الفصل الرابع

مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية

من البديهي أن الإنسان المتخلق بخلق ثابت، الناشئ على عادة مستمرة واعتقاد خالص يتناوله الأبناء عن الآباء، يصعب عليه تحوله عن ذلك كله على حين اقتناع منه ورسوخ في عقله بحسن ما هو عليه، وإن كان الأمر بخلاف ذلك، لا سيما إذا كان من قوم تمكنت من نفوسهم العوائد والتقاليد تمكنًا عسر الزوال، ولا نخال من ينكر هذه الحقيقة تلقاء ما هو شاهد ومعلوم في حالة الأفراد من حيث الأخلاق الشخصية التي لا تنجع فيمن شب على الرذيل منها وسائط التربية والتهذيب إلَّا بعد العناء الكثير وحالة الجماعات من حيث العوائد السافلة القومية التي لا يتأتى لقوم التحول عنها لما هو أشرف وأرقى منها إلَّا باستعمال الوسائل التدريجية، فما بالك بالشرائع الإلهية التي يراها القوم لأول وهلة داعيةً لترك كثير مما ألفوه من العوائد والتقاليد وانطبعوا عليه من أخلاق ذميمة ونبذ ما رسخ في أذهانهم أجيالًا عديدة من الاعتقاد، فضلًا عما يرونه في الشرائع من الروابط والأحكام التي تحجر مطلق التصرف وتحدد الأعمال.

وهذا بالطبع مما يُخالف أميال الخاصة حيث تغل به أيديهم العاتية ولا يدرك العامة ما فيه من المزايا العظيمة العائدة على المجتمع الإنساني بالخير المحض إلَّا بعد الاختبار والتعليم، فيأخذ منهم العتو على الأنبياء أولي الشرائع كل مأخذ فيسفهون أقوالهم تارةً ويتعمدون أذاهم أخرى، لا لأن ما يأتون به من الشرائع يكلفهم ما لا يستطاع إذ — لا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها — ولا لأنها تخالف ما يقتضيه العقل والعدل — حاشا لله — بل لجهل فريق منهم بمزايا الشريعة ولأخذها على أيدي الفريق الآخر كما تقدم. ومن المقرر أن النبي مكلف بتبليغ رسالته ونشر دعوته، ولو تحمل بسبب ذلك غاية الإهانة ونهاية العناء، وفي هذه الحال لا بد من أن تؤثر دعوته على أفكار العقلاء من قومه الذين يبدأهم بإظهار سره بغية الاستعانة بهم على أمره، لا سيما إذا تحداهم بالمعجزات وبرهن على صدق نبوته بالآيات البينات، فيصغون له ويطمئنون إليه، فيجتهد بأن يستحدث منهم صاحبًا أو صاحبين، ليستحدث بالاثنين اثنين آخرين، وبالأربعة أربعة آخرين، وهكذا بالتدريج حتى تكثر جماعته ويتعدد أنصاره، فيكون منهم في منعة فيجهر بأمره ويعلن دعوته، فيتنبه له المخالفون من قومه الذين كانوا آمنين جانبه لضعفه ووحدته، وكلما زاد حزبه ازداد قومه والمخالفون له رهبةً منه وبغضًا فيه ومعاداةً له، وربما تعمدوا قتله وقتل من تبعه من الناس، الذين يصبحون محفوفين بالخطر بين جماهير الأعداء محتاجين لبسط السلطة والاعتصام بالقوة حفظًا لناموس الشريعة وقيامًا بنصرة الحق، وتثبيتًا لدعوة نبيهم التي يتوقف على انتشارها خير أولئك الجماهير، الذين لم يدعهم لردها سوى الجهل والعناء، ولا يتيسر لهم ذلك إلَّا إذا أذن لهم الشارع باستعمال القوة، فيشرع لهم الجهاد وقتال المعارضين بحكم الضرورة، حتى يكون جانب جماعة المؤمنين محفوظًا من كيد الكائدين وإيذاء المخالفين، وإلا لو استسلموا للضعف من ابتداء أمرهم لذهبوا ضحية جهل المعارضين، ولم تقم لهم قائمة في بث منافع الدين.

