المعجزة الثالثة

كان «محب» يبذل كل جهدٍ حتى يظلَّ خلف قارب «حافظ» الذي كان يجدِّف بشدة محاولًا الهرب من «محب». وفي الوقت نفسه كان قارب «تختخ» و«عاطف» يتبع قاربَ «محب»، وشيئًا فشيئًا أخذ قارب «حافظ» يقترب من حافة كُرة الضباب الضخمة التي أخذَت تُطبِق على جزيرة «أبو المناديل».

وقال «تختخ» مخاطبًا «عاطف»: كل شيء أصبح في ذهني واضحًا … فخلف هذا الضباب تكمن أسرارٌ كثيرة.

عاطف: و«حافظ» الآن يتجه إلى هناك!

تختخ: نعم، فهو جزء من هذه الأسرار!

عاطف: ولكن كيف يعرف طريقه في هذا الضباب؟

تختخ: إمَّا بالتعوُّد … وإمَّا أن هناك إشاراتٍ خاصة في المياه.

وزادا من ضربات المجدافَين حتى لحقا ﺑ «محب» تقريبًا، وقد أصبح على حافةِ كُرة الضباب الضخمة.

وصاح «تختخ»: هل ما زلت في أثَره؟

محب: حتى الآن ما زلتُ أراه … ولكن من المؤكَّد أنه سيختفي بعد لحظات.

تختخ: إذن انتظر حتى نلحقَ بك … فمن الأفضل أن نكون معًا!

وأخذ القاربان يقتربان … وصاح «محب»: لقد دخل قارب «حافظ» دائرة الضباب! واحتَكَّ قارب «تختخ» و«عاطف» بقارب «محب» وقفَز الاثنان إليه.

قال «تختخ»: سنكون أَسرعَ منه، ومن الممكن أن نصل إلى الجزيرة قبله!

محب: ألا ننتظر وصول الدكتور ورجال الشرطة؟

تختخ: أخشى أن ينقلوا «يرموك» الآن إلى منطقةٍ أخرى لا نعرفها، وعلينا أن نراقبهم.

محب: ولكن كيف نراقبهم في هذا الضباب الكثيف؟

تختخ: لا أدري … ولكن ليس أمامنا ما نفعله سوى هذا!

واندفع القارب داخلًا دائرة الضباب … ودُهِش «محب» لفَرْط كثافته … فهو يجلس في مقدِّمة القارب، لا يكاد يرى «عاطف» ولا يفصل بينهما أكثر من متر.

مضى الثلاثة يجدِّفون وقد فقدوا كل أثَر «لحافظ»، ومضت نصفُ ساعة وهم ماضون لا يعرفون إلى أي اتجاه … وبدا واضحًا أن ما يفعلونه عبثٌ لا طائل تحته، وقال «محب»: وماذا بعدُ؟

لم يَرُد أحد … حتى ظنَّ «محب» أنه وحده، فعاد يقول: «تختخ» … ماذا نفعل بعد ذلك؟

وقبل أن يرد «تختخ» اصطدم القارب صدمةً عنيفة، وسمعوا صرخة، ودار قاربهم حول نفسه من شدة الصدمة، ثم لاحظ «تختخ» يدَين تَبرُزان من المياه وتتشبَّثان بقاربه … وانحنى ينظر … وإذا بوجه «حافظ» يبدو فوق المياه … وقبل أن يفعل «تختخ» شيئًا اختفى الوجه مرةً أخرى.

صاح «تختخ»: لقد اصطدمنا بقارب «حافظ» … استمِرُّوا في التجديف؛ ففي الأغلب نحن نسير في الطريق الصحيح.

أخذ «محب» و«عاطف» يُجدِّفان والضباب يتزايد كثافة … وفجأةً دوَّى في الصمت صوت هديرٍ بعيد، أخذ يتزايد شيئًا فشيئًا، ثم ظهر في قلب الضباب الكثيف ضوءٌ أصفر كاشف يشُقُّ الضباب في خطٍّ مستقيم …

وقال «تختخ»: إنه قاربٌ بخاري يقترب منَّا … ابتعدا عن طريقه.

