حياةٌ جديدة

ولكن المعركة التي توقَّعها الجميع لم تقع … فقد تدخَّل «تختخ» لإيقاف «زنجر» وتدخَّل الدكتور «ندا» لإيقاف الكلبَين الشرسَين.

وفهمَت الكلاب الثلاثة أنَّ المسئولين عنها لا يريدون معارك، فأخذت تدور وتلف كأنَّها تقوم بعملية تعارف … وفي الوقت نفسه جس نبض لمعرفة الأقوى.

وتقدَّم الدكتور وزوجته الأصدقاءَ إلى مقرِّهم … كان كشكًا خشبيًّا غريب الشكل مكوَّنًا من دورَين … كأنَّه برج … وقال الدكتور ضاحكًا: الحقيقة أنَّني أستخدمه كبرجٍ متنقِّل … أراقب منه الخيول … وأحيانًا أقضي فيه الليل … وستنقسمون إلى مجموعتَين؛ مجموعة تنام في الغرفة العليا والثانية في الغرفة السفلى.

وتقدم «بكبك» يضع الحقائب مع الأصدقاء وكانت الشمس قد غَربَت تمامًا … وخلَّفتْ وراءها أفقًا شديد الاحمرار … وفجأةً سمع الأصدقاء صوت مكينة تدور، وقال الدكتور: إنَّها مكينة إضاءةٍ متنقلة … تنير جميع الأكشاك وإصطبلات الخيول!

قالت زوجة الدكتور: سنترككم حتى موعد العشاء … إنَّنا عادةً نتعشَّى في التاسعة.

وانصرف الدكتور وزوجته، وقالت «لوزة»: سنأخذ أنا و«نوسة» الغرفة العليا!

وبدءوا يفتحون الحقائب بمساعدة «بكبك» ويفرشون أغطيتهم، ويضعون ملابسهم في أماكنها.

قال «بكبك»: إن الدكتور لن يترككم تنامون حتى تُشاهِدوا مجموعة الخيول. إنَّه لا يترك أحدًا يزور الجزيرة إلَّا إذا عرض عليه مجموعته.

تختخ: وهل هي حقًّا مجموعةٌ ممتازة؟

بكبك: طبعًا … وهناك بعض الأجانب جاءوا بضع مراتٍ لشراء بعض السلالات بمبالغَ كبيرة.

وانتهى الأصدقاء من ترتيب حاجيَّاتهم … وقال «بكبك»: سأذهب لمساعدة السيدة «صفيَّة» في إعداد العشاء.

وانصرف «بكبك» مسرعًا ونظر «محب» في ساعته ثم قال: ما زال أمامنا نصف ساعة، هل نتجول في الجزيرة؟

تختخ: لندع ذلك للصباح … إنَّها جزيرةٌ صغيرة … وفي خلال ساعة يمكن أن نعرف كلَّ شبرٍ فيها.

لوزة: تعالَوا ننظر إلى البُحَيرة من أعلى البرج!

وصَعِدوا جميعًا إلى الدور الثاني يشبه البرج فعلًا … ووقفوا يتأمَّلون ما حولهم … كانت الليلة مظلمةً … ولكنَّ النجوم البعيدة كانت تُضيء البُحَيرة … وعلى امتداد البصر غربًا كانت أضواء مدينةٍ بعيدة تتلألأ وقال «محب»: أعتقد أنَّها «بورسعيد»!

وشرقًا كانت مدينة «المطرية» واضحة … أما شمالًا وجنوبًا فلم يكن هناك إلَّا أفقٌ أسود يحدِّد من بعيد بحيرة «المنزلة» … أكبر بُحيرات مصر، وأوفرها إنتاجًا للأسماك. وفجأةً أشار «عاطف» إلى شيء يزحف فوق الماء … شيءٍ ضخم كأنَّه سفينة بلا تفاصيل، أو حيوانٌ خرافي بلا أقدام … شيءٌ أبيض يتجه شمالًا من حيث كانوا عند بحر البقر …

وقال تختخ: إنه الضباب الغامض!

