محاولات

كانت المناطق التي يتكاثف فيها البوص قريبة من شواطئ الجزيرة … وكان «محب» وهو يسير يفكِّر في أنَّه قد يجد «يرموك» في مخبأ من البوص … وتصبح ضربة حظٍّ ممتازة … ولكنَّه بالطبع لم يكن شديد الأمل … فمن المستبعد أن يسرق لصٌّ أو عصابةٌ هذا الحصان الممتاز ثم يخفيه على بعد أمتار من صاحبه.

ولكنَّه على كل حالٍ أخذ يغوص تدريجيًّا في البوص الكثيف، وضوء الشمس يختفي شيئًا فشيئًا فلا يرى منه سوى خيوطٍ رفيعة … تكشف له الطريق، وفجأةً أحسَّ «محب» بحاسة المغامر أن خطرًا يتهدَّده … خطرٌ قريب لا يعرف ما هو … وتوقَّف عن السير وأصاخ السمع فلم يكن هناك سوى البوص تهزُّه الريح الخفيفة فيُحدِث صوتًا كالوشوشة ولا شيء آخر … وعاود «محب» السير ولكنَّ قلبه ما زال يحثُّه أنَّه معرَّض لخطرٍ ما … فهل هناك شخص يتبعه؟! إنَّ صوت أقدام شخصٍ شيءٌ لا يمكن إخفاؤه … خاصةً مع مغامرٍ متمرِّس ﮐ «محب» … إذن فما هو؟

وتوقَّف مرةً أخرى عن المسير وأصاخ السمع … ولا شيء … وأخذ يدور بعينَيه حوله … وشاهد مصدر الخطر … كانت حيَّة ضخمة تزحف بين الأعشاب الخضراء مقبلةً نحوه … وارتعد «محب» لحظة … ثم تمالك نفسه؛ فأمام مثل هذا العدو لا يحتاج الآن إلى سلاحٍ أهم من سلاح الأعصاب الهادئة. إنَّ الثعبان كأغلب الزواحف — بل كأغلب الحيوانات المتوحِّشة — لا يهاجم إلا إذا استَثرتَه … فهل داس عليها دون أن يدرك؟ لو حدث هذا للدَغَته على الفور … أو لعلَّها تسير في اتجاهه نفسه. وظلت الحيَّة تتقدَّم … ولسانها الرفيع يندفع من فمها إلى الأمام، ثم يعود سريعًا ليختفي مكانه … وكان على «محب» أن يفكِّر بسرعة … إذا هاجمَتْه ماذا يفعل؟! لم يكن معه أيُّ سلاحٍ … وتلفَّت حوله يبحث عن بوصة يمكن اقتلاعها سريعًا؛ فليس أصعب من اقتلاع بوصة من الأرض الموحلة … ولحسن الحظ كان قريبًا منه ما يحتاج إليه … بوصةٌ مقطوعة من جذورها … قد اصفرَّ لونها … وانحنى «محب» يلتقط البوصة وعيناه على الحية … وفجأةً انقضَّت الحيَّة … ولم يكن الانقضاض في اتجاهه … لقد انقضَّت على جُحرٍ للفئران … وكان فأرٌ ضخم قد خرج من الجحر! وتلفَّت حوله … وشاهد «محب» الحية وهي تنقَضُّ كالقذيفة، وتلدغ الفأر الذي أسرع هاربًا.

وقف «محب» مكانه ساكنًا لا يأتي بحركة … فقد كانت الحية المتوحِّشة على بُعد سنتيمتراتٍ منه … وكان يرفع العصا فوق رأسه على استعداد … ولكن الحية مضَت في طريقها … وسمع حركتها السريعة بين الأعشاب خلف الفأر، وأدرك «محب» أن الفأر لن يبتعد كثيرًا، وأن الحيَّة المرعبة ستصل إليه بعد أن يحقِّق السُّم مفعوله.

مضى «محب» يتجوَّل بين البوص المتشابك … حذرًا حتى لا يُفاجأ بحيَّةٍ أخرى.

