حدث في الظلام

كان الشيء اللزج الذي التصق بيد «تختخ» … هو لسان الكلب «رعد»، كلب الحراسة الضخم … كان الكلب يزوم في هدوء … ويهزُّ ذيله … وأخذ ذهن «تختخ» يعمل سريعًا … إنَّ عليه أن يُظهِر نفسه أنه يتنزَّه ليلًا … أو ينصرف مسرعًا … وإلَّا كشف الكلب مكانه … ولم يجد سببًا لإخفاء نفسه عن الحارسَين.

واستقرَّ رأيه على الخطة الأولى … قام واقفًا … وسار بخطواتٍ نشيطة … محدثًا صوتًا واضحًا بقدمَيه، وقفز «حافظ» قائمًا … ممسكًا بالبندقية وقال: «مسعود»!

كان هذا اسم الحارس الثالث الذي يحرس المعسكر. وردَّ «تختخ»: إنَّني «توفيق»!

تقدَّم الحارس في الظلام قائلًا: «توفيق»؟!

تختخ: نعم … أحد ضيوف الدكتور «ندا».

تردَّد الحارس لحظاتٍ ثم قال: مرحبًا … ما الذي أتى بكَ في هذه الساعة؟

تختخ: لقد أُصبتُ بالأرق … وفكَّرتُ بالتجوُّل قليلًا في هواء الليل المنعش!

حافظ: تفضَّل، اشرب الشاي معنا!

تختخ: شكرًا … إنها فكرةٌ طيبة!

وتقدَّم «تختخ» وانضَم إلى الحارسَين، وكان واضحًا أنهما اضطَربا لرؤيته، ولكنهما أخذا يرحِّبان به وهما يصُبَّان له الشاي … ولاحظ «تختخ» علبة سجائر ماركة «كنت» في يد الحارس «سليمان» … ودق قلبه سريعًا … إن حارسًا مثل «سليمان» لا يمكن أن يشتري عُلبةً من هذا النوع … وتذكَّر الحوار الذي سَمِعه منذ قليل … تذكَّر قول «حافظ» ﻟ «سليمان»: سأُحضِر لك سيجارة تُعجبُك …

هذه هي إذن السيجارة المقصودة … فمن أين أتى «حافظ» بعُلبة السجائرِ الفاخرة؟! دارت الأفكار في ذهن «تختخ» … وهو يمسك كوب الشاي، وينظر إلى الحارسَين … وأخذ يرشُف الشاي المرَّ على مهل، وهو يضع احتمالات المرحلة المقبلة … ولاحظ بطرفِ عينِه «حافظ» وهو يمُد يده إلى عُلبة السجائر بهدوء ثم يضعها مسرعًا في جيبه … وأصبح شكُّه يقينًا … إن الحارسَين بل الحرَّاس الثلاثة هم اللصوص الذين سرقوا «يرموك». وفي هذه اللحظة التقت عيناه بعينَي «حافظ»، كانت لحظة نسي فيها «تختخ» أن يُخفي مشاعره فعكسَت عيناه بجلاءٍ ما يفكِّر فيه … وأَحسَّ فجأةً بالخطر … فهو وحيد بين الحارسَين المسلحَين … وما يفكِّر فيه قد انكشف.

واستجمَع كل قوَّته ليبدو عاديًّا فقال: أليس من الممكن الصيدُ الآن في البُحَيرة؟

ردَّ «حافظ» بجمود: ممكن جدًّا … هل تُحب أن تذهب؟

كانت دعوةً كريمة للموت، وقال «تختخ»: لو كان أصدقائي معي لذهبتُ!

حافظ: هل هم نائمون؟

تختخ: أظُن ذلك!

حافظ: إذن سندعوكَ للنزهة للصيد في البُحَيرة الآن!

ووقف «حافظ» ووجَّه إلى صدر «تختخ» البندقية قائلًا: إنكَ تشُكُّ فينا!

