في الليل

قال أحد الجنديَّين مقدمًا الرجل للضابط: لقد وجدتُه مختبئًا قرب الشاطئ ومعه قاربٌ صغير. وقد رفض أن يُخبرني باسمه، وسبب حضوره إلى الجزيرة …

تركَّزتِ الأنظار على الرجل الغريب، وكان المغامرون الثلاثة يتساءلون كيف استطاع الرجل الاختباء منهم.

سأله الضابط: ما اسمك؟

لم يرُدَّ الرجل … ولدهشة الحاضرين جميعًا اقترب من الضابط، ثم أمسكه من ذراعه وهمس في أذنه ببضع كلمات … وازدادَت الدهشة عندما غادر الضابط مكانه وسار مع الرجل وابتعد مسافة … ثم وقفا وأخذا يتبادلان حديثًا، ثم انصرف الرجل وعاد الضابط يواصل مهمته في استجواب الموجودين.

قالت «نوسة» هامسةً: مدهش! ماذا حدث؟

ردَّ «تختخ» هامسًا: المسألة بسيطة … إنَّ هذا الرجل المتنكِّر في ثياب صيَّاد هو من رجال الشرطة … ويبدو أنَّه في مهمَّةٍ سريَّة لا يريد الكشف فيها عن شخصيته … ولكنَّه بالطبع اضطُر لكشف شخصيته للضابط المحقِّق.

محب: لماذا لم يحضر وكيل النيابة؟

تختخ: لعلَّه مشغول بجريمةٍ أخرى. وعلى كل حالٍ فإنَّ الضابط الآن يقوم بتحقيقٍ مبدئي على الطبيعة … وسوف يأخذ المشتبه فيهم إلى القسم لاستجوابهم بواسطة النيابة!

لوزة: وماذا يفعل هذا الضابط المتنكِّر في هذا المكان؟

ابتسم «تختخ» قائلًا: هذا هو السؤال المهم … ولكن كيف نعرف ماذا يفعل وهو يقوم بمهمَّةٍ سريَّة!

جاء دور المغامرين الخمسة … وتولَّى «تختخ» الإجابة عن أسئلة الضابط عن أسمائهم وسبب حضورهم إلى الجزيرة، وتحرُّكاتهم ليلة السرقة، ولم تكن هناك طبعًا أيَّة شبهة حول الأصدقاء.

وبانتهاء استجواب الجميع التفت الضابط إلى الدكتور «ندا» … وسأله: هل تشتبه في أحدٍ من الموجودين؟ فقال الدكتور «ندا»: إنَّني أثق في كل العاملين معي … وضيوفي الخمسة طبعًا … وهؤلاء الصيادون الموجودون في الجزيرة أعرفهم جميعًا، ولستُ أعتقد أن بينهم أي واحد يفكِّر في سرقتي.

هزَّ الضابط رأسه وقال: مسألةٌ غريبة … ولكن سنفعل ما بوسعنا.

وأخذ الدكتور يشرح للضابط حكاية المليونير الأمريكي «وولتز» … بينما قرَّر المغامرون الخمسة أن يأخذوا قاربًا صغيرًا «فلوكة» يدورون بها حول الجزيرة.

قال «تختخ»: إنَّها فرصةٌ أن نُلقي نظرةً على الجزيرة من الخارج … لعلَّ ذلك يُوحى إلينا بشيء.

وأسرعوا إلى القارب الصغير وخلفهم «زنجر»، الذي كان يبدو متضايقًا من كل هذا الكلام الذي يدور حوله.

أخذ «تختخ» و«محب» يجدِّفان … والقارب ينساب على سطح البُحَيرة الهادئة، وكلٌّ المغامرين يُدْلي برأيه في السرقة … وقال «تختخ»: لقد تحدَّثتُ مع «محب» و«عاطف» عن الكلب «رعد» … بأن هذا الكلب المتوحِّش لم يكن ليتركَ لصًّا يدخل الحظيرة دون أن يفتك به … أو على الأقل ينبَح للتنبيه … إنَّ هذا الكلب هو مفتاح القضية … فما دام لم ينبَح فمعنى ذلك أن اللص أحد الذين يتردَّدون على المكان!

محب: إنَّني أعتقد أنَّه أحد الحرَّاس.

