أبو المناديل

سار القاربانِ … وكانت الساعة قد أشرفَت على السادسة مساءً، واكتسى سطح البحيرة اللامع بمسحةٍ جميلة من أشعة الشمس الغاربة. وعلى طول الشاطئ ظهرت خيامٌ جميلة ملوَّنة أُعجبَت بها «لوزة» وصاحت: كم هي جميلةٌ هذه الخيام! مَن يملكها؟

قال «عبود»: إنَّها مِلكٌ للغجر … وهم قبائلُ رحَّل … ولكنَّهم منذُ فترةٍ طويلة اختاروا هذا المكان واستقُّروا فيه حيثُ يتوافر العشب لرعي ماشيتهم … وهي في الوقت نفسه منطقةٌ قريبة من أربعة بلادٍ كبيرة؛ هي «دمياط» و«بورسعيد» و«الإسماعيليَّة» و«المطريَّة دقهليَّة»؛ حيثُ يذهبون لبيع منتجاتهم من الجبن واللبن والمنسوجات اليدوية، وتقوم النساء بقراءة البخت.

نوسة: شيءٌ مثير!

عبود: هل تحبين أن تَرَي بختَك؟ إنَّ السيدة ستطلب منكِ قرشًا ثم تقرأ لك طالعكِ … مستقبلكِ … وهل ستنجَحين في المدرسة أو لا …

قال «عاطف»: وهل نصل إلى جزيرة «ابن سلام» أو إلى جزيرةٍ أخرى؟

عبود: إنَّ هذه الخيام ثمينة … فالسيدة من الغجر تقضي سنةً كاملةً في نسجها … وقد رأيتُ أحد السوَّاح الأجانب يعرض خمسين جنيهًا ليشتري إحدى الخيام ولكنَّ صاحبتها رفضَت.

لوزة: معها الحق. إنَّني لم أرَ في حياتي شيئًا أجمل من هذا!

وتجاوز القاربانِ نهاية الشاطئ … ثم أخذا يتجهان شرقًا في الطريق إلى جزيرة «ابن سلام». وبرز من أحد الجوانب جزيرةٌ صغيرة أخذَت تكبر تدريجيًّا.

فقالت «نوسة»: هل هذه جزيرة «ابن سلام»؟

ردَّ «عبود»: لا! إنَّها جزيرةٌ صغيرة «ابن سلام» أكبرُ بكثير، ولكنَّ هذه الجزيرة لها شهرةٌ خاصة.

واقترب القاربانِ أكثر … ولاحظ الأصدقاء أنَّ الجزيرة يغطِّيها الغاب الأخضر حتى تبدو كأنَّها كتلةٌ من الغاب. كانت هناك مناديلُ معلَّقة … حمراء … صفراء … خضراء وسوداء، وألوانٌ أخرى.

كان منظرًا رائعًا وغريبًا، وصاحت «نوسة»: ما هذا؟

قال «عبود» وهو يبتسم: هذه جزيرة «أبو المناديل»!

لوزة: وما هي حكاية هذه المناديل؟ هل ينشر سكَّانها مناديلهم كلها في يومٍ واحد؟

ضحك «عبود» وقال: هذه جزيرةٌ خالية من السكَّان، وهذه المناديل يعلِّقها مَن له حاجةٌ فتُقضى.

لوزة: لا أفهم ماذا تقصد!

عبود: يقولون إنَّ هناك وليًّا من أولياء الله يسكن هذه الجزيرة، فإذا كان الشخص مريضًا مثلًا يأتي إلى هنا ويعلِّق منديلًا ويطلب من «أبو المناديل» أن يشفيه … وإذا كان له عدوٌّ جاء وعلَّق منديلًا أسود وطلب من «أبو المناديل» أن يقتصَّ منه …

تختخ: وإذا جاء تلميذ وعلَّق منديلًا وطلب من «أبو المناديل» أن ينجحَ ينجحُ؟!

