الفصل الثاني

ترقي الشرائع بترقي الإنسان

من المقرر الثابت في تاريخ الإنسان أخذه بالترقي في سلم المدنية منذ العصور القديمة إلى الآن، وقد مر عليك أن روابط الأديان هي القائمة بحفظ نظام الإنسان، فلهذا كانت الشرائع الإلهية — التي على إثرها تقوم ومنها تُستنبط الشرائع الوضعية — تتوالى على الشعوب بواسطة الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، بُما يوافق المناسبات الطبيعية والترقيات التدريجية الملازمة للحضارة والعمران مع توالي الأزمان، بدليل أن ما من رسول إلَّا ويُبعث إلى قومه على فترة من الرسل فيُوحَى إليه بشريعة أرقى، تنسخ ما قبلها وتكون أجمع لضروب الأحكام التي تقتضيها سنة الترقي البشري والتقدم الاجتماعي، هذا من حيث الفروع لا من حيث الأصول؛ إذ الأصل في الشرائع الإلهية واحد وهو التوحيد، فالأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لم يكن من العبث إرسالهم هكذا في أزمنة متباعدة، نهاية كل منها بداية غيره، بل سُنة الترقي وحكمة موحي الشرائع جل شأنه في هذا اقتضت ذلك؛ رعايةً لمصالح العباد المنوط حفظها بالشرائع الكافلة بانتظام النظام الاجتماعي بالنسبة لما يصادفه كل نبي من الشئون والمناسبات الطبيعية، بالإضافة إلى كل أمة وزمان، والاعتراف بهذه الحقيقة لا يفتقر لغير اطراح التشيع المذهبي ولغير النظر إليها بعين التروي والإنصاف؛ إذ حكمة التشريع على نهج الترقي المذكور قضية ثابتة حتى في الوضعيات العقلية لا يتردد في قبولها الوجدان ولا يماحك فيها إنسان فكيف بها إذا كانت من وضع الحكيم العليم بمصالح عباده أجمعين.

فشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لو كانت مع موافقتها بالوضع للمناسبات الزمانية مستوفية لشروط الدوام والاستمرار لما كان أُوحِي فيما بعد إلى موسى عليه السلام بشريعة أخرى تخالفها في كثير من الأحكام، كإباحة الجمع بين الأختين في الأولى وتحريمه في الثانية مثلًا، لا جرم أن علم الخالق تعالى بحاجة الخلق التي تختلف باختلاف الأزمنة وتترقى بترقي الشعوب هو الذي اقتضى ذلك، وإلا لاختل نظام الوجود الاجتماعي المستمد روح القوة من نور الشرائع والأديان، لهذا نرى أيضًا أن الشريعة المحمدية — الجديرة بالنظر والاعتبار لتأثيرها على النظام الاجتماعي تأثيرًا سريعًا وتلقي العقول لها بالقبول والناس بالرضا والاختيار — لما كانت خاتمة الشرائع الإلهية كان من الحكمة بلوغها درجة الكمال بالنسبة لما تقدمها من الشرائع التي لم تتجاوز حد الحاجة الاجتماعية، بالإضافة إلى أزمنة ظهورها وتبليغها بواسطة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فالله سبحانه وتعالى لما اقتضى علمه الكريم وجود شريعة كاملة تأتلف بها القلوب ويتم بها نظام الاجتماع فتكون خاتمة شرائعه الإلهية أنزل هذه الشريعة المحمدية مهيئةً لأن تجمع أممًا مختلفةً وشعوبًا متباينةً، وارتضاها لأن تكون شرعًا قيمًا للناس كافةً، بدليل قوله تعالى خطابًا للمؤمنين أي لمن آمن بصاحب هذه الشريعة وبما جاء به وصار من أتباعه وأهل ملته من أهل الكتاب وغيرهم من الطوائف والملل الأخرى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فمفهوم هذه الآية الشاملة في الخطاب للمسلمين ممن كان منهم من أهل الكتاب وغيرهم واضح لا يحتاج إلى زيادة تفسير وبيان.

