نَجاحُ الْحِيلَةِ
(١) عِبارَةٌ مُكَرَّرَةٌ
تَعاقَبَتْ لَيالٍ بَعْدَ لَيالٍ، وَالْمَلِكُ يَجْلِسُ إِلَى الْقاصِّ الْبارِعِ. كانَ «جُحا» — في كُلِّ أُمْسِيَّةٍ — يُكَرِّرُ عِبارَةً واحِدَةً. حِينَما جَلَسَ في حَضْرَةِ الْمَلِكِ، أَوَّلَ لَيْلَةٍ، قالَ لَهُ: «أُخْبِرُك بِما حَدَثَ: جاءَتْ جَرادَةٌ، ونَفَذَتْ مِنْ ثَقْبِ الْمَبْنَى. تَناوَلَتْ سُنْبُلَةً، وَخَرَجَتْ بِها، تَطْعَمُ ما فِيها مِنَ الْقَمْحِ.» سَمِعَ الْمَلِكُ ذلِكَ — طُولَ الَّليْلِ — حَتَّى داعَبَ النَّوْمُ عَيْنَيْهِ. هُنا طَلَبَ الاكْتِفاءَ بِما سَمِعَ، وَأَذِنَ لِجَلِيسِهِ في الانْصِرافِ. فِي الْأَيَّامِ التَّوالِي حِينَ يُقْبِلُ اللَّيْلُ يَقْصِدُ «جُحا» قَصْرَ الْمَلِكِ. ما يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى يَسْتَأْذِنَهُ في مُواصَلَةِ الْقَصِّ عَلَيْهِ. ما إِنْ يَأْذَنُ لَهُ في الْحَدِيثِ، حَتَّى يُسْمِعَهُ عِبارَتَهُ الْمُتَكَرِّرَةَ. «ثُمَّ جاءَتْ بَعْدَ ذلِكَ جَرادَةٌ، وَنَفَذَتْ مِنْ ثَقْبِ الْمَبْنَى. تَناوَلَتْ سُنْبُلَةً، وَخَرَجَتْ بِها، تَطْعَمُ ما فِيها مِنَ الْقَمْحِ.» أَخِيرًا قالَ الْمَلِكُ: «وَماذا حَدَثَ بَعْدَ ذلِكَ أَيَّتُها الْبَبَّغاءُ؟» أَجابَهُ «جُحا»: «لَمْ تَنْتَهِ مِنَ الْمَخْزَنِ سَنابِلُ الْقَمْحِ الْمُدَّخَرَةُ.» صَبَرَ الْمَلِكُ عَلَى الاسْتِماعِ إِلَى «جُحا»، وَهُوَ يُرَدِّدُ عِبارَتَهُ. خَشِيَ أَنْ يُضْطَرَّ إِلَى الاعْتِرافِ لَهُ بِنَجاحِهِ، وَبِاسْتِحْقاقِهِ الْجائِزَةَ.
(٢) ضَجَرُ الْمَلِكِ
سَئِمَ الْمَلِكُ الاسْتِماعَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى الْقِصَّةِ الْمُمِلَّةِ الْمُضْجِرَةِ. لَمْ يُطِقْ مُواصَلَةَ الْإِصْغاءِ إِلَى هذا التَّكرارِ الْمُتَعَمَّدِ الْمَمْلُولِ. أَدْرَكَ أَنَ عَدَدَ الْجَرادِ لَنْ يَنْتَهِيَ، وَأَنَّ حَبَّاتِ الْقَمْحِ لَنْ تَنْفَدَ. فِي إِحْدَى اللَّيالِي اسْتَوْلَى الضِّيقُ وَالضَّجَرُ عَلَى نَفْسِ الْمَلِكِ. دارَ الْحَدِيثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَلِيسِهِ «جُحا»، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قالَ الْمَلِكُ: «أَلَسْتَ تَرَى، أَيُّها الْقاصُّ، أَنَّكَ تُرَدِّدُ ما تَقُولُ؟! أَلَيْسَ في ذلِكَ التَّكْرارِ التَّافِهِ مَضْيَعَةٌ، في غَيْرِ طائِلٍ؟!» أَجابَ «جُحا»: «لا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أَتَعَجَّلَ أَحْداثَ الْقِصَّةِ. لا بُدَّ أَنْ أُتابِعَ ما فِيها حَلْقَةً حَلْقَةً، لا أَنْقُصُ وَلا أَزِيدُ.» قالَ الْمَلِكُ: «أَخْشَى أَنْ تَكُونَ لَكَ وَراءَ هذا حِيلَةٌ مُدَبَّرَةٌ! أَتُرِيدُ أَنْ تَنالَ — بِغَيْرِ حَقٍّ — تِلْكَ الْجَائِزَةَ الَّتِي وَعَدْتُ بِها؟» قالَ «جُحا»: «مَهابَتُكَ تَمْنَعُنِي أَنْ أُصارِحَكَ بِما في نَفْسِي. أَظُنُّ أَنَّكَ، لِهَدَفٍ بَعِيدٍ، ابْتَكَرْتَ فِكْرَةَ الْقِصَّةِ الَّتِي لا تَنْتَهِي. مُرادُكَ الاسْتِمْتاعُ بِالْقِصَصِ دُونَ أَنْ يَنالَ الْجائِزَةَ أَحَدٌ.» لَمْ يَنْتَهِ الْحِوارُ بَيْنَ الْمَلِكِ وَبَيْنَ «جُحا» إِلَى نَتِيجَةٍ حاسِمَةٍ. لَمْ يَجِدِ الْمَلِكُ بُدًّا مِنْ مُواصَلَةِ الاسْتِماعِ إِلَى الْعِبارَةِ الْمُعادَةِ.