لهذا فمشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية لا تخلو عن حكمة بالغة، وليس فيها ما يمس بجوهر الشرائع ما دام أن الشارع لم يقصد إلَّا الخير العام، ومعارضة الشعوب — ابتداءً — للأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام ليس إلَّا لمحض العناد والجهل بمزايا الشرائع، وقد يكون لأسباب أخرى سياسية مصدرها أولو السلطة وأرباب الرياسة في الهيئة الاجتماعية، لما يرونه فيها من القيود التي تغل أيدي جورهم وتمنعهم عن فجورهم، فيشعرون بثقل يد الشريعة العادلة ويخشون من أن تثل عروش عتوهم في الأرض، فيقومون لذلك في وجه صاحب الشريعة مثبطين معارضين، فيميل معهم مؤازرًا من يميل إما رهبةً منهم أو رغبةً فيهم وطاعةً لهم، فهؤلاء لما لم يقف بهم العتو عند حد الضرر للنفس بصدها عن سبيل الحق، بل أجرموا بمنع غيرهم أيضًا عن قبول الخير المحض، والعقل يُجوِّز قتل المجرم الآثم، فقد وجب قتالهم وقتلهم أنى وُجِدوا بحكم العقل والعدل؛ لأنهم الصادون عن سبيل الله المانعون للخير العام، فمشروعية الجهاد بمثلهم في الشرائع الإلهية عادلة لا سبيل لإنكارها بوجه من الوجوه.

فإذا تمهد هذا فاعلم أن من ينكر على الديانة المحمدية مشروعية الجهاد فيها فقد أخطأ خطأً ناشئًا عن عدم البحث والاستقراء لأمور؛ أولها: أن الشرائع بمعناها المضاف إلى الغرض الظاهر من وضعها للبشر قوةً تقف بالإنسان عند حد الواجب — كما رأيت في الفصل الثالث — فلا تستغرب فيها مشروعية الجهاد، وثانيها: أن الجهاد شُرِّع في كثير من الشرائع السابقة كشريعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى عليهم الصلاة والسلام قبل أن يُشَرع في الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، فهي لم تختص به وحدها، وثالثها: أن الجهاد لإعلاء كلمة الحق ودفع شر المؤذين لا يُنْكر على الشرائع الإلهية كما رأيت فيما مر في هذا الفصل، ورابعها: أن الجهاد في الشريعة الإسلامية شُرِّع على وجه أخف مما كان عليه في شريعتي موسى وداود عليهما السلام وإليك البيان.

مطلب مشروعية الجهاد في شريعة إبراهيم عليه السلام

فأما أنَّ الجهاد مشروعًا في تلك الشرائع السابقة فثابت بنص «الكتاب»، فقد جاء في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حارب ملوك المشرق عندما كسروا ملوك السدوميين، وافتك من أسرهم ابن أخيه لوطًا، واسترد أملاك السدوميين وأسلابهم، ولم يرض بأن يأخذ لنفسه نصيبًا من هذه الغنيمة ما عدا الرجال الذين كانوا معه — ولعلهم القواد — وهم: عانر وأشكول وممرا، فإنه سمح لهم بأخذ نصيبهم منها، فقيام إبراهيم عليه السلام بنفسه لقتال هؤلاء الأعداء يدل على أنه مأذون بذلك من لدن الخالق تعالى، وأن قتال الأعداء والجهاد فيهم كان مشروعًا في شريعته الطاهرة حتى فعل ما فعل، وإلا ما كان ليُقدم على ذلك بالنظر لمقام النبوة إذا لم يكن مأمورًا به، وهذا مما لا ريب فيه.