ووقف الأصدقاء مذهولين أمام الظاهرة الطبيعية المدهشة … ولولا أنهم يعرفون حقيقتها لظنوا أنَّها شيءٌ خارق للطبيعة، شيءٌ مخيف لا مثيل له … ومضى الشيء الأبيض الضخم سائرًا فوق الماء، وقال «عاطف»: إنَّها متجهة إلى جزيرة «أبو المناديل»!

وساد الصمت … والعيون العشَرة تتابع الضباب وهو يسير ببطءٍ على وجه الماء، فيخفي خلفه كل ما يقع في طريقه من أشياء …

ثم قالت «لوزة»: لا يمكن أن يُوجد مثل هذا الشيء، ولا يُوجد وراءه سرٌّ غامض!

ضحك المغامرون وقال «عاطف»: هل تتصوَّرين أن بداخله ساحرًا خرافيًّا يحوِّل التراب إلى ذهب … والماء إلى عسل؟

لم تَرُد «لوزة» فقد سمعوا صوت أقدامٍ مقبلة، ثم صوت «بكبك» يناديهم فنزلوا مسرعين، وأخذوا طريقهم خلفه عَبْر التلال الصغيرة التي تغطِّي جزيرة «ابن سلام»، ثم اتجهوا جنوبًا حتى أشرفوا على نيرانٍ متوهجة … وكانت تفوح في الجو رائحة الشواء … حتى إنَّ «زنجر» نبح مرتَين إعلانًا لابتهاجه.

قال «تختخ»: لحمٌ مشوي!

بكبك: نعم … إنَّ السيدة «صفيَّة» قد ذبحَت أحد الخراف لإعداد عَشاءِ لكم.

نوسة: يا لها من سيدةٍ كريمة!

كانت النيران في حفرةٍ واسعة، وقد جلس حولها الدكتور وزوجته، وبعض مَن يعمل معهم … واستقبل الحاضرون المغامرين استقبالًا طيبًا … وجلسَت «نوسة» و«لوزة» بجانب السيدة «صفيَّة» وجلس بقية المغامرين حول الدكتور، على حين كان أحد الأشخاص يحرِّك الخروف المشوي فوق النار … والدهن يسيل منه … على نار الخشب فتزداد رائحة الشواء.

قال الدكتور: أرجو أن تقضوا معنا وقتًا طيبًا!

تختخ: باسم زملائي وباسمي أشكرك أنت وزوجتك المحترمة على هذه الدعوة الكريمة.

الدكتور: مرحبًا بكم … إنَّنا نَسعَد بالضيوف؛ فلا أحد يأتي إلى جزيرة «ابن سلام» إلا تجَّار الخيول الذين يتعاملون معي.

تختخ: سمِعتُ من «بكبك» أنَّ بعضهم يأتي من أوروبا وأمريكا!

ابتسم الدكتور وقال: هذا صحيح … فعندي مجموعة من أفضل الخيول العربية، وهواة هذا النوع من الخيول يأتون من جميع أنحاء العالم لشرائها، وبالصدفة سيأتي غدًا مليونير أمريكي لشراء بعضها … وسوف تحضُرون عرضًا للخيول أمامه.

لاحظ «محب» أنَّ الكلاب الثلاثة تجلس متجاورةً … وكأنها تصادقَت مثلما تصادَق المغامرون وبقيَّة الحاضرين … وكانت عيون الثلاثة مركَّزة على الخروف الذي كان يدور على النار. وقد اكتسى باللون الأحمر والأسود دليلًا على أنه قد نضج … وتقدَّم أحد الرجال من الخروف، وأخرج سكينًا طويلة وهوى بها على الفخذ فقطَعه بعد ضرباتٍ سريعة متلاحقة … وسرعان ما كان يوزِّع قطعًا كبيرة من اللحم الساخن الناضج على الجالسين … وجاءت أطباق السلطة، والخبز الذي كان ينضج على فرنٍ صغير بجوارهم …

كانت حفلةً خلوية شهيَّة بكل ما يمكن أن تحويه من متعةٍ في ليلةٍ صيفيَّة جميلة … وانهمَك الأصدقاء في الأكل، وكلما أشرفوا على الانتهاء مما أمامهم من اللحم، وجدوا قطعةً أخرى شهيَّة، ودعوةً لمزيد من الأكل.

