يُصِر على إبقاء القناع على وجهه متحديًا العالم المحيط به …

المسرح عند بيراندللو يُؤدِّي نفس الدور الذي أدَّاه هاملت عندما وضع قناع الجنون على وجهه ليتمكن من اكتشاف الحقيقة. وبيراندللو يفعل ما فعله هاملت كذلك عندما يجعل من المسرح مرآة ينعكس عليها الواقع، لكي يكشف عن حقيقة هذا الواقع الخارجي أو بالأحرى عن كذبه. ويبدو أن بيراندللو قد يئس في أواخر حياته من جدوى هذه اللعبة الخطِرة. فهو في مسرحيته الأخيرة التي لم تتم «عمالقة الجبل، ١٩٣٦م» ينتهي إلى أن هذا الكشف عبث لا طائل وراءه. فالعمالقة — وهم يرمزون للعالم الخارجي — يُحطِّمون عالم التمثيل الذي يعلن لهم الحقيقة. لقد أساءوا فهم ثورة الدُّمى. وهي علامةٌ سيئة لأنها تدل على أن بيراندللو قد يئس من مهمته؛ إذ لم يعتقد — كما اعتقد برشت فيما بعدُ — أن باستطاعته تغيير العالم عن طريق المسرح.

إذا كانت هذه المسرحيات تُبيِّن لنا نوعًا من التأمل المُفارِق للحدث — وهو من أهم عناصر المسرح الملحمي كما سبق القول — فإن مسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» (١٩٢١م) تدفع به دفعةً قوية داخل إطار المسرح الملحمي الحديث. إنه هنا يناقش الموضوعات التي يطرحها على المسرح مستخدمًا شكل مسرحية المجتمع. بل إنه يقترب من المدرسة الطبيعية عندما يضع الشكل موضع الشك والسؤال عن طريق الموضوع الذي يعالجه. وهو في مسرحيته «الليلة نرتجل التمثيل» (١٩٣٠م) كما في مسرحيتَيه السابقتَين ينفذ من هذا الشكل أو يُفجِّره عن طريق الموقف المسرحي نفسه. فليس هذا الموقف إلا نموذجًا يقدمه للمناقشة أو مناسبةً تُمكِّنه من قطع خيوط الحدث أو إيقافه تمامًا عن طريق التأمل فيه والتعليق عليه. وليست مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» سوى نموذجٍ مسرحيٍّ خالص، ولا تخرج عن كونها وسطًا يُجسِّم أفكاره وخواطره بشكلٍ درامي في مشاهدَ مُتخيَّلة. فثَمَّةَ مسرحية تدور تجاربها، وإذا بالشخصيات الست تندفع إلى خشبة المسرح بحثًا عن المُؤلِّف الذي تركها ناقصةً على الورق وتعرض على مدير المسرح والمُخرِج «مسرحيتها» على أمل أن يُحقِّقها على الخشبة. هذه الشخصيات الست التي خلقها خيال مُؤلِّف إنما تمثل الواقع الداخلي أو الحقيقة الباطنة. إنها تقتحم العالم الخارجي الذي يحيا فيه الممثلون كما تَفوقُه صدقًا وواقعية. وفي اللحظة التي يتحول فيها هذا الواقع الداخلي إلى واقعٍ خارجيٍّ ملموس، في اللحظة التي تنطلق فيها رصاصة المُسدَّس فتقتل أحد الأشخاص، يهرب الممثلون مُلتمسِين النجاة؛ لأنهم ليسوا إلا قوالبَ جوفاءَ للواقع الخارجي.

بهذا تنتهي المسرحية. ولكنها لا تنتهي إلى حل. فلا يزال البحث مستمرًّا عن جسرٍ يصل الواقع الداخلي بالواقع الخارجي. ولو نظرنا للمسرحية من ناحية الشكل لوجدناها تتحرَّك على مستويَين مثل مسرحية «لكلٍّ حقيقته». فالشخصيات الست تعرض مسرحيتها على المُمثِّلِين، ومدير المسرح والممثلون يقطعون هذه المسرحية بأحاديثهم أو اعتراضاتهم. والشخصيات نفسها تخرج عن دورها من حين إلى حين لتشرح موقفها أو تبرره، كما ينعكس انقسامها بين المستويين — بين الواقع الداخلي والخارجي، بين الشخصيات والمُمثِّلِين — مرةً أخرى على الواقع الداخلي الذي تقوم بتمثيله والخارجي الذي يتجلى في تأملاتها وتعليقاتها؛ أي أنها تُبرِّر موقفها أو عالمها الداخلي للمثلين الذين يصورون العالم الخارجي أو «الحقيقي». وهكذا يتم نوع من التبادل بين طبقتَين من طبقات الواقع يعمل على إلغائهما معًا، وبهذا يتذبذب الشكل الدرامي بين المستويَين، أو قل إنه يذوب، كما يصبح التأمل أهم من الحكاية والحدث. فالحكاية تنسحب إذًا أمام التأمل، وهذا أمر سيكون له دورٌ كبير في المسرح الملحمي الحديث.

إن الشخصيات الست المشهورة تتعذب لأنها لا تستطيع أن تتحقق في الواقع، وإن كان المؤلف قد أعطاها من الحيوية والحياة ما لا يحلم به الأحياء! تصرخ إحدى هذه الشخصيات قائلة: «الحقيقة يا سيدي، الحقيقة!» فيرد عليها مدير المسرح: «نعم نعم. ستكون الحقيقة. ولكن يجب أن تفهموا أن مثل هذه الحقيقة لا وجود لها على خشبة المسرح.» هنا تنفتح هاوية بين الواقع والحقيقة نستطيع اليوم أن نقول إنها من أهم خصائص الوجود الحديث. ولقد كان لبيراندللو الفضل في الإشارة إليها. ولعله قد أراد شيئًا من ذلك حين قال عبارته المشهورة: «قال نيتشه إن اليونان قد نصبوا تماثيل بيضاء أمام الهاوية لكي يحجبوها عن الأنظار. أمَّا أنا فأُحطِّم التماثيل لأكشف عن هذه الهاوية …»

•••

كان بيراندللو آخر الكُتاب المسرحيِّين الكبار الذين مهَّدوا للدراما غير الأرسطية في العصر الحديث. رأينا عنده وعند غيره من الكتاب من أمثال بوشنر واسترندبرج وفيديكند وتشيكوف وغيرهم كيف تخلل إطار الدراما الأرسطية من وجوهٍ عديدة، ووضعنا أيدينا على بعض العناصر التي تَطوَّر بها المتأخرون حتى تَكوَّن ما نُسمِّيه اليوم بالمسرح الملحمي. ونحب أن نسأل الآن عن العوامل التي أدَّت إلى هذا التطوُّر: هل كانت هناك ضرورة لتجاوز البناء الأرسطي للدراما؟ وهل تكمن هذه الضرورة في تطوُّر المجتمع والحضارة الحديثة أو أنها كانت مجرد نزوةٍ فنية أمعن فيها الكُتاب كيفما شاء لهم الهوى؟