عاطف: لعلَّ ضابط الشرطة يصل إلى هذه الحقيقة.

نوسة: ولكن الدكتور «ندا» قرَّر أنَّه لا يشُكُّ في أحدٍ من سكَّان الجزيرة، سواء من الحرَّاس أو من الصيَّادين، ولعلَّه عندما يروي قصة المليونير الأمريكي ورغبته في شراء «يرموك» بأي ثمن … يصبح هذا المليونير هو المتهم الأول.

لوزة: هل تعتقدون أن ضابط الشرطة المتنكِّر له علاقة بموضوع سرقة «يرموك»؟

محب: لا أعتقد … فالسرقة لم تُكتشف إلا هذا الصباح، وليس من الممكن أن تصل الأخبار إلى الشرطة بهذه السرعة، وبخاصةٍ أنه ليس من ضباط شرطة «المطريَّة»، وإلا تعرَّف عليه الضابط الذي يقوم بالتحقيق.

ظلَّ «تختخ» صامتًا طول الوقت … كان يجدف وهو ينظر إلى الجزيرة متأملًا دون أن ينطق بحرف … وعرف المغامرون أنه يُدبِّر في ذهنه خطةً معينة، وأنَّه سيُخفيها عنهم حتى تنضَج … فهذه هي عادتُه دائمًا.

وعادوا قرب الظهر إلى الجزيرة … وكان الغَداء قد أُعدَّ. ولم تظهر السيدة «صفيَّة» فقد كانت ما تزال مريضة … وفضَّلتْ «نوسة» و«لوزة» أن تتناولا طعام الغداء معها …

تحدَّث الدكتور إلى الأصدقاء، وقال لهم: إن ضابط الشرطة قد انصرف بعد التحقيق المبدئي، وإن فكرته أن الحصان قد هرب إلى «المطريَّة دقهليَّة» وهي أقرب مدينة إلى جزيرة «ابن سلام» أو إلى «بورسعيد»، وأنه سيقوم بالتحري والبحث في «المطريَّة»، وسيُخطِر شرطة «بورسعيد».

سأله «محب»: ألم يشتبه في أحد؟

الدكتور: إنَّه يشتبه في الحرَّاس … ولكن موقفهم سليم … فأحدهم كان في حراسة معسكرنا، وهو بعيد عن إصطبلات الخيول بمسافةٍ كبيرة، كما أن المعسكر يختفي وراء أحد التلال … والثاني كان نائمًا في عشته لأنَّه كان في فترة راحته، والثالث اعتدى عليه اللصُّ أو اللصوص وشدُّوا وثاقه.

سكت الأصدقاء … ومضَوا يتناولون طعامهم … وكانوا جميعًا يشعرون بالأسف من أجل الدكتور … وبخاصة أن السرقة حدثَت بعد حضورهم بيومَين.

وعاد الدكتور يقول: سأذهب إلى «بورسعيد» لمقابلة المليونير «وولتز»؛ فإنَّني أتصوَّر أنَّه لم يشترك في السرقة، ولكن لعلَّ اللص أو اللصوص يعرضون عليه شراء الحصان.

ابتسم «تختخ» لأوَّل مرة قائلًا: هذه فكرةٌ ممتازة يا دكتور … فمن المؤكد أنَّ السارق يعرف مدى اهتمام المليونير بالحصان ولعلَّه سَرقَه ليبيعه له.

الدكتور: هذه فكرتي … وقد عرضتُها على الضابط.

تختخ: وهذه هي فكرتي أنا أيضًا.

قال الدكتور: إنَّك ولدٌ ذكي.

وابتسم الأصدقاء جميعًا؛ فلم يكن الدكتور يعرف أنَّ هذه المجموعة من الأولاد والبنات قد اشتركَت في حلِّ عشرات الألغاز والقضايا الغامضة … ولعلَّه كان يتصوَّر أنَّهم «شوية عيال» لا يعرفون شيئًا.

مضت بقيَّة اليوم و«تختخ» يسير مع «زنجر» متجوِّلًا في الجزيرة … حتى إذا هبط الظلام … وامتدَّت السهرة حتى العاشرة، أوى الجميع إلى أماكنهم عدا «تختخ» الذي جلس أمام البرج واضعًا ساقًا على ساق … ملقيًا رأسه إلى الخلف.