لم يَرُد «تختخ» فعاد «حافظ» يقول: إنَّ خروجكَ ليلًا … ونظرتكَ إلى عُلبة السجائر وما قرأتُه في عينَيك يدُل على أنَّك ولدٌ خطِر!

قال «تختخ» ﻟ «حافظ» بهدوء: إن ما تفعلُه الآن أشدُّ خطرًا!

حافظ: دعك من التلاعب بالألفاظ … وهيَّا بنا …

تدخَّل «سليمان» في الحديث قائلًا: هل أتي معك؟

حافظ: لا … انتظر أنتَ هنا … وسأعود قبل شروق الشمس.

وهزَّ «حافظ» بندقيَّته، وتحرَّك «تختخ» وبدأ يسير وهو يفكِّر بسرعة … أين يذهبان؟ إن معنى قول «حافظ» … إنه سيعود قبل شروق الشمس أنهما سيخرجان من الجزيرة … ولكن لن يذهبا بعيدًا جدًّا … فلم يبقَ على شروق الشمس أكثر من ساعتَين.

كان «حافظ» يسير خلفه … ولاحظ «تختخ» أنهما يسيران في اتجاه الشاطئ الغربي للجزيرة … الشاطئ الذي يواجه جزيرة «أبو المناديل» … وفجأةً لمعَت في ذهنه فكرةٌ جعلَته يتوقَّف لفَرْط دهشته … كيف لم يفكِّر من قبلُ في هذا؟

وأَحَس بفُوَّهة البندقية في ظهره … فاستمرَّ في السير … وكانت المسافة بيه وبين البرج الذي ينام فيه الأصدقاء لا تزيد عن خمسين مترًا … ولو استطاع أن يلفتَ أنظارهم إليه لأمكنَهم أن يتغلَّبوا على هذا المجرم … ولكن كيف وهم جميعًا نائمون؟!

ولكن هكذا قال «تختخ» لنفسه … «زنجر» مستيقظ … لقد طلَبتُ إليه أن ينتظر، وأن يقوم بالحراسة … والريح تهُب من ناحية الغرب إلى الشرق لعلَّها تحمل رائحته إلى «زنجر»، لعلَّ «زنجر» يتنبَّه … فماذا يفعل؟

وصلا إلى الشاطئ، وطلب «حافظ» من «تختخ» أن يركب أحد القوارب، وقاس «تختخ» المسافة بينه وبين «حافظ» وهل في إمكانه أن يقوم بحركة تمويهٍ في الظلام؟

وقف لحظاتٍ أمام القارب متردِّدًا وصاح «حافظ»: اركب … هيَّا!

التفت «تختخ» إليه محاولًا كسب بعض الوقت، وقال: إلى أين نحن ذاهبان؟!

ردَّ «حافظ»: ليس هذا شغلك، اركب فقط!

ومدَّ «تختخ» قدَمه ليضعها في القارب … وفي هذه اللحظة سمع الصوت الذي كان ينتظره … صوت همهمةٍ خفيفةٍ لاهثة تأتي من ناحية البرج … صوت «زنجر» يجري كالسهم … ثم سمع صوت الأقدام السريعة وزمجرةً قويَّة، ثم التفت ورأى في الظلام شبح «زنجر» يقفز كالسهم في الظلام على ذراع «حافظ» التي تُمسِك بالبندقية وسمع آهةً عالية، وأدرك أن «زنجر» قد قبض بأسنانه القوية على ذراع «حافظ» … واختل توازُن اللصِّ، واستدار «تختخ»، وبكلِّ ما يملك من قوةٍ ضرب اللص في ساقه بمقدِّمة حذائه، وسقط اللص في الماء وقد أفلتَت البندقية من يده، فانقَضَّ عليها «تختخ»، وصوَّبها إلى شبَح «حافظ» الذي اختفى تحت الماء!

وقف «زنجر» بجوار «تختخ» يلهث و«تختخ» يقول له: أنت مدهش يا «زنجر»، أنت رائع!