مطلب مشروعية الجهاد في شريعة موسى عليه السلام

وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام فقد شُرِّع الجهاد في شريعته على وجه بلغ من الشدة ما بلغ، فقد جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر الخروج أن الله سبحانه وتعالى أمره أن يُبيد عن وجه الأرض كثيرًا من الشعوب، وأن يكسر أصنامهم، وهؤلاء الشعوب هم: الأموريون والحثيون والفرزيون والكنعانيون والحريون واليبوسيون، وأنه سبحانه يزعج له جميع الشعوب الذين يأتي عليهم ويعطيه أرضهم، وكان كذلك، فقد جاء في الإصحاح الحادي والعشرين والثاني والعشرين من سفر العدد أنه — أي موسى عليه السلام — قاتل الأموريين وملكهم سيحون، وقتله وأخذ بلاده بحد السيف من نهر أرنون إلى نهر نبوق، وقاتل بني عمرن وملكهم عوج وأخذ أرضهم بحد السيف، وحارب الموآبيين والمريانيين، وأرسل بعض أسباط إسرائيل لمحاربة الكنعانيين وغيرهم. وبالإجمال فقد كانت أيامه كلها حروب وجهادات منذ خروجه من مصر ودخوله في سورية حتى وفاته عليه السلام، وقبل وفاته أقام يشوع قائدًا على جماعة بني إسرائيل، وما زال بنو إسرائيل متبعين حكم الجهاد إلى انقراض دولتهم بعوامل الحروب المتوالية في الأرض.

مطلب مشروعية الجهاد في شريعة داود عليه الصلاة والسلام

وكذلك داود عليه السلام فقد شُرِّع الجهاد في شريعته على وجه شديد أيضًا، كما ورد في صموئيل الأول والثاني فإنه حارب العمالقة واسترد منهم ما سلبوه من مدينته صقلع التي أعطاه إياه أخيش، وحارب أشبوشب وقهره، وبقيت الحرب بينهما سنتين، وحارب اليبوسيين وافتتح منهم أورشليم، وحارب الفلسطينيين وقهرهم حتى لم يعودوا يضايقوه، وهاجم الأمم المجاورة فغلب الفلسطينيين مرةً ثانيةً وحارب الموآبيين وضرب الخراج على الآراميين، وذلل عماليق والأروميين واستاق منهم غنائم وافرة، والتحمت الحرب بينه وبين ملك بني عمون الذي استصرخ الآرميين فأجابوه وأعانوه، وحدثت ثلاثة حروب شديدة بين الفريقين واشتد القتال حتى خرج داود عليه السلام بنفسه وقاد جنوده وضربهم ضربةً عظيمةً حتى أخضع بني عمون والآراميين، فامتد تخومه إلى الفرات. وبالإجمال فقد كانت أيامه كلها حروب وجهادات حتى إنه قصد أن يبني هيكلًا للرب، إلَّا أنه امتنع لأمر الله؛ لأنه كان رجل حرب (٧ص) تُقَدَّم عنده فريضة الجهاد في سبيل الله على إقامة مساجد الله.

مطلب مشروعية الجهاد في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام

وكذلك شُرِّع الجهاد في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، بدليل قوله في إنجيل متَّى (عدد ٣٤) «لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا»، فمفهوم هذه الآية صريح في مشروعية الجهاد صراحةً تبلغ الغاية في الدلالة على الشدة، وعلى حكمها أُعْلِنت الحرب الدينية في عهد الإمبراطور يوقيانوس وغيره في الممالك الغربية، وامتد أيضًا صوت دعاة الجهاد في أطراف الممالك الأوربية في العصور المتوسطة الهجرية، فالتحمت حروب الصليب في المشرق التحامًا متواصلًا مدةً تزيد عن جيلين، وكثيرًا ما نودي أيضًا في نفس أوربا بالحروب الدينية مع الكنائس المنشقة، مما ذهب فيه من الأموال والأنفس ما لا يُعَد ولا يُحَد، وفي أعمال جمعية الأنكبزيسيون في إسبانيا التي استمرت من عهد الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا إلى عهد الملك فيلبوس الثاني١ ما يُغني عن زيادة البيان، ولم يزل هذا الحكم جاريًا إلى الآن عند الدول الغربية المسيحية، وإن صبغوه بصبغة سياسية استحياءً من وصمة التعصب التي تُلصق بهم عند تألبهم الديني على اهتضام كل حق للغير، وإن قيل: لماذا لم يكن عيسى عليه الصلاة والسلام في عهد بعثته من المجاهدين في الأعداء المخالفين من الوثنيين كغيره من الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام ما دام أنه بالنفس صرح هذا التصريح الشديد في مشروعية الجهاد؟ فالجواب عن ذلك أنه لم يكن كغيره من الأنبياء٢ في منعة من عشيرته أو قومه أو أصحابه من المؤمنين، ولم يبلغ أتباعه في عهده حد الكثرة والمنعة التي تقيه من أذى المؤذنين، شأن غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا لما تأخر عن الجهاد في الأعداء إتمامًا لأمر ربه، وعرَّض نفسه للصلب، وأتباعه للإهانة والاضطهاد، حتى أصبحوا بعده قليلين مستضعفين في الأرض يستعملون طقوس العبادة سرًّا، ويُضطهدون من قياصرة الرومان اضطهادًا كاد يلاشيهم من الأرض لو لم يتداركهم بعض إمبراطورة الرومان، ومنهم الإمبراطور ثيودوروس الذي تنصر، وأقام بعد ذلك الدين المسيحي بقوة السيف كما ستراه مفصلًا في الفصل التالي إن شاء الله.