وفي هذا الوقت كان «تختخ» يجلس على صخرةٍ قريبة من الشاطئ، إنَّه لم يضيِّع وقتًا طويلًا في التجوُّل … فقد كان يحس أنَّ لغز اختفاء «يرموك» يحتاج إلى تفكيرٍ أكثر مما يحتاج إلى مجهودٍ عضليٍّ … وأنَّه من الصعب العثور على آثار في الجزيرة إلا بعد مجهودٍ طويل، وقد لا يثمر.

كان «تختخ» يفكِّر في سرقة الحصان الأسود من ناحيةٍ محددة … كلما زاد تفكيره فيها زاد اقتناعًا بأنَّها الطريقة الوحيدة للسرقة … ولكنَّه قرَّر أن ينتظر حتى يحضر رجال الشرطة ويرى في أيِّ طريقٍ يسيرون قبل أن يخطو خطوته … فقد يجدون هم طريقةً أسرع للعثور على الحصان … وربَّما لا يحتاجون إلى مجهوداته.

عندما اجتمع المغامرون الخمسة بعد ساعة على حسب الاتفاق … لم يكن أي واحدٍ فيهم قد عثَر على دليلٍ يمكن أن يكشف غموض اختفاء «يرموك»، ولكن كان كلٌّ منهم يحمل مجموعة من الأسئلة فكَّر فيها … ولكن السؤال الذي طرحه «تختخ» كان هو أهم سؤال: هل نبح الكلب «رعد» عندما أقدم اللصوص على سرقة «يرموك» أو لم ينبَح؟

هكذا ألقى «تختخ» السؤال على «محب» و«عاطف».

وقال «محب»: أُرجِّح أنَّه لم ينبَح … لأنه لو نبح … لردَّ عليه «زنجر» والكلب الثاني، وليس ببعيدٍ أن يستيقظ أحد على صوت النُّباح … إذن فإنَّ «رعد» لم ينبَح، فلماذا؟

قال «عاطف»: السبب بسيط … إنَّ الذي سرق «يرموك» معروفٌ للكلب … إنَّه رجلٌ يعرف الكلب جيدًا … لهذا لم ينبَح … ومعنى ذلك أنَّنا يجب أن نبحث حولنا … أن نبحث بين سكان الجزيرة أنفسهم … وفيها عدا الدكتور ورجاله … عددٌ من الصيادين يعيشون في أكواخٍ متباعدة عن الشاطئ الجنوبي.

قال «تختخ»: على كل حالٍ دعونا ننتظر رجال الشرطة … ولنُبقِ هذا الموضوع سرًّا بيننا؛ فلو أنَّ رجال الشرطة تنبَّهوا إلى هذه الحقيقة لذاعت، ويعرف اللص أو اللصوص الحقيقة فيختفون إلى الأبد في هذه البُحَيرة الواسعة، حيث تُوجد عشرات الجزر المنعزلة، وحيث لا يفكِّر أحد في الذهاب إليها … ولعلكم تذكُرون حديث الخفير … إن عددًا كبيرًا من الخارجين على القانون يعيشون في منطقة بحر البقر وجُزرها … وإن أيَّة قوة من رجال الشرطة لا تستطيع الوصول إليهم.

ونظر «تختخ» إلى الجانب الآخر للجزيرة، حيث كان صوتٌ واضح لمحرك «لنش» يرتفع في الصمت وقال: هذا قاربٌ بخاري … ولعلَّه قارب رجال الشرطة فتعاليا نحضُر التحقيق.

قام الثلاثة وقال «محب»: نسيتُ أن أقول لكما … إنَّ البوص الكثيف على شواطئ الجزيرة فيه ثعابينُ من نوعٍ ضخم!

عاطف: هل قابلتَ شيئًا؟

محب: نعم … كان لي شرف مقابلة حيَّة لا يقل طولها عن مترَين … كانت في طريقها إلى جُحرٍ للفئران … وكنتُ في الطريق نفسه.

قال «عاطف» ضاحكًا: لعلَّها ظنتك الفأر!

محب: لقد كانت أكثر تعقُّلًا منك.

عاطف: لعلَّها أدركَت أن الفأر ألذَّ طعمًا!