الحق أن تاريخ الدراما يُسجِّل أشكالًا عدة من الدراما غير الأرسطية ولا يدع مجالًا للشك في وجود عواملَ كثيرةٍ أدَّت إلى هذه الأشكال أو الأساليب المختلفة من البناء المسرحي. ونستطيع أن نُقرِّر — بادئ ذي بدء — أن المادة أو المضامين التي عالجها الكُتاب في معظم أشكال المسرح الملحمي كانت مضامين لها طابع الامتداد والاتساع المكاني والزمني والفكري. ولعل عبارة شيلر التي أشرنا إليها فيما تقدم أن تكون مصداقًا لهذا الكلام. فقد قال إن التراجيديا — وهو يقصدها بالمعنى الأرسطي — لا تتناول إلا اللحظات الحاسمة أو الاستثنائية في تاريخ البشرية. أمَّا الملحمة فتتناول تاريخ البشرية كله بما فيه من ثبات واستقرار ونظام.

يبدو أننا أصبحنا الآن في حاجة إلى تحديد معنى الدراما والشروط التي تجعلها ممكنة، ولقد قام بذلك الباحث «بيتر زوندي» في كتابه «نظرية الدراما»، واعتمد على محاضرات هيجل في علم الجمال لينتهي إلى أن الدراما الأرسطية تقوم على العلاقات الموجودة بين الناس، وأنها مكان الاختيار الحر، وأنها أوَّليَّةٌ مطلقة بمعنى أنها لا تتعلق بشيءٍ يأتي من خارجها، كما أنها تتم في وحدةٍ زمانيةٍ مكانيةٍ مطلقة، وتقوم على الترابط العِلِّي.

ولو نظرنا إلى الإنتاج الدرامي في أواخر القرن التاسع عشر على ضوء هذه الحقائق لوجدناه يتخلص منها واحدة بعد الأخرى، بعد أن زُلزِلَت الأرض من تحتها نتيجة للرؤية الجديدة والواقع الجديد. فالعزلة والتفكُّك في العلاقات بين الناس قد حلَّت محل الترابط الوثيق بينهم، والظروف والضغوط الاجتماعية التي تُحدِّد فعل الإنسان أَخذَت تخنق اختياره وإرادته الحرة، والرؤية الكونية أو الأيديولوجية الجديدة قد أَدخَلَت الفرد في علاقاتٍ جديدة أو — بالأَحْرى — فَرضَت عليه العزلة وجرَّدَته من كل علاقةٍ خارجة عنه، والعلنية والترابط المنطقي قد تحطَّما، والمكان والزمان صارت لهما وظيفةٌ جديدة.

وأدَّت أزمة الدراما الأرسطية أو الكلاسيكية إلى ظهور مجموعة من التجارِب الدرامية التي نظر إليها النقاد التقليديون نظرة الشك والارتياب. ولكن هذه التجارب تأكَّدَت اليوم بعد أن شارك فيها كبار الكُتاب وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من رصيد المسرح العالمي. ولذلك بات من الضروري أن ننظر إلى الأشكال الدرامية الجديدة نظرة الجِد والاهتمام، لنجد ما يُبرِّرها في روح العصر التي كانت استجابة له. وإذا كان المضمون الجديد أو المادة الحديثة كما قال «جوته» قد استَلزَمَت أشكالًا دراميةً غير أرسطية، فقد وجب أن نبحث طبيعة هذا المضمون الجديد وهذه المادة الحديثة.

•••

رأينا كيف كانت الدراما عند استرندبرج وبيراندللو في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن رَدَّ فعلٍ للتغيُّر الاجتماعي والتطور الاقتصادي. ولقد أدَّى هذا إلى غلبة النزعة العقلانية على الإنسان الحديث وإهمال نزعاته الباطنة أو سد الطريق في وجهها. فلم يكن أمام الفن — والفن الدرامي بوجهٍ خاص — إلا التعبير عن هذا الواقع الجديد أو التنفيس عنه بالإغراق في تصوير العالم الباطن بكل ما يجيش به من اضطراباتٍ وأزماتٍ أو الهجوم على العالم الخارجي — عالم الطبيعة والمجتمع على السواء — الذي تحطَّم وتفتَّت ولم يعُد من الممكن التمييز فيه بين الواقع والمظهر والحقيقة والقناع.

حاوَلَت الدراما — بعد انحسار موجة المدرسة الطبيعية — أن تُقدِّم على المسرح «صورة للعالم» من خلال العالم الباطن، كما حاولت أن تكون هذه الصورة وافيةً وشاملة على قَدْر الإمكان (على نحو ما حاول استرندبرج على سبيل المثال أن يُصوِّر العالم من خلال الحلم في مسرحيته المعروفة بهذا الاسم). وهكذا بَرزَت أهمية وجهَين من وجوه الدراما الملحمية في المسرح الحديث، فراحت من ناحيةٍ تعالج موادَّ لها طابع الشمول وتُقدِّم مضامين تُعبِّر عن مواقفَ كُليَّةٍ ممتدة في المكان والزمان، كما استطاعت — من ناحيةٍ أخرى — أن تُدخِل العالم الباطن في بنائها بكل ما ينطوي عليه هذا العالم من ذكريات وأحلام ورؤى ومفارقات.

هذه الصورة التي حاوَلَت الدراما الملحمية أن تنقلها عن العالم من خلال تَصوُّرها للعالم الباطن يمكن أن نصفها بأنها رؤية للكون أو نطلق عليها كلمة «الأيديولوجية» التي شاعت اليوم على الألسنة. والواقع أن عصرنا، سواء شئنا هذا أو لم نشأ، هو عصر الرؤية الشاملة أو عصر الأيديولوجيات. ولقد حاول هيدجر في كتابه «طرق مسدودة» أن يحدد معنى هذه الكلمة التي أصبحت طابع العصر. فالمقصود بالعالم هو وصف الموجود بأكمله، والعالم بهذا المعنى ليس مقصورًا على الطبيعة أو الكون، بل يدخل فيه التاريخ كما يدخل فيه علة الوجود ومَبدَؤه أيًّا كان تصوُّرنا لعلاقته بالعالم.

