قصة فتحية المصرية

كنت في مكتبي جالسة، حين دخلت عليَّ فتاة في السادسة عشرة من عمرها، واسمها «فتحية» تحمل على كتفها طفلًا رضيعًا، وفي يدها طفل آخر في الثالثة من العمر، يمشي بصعوبة، على وجهها كدمات حمراء وزرقاء، عيناها سوداوان متسعتان في نظرهٍ أشبه بالجنون، ترتدي جلبابًا واسعًا قديمًا، وتلف رأسها بطرحة سوداء. أخرجت من جيب جلبابها سكينًا يشبه مطواة «قرن الغزال»، وقالت بصوت مرعب: سأقتل أبي وأدخل السجن، وجئت لأترك طفلي هنا في جمعية تضامن المرأة، فليس لي أحد في هذه الدنيا، وقادني بعض أهل الخير إليكم، وقالوا إنكم تدافعون عن النساء المقهورات، وأنكم دافعتم عن «رابعة» التي قتلت زوجها الذي أراد أن يطردها إلى الشارع هي وأطفالها الخمسة ليتزوج بفتاة صغيرة، وقد تطوعت محامية من عندكم للدفاع عنها، لكني عشت حياة أبشع من حياة «رابعة» التي أعلنت أنها لم تقتل زوجها إلا بعد أن قتلها ألف مرة من قبل.

أمَّا أنا فقد صنع بي أبي ما هو أبشع من القتل، والمشكلة أن القانون أو الشرع لا يعاقب أبي، ولا يعاقب زوج رابعة، ولا يعاقب الآباء، ولا الأزواج الذين يبيعون ويشترون فينا باسم عقد الزواج الشرعي أو الطلاق الشرعي أو تعدد الزوجات الشرعي.

وقد باعني أبي منذ ست سنوات، وكنت في العاشرة من عمري، لرجل سعودي عجوز، يكبرني بستين عامًا. بدأت القصة بأن جاء إلى بيتنا «عم محمود» ابن عم أبي، وقال لأبي: إن الله أرسل إليه رزقًا من السماء. ماذا كان هذا الرزق؟ إنه «الشيخ علي»، وهو من أغنياء مكة المكرمة، وقد رآني هذا الشيخ الثري وأنا أحمل صفيحة الماء فوق رأسي، فأعجبه شكلي ويرغب في الزواج بي ومستعد لدفع مهر كبير قدره أربعة آلاف ريال سعودي.

رفع أبي يديه إلى السماء، ثُمَّ ركع وسجد لله شكرًا على هذا الرزق الذي أرسله إليه. إن أبي فلاح فقير بلا أرض، يتاجر في زبل الحمام وروث البهائم والكُسْب، وحين يشتد به الفقر يعمل مزارعًا بالأجرة. وقد طلق أبي أمي؛ لأنها أنجبت له أربع بنات، وكان يريد ولدًا ذكرًا ليساعده في التجارة، ويرعى الحمارة التي يتجول بها في القرى والعزب، وتزوَّج أبي امرأة أخرى أنجبت له ستة عيال، خمس بنات وولدًا، وكل صباح أسمعه يلعن البنات وخَلَف البنات. لكن عم محمود جاءه وقال له: رزق البنات على الله يا حاج مسعود. وأخذ أختي الكبرى خديجة، لتعمل خادمة في الإسكندرية، في بيت موظف كبير متزوج وعنده أولاد، وكل شهر يقبض أبي مرتبها مائة وخمسين جنيهًا في الشهر.

وكف أبي عن ركوب الحمارة والتجارة، وأرسل أختي الثانية «فاطمة» لتعمل خادمة في شقة مفروشة في الزمالك يملكها رجل سعودي ثري، وكل شهر يقبض أبي مائتي ريال سعودي، وخلع أبي جلبابه الفلاحي وارتدى الجبة والقفطان، وسافر إلى الحج وعاد يرتدي عمامة بيضاء بدل الطاقية، وأصبحت الناس تناديه الحاج مسعود.