كان يحدِّث «زنجر» وعيناه على سطح الماء، ولكنَّه أدرك أن «حافظ» سيتمكن من الاختفاء في البوص المرتفع على الشاطئ … وأنه محتاج إلى مساعدة في القبض عليه.

فقال ﻟ «زنجر»: اذهب إلى «محب» … «محب» … ودون أن ينتظر كلمةً أخرى، انطلق «زنجر» كالقذيفة … ووقف «تختخ» محاذرًا … فقد يتمكَّن اللص من الخروج من الماء على مسافةٍ منه ثم يدور حوله، وينقَضُّ عليه.

أرهف «تختخ» أُذنَيه والبندقية في يده … وسمع حركةً قريبة في المياه، والتفَت مسرعًا والبندقية في يده … كان يعرف جيدًا أنَّه لن يُطلِق النار … فقد تُصيب مقتلًا من الرجل … وهو لا يمكن أن يفعل هذا … كل ما يتمناه أن يسيطر عليه حتى يسلِّمه لرجال الشرطة … وفجأةً وجد القارب يبتعد في المياه … وكان واضحًا أن «حافظ» يجرُّه وهو غاطس تحت الماء … وفي الوقت نفسه ظهر «زنجر» يجري وخلفه عن قُربٍ «محب»، ثم «عاطف»، ثم «نوسة»، و«لوزة»، وهم جميعًا بملابس النوم.

قال «محب» لاهثًا: ماذا حدث؟

تختخ: «حافظ» … أحد اللصوص … إنَّه يتحرك الآن في هذا القارب.

قفز «محب» دون انتظار إلى قاربٍ من القوارب العديدة الموجودة في المرسى الصغير … وأسرع يجدِّف مبتعدًا خلف القارب الذي اختفى في الظلام … وصاح «تختخ»: انتظر يا «محب»!

ولكن «محب» كان قد ابتعد عن المرسى، ولم يجد «تختخ» بدًّا من أن يقفز هو الآخر في قاربٍ ثالث … وقفز معه «عاطف» و«زنجر»، وصاح «تختخ»: اتصلي يا «نوسة» بالدكتور وقولي له ما حدث.

وقفَت «نوسة» و«لوزة» على الشاطئ تحدِّقان في الظلام … ومن بعيدٍ ظهَرتْ سحابة الضباب الضخمة تَزحَف على الماء … وصاحت «لوزة»: الضباب الغامض!

كانت السحابة الرمادية تسير على صفحة المياه متجهةً إلى جزيرة «أبو المناديل» وكأنَّها حيوانٌ خُرافي من عصور ما قبل التاريخ … وبدا واضحًا للفتاتَين أن القارب الأخير الذي كان يُقِل «عاطف» و«تختخ» يتجه مسرعًا إلى قلب السحابة.

وقالت «نوسة»: إن القوارب الثلاثة تتجه إلى السحابة!

لوزة: لا شك أن قارب «حافظ» … اتجه إليها، وتَبِعه «محب» ثم تَبِعه «عاطف» و«تختخ»! إن ذلك شيءٌ خطير … ماذا يمكن أن يحدث في الضباب؟!

نوسة: هيَّا نسرع لإحضار الدكتور!

لوزة: ليتنا نتبعهم … إنَّني …

وقبل أن تتم جملتها سمعتا صوتًا يقول: ستتبعانهم!

والتفتَت «نوسة» و«لوزة»، وظهر «سليمان» … في تلك اللحظة وهو يحمل بندقيته وقال: اركبا هذا القارب!

لم يكن أمام الفتاتَين ما تفعلانه … فنزلَتا في أول قاربٍ على المرسى وقفز «سليمان» خلفهما … ووضع «سليمان» … بندقيته على ركبتَيه، ثم أمسك بالمجدافَين، وسرعان ما كان القارب الرابع ينساب في المياه متجهًا إلى قلب الضباب الغامض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