وإذًا فصورة العالم أو الرؤية الكونية أو الأيديولوجية أو ما شئنا من أسماءٍ تُعبِّر عن وجهات النظر الشاملة التي أصبحت طابع العصر الحديث، وهذه الصورة في الواقع لوحةٌ يُقدِّمها الإنسان عن عالم الموجودات بأكمله، العالم الذي نتصل به ونُرتِّب حياتنا فيه وننظر إليه كنظامٍ قائم أمامنا. فالإنسان الحديث، كما يقول هيدجر، يتصوَّر صورةً عن العالم أو عن الموجود. وهو حين يتصور هذه الصورة إنما يضع نفسه فيها أو يعرض نفسه ضمن المشهد الذي يُصوره ويتصوَّره. عالمه إذًا قد أصبح هو العالم كما يتصوره هو، لا العالم الذي حاول مثلًا الحكيم الإغريقي القديم قبل سقراط أن يَتصوَّره ويفهمه كما هو في ذاته. ووجود العالم مرتبط برأيه فيه، وهو كذلك موضوع أحلامه ومستقبله ومستقبل البشرية التي تعيش فيه. ولذلك أصبَحَت علاقته بالعالم أو بالموجود في مجموعه هي علاقة رؤية وتصور، وأصبح يتنازع مع غيره من بني الإنسان أو يتفاهم معهم بمقدار قربهم أو بُعدهم عن رؤيته وتصوُّره ووجهة نظره في هذا العالم، كما أصبح تاريخ العالم الحديث هو تاريخ الصراع والشر والحرب وأنهار الدماء التي تُفرِّق بين الرؤى ووجهات النظر والأيديولوجيات، وهو صراعٌ مريرٌ يستخدم الإنسان فيه كل قدراته في العلم والتخطيط والتدمير، بل كذلك في الفن والخلق والإبداع.

إذا صح هذا تفسيرًا للعصر الذي نعيش ونتعذب فيه ليل نهار، فمن الطبيعي أن يكون المسرح تعبيرًا عنه وأن يصبح بدوره مَسرحَ وجهات النظر الشاملة في الوجود أو مسرح الأيديولوجية (مهما كان من كراهيتنا لهذه الكلمة الأخيرة التي طالما سبَّبَت ولا زالت تُسبِّب الكوارث لأبناء الأرض). وطبيعيٌّ أيضًا أن الدراما الأرسطية يمكن أن تصور وجهات النظر الشاملة كما يمكن أن تصورها الدراما غير الأرسطية. فهي في الدراما الأرسطية تعبير عن ألوان الصراع الفردي الذي يدور بين الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض. وهي في الدراما الملحمية تصوير للكون في مجموعه ومحاولة للتعبير عن العالم تعبيرًا شاملًا يتجاوز حدود العلاقات الفردية ويسمح بالنظرة التاريخية أو بالنظرة المتعالية على التاريخ. والواقع أن الدراما غير الأرسطية قد قدَّمَت هذه الصورة الشاملة للعالم بطريقتَين: إما بتصوير موقفٍ كلي تصويرًا تاريخيًّا (كما هو الحال مثلًا في مسرحية موت دانتون لبوشنر) أو برسم صورةٍ شاملة للعالم على أساس نموذجٍ مثالي (كما في مسرحية المسرح العالمي الكبير لكالديرون). والنموذج الذي نشاهده كذلك في مسرحيات كالديرون — التي سبق الحديث عنها — يمكن أن يعالج المكان والزمان والمواقف والأحداث كما يشاء وتشاء الصورة التي يريد تقديمها للعالم.

ومسرح الأيديولوجية الذي تُعبِّر عنه تجارب القرن الماضي وأوائل هذا القرن يتصف بصفةٍ أخرى تعكس رؤية الإنسان لهذا العالم كنظامٍ قائمٍ يسعى بكل قواه إلى فهمه والسيطرة عليه، وهي صفة التأثير والتعليم. ويتصل بهذا التأثير والتعليم أو يُكرَّس لخدمتهما عنصرٌ نقابله في المسرح التقليدي كما نقابله في المسرح الملحمي الحديث بوجهٍ خاص، ألا وهو عنصر التأمُّل والتعليق؛ فالمسرح الملحمي قد جعل المتفرج هو البطل والأنا الملحمية قد أصبحت تفرض نفسها بقوة وتتدخل بين خشبة المسرح وبين القاعة التي يجلس فيها جمهور المُشاهدِين. ونعني بالأنا الملحمية المُغنِّي أو الراوية أو مدير المسرح أو الشخصية التي لا تُراقب الأحداث الجارية على الخشبة فحسب، بل تُعلِّق عليها بوجهٍ عامٍّ ومُطلَق، وتُحدِّد مسارها الملحمي، وتتصرف في الزمان والمكان، وتخلق من الشخصيات والأشكال والأحداث ما يعينها على تصوير المَثل الذي تريد أن تضربه للمُتفرجِين بقصد تعليمهم وتوجيههم والتأثير عليهم. هي إذًا تقوم بدور الوسيط بين المسرح والجمهور، وهي تتأمل الحدث المسرحي من أعلى وتُعلِّق عليه. وهي لا تكتفي بالتأمل الذاتي بل تتجه أيضًا إلى الجمهور لتُشرِكه فيه. وإذا أردنا أن نفهم الوظيفة الملحمية التي يقوم بها الراوية فعلينا أن نرجع إلى ما قاله عنه «جوته» في مقاله الذي سبق أن ذكرناه عن الأدب الملحمي والأدب الدرامي. يقول جوته في وصفه لهذا الراوية المنشد: «إن الراوية الذي يتناول الكل ويقتصر على حكاية الماضي وحده يظهر في صورة رجلٍ حكيم يستعرض الأحداث في هدوء وتدبُّر، ويهدف بأسلوبه في الرواية إلى تهدئة السامعين حتى يُنصتوا إليه ويُطيلوا الإنصات عن طيب خاطر، كما أنه يُوزِّع عليهم الاهتمام بالتساوي … إنه يتقدم للأمام أو يتراجع للخلف حسبما يشاء ويتابعه المستمعون حيث ذهب …» وبقَدْر ما يستطيع الراوية أن يدمج المتفرج في تأمله، بقَدْر ما يُبعده عن الحدث المسرحي نفسه؛ ومن ثَمَّ يصبح الحدث بالنسبة للمتفرج المتأمل شيئًا يمكن أن يراقبه من علٍ؛ وبهذا يبتعد عنه هذا الحدث كما يبتعد هو عنه. هذا البُعد يُضفي طابع الموضوعية على الحدث المسرحي بما يجعله «مثلًا» أو «نموذجًا»، ويُجرِّد الشخصيات من فرديتها ويجعلها أشكالًا أو نماذج أو أمثلة لجماعة أو طبقة من الناس.

