يرموك

كانت في صوته نبرة اعتزاز … ثم نزل من على صهوة جواده، وتقدَّم من الحصان الأسمر وناداه في حُبٍّ حقيقي، وهو يربتُ على معرفته المنتصبة الشعر: «يرموك»، «يرموك».

ثم التفت إلى الأصدقاء وقال: لقد سمَّيتُه على اسم معركة العرب الشهيرة؛ فهو جوادٌ عربيٌّ أصيل.

واستجاب الجواد للنداء … وأحنى رأسه ثم رفعه … وأخذ يتمسَّح بصاحبه، وجاء رجلٌ يجري وقال للدكتور: لقد وصل الأمريكيُّ!

قال الدكتور بهدوء: إنَّني في انتظاره!

واختار الأصدقاء تلًّا صغيرًا جلسوا فوقه … وظهَر الأمريكي … ومعه رجلٌ آخر وسيدة … وتقدَّم منهم الدكتور مرحبًا … وسَمِعه الأصدقاء يناديه باسم مستر «وولتز» … كان «وولتز» نموذجًا للأمريكي الثري … طويلًا … يرتدي ملابس صارخة الألوان ويحمل منظارًا وكاميرا … أما الرجل الآخر فكان واضحًا أنه حارسٌ شرس المظهر … تحت قميصه الخارج من فوق بنطلونه انتفاخٌ واضح … وعرف الأصدقاء أنه يحمل مسدسًا ضخمًا … أما السيدة فكانت أشبه بنجوم السينما … كانت ترتدي بلوزةً قصيرة … وبنطلونًا ضيقًا … وقبَّعةً واسعة من الخوص.

وأخذَت الخيول تسير … وقد جلس الأمريكي وزميله والسيدة على كراسي حمراء أحضرها الدكتور من الكشك الكبير الذي يقيم به … وكان الرجال يأتون بكل حصانٍ ويدورون به أمام الأمريكي الذي كان يقوم ويفتح فم الحصان … ويمُر بيده على ظهره وأطرافه.

كان المعروض للبيع من الخيول ستة من الصغار … وأربعة من الكبار … شاهدها الأمريكي جميعًا … وفجأةً قام من مكانه … واتجه إلى حيث يقف «يرموك». ولاحظ المغامرون الخمسة على الفور أنَّ الرجل ذُهل أمام الحصان الأسود … وأخذ يدور حوله ويضع يده على رقبته … وينظر إلى عينَيه … وقامت السيدة الرشيقة فانضمَّت إليه.

والتفت الأمريكي إلى الدكتور «ندا» قائلًا: هذا!

هزَّ الدكتور رأسه قائلًا: ليس للبيع!

الأمريكي: سأدفع لك أيَّ مبلغ!

عاد الدكتور يهزُّ رأسه: ليس للبيع!

بدا الضيق على وجه الأمريكي، وأخذ يتحدث إلى السيدة التي معه ويشير بيدَيه، وجاء عصير الليمون فشرب الأمريكي بعصبية … ثم التفت إلى الدكتور ووضع يده على كتفه قائلًا: اسمع يا صديقي … سأدفع لك مبلغًا لا يمكن أن ترفضه.

ابتسم الدكتور «ندا» وقال: قلتُ لك يا مستر «وولتز» إنَّه ليس للبيع، إنَّ «يرموك» صديقي إذا صح أن تفهم معنى الصداقة بين رجل وحصان … ولعلَّك توافقني أنَّ الصديق لا يبيع صديقه بأيِّ مبلغ!

صاح «الأمريكي» غاضبًا: في هذه الحالة … لن أشتري أيَّ حصانٍ آخر!

ظلَّ الدكتور «ندا» هادئًا وقال: إنَّك حرٌّ تمامًا يا مستر «وولتز»، وعلى كل حالٍ فإنَّني لا أهتم كثيرًا بالبيع؛ فعندي من المال ما يكفي.

واستدار «وولتز» إلى رفيقَيه … الحارس القبيح الشكل والسيدة، وقال: هيَّا بنا …

قال الدكتور «ندا»: ألا تبقَون للغَداء؟

قال «وولتز» مُشيحًا بيده: لم يعُد عندي أيَّة رغبة في الطعام!

وانصرف «وولتز» على الفور، واستدار الدكتور إلى المغامرين وقال: آسف جدًّا … لعلَّكم لم تتضايقوا لهذا الموقف الغاضب!

قام المغامرون واتجهوا إلى «يرموك»، وقال «تختخ»: إنَّنا كنا سنتضايق لو بعتَ هذا الحصان المدهش … فيجب أن تُبقيَه في مصر!

قال الدكتور: أستأذنكم؛ فسوف أذهب في عملٍ إلى «المطريَّة» وقد لا أعود الليلة، وأرجو أن تقضوا وقتًا طيبًا في الجزيرة.

وغادرَهم الدكتور، وأخذ الرجال يُعيدون الخيول إلى حظائرها … وانصرف الأصدقاء للتجول في أنحاء الجزيرة … وفي نحو ساعتَين كانوا قد عرفوا كل شيءٍ عنها.

قالت «نوسة» فجأةً: لا أعتقد أنَّنا سنجد هنا أيَّ شيءٍ مثير … إنَّ الحياة تبدو هادئة جدًّا، الدكتور والسيدة «صفيَّة»، والرجال الثلاثة و«بكبك» … ونحن … والجزيرة الصغيرة.

قال «تختخ» معلقًا: لقد نسيتَ الخيول!

