محاولة التَّغيير

أخذَت «نوسة» تتبع بعينَيها مجموعة من طيور النَّورس البيضاء، وهي تحوم فوق سطح المياه السَّاكنة … ثم تنقضُّ مخترقةً سطح الماء، وتخرج وفي منقارها سمكةٌ صغيرة تتلوَّى وتبرق في أشعة الشمس، وبرغم أن المشهد كان ممتعًا ومثيرًا … فإن «نوسة» لم تكن تشعر بأيَّة متعةٍ … فقد شاهدته خلال الأيام العشرة التي قضتها في هذا المكان مرَّاتٍ كثيرة، وككلِّ شيءٍ يتكرر … فإنَّه يصبح مملًّا في النهاية … فإن «نوسة» لم تكن سعيدة … بل ربما كانت تشعُر ببعض الأسى على مصير الأسماك الصغيرة.

وأدارت «نوسة» بصرها بعيدًا … كانت تجلس على شاطئ بحر البقر … ولم تكن هذه التسمية على مُسمًّى … فلم يكن بحرًا … ولم تكن فيه أبقارٌ … بل هو أحد المصارف الكبيرة في شرق الدلتا … ويصبُّ في بُحيرة المنزلة.

لم يكن بحر البقر إذن أكثر من مصرفٍ واسع … يمتدُّ عَبْر الدلتا حاملًا مياه الصرف حتى بُحيرة المنزلة … وكانت مياه البُحَيرة الساكنة في ذلك اليوم الحار تحمل إلى النفْس السأم والضيق.

وعادت «نوسة» إلى كتابها تقرأ … وكان «محب» و«لوزة» و«عاطف» يجلسون قريبًا منها وكلٌّ منهم غارقٌ في خواطره … كان «محب» يفكِّر في قرب نهاية الإجازة وقد أشرف شهر أغسطس على الانتهاء … وكان «عاطف» يفكِّر في خاله مهندس الريِّ الذي دعاهم إلى زيارته في هذا المكان البعيد … ثم تركَهم بعد أن وصلَه استدعاءٌ من القاهرة … أمَّا «لوزة» فكانت تفكِّر أنَّ الإجازة في هذا المكان برغم أنه مكانٌ جديد عليهم تمامًا … وفيه إمكانياتُ مغامراتٍ مثيرة … فإنَّهم لم يقابلوا أيَّ لغز، ولم يشتركوا في أيَّة مغامرةٍ … وكانت تقول لنفسها: ربَّما عثَر الشاويش «فرقع» في المعادي الآن على لغزٍ يحلُّه وحده.

ولم يكن «تختخ» موجودًا … وقد لاحظ الأصدقاء في الفترة الأخيرة أنَّه يتغيَّب عنهم بلا سببٍ واضح، ولا يظهر إلَّا آخر النهار دون أن يقول لهم أيَّ شيء.

ودقَّ قلب «لوزة» وهي تفكِّر في هذه الحقيقة … وقالت في نفسها: لعلَّ «تختخ» قد عثَر على لغزٍ هامٍّ … وسوف يُطْلعنا عليه بعد قليل.

وفجأةً قطع حبل الصمت «عاطف» قائلًا: مدهش. إنَّنا جميعًا مستغرقون في التفكير وكأنَّنا كبار العباقرة!

قال «محب»: على ذِكر العباقرة، هل يعرف أحدٌ منكم أين يذهب العبقري «تختخ»؟ إنَّه هذه الأيام يبدو غامضًا … يخرج مع «زنجر» كلَّ صباحٍ ولا يعود إلَّا في المساء … ما هي الحكاية؟

قالت «نوسة»: لقد قال لنا منذُ ثلاثة أيَّامٍ إنَّه زار مدرسة بحر البقر التي ضربها الطيران الإسرائيلي وقتَل فيها عددًا كبيرًا من التلاميذ الأبرياء … هل يكون غيابه له علاقة بهذا الحادث؟

عاطف: وماذا يفعل في المدرسة؟ لقد أعاد الناس بناءها … وعادت الدِّراسة برغم ما فعلَه العدوُّ الغاشم.

نوسة: لقد حاولتُ أن أفسِّر غيابه!

عاطف: لعلَّ «لوزة» عندها تفسيرٌ … فهي التي تكتشف الألغاز، و«تختخ» الآن لغز … سمين!

لوزة: لا تسخر من «تختخ» في غيابه! ما معنى لغز سمين؟ هل تعيِّره لسمنته؟

عاطف: على مهلك يا «لوزة» … إنَّني …

وفي هذه اللحظة سمع الجميع صوت نُباح «زنجر»، وشاهدوا القارب الذي يركبه «تختخ» يظهر عند المنحنى الصغير، قُرب التقاء بحر البقر ببُحَيرة المنزلة.

كان المغامر السمين يُجدِّف و«زنجر» يجلس في نهاية القارب ينبَح معلنًا عن وصولهما وكأنَّه صَفَّارة في سفينةٍ تدخل الميناء، وأخذ المغامرون الأربعة ينظرون إلى القارب في إعجاب وهو يدخل كالسهم؛ فالقوارب التي تُستخدم في بُحيرة المنزلة ويُسمُّون الواحد منها «فلوكة» … تشبه السهم فعلًا … طويلة … ورفيعة … ومسطَّحة. فهي لهذا سريعةٌ جدًّا … ولكنَّها معرَّضةٌ للغرق بسرعة في الوقت نفسه … ولهذا كان التوازن الدقيق لازمًا لتسيير القارب … وقد كان المغامر السمين متوازنًا جدًّا وهو يدير القارب بمهارة ليصطدم صدمةً خفيفة بالشاطئ ثم يتوقَّف.

وقالت «لوزة» بانفعال: إن «تختخ» يحمل لنا أنباءً جديدة!