تقدَّم الليل … ونام الجميع حتى «تختخ» استسلم للنوم وهو جالس … و«زنجر» تحت قدمَيه … وعندما أشرفَت الساعة على الثالثة صباحًا تحرَّك «تختخ» من مكانه فقد آلمته عظامه … ونظر إلى ساعته ثم فرَك عينَيه وقال «لزنجر»: ستبقى هنا يا «زنجر» … حتى أعود.

تضايق «زنجر» وهزَّ ذيله، ولكن التعليمات كانت واضحة … ومشى «تختخ» محاذرًا حتى اقترب من الإصطبلات … كان الحارس في مكانه يُعِد كوبًا من الشاي … وظل «تختخ» يتأمله لحظات … كان يتصرف بشكلٍ طبيعي جدًّا … وقرَّر «تختخ» أن يُتِم جولته … مضى إلى كوخ الحارس الثالث … كان الكوخ مظلمًا … واقترب «تختخ» بهدوءٍ وحذر، ووضع أُذنه على جدار الكوخ محاولًا الاستماع إلى صوت تنفُّس الحارس … ولكن لم يستطع أن يعرف هل الحارس بالداخل، أو أنه ليس موجودًا، وقرَّر «تختخ» أن يتأكَّد فقد كان في حاجة إلى شيءٍ ولو صغيرًا يؤيد فكرته … وقرَّر أن يفتح الباب ويدخل.

وقف يتأمل الباب لحظات، كان مغلقًا، ولكن ليس إغلاقه محكمًا … فهو بابٌ قديم في كوخٍ قديم … وبمنتهى الحذر وضع يده على الباب ودفعه بهدوءٍ شديد … ولكن الباب أصدر صوتًا خفيفًا … وسمع «تختخ» في داخل الكوخ حركة، ووجد الحارس يقفز إلى الخارج وهو ينادي بصوتٍ خافت: «حافظ» … «حافظ»!

وكتَم «تختخ» أنفاسه وهو يتوارى خلف الكوخ، وشاهد الحارس وهو يقف أمام باب الكوخ منصتًا … ثم دخل وغاب لحظات، وعاد وهو يحمل بندقيته.

وأسرع «تختخ» يختفي خلف تلٍّ قريب، ودار الحارس خلف الكوخ وهو ممسك ببندقيَّته بين يدَيه … ظلَّ الحارس واقفًا لحظاتٍ ثم سار متجهًا إلى ناحية الإصطبلات. ولم يضيِّع «تختخ» وقتًا؛ فقد أخذ طريقه خلف الحارس … تاركًا مسافةً كافية بينهما حتى لا يُحس به.

وصل الحارس إلى منطقة الإصطبلات، واتجه إلى حيث يجلس الحارس الذي كان يشرب الشاي، وقال: «حافظ»!

اقترب «تختخ» ليستمع إلى كلِّ ما يدور بينهما، وسمع «حافظ» يقول له: ما الذي جاء بك؟

الحارس: لقد استيقظتُ على صوتِ فتحِ باب الكوخ، وظننتُ أنكَ الذي فتح الباب!

ضحك «حافظ» وقال: لقد أصبحتَ خفيف النوم يا «سليمان».

ثم أخذ يصُبُّ له كوبًا من الشاي وهو يقول: اشرب … وسيطر على أعصابك!

كانت الكلمات تصل إلى «تختخ» متقطِّعة، ولكنَّه كان ذكيًّا فقد جلس في عكس اتجاه الريح … بحيث يحمل له الريح كلماتها.

وسمع «سليمان» يقول: معك سجائر؟ لقد انتهت سجائري.

حافظ: انتظر لحظاتٍ … سأُحضر لك سيجارةً تعجبك.

ودخل «حافظ» إلى كوخ الحرَّاس، وعاد بعد قليل … وفجأةً أحسَّ «تختخ» بشيءٍ لزج يلتصق بيده … وأحس برعبٍ مفاجئ … فقد تذكَّر حديث «محب» عن الحيَّات التي تسكُن شاطئ الجزيرة … وكاد يقفز من مكانه صائحًا … ولكنَّه في اللحظات الأخيرة تمالَكَ نفسه وسحَب يده مسرعًا … ونظر أمامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