وجاء الدور عليَّ، فأنا البنت الثالثة، وجاء عم محمود وقال لأبي: إن ابنته فتحية (وهذا هو اسمي) مسعودة لأن الله أرسل إليها زوجًا، وسوف تصبح زوجة وليست خادمة بالأجرة، ومهرها أربعة آلاف ريال.

وأطلقت زوجة أبي الزغاريد، واشترت لي ثوب زفاف أبيض، فرحت به كما تفرح طفلة في العاشرة بثوب جديد. وحين رأيت الرجل الذي أصبح زوجي أصابني الفزع، إنه عجوز أكبر من أبي، يمشي على عكاز، وقد فقد ساقه اليمنى في حادث، وله ثلاث زوجات في السعودية وأربعة وعشرون ولدًا وبنتًا.

وقال لي أبي: الرجل لا يعيبه إلا جيبه، وقد أحلَّ الله للرجل أربع زوجات، وليس في القرآن نص يحدد فارق السن بين الزوج والزوجة، وقد تزوَّج الرسول محمد وهو في الستين من العمر من السيدة عائشة وهي في الثامنة من العمر، أي كانت تصغرني بعامين اثنين.

وتمكن عم محمود من استخراج شهادة ميلاد لي يثبت أن عمري ستة عشر عامًا (وليس عشر سنوات كما كانت) وجواز سفر لي، وأعطى والدي أربعة آلاف ريال، وسافرت مع زوجي إلى مكة المكرمة.

عشت خمس سنوات أشبه بالجحيم، كان يضربني ضربًا مبرحًا في الفراش حتى أبكي وأصرخ من شدة الألم. لم أكن أعرف لماذا يضربني ثُمَّ يغتصبني، ثُمَّ عرفت من زوجاته السابقات أنه مريض نفسيًّا، ولا شيء يوقظ شهوته الميتة إلا صراخ طفلة تعذبها آلام الضرب. وكان معنا في البيت الكبير خادمة مصرية، وكنت أحسدها إذ لم تكن تتعرض للضرب مثلي، كانت تقبض كل شهر خمسمائة ريال سعودي، وكانت تسافر إلى أهلها طوال السنين الخمس. وأنجبت الولد والبنت وأصبحت أسيرة أمومتي، ولا أعرف كيف أنقذ نفسي. لكن حياتي كانت تزداد سوءًا، وقسوته عليَّ تزداد، وزوجاته الثلاثة يضربن طفلي بلا سبب، وهددت واحدة منهن بقتل ابني حتى لا يشارك أولادهن الميراث. وطلبت الطلاق من زوجي لأعود إلى مصر، لكنه رفض أن يطلقني. لقد استمر في تعذيبي وضربي واغتصابي، ولم يكن يستطيع أن يفعل ذلك مع زوجاته الثلاثة الأخريات. لم يكن أمامي إلا الهروب والعودة إلى مصر. ساعدني بعض أهل الخير من المصريين في مكة، ووضعت اسم ابني وابنتي في جواز سفري.

لكن لم أعرف أنني سأعيش جحيمًا آخر في بلدي وفي بيت أبي. كان أبي قد باع أختي الصغرى «حمدية» لزوج عجوز من الكويت. دخل بها في مصر، ثُمَّ سافر وتركها حاملًا، ولم تعرف أهي متزوجة أم مطلقة، ووضعت طفلها الشرعي الذي حمل اسم أبيه الكويتي الغائب والمجهول العنوان.

وبدأت أختي «حمدية» تواسيني، وأنا أواسيها، وجاءت أختي خديجة الخادمة بالإسكندرية، وعرفنا أنها أصبحت أمًّا لطفل في الثالثة من عمره بلا زواج، بعد أن اعتدى عليها رب الأسرة الأولى. وولدت طفلها، واستخرجت له شهادة ميلاد، وحصل على الجنسية المصرية. ثُمَّ اشتغلت في بيت آخر بالإسكندرية، وتعيش مع طفلها في غرفة منفردة، وتقبض كل شهر مائة وثمانين جنيهًا.