وقالت «لوزة» وهي تضع طبقها جانبًا: هذه ألذُّ أكلةٍ أكلتُها في حياتي!

قالت السيدة «صفيَّة»: ولكنَّكِ لم تأكلي ما يكفي!

لوزة: لقد أكلت ما يكفيني سنةً كاملة!

وكانت الكلاب الثلاثة وخاصةً «زنجر» قد انهمكَت في الأكل، وكان «زنجر» يحدِّث نفسه بأنَّه لم يرَ في حياته طعامًا أكثر ولا أمتع من هذا … وتمنَّى أن يبقى أصحابه في هذا المكان إلى الأبد.

انتهت حفلة الطعام … وبدأَت حفلةٌ أخرى … حفلةُ سَمرٍ جميلة … اشترك فيها الرجال الثلاثة الذين يخدمون الدكتور … و«بكبك» والأصدقاء.

لعبوا لُعبة الِاستُغمَّاية … وغيرها من الألعاب المسلِّية … وامتلأَت الجزيرة بصدى ضحكاتهم … حتى إذا تقدَّم الليل … كان الجميع قد استعدُّوا للنوم بعد هذا اليوم الحافل … وقال لهم الدكتور: إنَّ عرض الخيول سيبدأ في السابعة صباحًا قبل أن ترتفع أشعة الشمس.

وعاد الأصدقاء إلى البرج الذي ينزلون فيه … وسرعان ما استغرقوا في نومٍ هادئ ممتع.

في الصباح الباكر كانت «لوزة» أول مَن استيقظ … فتحَت نافذة البرج، وأطلَّت على العالم حولها … رأت جزيرة «ابن سلام» التي تشبه سمكةً كبيرة مستلقية في المياه … ورأت من بعيدٍ بقيَّة الضباب الغامض وهو يتلاشى في أشعة الشمس … وعلى اليسار رأت رجال الدكتور وهم يُخرجون الخيول من حظائرها، ثم سَمعَت صوت موتور، ورأت يختًا أنيقًا يتقدَّم من الجزيرة على بُعد ثلاثة كيلومتراتٍ تقريبًا، ثم سَمعَت صوت حوافرِ حصانٍ يجري بالقرب منها … ورأَت الدكتور «ندا» يركبه، ويجري كالسهم … وكان واضحًا أنه يقوم برياضته اليوميَّة.

أسرعَت «لوزة» تُوقِظ الأصدقاء … كانت الساعة السادسة والنصف … وفي دقائقَ كانوا قد انتهَوا من ارتداء ثيابهم … ثم انطلَقوا إلى معسكر الدكتور الذي يبعُد عنهم بنحو كيلومتر.

وجدوا الخيول تقف في صفَّين متجاورَين … الخيول صغيرة السن في جانب، والخيول الكبيرة في جانب … وعلى مسافة من كل الخيول وقف حصانٌ وحيد أسود … ذُهل الأصدقاء عندما رأَوه … كان تحفةً في جماله.

كان جسم الحصان شديد الرشاقة … شديد السواد … عدا بقعة بيضاء صغيرة كالنجمة على رأسه بين أُذنَيه تمامًا … وكانت عيناه كبيرتَين بشكلٍ غير عادي … لونهما بلون الذهب … عريض الصدر … أخمص البطن … رشيق الأطراف.

وظهر الدكتور وهم يحدِّقون في الجواد فقال لهم بفخر: هل رأيتم؟ إنَّه قد يكون أجمل جواد في العالم. إنَّه يستطيع أن يكسب أيَّ سباقٍ كما تسبق سيارة مرسيدس عربةً يجرُّها حمار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