وفي تاريخ الدراما أمثلةٌ عديدة على هذا الانشطار أو الانقسام الذي يَتجلَّى في الحدث ومناقشة الحدث، أعني كسر حاجز الوهم عن طريق التأمُّل والتعليق والمناقشة (كما رأينا عند تيك وبيراندللو، وكما لاحظنا عند بوشنر في أثناء الكلام عن القناع والوجه في مسرحية ليونس ولينا وإن لم يؤثر هذا على الشكل الدرامي كما فعل عند الكاتبَين السابقَين) هذا الانقسام أو الانشطار لم يقتصر على المسرح وحده. لقد كان نتيجة موقفٍ تاريخي وظروفٍ تاريخيةٍ معينة؛ ولذلك امتد إلى وجوه الفن المختلفة في العصر الحديث، وأصبح ظاهرةً ملازمة له، سواء في ذلك الفن التشكيلي أو الشعر أو الرواية الحديثة. المهم أن ظاهرة الانقسام هذه بين الفعل والكلمة أو بين الحدث والتعليق عليه قد أصبَحَت كما تَقدَّم وسيلةً للتعليم والتأمُّل والتأثير وضرب الأمثلة. ولا بد هنا من التفرقة بين التأمل في المسرح الأرسطي أو التقليدي عندما يتحدث الممثل مع نفسه في مونولوج وبينه في المسرح الملحمي؛ لأن التأمُّل هناك ليس إلا لحظةً يعود فيها البطل إلى نفسه ليستجمع قواه أو يستريح قبل الدخول في صراعٍ جديد. إنه تأمُّل لا يخرج به عن مسار الحدث؛ لأنه خيطٌ داخل في نسيج هذا الحدث. وفرقٌ كبير بين موقفه وموقف الراوية أو المتحدث والمعلق في الدراما الملحمية؛ فتأمُّله أو تعليقه لا يندمج في تيَّار الحدث الدائر على المسرح، بل يسير موازيًا له أو خارجًا عنه، بل إن هذا التأمل والتعليق أو هذه الرواية هي الخيط الذي يُمسِك البناء الدرامي بأجمعه. إن الراوية يخرج عن دوره كما يخرج عن الحدث ويتجه للجمهور ليتحدث أو يروي أو يُغنِّي أو يشترك في حوار مع مدير المسرح، على نحو ما نرى مثلًا في مسرحية «بلدتنا» لتورنتون وايلدر.

هكذا نرى أن التأمُّل في الدراما الملحمية الحديثة هو الذي يُحدِّد الحدث، في حين أن التأمُّل في الدراما القديمة يرتبط بالحدث ويدخل في بناء المسرحية؛ ولذلك كان ارتفاع التأمُّل فوق الحدث أو تبعية هذا لذاك في المسرح الحديث ذا أثَرٍ بالغ على الشكل نفسه. لقد أصبح الحدث كله مجرد موقفٍ أو حالةٍ أو مثلٍ يضربه المُعلِّق أو الشخصية المُتأمِّلة بقصد التأثير أو التعليم؛ ولذلك نجد في كثير من الأحوال أن الحدث الذي يُصوَّر على خشبة المسرح يُسبِّب نوعًا آخر من الانفصال بين الفعل واللغة بحيث يمكن تصوير كلام الراوية في صورة حركاتٍ تمثيليةٍ صامتة على خشبة المسرح.

ونكتفي بهذا القدر من الكلام عن العناصر الشكلية التي جدَّت على الدراما الملحمية الحديثة، على أمل أن يتضح ما غمض عند تناولنا لنموذجٍ تطبيقي منها. ويحسن بنا أن نُجمِل النقاط السابقة في جدول نقابل فيه بين المسرح من وجهة النظر الأرسطية والمسرح غير الأرسطي:

المسرح الأرسطي المسرح غير الأرسطي
البطل هو الشخصية الرئيسية التأمل هو الشخصية الرئيسية
الحدث هو الأساس التأمل هو الأساس
الحدث يحدد التأمل التأمل يحدد الحدث
التأمل داخل في بناء الحدث التأمل موازٍ للحدث
الدراما والحكاية شيء واحد الراوية ينفصل عن الحكاية
الرأي العام أو الجمهور يُحدَّد الرأي العام يشترك في المناقشة
المسار الزمني متضمَّن في الحدث المسار الزمني يُشعر به عن وعي
حدث يخطو إلى الأمام صورة، موقف، حالة، مثل
شريحة من حدث الحدث في مجموعه
تركيز الزمان والمكان في أضيق نطاق اتساع رقعة الزمن والمكان
الاهتمام بالعلاقات بين الناس الاهتمام بتجاوز الجانب الفردي
تقريب الحدث إلى المتفرج بطريقة وجدانية إبعاد الحدث عن المتفرج

أما هذا الجدول فيُلخِّص وجوه الانقسام أو الانشطار الذي تحدثنا عنه في الدراما الحديثة وما يقابله في الدراما القديمة:

الدراما الأرسطية الدراما غير الأرسطية
حدث تأمل
ممثل راوية أو محدث أو مدير مسرح
مسار الحدث بصري مسار الحدث لغوي سمعي
منظر مكان العرض
ديمومة زمنية إشارة إلى الديمومة
مكان إشارة إلى المكان
نظرية أو رأي مثل أو عبرة أو درس

ومن الخير أن نوضح التقابُل في هذَين الجدولَين بتطبيقه على نموذجَين من الدراما الأرسطية والدراما الملحمية على الترتيب. أمَّا النموذج الأول فنستمده من إحدى مسرحيات «شيلر» (١٧٥٩–١٨٠٥م) وهي مسرحية «دون كارلوس» التي بدأ بها، كما يقول النقاد ومُؤرِّخو الأدب، المرحلة الكلاسيكية في إنتاجه. وأمَّا النموذج الثاني فهو من خير الأمثلة على المسرح الملحمي بوجهٍ عام ومسرح برشت ١٨٩٨–١٩٥٦م بوجهٍ خاص، ونعني بها مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» التي عُرضَت لحسن الحظ على مسرحنا القومي منذ سنواتٍ قليلة.