•••

مرَّ يومان … وتحقَّق ما قاله «تختخ» عن الخيول … ففي صبيحة اليوم الثالث اكتشف الدكتور «ندا» اختفاء حصانه الجميل «يرموك»!

كان الدكتور قد استيقظ مبكرًا كعادته ليقوم برياضته الصباحية على ظهرِ أحدِ خيوله، وعندما ذهب وجد حارس الإصطبلات مُوثَق اليدَين والقدمَين والفم … وقد اختفى «يرموك» من حظيرته.

وبدأت الجزيرة الصغيرة تغلي بالحركة … واستيقظ المغامرون الخمسة كعادتهم، وكان أوَّل شيء وقعَت عليه عيونهم وجه «بكبك» المرتاع … كان الولد الصغير يردِّد في فزع: لقد اختفى «يرموك»!

نوسة: اختفى! كيف؟

بكبك: لا أحد يعرف … لقد ذهب الدكتور إلى الإصطبل ليراه في الصباح الباكر فلم يجده، ووجد «عبد السميع» الحارس مُوثَقًا ومُلقًى في حفرة وقد اختفى الحصان.

ارتدى الأصدقاء ثيابهم على عَجَل، وانطلقوا وخلفهم «زنجر» إلى منطقة الإصطبلات، ووجدوا الدكتور «ندا» … وقد انعكس على وجهه ما يعانيه من ألم … ولكنَّه كان متمالكًا أعصابه. وعندما رآهم قال بصوتٍ حزين: لقد اختفى «يرموك»!

تختخ: لقد قال لنا «بكبك» منذ لحظات … ولكن كيف حدث هذا؟

الدكتور: لا أدري … هناك كلب الحراسة … «رعد»، والحارس «عبد السميع» … وقد وجدتُ «رعد» يتجوَّل حول الحظائر كعادته … ووجدتُ «عبد السميع» مُلقًى في حفرة مُوثَقًا.

وسكت الدكتور لحظة ثم قال: سأذهب إلى «المطريَّة دقهليَّة» لإحضار رجال الشرطة!

وانصرف الدكتور. وسأل «محب» «بكبك»: أين السيدة «صفيَّة»؟

بكبك: إنَّها مريضة منذ أمسِ ليلًا!

تقدَّم «تختخ» من حظيرة «يرموك» وأخذ يفحص كل شبر فيها … على حين أخذ بقيَّة المغامرين يفحصون الأرض المحيطة بالحظيرة … وكانت أرض الجزيرة أرضًا حجرية، وفي أجزاءٍ منها تنمو الحشائش وبعض النباتات، وعلى أطرافها يرتفع البوص إلى أكثر من قامة الرجل … ولم يكن ممكنًا البحث عن آثار حوافر «يرموك»؛ فقد كانت أرض الجزيرة حافلةً بآلافٍ من آثار الحوافر نتيجة قيام الخيول برياضتها اليومية وآثارِ حوافرِ حصانِ الدكتور الذي يتريَّض عليه … واستَبعَد المغامرون بعد مناقشةٍ قصيرة إمكان العثور على آثار «يرموك» بين هذه الآثار كلها.

واختار «تختخ» مكانًا ظليلًا، وجلس مع المغامرين ومعهم «بكبك».

وسأل «تختخ» «بكبك»: كيف تتم الحراسة هنا؟

قال «بكبك»: الحراس الثلاثة … «مسعود» مع الخيول.

قاطعه «تختخ»: دائمًا؟

بكبك: نعم؛ فهو أصلًا سائسُ خيول!

تختخ: والحارسان الآخران؟

بكبك: أحدهما عادةً يكون في الراحة … والثاني يحرس معسكر الدكتور، ومعه أحد الكلبَين … والكلب الثاني «رعد» كما قال لك الدكتور يقوم بحراسة الإصطبلات.

قالت «نوسة»: سأذهب مع «لوزة» لزيارة السيدة «صفيَّة» وسنعود بعد قليل.

قال «تختخ»: وسنقوم نحن الثلاثة بالتجوُّل في الجزيرة بحثًا عن أي دليلٍ يفيدنا … وسنلتقي على الغداء.

وانصرف «بكبك» مع «نوسة» و«لوزة» وقسَّم المغامرون الثلاثة الجزيرة إلى ثلاث مناطق، كلٌّ منهم اتجه إلى منطقةٍ للبحث فيها، على أن يجتمعوا بعد ساعة في المكان نفسه.

ماذا يمكن أن يترك لصٌّ سرق حصانًا من آثار؟ هكذا كان «عاطف» يحدِّث نفسه وهو يسير في الشمس الحامية متجهًا إلى الشاطئ الغربي للجزيرة المواجهة لمدينة «بورسعيد».

إنَّه بالطبع لا يترك بصماتٍ … ولا أدواتٍ استخدمها … إنَّه لا يترك شيئًا على الإطلاق … ولكن مَن صاحب المصلحة في سرقة حصانٍ غالي الثمن إلى هذا الحدِّ؟ ليس إلَّا واحدًا فقط … هو المليونير الأمريكي!

وهل يمكن أن يندفع المليونير — تحت رغبة اقتناء الحصان — إلى السرقة؟ هل يمكن أن يسرق الحصان ويخرج به من البلاد؟ وبهذه السرعة؟ … يراه في الصباح ويسرقه في الليل؟ الإجابة عن الأسئلة كلها بالنفي.

إذن مَن الذي سرق «يرموك»؟ وكيف خرج به من الجزيرة؟ وأين ذهب به؟ هذه هي الأسئلة التي يجب أن يبحثوا عن إجاباتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