الفصل العاشر

رِحْلَةٌ عَجِيبَةٌ

عَادَةً مَا كَانَ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ يَجْلِسُ لِيَرْقُبَ طَائِرَ النَّوْرَسِ سكيمر وَهُوَ يَجُوبُ الْأُفُقَ فِي السَّمَاءِ الزَّرْقَاءِ، وَكَانَ يُرَاقِبُ الصَّقْرَ الْعَجُوزَ حوام وَهُوَ يَرْتَفِعُ إِلَى أَعْلَى وَأَعْلَى حَتَّى يَغْدُوَ نُقْطَةً صَغِيرَةً، وَتَسَاءَلَ داني كَيْفَ يَبْدُو الْأَمْرُ حِينَ تَكُونُ عَالِيًا فَوْقَ الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ وَالْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَتَنْظُرُ إِلَى الْأَسْفَلِ. وَبَدَا لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْكِيدِ غَايَةٌ فِي الرَّوْعَةِ وَالْجَمَالِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كَانَ يَتَمَنَّى أَنْ تَغْدُوَ لَهُ أَجْنِحَةٌ وَيَرْتَفِعَ فِي السَّمَاءِ وَيَنْظُرَ إِلَى الْأَسْفَلِ. وَالْآنَ هَا هُوَ ذَا … داني فَأْرُ الْمُرُوجِ، يَرْتَفِعُ فِي السَّمَاءِ بِالْفِعْلِ!

إِلَّا أَنَّ داني لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رُؤْيَةِ أَيِّ شَيْءٍ رَائِعًا أَوْ جَمِيلًا حِينَئِذٍ. كَلَّا؛ لَمْ يَقْدِرْ فِي الْحَقِيقَةِ! فَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ مُرِيعًا، فَكَمَا تَرَوْنَ، كَانَ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ لَا يَطِيرُ طَوَاعِيَةً، بَلْ كَانَ مَحْمُولًا. بِالْفِعْلِ، كَانَ داني مَحْمُولًا عَبْرَ السَّمَاءِ فِي قَبْضَةِ هوتي الْبُومَةِ بِمَخَالِبِهَا الْمُدَبَّبَةِ! وَكُلُّ هَذَا لِأَنَّ داني قَدْ نَسِيَ … نَسِيَ أَنْ يُرَاقِبَ السَّمَاءَ كَيْ يَحْتَرِسَ مِنَ الْخَطَرِ.

مِسْكِينٌ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ! فَمَخَالِبُ هوتي الْمُدَبَّبَةُ الْكَبِيرَةُ آلَمَتْهُ بِشِدَّةٍ! إِلَّا أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَسْوَأَ شَيْءٍ. كَلَّا فِي الْحَقِيقَةِ! لَمْ يَكُنِ الْأَلَمُ! بَلْ كَانَ التَّفْكِيرُ فِيمَا سَوْفَ يَحْدُثُ حِينَ تَصِلُ هوتي إِلَى بَيْتِهَا فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هوتي عِنْدَئِذٍ سَتَلْتَهِمُهُ بِعِظَامِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَبَيْنَمَا كَانَتْ تُحَلِّقُ، ظَلَّتْ هوتي تُطْلِقُ ضَحَكَاتٍ خَافِتَةً، وَعَلِمَ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ بِالضَّبْطِ مَا الَّذِي كَانَتْ تَعْنِيهِ تِلْكَ الضَّحَكَاتُ الْخَافِتَةُ؛ تَعْنِي أَنَّ هوتي كَانَتْ تُفَكِّرُ فِي الْوَجْبَةِ الدَّسِمَةِ الَّتِي سَوْفَ تَتَنَاوَلُهَا.

وَهُنَاكَ تَدَلَّى داني مِنْ مَخَالِبِ هوتي الْمُدَبَّبَةِ الضَّخْمَةِ، وَنَظَرَ لِأَسْفَلَ حَيْثُ الْمُرُوجُ الْخَضْرَاءُ الْمَكْسُوَّةُ بِالْجَلِيدِ الَّتِي أَحَبَّهَا كَثِيرًا. وَكَانَتْ تَبْدُو عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ عَلَى نَحْوٍ مُرْعِبٍ، رَغْمَ أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ تَكُنْ بَعِيدَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ هوتي كَانَتْ تُحَلِّقُ عَلَى ارْتِفَاعٍ بَسِيطٍ لِلْغَايَةِ. غَيْرَ أَنَّ داني فَأْرَ الْمُرُوجِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْعُلُوِّ مِنْ قَبْلُ؛ وَلِذَا بَدَا لَهُ أَنَّهُ كَانَ عَالِيًا جِدًّا فِي السَّمَاءِ، وَأَغْلَقَ عَيْنَيْهِ كَيْ لَا يَرَى الِارْتِفَاعَ. لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ يُبْقِيَهُمَا مُغْلَقَتَيْنِ. كَلَّا؛ لَمْ يَحْتَمِلْ أَنْ يُبْقِيَهُمَا مُغْلَقَتَيْنِ! وَلَمْ يَسَعْهُ سِوَى أَنْ يُدَاوِمَ عَلَى فَتْحِهِمَا. وَهَا هِيَ الْغَابَةُ الْخَضْرَاءُ الْقَدِيمَةُ الْمُحَبَّبَةُ إِلَيْهِ تَقْتَرِبُ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ، وَكَانَتْ تَبْدُو دَائِمًا شَدِيدَةَ الْجَمَالِ فِي عَيْنَيْ داني، لَكِنَّهَا الْآنَ تَبْدُو مُرِيعَةً، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ مُرِيعَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالسَّبَبُ أَنَّ فِي ذَاكَ الْمَكَانِ يَقَعُ بَيْتُ هوتي الْبُومَةِ، مُتَوَارِيًا فِي بُقْعَةٍ مُظْلِمَةٍ.