وشيلر يسير في بنائه لمسرحيته «دون كارلوس» على الأسلوب الأرسطي؛ فهو يضع الصراع في موضعه من العلاقات الإنسانية المتشابكة بين الناس، ويقيم بناءه على أساسٍ من الأحداث التي يرويها التاريخ. إن الدسائس والمؤامرات هي التي تُحدِّد سير الحدث الدرامي، كما تُحدِّده المصالح المعقدة المتشابكة بين الشخصيات المختلفة بحيث يصل الصراع إلى قِمَّته ثم يميل إلى الحل والنهاية. والنسيج الداخلي للحدث هو الذي يُحدِّد بناء المسرحية. والمَشاهِد المختلفة تتداخل من ناحية المكان والزمان في بعضها البعض كما تتداخل تروس العجلة. والمكان لا يتغير في المسرحية تغيرًا ملحوظًا سوى مرةٍ واحدة؛ إذ يدور الفصل الأول في مدينة «إرانخويز» وتدور بقية الفصول في البلاط الملكي في مدريد. غير أننا لا نُحس كثيرًا بهذا الفارق أو هذا الفراغ الكبير الذي يفصل مكانَين بعيدَين لأن مسار الحدث الدرامي واتساقه المنطقي يملآن الفراغ ويُقلِّلان الشعور به إلى أقصى حد؛ فنحن نرى تصميم الأمير دون كارلوس في المشهد الأخير من الفصل الأول على أن يرجو أباه الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا أن يُسلِّمه قياد البلاد الواطئة، كما نراه يُنفِّذ ما صمم عليه في بداية الفصل الثاني. وتتغير الأمكنة في الفصول الثلاثة التالية تغييراتٍ شتَّى، ولكنها تظل محصورةً في نطاق القصر الملكي، كما أن الأحداث التي تتسبَّب في تغيير الأمكنة تلتحم ببعضها البعض من الناحية الزمنية أو تسير متوازية وتتم في وقتٍ واحد. والمهم أن المتفرج أو القارئ لا يشعر بالفواصل المكانية أو الزمنية لأن تَسلسُل الأحداث على المسرح تَسلسُلًا منطقيًّا مترابطًا ترابُط العلة والمعلول يسُدُّ الفراغ ويمُدُّ جسرًا يتم عليه العبور بينها؛ بحيث نُحس أن هناك حدثًا مسرحيًّا متكاملًا يندفع إلى الأمام ولا يسمح لشيء أن يوقفه أو يحيد به عن طريقه. هكذا يتركز الحدث بكل مواقفه الدرامية من ناحية المكان والزمان في كُلٍّ متصلٍ مترابط الحلقات. صحيحٌ أن هناك لحظات توقُّف في هذا الحدث، كالحكايات التي تُروى أو الذكريات أو المونولوجات التي تتحدث بها الشخصيات إلى نفسها أو المناقشات الفكرية، إلا أنها لا تُوقف الحدث تمامًا ولا تسمح كما قُلتُ بالخروج عليه. والسبب هو أنها جميعًا تدخل في نسيج الحدث العام فلا تُوقِفه ولا تُعطِّله، بل تكون بمثابة مَحاور أو عوامل دافعة له.

فإذا تأمَّلنا مسرحية دائرة الطباشير القوقازية، وجدنا أنفسنا أمام شكلٍ آخر مما سمَّيناه مسرح الأفكار ووجهات النظر الشاملة أو مسرح الأيديولوجية. فهي تتألف من ثلاثة أقسامٍ مستقلة عن بعضها البعض هي المقدمة وقصة الخادمة جروشا وقصة القاضي أزداك. والقسمان الأخيران تربطهما صلةٌ وثيقة، ويمكن أن نَعُدَّهما في الحقيقة مُقدمةً لِلَّوحة الخامسة التي تجمع بينهما وتُعرَض فيها قصة التقاضي بين المرأتَين المتنازعتَين على أمومة الطفل.

إن المقدمة تعرض الرأي أو الدرس الذي سنستخلصه من المسرحية. أمَّا المسرحية نفسها فليست إلا المثل المضروب لإثبات هذا الرأي أو الدرس. فها هم جماعة من الفلاحِين الروس يعودون بعد الحرب إلى قريتهم التي خرَّبها النازيون وفي نيتهم الاحتفاظ بالوادي الذي كانوا يزرعونه وتعميره من جديد. ويدخلون في حوارٍ مع سكان المزرعة الجماعية المجاورة لهم، الذين يريدون أن يُشغِّلوا ذلك الوادي في مشروعٍ واسع للري. ويفوز هؤلاء بعد مناقشةٍ طريفة مع جيرانهم ويُقنعونهم بأن مشروع الري أجدى عليهما معًا وأقدر على زيادة خصوبة الوادي وإنتاجه من الفاكهة والمحاصيل. ويحتفل الجميع بهذه النهاية السعيدة التي فُضَّ بها النزاع، فيُقدِّم الممثلون الذين اشتركوا في المناقشة مسرحيةً نَعلم أنهم تمرَّنوا عليها من قبلُ. ونَعلم أيضًا أن المسرحية أو التمثيل بمعنًى أصح سيقوم على حكايةٍ صينيةٍ قديمة عن دائرة الطباشير وأنهم سيستَوحُون هذه الحكاية ويعرضونها في «صورةٍ مختلفة». وهذا الاختلاف يَنصبُّ في الواقع على الهدف الجديد من الحكاية أو الخُرافة القديمة لأنه ينفُذ منها إلى غرضٍ فكري أو أيديولوجيٍّ جديد. وليس الغرض كله إلا وسيلة لإثبات الفكرة التي تقول إن الحقوق الطبيعية ليست هي المقياس في الحكم على الأمور، بل إن المقياس هو الكفاءة والقدرة على استغلال الوادي بأكبر طاقةٍ ممكنة ليعود الخير على الجميع؛ ومن ثَمَّ لا يحصل على الوادي إلا من يستطيع أن يبذل أقصى جهدٍ ممكن في استغلاله. وعندما يُعرض القسم الرئيسي من المسرحية — وهو دائرة الطباشير — نجد قاضي الشعب «أزداك» لا يحكم للأم الطبيعية بالطفل الذي تخلَّت عنه في وقت الخطر لانشغالها بمتاعها وملابسها، بل للخادمة الطيبة «جروشا» التي ضحَّت من أجله ورَعَته وتعَهَّدَته سنواتٍ طويلة. وهكذا يُلخِّص الراوية الحكمة أو العبرة التي تنتهي بها المسرحية وتضم مقدمتها وقسمها الرئيسي هذه الأبيات:

أمَّا أنتم يا من استمعتم،
إلى حكاية دائرة الطباشير،
فاعلموا رأي الأقدمِين،
في أن كل ما هو موجود،
فهو مِلك لمن يُحسِن تدبيره؛
فالأطفال مِلك للأمهات القادرات،
حتى ينموا ويترعرعوا،
والعربات ملك للسائقِين المهَرة،
حتى يُحسنوا قيادتها،
والوادي مِلك لمن يَروُونه،
حتى يؤتي ثمره.