وأخذوا يجدِّفون مبتعدين، وفي الوقت نفسه لاحظوا ظهور ضوءٍ أصفر آخر من قلب الضباب، ضوءٍ ضعيف ثابت.

وقال «تختخ»: إنَّ هذا الضوء صادرٌ من جزيرة «أبو المناديل» … سنتَّجه ناحيته … مرَّ القارب البخاري قريبًا منهم … ولكن دون أن يظهروا في دائرة الضوء الثاقب، وتَبِعوه برغم أن الأمواج التي أثارها محركُه القويُّ كانت تلعب بقاربهم الصغير بشدة.

استمَرُّوا يجدفون فترةً طويلة، وأخذ ضوء الجزيرة الأصفر يزداد وضوحًا، ووجدوا أنفسهم قريبَين من منطقة الضوء … وظهَرتِ المناديل المعلَّقة مغلَّفةً بالضباب. وتَسلَّل شعورٌ بالخطر إلى قلوب المغامرين الثلاثة، وكانت بأذهانهم شُهرة «أبو المناديل» الذي لا يعرفه أحد … الذي يقضي الحاجات ويعرف الأسرار.

واقتربوا شيئًا فشيئًا من البوص الكثيف الذي يغطِّي شاطئ الجزيرة الصغيرة، وكان الزورق الكبير يرسو قريبًا منهم وقد لمعَت على جوانبه أضواءٌ صغيرة ملوَّنة، توضِّح مكانه في الضباب الكثيف.

قفَز المغامرون الثلاثة ومعهم «زنجر» إلى الشاطئ … وأخذوا طريقهم وسط البوص الكثيف متجهين إلى حيث كان الضوء الأصفر الثابت ينير مساحةً ضيقة في الضباب، ولكنَّها كافية كي يتبيَّنوا طريقهم.

وفي هذا الوقتِ كان القارب الذي يحمل «سليمان» و«لوزة» و«نوسة» يقترب من الشاطئ أيضًا، ولم يكن يفصل القاربَين إلا أمتارٌ قليلة، وأمر «سليمان» الفتاتَين أن تسيرا أمامه … وسار خلفهما يحمل بندقيته.

كانت «لوزة» مذهولةً تقريبًا لكل ما حدث … وكانت أطراف البوص المُدبَّبة تشُق ثياب النوم الخفيفة التي تلبَسُها … فتَشعُر أن عشرات الدبابيس تشكُّها في كل مكانٍ من جسمها … وكانت تُمسِك بيد «نوسة» التي كانت تَشعُر بالوخزات التي تشعُر بها «لوزة» … وتكتُم في صدرها آهاتِ الألم التي تريد أن تَنطلِق.

وكما كانتا تشتركان في الإحساس بالألم … كانتا تشتركان في التفكير فيما ينبغي عمله … فمن غير المعقول أن تقعا أسيرتَين بهذه البساطة … على حين ينتظر «تختخ» منهما إبلاغ الدكتور بما حدث لإخطار رجال الشرطة. إنَّهما بوقوعهما بهذه البساطة تقضيان على خطة «تختخ» بل تقضيان على المغامرين الثلاثة معًا.

وكانت «نوسة» أسبق من «لوزة» إلى التفكير … إنَّها لو استطاعت أن تبتعد بضع خطواتٍ فقط في هذا الضباب الكثيف لما استطاع «سليمان» أن يراها، وقرَّرتْ أن تغامر … وفي الوقت نفسه تقول ﻟ «لوزة» ما ستفعل.

ولكن كيف؟ وفكَّرتْ أن تقول لها بالإنجليزية … إنَّ «سليمان» لا يعرف هذه اللغة بالتأكيد …

ولكي تُمهِّد لخطَّتها أخذَت تضغَط على يد «لوزة» ضغطاتٍ متتالية … كأنها تنقل إليها رسالةً على طريقة «مورس»، ولدهشتها الشديدة فهمَت المغامرة الصغيرة الذكية الرسالة … بل فعلَت ما هو أكثر … قالت كلمةً واحدة Escape بالإنجليزية … ومعناها «اهربي».