رَأَى أَمَامَهُ بِالضَّبْطِ الدَّغَلَ الْعَزِيزَ، حَيْثُ يَنْعَمُ الْأَرْنَبُ بيتر بِالْأَمَانِ التَّامِّ. كَسَا الْجَلِيدُ جَمِيعَ ثَمَرَاتِ الْعُلَّيْقِ الْقَدِيمِ الَّذِي بَدَا غَايَةً فِي الْجَمَالِ. وَبِالْفِعْلِ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ فِي أَبْهَى صُورَةٍ: ضَوْءُ الْقَمَرِ، الْغَابَةُ الْخَضْرَاءُ، الْمُرُوجُ الْخَضْرَاءُ الْمَكْسُوَّةُ بِالْجَلِيدِ، الدَّغَلُ الْعَزِيزُ. وَكَانَ الِاخْتِلَافُ الْوَحِيدُ يَكْمُنُ فِي وَضْعِ داني فَأْرِ الْمُرُوجِ نَفْسِهِ؛ وَكُلُّ هَذَا لِأَنَّهُ نَسِيَ مُرَاقَبَةَ السَّمَاءِ.

وَفَجْأَةً بَدَأَ داني يَتَلَوَّى وَيَتَمَلَّصُ، وَصَاحَتْ هوتي الْبُومَةُ بِغَضَبٍ: «تَوَقَّفْ عَنِ الْحِرَاكِ!»

لَكِنَّ داني لَمْ يَسَعْهُ إِلَّا أَنْ يُقَاوِمَ بِأَقْصَى طَاقَتِهِ؛ حَيْثُ بَدَا لَهُ أَنَّ هوتي لَمْ تَعُدْ تُحْكِمُ قَبْضَتَهَا عَلَيْهِ كَمَا كَانَتْ فِي الْبِدَايَةِ، فَقَدْ شَعَرَ بِأَحَدِ مَخَالِبِ هوتي يَنْزَلِقُ، وَمَزَّقَ مِعْطَفَهُ وَآذَاهُ بِشِدَّةٍ، لَكِنَّهُ انْزَلَقَ! الْحَقِيقَةُ أَنَّ هوتي كَانَتْ تُمْسِكُ بِداني فَأْرِ الْمُرُوجِ فَقَطْ مِنَ الْجُزْءِ الْمُهْتَرِئِ فِي مِعْطَفِهِ، وَهُنَاكَ بِالْأَعْلَى فِي السَّمَاءِ لَمْ تَسْتَطِعْ هوتي الْإِمْسَاكَ بِداني عَلَى نَحْوٍ أَفْضَلَ؛ فَداني كَانَ يَرْفُسُ وَيَتَلَوَّى وَيَنْثَنِي مِرَارًا وَتَكْرَارًا، وَشَعَرَ بِمِعْطَفِهِ يَتَمَزَّقُ وَبِالطَّبْعِ جِلْدُهُ أَيْضًا، لَكِنَّهُ وَاصَلَ حِرَاكَهُ، وَأَصْبَحَ الْآنَ يَتَدَلَّى فِي شِبْهِ حُرِّيَّةٍ. أَخَذَتْ هوتي تُحَلِّقُ عَلَى ارْتِفَاعٍ مُنْخَفِضٍ فِي ذَاكَ الْوَقْتِ كَيْ تُحْكِمَ قَبْضَتَهَا عَلَيْهِ عَلَى نَحْوٍ أَفْضَلَ. فَرَفَسَ داني بِرِجْلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى وَبَعْدَهَا … وَجَدَ نَفْسَهُ يَسْقُطُ!

أَغْلَقَ داني فَأْرُ الْمُرُوجِ عَيْنَيْهِ وَحَبَسَ أَنْفَاسَهُ، بَيْنَمَا رَاحَ يَسْقُطُ وَيَسْقُطُ إِلَى أَسْفَلَ، حَتَّى بَدَا لَهُ أَنَّهُ لَنْ يَصْطَدِمَ أَبَدًا بِالْمُرُوجِ الْمَكْسُوَّةِ بِالْجَلِيدِ! مَعَ أَنَّهُ فِي الْوَاقِعِ سَقَطَ فَقَطْ مِنَ ارْتِفَاعٍ بَسِيطٍ لِلْغَايَةِ. لَكِنَّهُ بَدَا لِداني كَارْتِفَاعٍ مُفْزِعٍ. وَارْتَطَمَ بِشَيْءٍ مَا أَصَابَهُ بِجُرْحٍ، وَبَعْدَهَا … دُومْ! سَقَطَ وَسْطَ الثُّلُوجِ النَّاعِمَةِ أَعْلَى الدَّغَلِ الْعَزِيزِ بِالضَّبْطِ، وَكَانَ آخِرُ مَا تَذَكَّرَهُ هُوَ سَمَاعَهُ لِصَرْخَةِ هوتي الْبُومَةِ الْمَلِيئَةِ بِالْإِحْبَاطِ وَالْغَضَبِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