إن المُنشد أو المغني هو الذي يصنع حَبكة الحكاية ويخلع عليها إطارها؛ فهو يجلس مع أفراد فرقته الموسيقية في مقدمة المسرح ليروي على المتفرجين قصة الخادمة جروشا والقاضي أزداك ويُعلِّق عليها. وهو لا يضُم الأحداث التي يراها جديرةً بالعرض الدرامي في حدثٍ مُركَّز، بل يَنظمها كما تُنظَم حبات اللؤلؤ في خيط قصته، وهو يَسُد الفجوات الفاصلة بين أجزاء الرواية في المكان أو الزمان بإشارته إليها وتعليقه عليها، كما يقطع الحدث الأساسي في المواضع التي يختارها فيصف الموقف أو يستخلص العبرة أو يستريح مع أفراد فرقته. وجديرٌ بالملاحظة أن اللوحات المختلفة تحمل عناوينَ مستقلةً تساعد على توضيح الخط الملحمي الذي تسير فيه القصة؛ فهناك لوحة الطفل الرفيع، والهروب إلى الجبال الشمالية، وقصة القاضي … إلخ. والخط الملحمي الذي أَشرتُ إليه هو الذي يتيح للراوية أن يصف الحرب الأهلية ويُعلِّق عليها ويذكر أسبابها وآثارها. وهو لا ينفرد بهذا الوصف والتعليق، بل يشاركه الممثلون أنفسهم. إن الموقف كله موقفٌ ملحميٌّ شامل يسمح لهم بالانفصال عنه والنظر إليه من أعلى أو من بعيدٍ نظرة الوصف أو التعليق.

ولا يصح أن يفوتنا كذلك أن برشت قد خلق — في عرضه لقصة القاضي — نوعًا من المسرح الملحمي داخل المسرح الملحمي. والقارئ يتذكر بغير شك ذلك المشهد الجميل الذي يختبر فيه الشعب أزداك ابن أخي الأمير كاتزبيكي أمام الجنود المُسلَّحِين ليرى مدى صلاحيته لِتولِّي أمور القضاء. فأزداك يقوم بدور الأمير الأكبر المتهم ويُدينه بحذقٍ ومهارةٍ لا نظير لهما. وهو بهذا يكشف حقيقة الموقف السياسي كله أمام الجنود المُسلَّحِين أو الفرسان المُصفَّحِين، كما يكشف عن الألاعيب والمؤامرات التي دبَّرها ذلك الأمير. إنه نوع من التعليم أو التلقين الذي يتخذ صورة العرض والتمثيل، والقاضي يقوم بدَور الأمير الكبير، ولكنه يظل مع ذلك محتفظًا بشخصية القاضي ويصف تصرُّفات الأمير أو يُعلِّق عليها عندما «يخرج من دَوره» من حين إلى حين.

وحكاية القاضي التي تبدأ بعد انتهاء حكاية جروشا لتتصل بالموقف الذي صَوَّرَته اللوحة الأولى من لوحات المسرحية لم تصُبَّ بعد انتهائها في حكاية جروشا؛ هذه الحكاية التي تُتيح للمؤلِّف أن يُضيف عددًا كبيرًا من الأغنيات التي تبدو كأنها «نِمَرٌ» منفصلة عن سياق الحدث الأساسي يتجه بها المُنشِدون إلى الجمهور مباشرةً.

إن مقدمة المسرح تتداخل باستمرارٍ في المَناظر التي تُعرض على خشبته، والمُغنِّي وفرقته لا ينفصلون أبدًا عن الأحداث أو الشخصيات التي تتحرك في قاع المسرح. ولنضرب مثلًا باللوحة الأولى من المسرحية؛ فالراوية يبدأ حكايته بإنشاد هذه الأبيات:

في الزمن القديم، في زمن الدماء،
حكم هذه المدينة التي تُوصف بالمدينة الملعونة
حاكم يُدعى جورجي أبا شفيلي …

وبينما نسمع هذه الأبيات نرى أمامنا مشهدًا صامتًا يُصوِّر الحدث الأول من أحداث المسرحية؛ فها هو ذا الحاكم يسير مع زوجته وحاشيته إلى الكنيسة لتعميد ابنه ووريثه. ويتدخل الراوية بصورةٍ مستمرة في مجرى الحديث فيقول:

للمرة الأولى رأى الشعب في عيد الفصح الأمير،
كان هناك طبيبان لا يَبعُدان عن الطفل الرفيع خطوةً واحدة،
عن حبة عين الحاكم …

ثُمَّ يأتي أول مشهدٍ مسرحي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وهو المشهد الذي نرى فيه الأمير كاتزبيكي وهو يُحيِّي الحاكم، ويختفي الحاكم مع حاشيته في الكنيسة، وتخلو خشبة المسرح لحظات، وينشد الراوية قائلًا:

المدينة هادئة،
في ميدان الكنيسة يتهادى الحمام.
جنديٌّ من حُراس القصر
يُداعب خادمة المطبخ
التي تظهر قادمةً من النهر ومعها حزمة من الملابس.

ويعود التمثيل الصامت فيُصوِّر السطور الأخيرة من هذه الأبيات على المسرح، تمهيدًا للمشهد العاطفي الذي سيتم بين جروشا وبين الجندي سيمون، وبعد انتهاء المشهد يستأنف الراوية إنشاده فيقول:

المدينة ساكنة، فلِمَ الجنود المُسلَّحون؟
قصر الحاكم يسوده الهدوء،
فلِمَ تَحوَّل إلى قلعة حصينة؟

هذه السطور الأخيرة التي تقطع الحدث وتُسبِّب نوعًا من الانفصال بينه وبين اللغة تُصوَّر بالتمثيل الصامت فوق خشبة المسرح، وتُعلِّق على الثورة التي ستجتاح المدينة. وبعد قليل نرى الحاكم وهو يغادر الكنيسة، فيُسرع الراوية بالتعليق ويقول:

يا لعَمَى الكبار! إنهم يذهبون ويجيئون
في خُيلاء فوق رقاب الخاضعِين
وكأنهم خالدون …