ولم يعلِّق «سليمان» بشيءٍ وخفَّفتْ «نوسة» يدها … وأدركَت «لوزة» أن اللحظة القادمة بعد ثوان … ثم تركَت «نوسة» يد «لوزة» تمامًا … إنَّها اللحظة الحاسمة … وانطلقَت «نوسة» تجري إلى اليمين … وفي الوقت نفسه انطلقَت «لوزة» إلى اليسار.

كانت مفاجأةً كاملة ﻟ «سليمان»! كان يمسك البندقة بيدٍ واحدة … وعندما شاهد الفتاتَين تنطلقان جريًا استولَت عليه الدهشة لحظاتٍ كانت كافية لتبتعد الفتاتان، وأضاع لحظاتٍ أخرى ثمينةً في رفع البندقية إلى كتفه، وعندما آن أوان إطلاق النار … كانت الفتاتان قد اختفتا في الضباب.

انطلق «سليمان» يجري خلف «نوسة»، وكانت «لوزة» تجري في الاتجاه نفسه الذي يسير فيه المغامرون الثلاثة … وسمعوا صوت أقدامها وهي تجري … لم يكن أحدٌ منهم يتصوَّر أبدًا أنَّ هذه الأقدام الخائفة هي أقدام «لوزة» ولكن كان معهم مَن يعرف … إنه «زنجر»، وسمعوا الكلب يزوم، ولكن تلك الزمجرة ليست بالزمجرة القوية التي يُطلِقها عندما يشمُّ رائحة عدُو … وتوقَّفوا … وانطلق «زنجر» في الضباب … وبعد لحظاتٍ سمعوا صرخةً صغيرة وأصابتهم الدهشة … وقبل أن يُفيقوا كان «زنجر» يجذب «لوزة» ناحيتهم، وبرزَت أمامهم من الضباب المغامرةُ الصغيرة تلهَث.

وقال «تختخ» وهو يربتُ على كتفِها: ماذا حدث؟

وردَت له في كلماتٍ سريعة لاهثة ما جرى لها هي و«نوسة» … وسرعان ما كانوا يَجْرون في الاتجاه الذي أشارت إليه … وبعد أقلَّ من خمس دقائقَ سمعوا صوت المطاردة … ومرةً أخرى قام «زنجر» بواجبه، وانطلق كالسهم في الظلام، وسمعوا صوت زمجرته المخيفة … وأدركوا أنه مُشتبِك مع «سليمان»، وصاح «محب»: «نوسة» … «نوسة» … وظهر من الضباب شبح «نوسة» … ثم «زنجر» وهو يحمل في فمه بندقية … وسمعوا صوت أقدامِ «سليمان» وهو يُسرِع هاربًا في الضباب!

أمسَك «محب» بالبندقية الثانية … واتجهوا جميعًا إلى دائرة الضوء الثابتة في وسط الجزيرة … ووصلوا إليها سريعًا … وكمَنوا بين البوص يراقبون ما يجري … كانت هناك أشباحٌ تتحرك في الضباب … لم يتبيَّنوا منها الأشخاص … ولكنهم أدركوا أن ثَمَّةَ صناديقَ ضخمة تُنقل من الشاطئ إلى وسط الجزيرة … توقَّف النقل … ثم سمعوا صوتَ أقدامٍ قوية … وظهَر شبَح «يرموك» الأسود في الضباب الرمادي … وعرفوا كل شيءٍ. لقد أخفى اللصوص «يرموك» في آخر مكانٍ يتصوَّره إنسان … سرقوه في الضباب وأخفَوه في الجزيرة … وها هم أولاءِ ينقلونه في الضباب مرةً أخرى.