ويؤيد هذا الدليل الحق ما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأحكام المحيطة بالزهيدة والجليل من العبادات الدينية والمعاملات الدنيوية، وهي أحكام الحدود والعقوبة والقصاص، والسياسة والحقوق وفروعها، والترغيب والترهيب وفروعهما، وغير ذلك مما لم تستوفه شريعة من الشرائع السابقة، ومن نظر في كتب الأصول في الشريعة الإسلامية وما حوته من المسائل الشرعية واستوعبته من دقائق الأحكام العادلة الملائمة لكل زمن، بل ولكل حالة تقتضيها سنة الترقي والانتقال في الهيئة الاجتماعية لما توقف عن الاعتراف إن لم يكن باللسان فبالضمير والوجدان، بأنها الشريعة الكاملة السمحاء التي أتم الله بها نعمة الراحة الاجتماعية على من تلقاها من البشر؛ إذ أية شريعة غير الشريعة الإسلامية ترشد الإنسان إلى كل باعث من بواعث الراحة والطمأنينة في الحياة البشرية، فتعلمه آداب المعاشرة والمعاملة والتخاطب، والطهارة، والقيام والجلوس، حتى آداب الأكل واللبس، وبالإجمال فهي ترشده لكل طرق الخير، وتنهاه عن كل طرق الشر،١ وتبين له حدود كل صلة تربطه مع ذوي رحمه وقرباه ثم عشيرته ثم قبيلته ثم بني وطنه ثم بني جامعته ومن عداهم من أهل الكتاب والملل الأخرى، كل ذلك بتوضيح صحيح مقبول لدى العقل مؤيد بالتجارب مفيد بالعمل، وهي تفرض على المؤمن الطاعة لله وللرسول وأولي الأمر، والطاعة كما هو المعلوم أنه أساس الشرائع ودعامة العمران، ثم هي تحدد معنى الطاعة لصاحب الأمر (الإمام) بحيث لا تكون أمرًا لما يؤدي إلى معصية الخالق تعالى فيما أمر به ونهى عنه، ولا تفريطًا يختل به نظام الألفة العمومي ويتداعى ركن المجتمع الإسلامي، وتوضح كيفية ارتباط الأفراد بولي الأمر الإمام الحاكم ارتباطًا دينيًّا وسياسيًّا وارتباطه بالشريعة في تحديد سلطة الهيئة الحاكمة على الهيئة المحكومة والتصرف بأمور الرعية بما لا يتعدى جانب الحكمة التي هي ضالة المؤمن، ولا يتجاوز حدود العدل والمساواة في إجراء الأحكام وتوزيع الضرائب وجباية الأموال، ثم هي تعين للإمام كيفية تصرفاته السياسية وكيف ينبغي أن يُعامل الأقوام المحاربة والمسالمة، وكيف تراعي في ذلك النسب والعلائق الجوارية، إلى غير ذلك من أنواع المعاملات السياسية سواء كانت عمومية ذات علائق خارجية أو خصوصية ذات بواعث داخلية، مما يظهر منه مزيد ارتباط السياسة بالدين في الشريعة المحمدية على وجه كافل بإعزاز جانب الجماعة الإسلامية، وهذا المبدأ الأساسي في هذه الشريعة الغراء من أهم المبادئ التي قامت على دعامتها الممالك والدول الإسلامية، حتى إن كثيرًا ما حاولت هدمه الدول الأوربية بمساعيها المعلومة في الشرق إدخالًا للفساد على أساس الحكومات الإسلامية، وإضعافًا لقوة أهل الإسلام الذين هم مع تفرق عناصرهم وانتشارهم في البسيطة مرتبطون بنقطة جامعة هي ذات الخلافة الإسلامية، ولكن أَنَّى لتلكم الدول الوصول إلى تلك الغاية البعيدة المنال على توالي الأجيال.