إن الانفصال الذي لاحظناه بين الكلمة والفعل ينطوي على نوعٍ آخر من الانفصال بين الفعل والتعليق عليه. ويأتي مشهد هروب زوجة الحاكم التي تتخلى عن طفلها في غمرة الخطر الداهم والاهتمام بالثياب والمتاع. وفي زحام الهروب من الموت يتفق حارس القصر سيمون مع جروشا على الخِطبة. ولمَّا كان مسار الحدث المسرحي كله يتم في صورة الحكي أو السرد القصصي فإن هذا يتيح لجروشا أن تقف وقفةً شاعرية تُناجي خطيبها بهذه الأبيات:

سيمون شاشافا، سوف أنتظرك.
اذهب مُطمئنًّا إلى المعركة
يا عسكري …

ونعرف من الحوار الدائر بين الخدم أن الثورة زَحفَت على المدينة وأن المُتمردِين قد أعدموا الحاكم. ويهرب الجميع ولا يبقى غير الطفل والخادمة جروشا التي تكتشفه وتَتردَّد في أخذه معها ثم تجلس أمامه حتى يطلُع الصباح. وينتهز الراوية هذه الفرصة فيُنشِد أبياتًا يمتزج فيها الوصف بالتأمُّل، بينما نرى جروشا جالسةً أمام الطفل تُفكِّر في مصيره. وتَمضي فترةٌ من الزمن يُشير إليها الراوية بقوله:

بَقِيَت جالسةً بالقرب من الطفل،
حتى جاء مساء، حتى جاء الليل،
حتى جاء الفجر …
وتفعل جروشا ما يقوله المنشد، وتحتضن الطفل …

لعلنا قد لاحظنا من هذا العرض السريع أن دائرة الطباشير القوقازية من أفضل الأمثلة على المسرح الملحمي وإمكانياته المتميزة في الشكل والتعبير. وإذا كانت قد أتاحت لنا أن نُوضِّح الأفكار التي أجملناها على الصفحات السابقة، فلا بد أن نؤكد في النهاية أن المسرح الملحمي والمسرح غير الأرسطي ليسا بالضرورة وفي كل الأحوال شيئًا واحدًا؛ فالخروج على قواعد الدراما الأرسطية (من تطبيقٍ للأحداث الثلاثة المشهورة — الموضوع والزمان والمكان — وتطوُّر الحدث على أساسٍ عِلِّيٍّ ومنطقي، وتشابُك المَشاهد وتداخُلها، والصراع والحل … إلخ) وتوافُر بعض الظواهر والعناصر في المسرحية الحديثة (كامتداد الحدث في المكان والزمان، والتحرُّر من الترابط العِلِّي، وخضوع المَشاهِد لمبدأ التجاوُر الذي يجعل منها وحداتٍ مستقلة، والحديث المباشر من المُمثِّل للجمهور، واللجوء إلى الاستهلاك (البرولوج) والتعقيب (الأبيلوج) والاستعانة بالتمثيل الصامت والغناء والرقص والموسيقى وأسلوب المسرح في المسرح، واستخدام الأقنعة واللافتات ومُكبِّرات الصوت والفانوس السحري والعرائس وألعاب السيرك والتهريج والأكروبات وصندوق الدنيا، إلى آخر أساليب «الإغراب» وتبديد الإيهام وإبراز طابع العرض التمثيلي الخالص) كل هذه الظواهر والعناصر لا تكفي وحدها لكي تجعل المسرح ملحميًّا؛ فمن الضروري أن يتحقق عنصر التأمُّل في الحدث من جانب «الأنا الملحمية»، سواءٌ في صورة الراوية (كما نجد في بعض أعمال برشت وكلوديل ووايلدر) أو في صورة تأمُّلٍ باطنيٍّ يتمثل في الحُلم أو التذكُّر أو التعليق أو الأُمثولة. والمهم بعد كل شيء أن ينطلق من وجهة نظرٍ فكريةٍ مُوحَّدة، دينيةً كانت أو سياسيةً أو تاريخيةً أو مذهبية، تُعبِّر عن رؤيةٍ شاملة ودرجةٍ عالية من الموضوعية التي تتميز بها الملحمة، أضف إلى هذا كله أن دائرة الطباشير لا تمثل الشكل الوحيد للمسرح الملحمي؛ فهناك مسرح كلوديل الديني، وهناك جيل الكُتاب الذين تأثروا بأسلوب برشت الفني وخالفوا مذهبه الفكري وتَخلَّوا عن رغبته في تعليم المتفرِّج وإيمانه بإمكان تغيير العالم وفهمه، مثل ماكس فريش وديرنمات ومارتن فالزر وبيتر فايس وغيرهم، بجانب ظواهرَ ملحميةٍ عديدة تُقابلنا في المسرح الشعري (لوركا وشحاده وفراي) ومسرح اللامعقول (يونسكو وآداموف) ومسرح بيكيت، وظواهرَ غير مكتملةٍ عند وايلدر وتنسي وليامز وآرثر ميلر وغيرهم فضلًا عن تجاربَ أُخرى أَخذَت تشُق طريقها في السنوات الأخيرة. وهناك أخيرًا لمحاتٌ لا تخفى من تأثيره على بعض أعمال كُتابنا المصريِّين وإخوتهم في البلاد العربية الشقيقة، أذكر منها — على سبيل المثال لا الحصر — ليالي الحصاد وباب الفتوح لمحمود دياب، والفرافير ليوسف إدريس، وحفلة سمر ورأس المملوك جابر لسعد الله ونوس، ومقامات الهمذاني للطيب صديقي (وقد سمعت عنها ولم يُتَح لي للأسف أن أقرأها أو أشاهدها على المسرح) وبعد أن يموت الملك لصلاح عبد الصبور، ومحاكمة رجلٍ مجهول لعز الدين إسماعيل، وآه يا ليل يا قمر لنجيب سرور، وبلدي يا بلدي لرشاد رشدي، وليلة مصرع جيفارا للمرحوم ميخائيل رومان، وأيوب وحبظلم بظاظا لفاروق خورشيد، وسليمان الحلبي لألفريد فرج، ويا سلام سلم الحيطة بتتكلم لسعد الدين وهبة، والموت والمدنية وثوب الإمبراطور ومسرحياتٍ أخرى لم تُنشر لكاتب السطور، إلى غير ذلك من الأعمال التي يختلف حظها من النجاح كما يتفاوت أصحابها في فهم طبيعة المسرح الملحمي وشكله والضرورة الفنية والفكرية التي تدعو لكتابته …

ولكن هذا موضوع آخر، ربما أرجع إليه في مجالٍ أوسع، إن شاءت رحمة الله أن تمُدَّ في خيط العمر، وتصون النور في شمعة العين …

إشارات

  • (١)

    راجع للسيدة ماريانة كستنج — وهي من أهم دارسي المسرح الحديث — كتابها القيم عن المسرح الملحمي، وقد ظهر في سلسلة كتب أوربان، بدار النشر كولهامر، الطبعة الثانية، ١٩٥٩م. وارجع إن شئتَ أيضًا إلى مقدمة كاتب السطور لمسرحيتَي الاستثناء والقاعدة ومحاكمة لوكولوس لبرشت، سلسلة مسرحيات عالمية، العدد السادس، الدار القومية للطباعة والنشر، ١٩٦٥م، ص٢٢ وما بعدها.