صاح «عاطف»: قرِّبوني منها … أريد أن أُعلِّق عشرة مناديل … فعندي طلباتٌ كثيرة!

قال «محب»: وهل جرَّبتَ أن تطلب شيئًا يا «عبود»؟

عبود: لا يا أستاذ … ولكنِّي سمعت أن «أبو المناديل» يقضي كثيرًا من الحاجات!

كان «تختخ» يستمع إلى كل هذا وهو يفكِّر … شيءٌ غريب … معتقدات الناس في هذا العالم … ولكن ما كان يشغله أكثر هو حكاية الشبورة، فقال يسأل «عبود»: وأين مكان الشبورة يا «عبود»؟

عبود: هنا على جزيرة «أبو المناديل»!

تختخ: مدهش!

عبود: إنَّ الشبورة عندما تنزل يغطي الضباب الجزيرة، ومساحةً كبيرة من الفراغ حولها … حتى لا يكاد الإنسان يرى إصبعه … وهم يقولون إن «أبو المناديل» … يأتي في الشبورة ويأخذ المنديل الذي سيقضي لصاحبه حاجته … فإذا زالت الشبورة، وجاء صاحب الطلب فوجد أن منديله قد أُخذ … فهذا يعني أن طلبه سيُجاب!

تختخ: مدهش!

عبود: لهذا لا يقترب أحدٌ من الجزيرة مطلقًا في أثناء نزول الشبورة … بل إنَّ مراكب الصيد تبتعد عنها خوفًا من أن يحدث لها شيء.

تختخ: ألم يجرؤ أحدٌ مطلقًا على دخول الجزيرة في أثناء الشبورة؟

عبود: نعم … سمعتُ أن بعض الأشخاص دخلوا الجزيرة في الضباب!

تختخ: وماذا حدث لهم؟

عبود: لم يعودوا!

اعتدل «تختخ» في جلسته وقال: هل أنت جادٌّ؟

عبود: طبعًا! لقد اختفى رجلٌ جاء من «بورسعيد»، وكان جريئًا، فانتظر نزول الشبورة، ودخل الجزيرة، ولم يعُد!

تختخ: وهل أبلغ أحدٌ الشرطة؟

عبود: لا يا أستاذ … لقد خافوا من انتقام «أبو المناديل» وبخاصةٍ أنَّ قسم الشرطة بعيدٌ عنَّا … إنَّه يحتاج إلى سفرٍ للوصول إليه.

تجاوز القاربان جزيرة «أبو المناديل» و«عبود» ينظر بعيدًا … والمغامرون الخمسة ينظرون إلى الجزيرة الغامضة باهتمامٍ شديد … وكلٌّ منهم يفكِّر في هذا الضباب الغامض الذي ينزل على الجزيرة … وهذا الشيخ «أبو المناديل» الذي يأتي مع الشبورة لقضاء حاجات مَن يريد مِن الناس … شيءٌ مدهش لم يسمعوا بمثله من قبلُ!

وابتعدت الجزيرة شيئًا فشيئًا وغابت في الأفق … والمغامرون الخمسة صامتون.

كانت كلمات الخفير العجوز «عبود» ترنُّ في آذانهم … وتهبط إلى قلوبهم … وتصعد إلى رءوسهم … كلماتٌ غامضة على وضوحها … مدهشةٌ على سذاجتها … تشدُّ انتباههم كمغامرين إلى أشياءَ غامضةٍ تحدث في عالمٍ بدائيٍّ وكأنَّها أساطيرُ عمرها آلاف الأعوام.

وعندما آذنت الشمس بالمغيب … كانت مئاتٌ من مراكب الصيادين تتجه إلى مدينة «المطريَّة دقهليَّة» التي بدأَت أضواؤها الخفيفة تلمع في الأفق … وبدَت الأشرعة البيضاء في غروب الشمس وكأنَّها في مهرجان … وأشار «عبود» إلى قبَّة مسجدٍ وسط بقعةٍ سوداء في وسط الجزيرة وقال: هذه هي قبَّة سيِّدي «ابن سلام» … الذي سُميت جزيرة «ابن سلام» باسمه.