لم يَرُد «محب» فلم يكن في إمكانه مجاراة سخرية «عاطف» … السريعة المتدفقة، ومشى صامتًا حتى وصلوا قرب المعسكر. وكان قارب رجال الشرطة قد اقترب من البَر، وبدا الدكتور «ندا» في وسط القارب يجفِّف عَرقَه …

وقف الأصدقاء الثلاثة عند مرسى القوارب … وظهر ضابطٌ نشيط قفز إلى البَر وخلفه الدكتور وثلاثة من جنود الشرطة مسلَّحون بالبنادق … وأشار الدكتور إلى الحظائر، واتجه الضابط ومعه الرجال الثلاثة إلى حيث أشار الدكتور.

وسار الأصدقاء خلفهم، وسرعان ما انضمَّت إليهم «نوسة» و«لوزة»، وقالت «لوزة»: إنَّ السيدة «صفيَّة» حزينة جدًّا من أجل زوجها … فهي تقول: إنَّ هذا الحصان هو أعزُّ شيء لديه في العالم.

نوسة: ألم تصلوا إلى شيءٍ بعدُ يا «تختخ»؟

تختخ: لقد وصلنا إلى عدة أسئلة!

نوسة: أسئلة؟!

تختخ: نعم، سننتظر لنرى ماذا يفعل رجال الشرطة وبعدها قد نُقرِّر العمل، وقد يصلون هم إلى استعادة الحصان.

لوزة: إنهم لا يعرفون طبعًا أننا مغامرون، ولنا تاريخٌ طويل في حلِّ الألغاز!

تختخ: من الأفضل أن يبقى هذا سرًّا؛ فقد لا نصل إلى أي شيء، ونصبح موضع سخرية من الجميع.

أخذ الضابط الشاب يعاين حظيرة «يرموك» في دقةٍ أُعجب بها المغامرون. لقد فحص الأرض والجدران … ونوع الطعام … كما شم جردل الماء بضع مرات، وقال «تختخ» هامسًا: إنَّه يبحث عن مخدِّر … وفعلًا قد يكون اللصوص قد خدَّروا الحصان قبل سرقته.

والتفت الضابط إلى الدكتور وسأله عن عدد الرجال الذين يعملون عنده، ثم طلب إحضارهم ثم إحضار كل مَن كان على أرض الجزيرة أمسِ … وانصرف الجنديان لهذه المهمة.

وبعد نحو نصف ساعة كان عدد لا بأس به من سكَّان الجزيرة قد حضر … صيَّادون وزوجاتهم … بعض العاملين في مسجد «ابن سلام» وبعض الزوَّار الذين لم يَرَهم المغامرون من قبلُ … ووقف المغامرون الخمسة ضمن مَن حضر … وقد شعَر «عاطف» برغيةٍ قوية في الضحك … فهم يقفون لأول مرة في صفوف المشتبه فيهم.

ومال «عاطف» على «نوسة» قائلًا: هذا حال الدنيا … بعد أن كنَّا مغامرين أصبحنا متهمين!

ردَّت «نوسة» في ضيق: مَن قال إنَّنا متهمون؟! إنَّه إجراءٌ ضروري أن يسأل الضابط كل مَن كان موجودًا ليلة سرقة الحصان!

عاطف: أخشى أن يتضح أنَّني أنا السارق الجسور!

نوسة: لا وقت للضحك الآن يا «عاطف».

وسكت «عاطف» … ومضى الضابط يستجوب كل الحاضرين واحدًا واحدًا … كان يسألهم سبب وجودهم في الجزيرة … وأين كانوا ليلًا … وتحرُّكاتهم حتى الصباح.

وتوقَّف الضابط عند رجلٍ متوسِّط العمر من زوَّار الجزيرة … قال الجميع إنَّهم لا يعرفونه … كان الرجل غريب المظهر … طويل القامة … يلبس ملابس الصيَّادين، ولكن من الواضح أنه ليس صيَّادًا حقيقيًّا … فقد كانت بشرته بيضاءَ لم تُلوِّحها الشمس.

وبدا للجميع أنه أقربُ الموجودين للاشتباه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