وهمَس «تختخ» في أُذن «محب» بكلماتٍ، ثم همَس في آذانِ بقيَّة المغامرين، وابتعَد «محب» ومعه «عاطف»، وبعد لحظاتٍ رفع «تختخ» البندقية إلى أعلى وأطلق رصاصةً دوَّت بشدة في الصمت … وبعد لحظةٍ واحدة انطلقَت رصاصةٌ أخرى من بندقية «محب».

ودبَّ الذعر في مجموعة الأشباح، وأطلق «تختخ» طلقةً ثانية … و«محب» طلقةً ثانية، وشاهَدوا الأشباح تجري في اتجاه الشاطئ.

وتَقدَّم المغامرون من الساحة المضاءة … و«تختخ» و«محب» يطلقان الرصاص … وامتلأت الجزيرة بِدويِّ الطلقات وبرائحة البارود … وانطلَق «يرموك» يجري، ولكن «زنجر» البطل قام بمعجزته الثالثة؛ فقد جرى سريعًا وأمسك باللجام المدلَّى.

وفي هذه اللحظة حدَث شيءٌ مدهش … انطلقَت موجاتٌ من الرصاص في جهاتٍ متفرقة من الجزيرة … وتوقَّف المغامرون وقد توتَّرتْ أعصابهم … فقد أدركوا أن اللصوص يهاجمون، وأنَّهم سيقعون فريسةً في أيديهم.

ولكن كان هذا هو الاستنتاج الوحيد الخطأ في هذه المغامرة؛ فلم تكن الطلقات من اللصوص، لقد كانت من رجال الشرطة … الذين بدءوا نزولهم إلى الجزيرة وأحاطوا باللصوص.

ولم يعرف المغامرون هذه الحقيقة إلا عندما سمعوا أوامرَ تصدُر من هنا وهناك … ارفع يدَيك … لا تتحرَّك … وفي البداية ظنُّوا أنَّ هذه الأوامر موجَّهة لهم … حتى إنَّ «محب» و«تختخ» ألقيا بالبندقيتَين إلى الأرض … ولكن فجأةً ظهَرتِ الحقيقة؛ فقد برز من الضباب في دائرة الضوء وَجْه ضابط الشرطة المتنكِّر في ثياب الصيَّادين … ثم ظهَرتِ الملابس الرسمية لرجال الشرطة وهم يسوقون أمامهم بضعة أشخاص … كان بينهم لدهشة المغامرين الشديدة المليونير «وولتز».

اتضح كل شيء … وانطلقَت صيحات الفرح من المغامرين … وقال «تختخ» موجهًا حديثه للضابط: هل جئتم على صوت الطلقات؟

الضابط: نعم.

تختخ: إنَّنا نحن الذين أطلقناها … كنا نُريد أن نُفزع اللصوص وفي الوقت نفسه نلفِت أنظار أي سفنٍ مارَّة إلينا.

الضابط: لقد كنتُ أشتبه في «وولتز» وفي الحرَّاس الثلاثة … وقد راقبتُهم ولكنَّهم استطاعوا الإفلات من الرقابة والوصول إلى منطقة الضباب.

تختخ: هل كنتَ تتجوَّل في الجزيرة؟

الضابط: نعم … وكدتُ أفقِد الأمل لولا صوتُ الطلقات.

•••

بزغَت الشمس فبدَّدتِ الضباب الغامض. كما تبدَّدتْ أسطورة «أبو المناديل» وعاد «يرموك» إلى حظيرته. واتضح من التحقيقات أن «وولتز» مهرِّبٌ عالمي، وأنَّه بالاتفاق مع الغجَر المقيمين في جزيرة «أبو المناديل» استغلُّوا أسطورة «أبو المناديل» والضباب الغامض في إدخال المخدِّرات إلى البلاد.

وعندما كان المغامرون يتناولون إفطارهم الشهي كان الدكتور «ندا» وزوجته يداعبان «يرموك»، ويتحدَّثان عن ذكاء وشجاعة الأولاد الصغار وكلبهم الأسود. ولم يتصوَّروا أبدًا أنهم مغامرون من أرفع طراز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