عرف المغامرون أنَّهم يقتربون من هدفهم … وزادت حركة أذرعهم في التجديف بعد أن كانوا قد أبطَئوا نتيجة التعبِ من ناحية … وحديثِ «عبود» عن الضباب الغامض من ناحيةٍ أخرى.

وشيئًا فشيئًا أخذ القاربان يقتربان من الجزيرة … وعشراتُ المراكب تمرُّ بالمغامرين مسرعةً في طريقها إلى «المطريَّة دقهليَّة»، أَشهَر مدينةٍ تتجر في الأسماك في بُحيرة «المنزلة».

قالت «نوسة»: سنصل في الظلام! فكيف نعثر على الدكتور «ندا»؟

ردَّ «عبود»: إنَّ الجزيرة صغيرة، وإصطبلات الدكتور «ندا» تقع في الجانب الغربي للجزيرة … وستجدونها بسهولة.

عاطف: هل ستعود يا «عبود» الليلة؟

عبود: طبعًا يا أستاذ … فإنَّني لا أستطيع ترك الاستراحة دون حراسة، إنَّ بعض الغجر الذين رأيتُم خيامَهُم من المجرمين … وبعضهم هاربٌ من أحكامٍ بالسجن، ولا يستطيع أحدٌ أن يصل إليهم.

محب: كيف؟

عبود: إنَّهم يعرفون أماكنَ خفيَّة في البحيرة لا يعرفها أحدٌ غيرهم، وهم يختفون فيها بالأسابيع بل بالشهور والسنوات ثم يظهرون بعد أن ينساهم الناس … وبكلِّ صراحة … نحن نخافهم جدًّا …

لوزة: الحمد لله أن خرجنا من هذه المنطقة سالمين!

عبود: معكِ كلُّ الحق … إنَّهم أشرارٌ مرعبون …

ووصل القاربان إلى الشاطئ … وكان شيئًا جميلًا من الدكتور أن يراقبهم بنظَّارته المُكبِّرة من بعيد … فأرسل مَن ينتظرهم … وكان ولدًا صغيرًا في عمر «عاطف» رحَّب بهم وحمل الأمتعة معهم.

وودَّع الأصدقاء «عبود» وشكروه … ووعدوه أن يزوروه قبل سفرهم، ثم حملوا حاجيَّاتهم وساروا خلف الولد الصغير الذي عرَّفهم بنفسه …

كان اسمه «بركات» وشهرته «بكبك» … وقد ضحكَت «لوزة» عندما حاولَت نطق كلمة «بكبك»، وأعجبَتْها الكلمة فأخذت تردِّدها حتى وصلوا إلى قرب الإصطبلات، حيث كان الدكتور «ندا» يقف وبجواره زوجته.

ورحَّب الدكتور بالأصدقاء بحرارة أسعدتهم، وقالت زوجته وهي تقبِّلهم: إنَّني لم أُنجب فأنتم إذن أولادي … ومرحبًا بكم!

وهزَّ «زنجر» ذيله متضايقًا … فلم يرحِّب به أحدٌ … ولكن فجأةً قامت معركةُ ترحيبٍ شديدة … عندما ظهر كلبان ضخمان من بين الإصطبلات ورفعا صوتيهما بنُباحٍ عميق، ووقف «زنجر» رافعًا رأسه في كبرياء … ثم أطلق نُباحه القوي معلنًا قبولَه لأيَّة معركة تُفرَض عليه.

وتقدَّم الكلبان وهما ينبَحان بشدة … وظلَّ «زنجر» واقفًا دون خوف، وبدا للجميع أن صراعًا دمويًّا سيقع فورًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