(٣) تَقْدِيرٌ رَفِيعٌ
فِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ جَلَسَ «جُحا» إِلَى الْمَلِكِ كَاللَّيالِي السَّابِقَةِ. هَمَّ بِأَنْ يَبْدَأَ الْقِصَّةَ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى في اللَّيْلَةِ الْماضِيَةِ. قاطَعَهُ الْمَلِكُ، مُحَاكِيًا الْجُمْلَةَ الْمَعْرُوفَةَ، في لَهْجَةٍ ساخِرَةٍ. قالَ «جُحا»: «أَيُرِيدُ الْمَلِكُ أَنْ يَمْنَعَنِي مِنْ مُواصَلَةِ الْقِصَّةِ؟» قالَ الْمَلِكُ: «أَدْرَكْتُ أَنْ الْجَرادَ الْمُتَرَدِّدَ عَلَى الثَّقْبِ لَنْ يَنْتَهِيَ. أَدْرَكْتُ كَذلِكَ أَنَّ سَنابِلَ قَمْحِ الْمَخْزَنِ لَنْ تَنْفَدَ حَبَّاتُها.» قالَ «جُحا»: «لا أَكْذِبُ الْقِصَّةَ، هَلْ أَحْرِمُها حَظَّها مِنَ الَّتمامِ؟» ضاقَ صَدْرُ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَجِدْ وَسِيلَةً تَغْلِبُ حِيلة «جُحا». أَشارَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَن الاسْتِرْسالِ في هذا الْحَدِيثِ الْمُعادِ. قالَ وَهُوَ يُلَوِّحُ بِيَدِهِ: «خَيْرٌ لَنا أَلَّا تَخْدَعَنِي، وَأَلَّا أَخْدَعَكَ. قِصَّتُكَ انْتَهَتْ، وَلكِنَّكَ بِحِيلَتِكَ جَعَلْتَها، في الظَّاهِرِ، لا تَنْتَهِي.» قالَ «جُحا»: «وَضَحَ جَلِيًّا أَنِّي حَقِيقٌ بِجائِزَتِكَ الَّتِي وَعَدْتَ.» قالَ الْمَلِكُ: «لَيْسَتْ جائِزَتِي لَكَ لِمُجَرَّدِ نَجاحِكَ فِيما قَصَصْتَ. اسْتَحْقَقْتَ تَقْدِيرِي بِما اتَّصَفْتَ بِهِ مِنْ فِطْنَةٍ وَبَراعَةٍ وَسَعَةِ حِيلَةٍ. جائِزَتُكَ: صُرَّةُ جَواهِرَ نَفِيسَةٍ، واتِّخاذُكَ مُسْتَشارًا لِي في الْحُكْمِ. هذا إِلَى جانِبِ أَنَّكَ سَتَكُونُ لِي السَّمِيرَ الْمُخْلِصَ، والْجَلِيسَ الْأَنِيسَ.»
يُجابُ مِمَّا في هذه الحِكايةِ عن الأسئلةِ الآتيةِ
ولماذا كان العَجْزُ عن نَيْلِ الجائزة؟
وماذا كانت نتيجةُ ذلك؟
وعن أيِّ شيء سألهم؟ وبماذا أجابه كبيرُهم؟
وماذا أصابَ المَحْصولاتِ من بعد ذلك؟
وكيف اهتدتْ إلْى المَبْنى الكبيرِ؟ وماذا قدَّرتْ فيه؟
وكيف انْتهَى الخِلاف بيْنهما؟ ولأيِّ سببٍ كانت المُكافأةُ الملكيَّة؟