نوسة: كيف عرفتِ؟

لوزة: إن عينَيه تلمعانِ ببريقٍ عجيب.

وأقبل «تختخ» يمشي على الأرض الطينية التي انتشَرتْ فيها الأعشاب، صاعدًا شاطئ البُحَيرة الضحل إلى حيثُ الأصدقاءُ … وقال في صوتٍ مرح: اجمعوا حاجيَّاتكم وهيَّا بنا!

محب: ما هي الحكاية بالضبط؟

تختخ: أظن أنَّكم جميعًا تشعرون بالملل في هذا المكان الموحش. لقد تمتَّعنا بالسكون والسمك، وبالسباحة وأعتقد أنَّنا في حاجةٍ إلى التغيير.

لوزة: هل نعود إلى القاهرة؟

تختخ: لا … سننتقل إلى جزيرة في وسط البحيرة.

عاطف: وما هو التغيير إذن؟ … إنَّ هذا يشبه الانتقال من صالةٍ واسعة إلى غرفةٍ مغلقة.

بدا على وجه «تختخ» الضيق وقال: أنتم أحرارٌ إذن … لا داعي للانتقال … على كلِّ حالٍ لم يبقَ من الإجازة إلا أيَّامٌ قليلة … فلنَقضِها نائمين وينتهي كلُّ شيءٍ!

لوزة: أرجوك ألا تتألَّم يا «تختخ»، قلْ لنا ما هي الحكاية، خصوصًا حكاية اختفائك العجيب في الأيَّام الماضية.

هدأ «تختخ» وجلس قائلًا: أمَّا غيابي فقد كنتُ أستكشف المنطقة المحيطة بنا، وبالطبع ستقولون لماذا لا تأخذنا معك … والسبب أنَّني عرفت أنَّها منطقةٌ حافلة بالأفاعي والحيات من أنواعٍ مخيفة؛ لهذا فضَّلت أن أتحمَّل المخاطر وحدي. وفي إحدى رحلاتي قابلتُ شخصًا ظريفًا جدًّا … الدكتور «ندا».

نوسة: اسمٌ غريب!

تختخ: إنَّه طبيبٌ بيطري عجوز … قضى حياته في الاهتمام بالخيول … فلما أُحيل إلى المعاش اختار جزيرة «ابن سلام» ليُربي فيها عددًا من الخيول العربية الأصيلة … يبيعها للهواة بمبالغَ ضخمة … وأنتم تعرفون أنَّني أحبُّ الخيول وأعتبرها من أنبل الحيوانات … وقد رأيتُ حصانًا يقف في القرية القريبة، ووقفتُ أنظر إلى الحصان معجبًا، وحضَر الدكتور «ندا» فحيَّيتُه وسألتُه عن الحصان … وهكذا تعارفنا.

عاطف: ما دام دكتورًا بيطريًّا … فلن يكون عندنا مشكلةٌ صحيَّة.

لوزة: سخيفة!

تختخ: واليوم ذهبتُ لمقابلة الدكتور، وعرف أنَّنا نُعاني من الملل هنا، فدعانا لقضاء بقيَّة الإجازة عنده في الجزيرة … هل عندكم مانعٌ؟

عاطف: وكيف نترك استراحة الريِّ وفيها كل حاجيَّات خالي؟

تختخ: هناك الخفير الذي يقوم بالحراسة … وسنترك رسالةً لخالك إذا حضَر ونحن ما زلنا في الجزيرة، ثم نعود للسلام عليه قبل سفرنا.

عاطف: بصراحة إنَّني لستُ متحمسًا لهذه الرحلة … فما معنى أن ننتقل من شاطئ إلى جزيرة؟

محب: تستطيع أن تبقى وحدكَ هنا!

لوى «عاطف» فمه في غيرِ رضًا … وقام يجمع الحاجيَّات مع بقيَّة المغامرين.

وقال «محب»: سنحتاج إلى قاربٍ آخر … وشخصٍ يعود بالقاربَين إلى الاستراحة!

تختخ: أرجو أن تُنادي الخفير «عبود» يا «عاطف». وأسرع «عاطف» لاستدعاء الخفير الذي حضر منزعجًا، وأخذ يبدي مختلف الاعتراضات على انتقالهم دون استشارة مهندس الريِّ … ولكنَّ «تختخ» طمأَنَه على أنَّهم سينتقلون إلى منطقةٍ آمنة.

قال الخفير: ولكن يا أستاذ … هذه الشبورةُ!

تختخ: نحن لا نخاف الشَّبورةَ!

لوزة: ما هي الشَّبورة يا «تختخ»؟

تختخ: إنَّها ضبابٌ كثيف يكون قريبًا من سطح الأرض أو البحر وتتعذَّر فيه الرؤية.

الخفير: قد تُقابِلنا الشَّبورةُ الآن؛ فهذا هو مكانها بين هذا الشاطئ وجزيرة «ابن سلام»!

تختخ: سيكون شيئًا جميلًا أن نرى هذه الظاهرة الطبيعية … وإن كنتُ أرجِّح أنَّها لا تظهر إلا في الصباح الباكر … وربَّما في المساء!

أخذ الخفير يهزُّ رأسه آسفًا، وهو يساعدهم في نقل حاجيَّاتهم إلى القاربَين. وبعد أن انتهَوا من وضع كل شيءٍ في مكانه … انطلق القاربان فوق المياه الساكنة … وكانت «لوزة» تُكرِّر بينها وبين نفسها كلمة «الشبورة» … الشبورة … إنَّها كلمةٌ مفزعة … فهل تقابلهم الشبورة؟

هكذا أخذَت «لوزة» تفكِّر … والقاربان يشُقَّان طريقهما مسرعَين عَبْر البحيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