مطلب مشروعية الجهاد في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام

وأما مشروعية الجهاد في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام وأنها أخف مما هي عليه في شريعتي موسى وداود عليهما الصلاة والسلام، فذلك لأن لها حدودًا وأحكامًا لا تبلغ بها حد القسوة التي في تينك الشريعتين، فالنبي محمد لم يُؤْمَر بأن يُبيد الشعوب المحاربة عن بكرة أبيهم حتى وكل نسمة حية معهم من الحيوان كما في شريعة موسى عليه السلام، ولم يُؤمر أن يقدم فريضة الجهاد على فريضة العبادة وإقامة مساجد الله كما في شريعة داود عليه السلام، بل أُمر باستعمال الرفق والمسالمة، وقُرِّرَت في شريعته قواعد وأحكام للجهاد لم تحتو على بعض منها الشرائع السابقة لأسباب لا نخال إلَّا أن القارئ علمها مما أشرنا إليه في الفصول السابقة، فمن ذلك أن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام تدعو قبل الحرب المحارب٣ الذي بلغته الدعوة إلى إحدى الخصلتين الإسلام أو الجزية، فإن أسلم كان من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن أبى ودفع الجزية فهو في عهد الله وأمانه لا يُضار في نفس ولا عرض ولا مال، وإن أبى وحُورب ثم جنح للسلم يُسالم لقوله تعالى: وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا، وإلا، فلا يُقْتَل في الحرب شيخ ولا غلام ولا عسيف٤ ولا امرأة ولا يُجْهَز على جريح، ولا يُتَّبَع فار، وأسرى الحرب إذا كانوا أحرارًا بالغين وكانوا من مشركي العرب الذين كانوا أشد عداوةً وإيذاءً للنبي فحكمهم القتل، وإن كانوا من غيرهم فللإمام أو من ينوب منابه واحدة من أربع: إما ضرب رقابهم بالسيف، أي قتلهم لا بأنواع التعذيب المنكر، وإما الافتداء بالمال أو بأسرى المسلمين، وإما المن عليهم بإخلاء سبيلهم، أو بوضع الجزية عليهم، حسبما يرى الإمام في ذلك من المصلحة اتباعًا لقوله تعالى: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، ففي هذه الأحكام العادلة من الرفق والتخفيف في أمر الجهاد ما لم تأت به شريعة من قبل وما لا تخفى عدالته على بصير.

وبالإجمال فالجهاد كما أنه شُرِّعَ في غيرها على وجه أشد مما هو عليه في هذه الشريعة ولم يُنكر عليها كذلك لا يُنْكر على هذه، لا سيما مع ما فيه من الحدود العادلة، فلا سبيل بعد هذا لغير الاعتراف بالحق، خصوصًا عند كل منصف حر الضمير يرى الحق حقًّا فيقول إنه الحق.

١  من نحو سنة ١٤٨٠ب.م إلى نحو سنة ١٥٩٨.
٢  لا يخفى أنَّا معاشر المسلمين لا نُسلم بدعوى النصارى بألوهية عيسى لثبوت نبوته عندنا بنص القرآن وفي نفس كتابهم الإنجيل، ولطروء جميع الحوادث التي تطرأ على البشر فلا جدال عليه باعتقادنا فيه نبيًّا مرسلًا في جملة الأنبياء عليهم السلام، وهذا بحث ليس من موضوع رسالتنا هذه الخوض فيه، وإنما نبهنا عليه هنا لضرورة مناسبة الكلام فلا تثريب علينا ولا ملام.
٣  هذا إذا كان من أهل الكتاب، وأما مشركو العرب فيُطلب منهم الإسلام.
٤  الأجير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