  • (٢)

    جوتس فون برليشنجن ذو القبضة الحديدية، مسرحية كتبها جوته سنة ١٧٧٣م في مرحلة الفورة والانطلاق، والتعبير العاطفي المتطرف في فرديته وتمجيده للعبقرية الأصلية الخلَّاقة بكل تحرُّرها وتحدِّيها وعنفوانها الوجداني والخيالي، وتُمثِّل بدايات مرحلة العصف والاندفاع في حياته وحياة الأدب الألماني، وردَّ فعلٍ لعقلانية عصر التنوير. وقد ترجمها الدكتور مصطفى ماهر إلى العربية، وظَهرَت مع شذرة مسرحيته فاوست الأولى — سنة ١٩٧٥م ضمن المسرحيات المختارة التي تصدر عن هيئة الكتاب بالقاهرة.

  • (٣)

    راجع لكاتب السطور مقالًا بهذا العنوان في كتاب «البلد البعيد» (ص١٤٧–١٦٩)، دار الكاتب العربي، القاهرة، ١٩٦٨م، ومقالًا آخر عن حياته الثائرة في نفس الكتاب (ص١٢٥–١٤٦). أمَّا مسرحياته الثلاث فتجد ترجمتي لاثنتَين منها «فويسك، وليونس ولينا» في العدد العاشر من سلسلة المسرحيات العالمية كما تجد مسرحيته الكبرى «موت دانتون» في عدد أبريل سنة ١٩٦٩م من مجلة المسرح القاهرية.

  • (٤)

    راجع إن شئتَ عرضًا لهذه الرواية في كتابي عن «التعبيرية» الذي ظهر في سلسلة المكتبة الثقافية، العدد ٢٦٠، مارس ١٩٧٠م، من ص٧٢ إلى ص٧٥.

  • (٥)

    راجع أهم مسرحياته التي ترجمها المرحوم الأستاذ محمد إسماعيل محمد، وارجع إلى دراسة عنه لكاتب السطور ظَهرَت في «البلد البعيد» ص١٩٢–٢١٨.

  • (٦)

    بيتر زوندي، نظرية الدراما الحديثة، فرانكفورت، دار نشر زوركامب، ١٩٥٦م.

  • (٧)

    مارتن هيدجر، طرق مسدودة (أو متاهات)، فرانكفورت، دار نشر فيتور يوكلوسترمان، ١٩٥٢م، ص٦٩–١٠٤.

  • (٨)

    يصف أحد الكتاب المُحدَثِين (فالتر بنيامين) أهم خصائص المسرح الملحمي بأنها هي «ردم الأوركسترا» أي إلغاء الهُوَّة الفاصلة بين الخشبة والصالة.

  • (٩)

    راجع الترجمة العربية لهذه المسرحية بقلم أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي، ضمن سلسلة روائع المسرح العالمي، العدد ٣٠، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، وراجع له كذلك ولكاتب السطور عددًا آخر من مسرحياته.

١  Auto Sacramental.
٢  Bourges.
٣  Scena.
٤  Fast Nachtsspiele.
٥  Acolastus.
٦  Gnaphaus.
٧  Cenodxus.
٨  J. Biedermann.
٩  Sturm und Drang.
١٠  وُلد ومات في مدينة ديتمولد بعد حياة قصيرة بائسة متقلبة. درس الحقوق في ليبزج وبرلين ثم تخلَّى عنها ليتفرغ للخلق الأدبي والعمل المسرحي فلم تتخلَّ عنه نجمة حظه الشقي. وتنقل بين عدد من المدن دون أن يتمكن من الاستقرار في إحداها، وعاد إلى بلده وأتم دراسته ومارس مهنة المحاماة التي لم يلبث أن ضاق بها. وعكف على الشراب، وتزوج زواجًا سرعان ما باء بالفشل. واستقال من وظيفته بعد أن وُجهت إليه تهمة الإهمال؛ فشد الترحال إلى فرانكفورت وديسلدورف، ولم يصادف نجاحًا يُذكر. وأخيرًا عاد إلى بلده محطمًا وحيدًا ليموت متأثرًا بسل العمود الفقري. وهو كاتب مسرحي جنت عليه عبقريته القلقة ومزقته بين العقل والعاطفة والأصالة والشطط. ويعد إلى جانب بوشنر من مؤسسي الدراما الواقعية في القرن التاسع عشر، الذين عارضوا المسرح الكلاسيكي المثالي القائم على الشكل المنسجم والبناء المتزن بمسرح آخر يشيع فيه التوتر والاضطراب واللوحات الملحمية اللاهثة وإن كان يتميز بقربه من الواقع وإخلاصه في تصوير الجماهير والتعبير عن البيئة والعصر والقوى التاريخية المجهولة التي يسقط الأبطال ضحيتها. وكتب الكوميديا الأدبية التي يتهكم فيها على الحياة الفنية في عصره. مثل: «مزاح وسخرية ودعابة ومعنًى أعمق»، كما كتب التراجيديا، مثل: «دون جوان وفاوست»، والتمثيلية التاريخية والسياسية التي تتناول مصير أبطال يسقطون ضحايا قدَرهم وطبعهم، مثل مسرحيته عن أسرة «هوهنشتاوفن» ومسرحيته عن نابليون والأيام المائة.
١١  G. Büchner.
١٢  من يوتوبيا — أي التي لا توجد في أي مكان — وهي المدينة المثالية الكاملة التي لا يزال الفلاسفة والأدباء يحلمون بها منذ أفلاطون — بل قبله أيضًا! — إلى اليوم …
١٣  Der Schwiesige.
١٤  Frank Wedekind وقد عمل فترةً من حياته سكرتيرًا لسيرك قبل أن يتجه لتمثيل مسرحياته بنفسه في الكاباريه الأدبي «القضاة الأحد عشر» في مدينة ميونيخ.
١٥  في مسرحيته إمبراطورية البلد المكتشف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