هذا، وبالجملة فمزايا هذه الشريعة التي لا تدخل تحت الحصر لم توجد في شريعة من الشرائع السابقة، واختصاصها بتلك المزايا دون غيرها يؤيد أنها أرقى الشرائع، وبما أنها خاتمة الشرائع أيضًا، اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون كذلك وافيةً بالغرض من جميع الوجوه، فعلماء التشريع في هذا العصر الذي اتسعت فيه دائرة المعاملات المشتركة والسياسية اتساعًا فاق حد الحصر مهما توسعوا في وضع القوانين العقلية بعد تطبيقها على التجارب النظرية في المعاملات المستحدثة تراها إن لم تكن استنباطًا من الشريعة الإسلامية، فهي لا تخرج في مؤداها عن معاني الأصول في هذه الشريعة الغراء الموحاة منذ ثلاثة عشر جيلًا مضت عليها من الزمان، وهي ما زالت ولا تزال كنزًا ينضح التمدن من الأحكام كل جديد، تزان بدرره نحور العصور والحس شاهد عدل، والباحثون في أصول الشرائع من ذوي الإنصاف إذا راجعوا كتب الشريعة الإسلامية بكل تدقيق لا يخالفوننا في هذه الحقيقة حيث تتضح لهم بأجلى بيان.

١  قد رأيت أن أورد هنا ما يناسب هذا المقام ملخصًا من رسالة العقيدة الإسلامية لعلامة زمانه الشهير المرحوم محمود أفندي الحمزاوي مفتي دمشق السابق، ليُعلم منها ما للشريعة الإسلامية من المزايا العظيمة الموجبة لترقي الهيئة الاجتماعية في الأخلاق والآداب والمدنية وما يجب أن يعتقده المسلم من هذا القبيل ويعمل به عملًا مفروضًا أو يتركه كذلك وإليك البيان: قال رحمه الله تعالى: العقيدة الإسلامية هي الإيمان بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، والأنبياء … إلى آخر ما أورده من أركان الإسلام، وما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله تعالى، والرسول، إلى أن قال: وأن يجتنب الكفر، والشرك، والزنا، والفحش، وشرب الخمر وإن قل، وكل مسكر، ولا نحضر مع أهله عليه، والسرقة، وقتل النفس بغير حق، وشهادة الزور، واليمين الكاذبة، والفرار من الزحف بلا عذر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، أي: العصيان وترك الإحسان لهما، وقطع الرحم، والكذب، خصوصًا على رسول الله ، والإفطار في رمضان عمدًا بلا عذر، وبخس كيل أو وزن، أي: نقصه، وأكل الميتة من غير اضطرار والخنزير، والغيبة والنميمة، والقمار، والسرف، والسعي في الأرض بالفساد، وقطع الطريق، وإدمان الصغائر، والإعانة على المعاصي والحث عليها، وكشف العورة بحضرة الناس أو بغير حضرتهم بلا عذر، وقتل الإنسان نفسه، أو إتلاف عضو من أعضائه، وغدر الخلق وغشهم، وتصديق كاهن أو منجم بخبره، وذبح الحيوان لاسم المخلوق، والدعاء إلى ضلالة، والتجسس، والشتم، خصوصًا بقوله: يا كافر، ودخول بيت الغير بدون إذنه، وغصب أموال الناس، وأخذ الرشوة، والنظر إلى المحرم، والخلوة بالأجنبية، والقذف كقوله: يا كافر، واللعن ولو بالحيوان، والهجو، والتطلع إلى بيوت الناس، والهجر فوق ثلاثة أيام، وكثرة الخصام بلا علم، واحتكار القوت، وأكل المنتن من الأطعمة، وتجنب النجاسات كالدم وغيره في البدن والثوب والمكان وأكلها وشربها ومسها واستعمالها، وإضرار الخلق ولو بغمز العين، والسجود وبين يدي الساجد صورة، واستعمال آنية الذهب والفضة، وتقبيل الرجل فم الرجل، وإبطال العبادة بلا عذر وترك الجمعة والجماعة بلا عذر، والأكل فوق الشبع، وظن السوء، والحسد، والكبر، والعجب، والرياء، والكلام عند الخطبة وعند تلاوة القرآن، وخلف الوعد في الخير، والخيانة في الأمانة، والخوض في الباطل، أي: الكلام فيما لا يعني، وإفشاء السر، وشغل الطريق ببيع أو غيره، ونقض العهد المشروع، والتعصب، والمداهنة، إلى آخر ما جاء في الرسالة المذكورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