واكتشفت أن أختي خديجة الخادمة، أحسن حالًا مني ومن أختي حمدية، وطفلها المولود سِفاحًا (بلا أب) يتمتع بالجنسية المصرية. أمَّا نحن، فأطفالنا شرعيون، لكنهم أجانب، وليس لهم حق الحصول على الجنسية المصرية.

وبدأت أنا وأختي حمدية ندوخ على المكاتب لنحصل على إقامة لأطفالنا على أرض مصر، ولا نعرف ماذا نفعل في المستقبل، وهل تطرد الشرطة أطفالنا خارج مصر؟ لا نعرف شيئًا عن القوانين. ننتقل من يد سمسار إلى يد سمسار آخر، ندفع رشوة لهذا الموظف، ثُمَّ يتضح لنا أنه ليس له علاقة بموضوع إقامة الأطفال الأجانب.

ثُمَّ جاءت أختي فاطمة إلينا في زيارة، وعرفنا أنها أسعد حالًا مِنَّا جميعًا، فهي تعمل في ثلاث شقق مفروشة، تنتقل من شقة إلى شقة، وتكسب مالًا كثيرًا، وعندها دراية كبيرة بمنع الحمل، ولم تحمل ولم تنجب، وادخرت في ست سنوات مائة ألف دينار، وتستعد للزواج من شاب يبادلها الحب، اسمه محمد، من أسرة طيبة، وأبوه أيضًا يحمل لقب دكتور، وهي تمطر أبي بالقبلات؛ لأنه فتح لها طريق الخير والسعادة، وتصلي كل يوم لله شكرًا على الرزق الذي أرسله إليها بغير حساب.

أمَّا أنا فلا أعرف شيئًا عن مستقبلي أو مستقبل طفلَيَّ، وليس معي أي مال، فقد قبض أبي مهري، وحين أطلب منه نقودًا يدَّعي أنه لا يملك شيئًا، وأن أختي فاطمة تساعده بثلاثين جنيهًا فقط كل شهر رغم مكاسبها الكبيرة.

وعشت الهوان والفقر في بيت أبي، لا أملك مالًا ولا مستقبلًا، مثل أختي فاطمة التي كسبت مالًا كثيرًا عن طريق البغاء، ولا يملك طفلاي الجنسية المصرية ولا حق الإقامة في بلدي؛ لأنهما أجانب (من أب سعودي)، ولا أعرف شيئًا عن مستقبلهما.

فكرت في قتل طفلَيَّ ثُمَّ الانتحار، لكن أمومتي منعتني من قتلهما، وقلت لنفسي: لماذا أقتلهما وهما بريئان بلا ذنب؟!

إن المذنب هو أبي، وهو الذي يستحق القتل. لماذا لا أقتله ليموت عبرةً لغيره؟! ولأدخل السجن وليحكموا عليَّ بالإعدام، ولأموت ثُمَّ أذهب إلى الآخرة، وأقابل الله وأحكي له كلَّ شيء، ولا بُدَّ أن الله سوف يكون معي؛ لأن الله عادل. وسوف أترك طفلَيَّ في رعايتكم؛ لأنكم تدافعون عن حقوق النساء المقهورات، وأنا قد قُهِرت وانْسحقت كزوجة وأم مصرية بلا حقوق. إنهم يحتفلون بعيد الأم، ويتشدقون بكلام كثير عن تمجيد الأمهات، لكن الحقيقة أننا نحن الأمهات بلا حقوق، نُطلَّق ونُطرَد من بيت الزوجية في أيِّ وقت بلا إرادتنا، وأطفالنا لا يحصلون على الجنسية المصرية إلا إذا كان الأب مصريًّا أو مجهولًا.

أنا لا يهمني الموت، ومستعدة أن أموت، لكن هل موتي يحل مشكلة طفلَيَّ؟! عرضت عليَّ أختي فاطمة أن أعمل معها في الشقق المفروشة، وأبيع جسدي لأثرياء البترول من السعودية والكويت. لكن أليس هناك حل آخر يحفظ إنسانيتي وكرامتي؟ ثُمَّ إذا جمعت مالًا كثيرًا، هل يفيد هذا المال في أن يحصل طفلاي على الجنسية المصرية؟ ثُمَّ أنا الآن متزوجة، ولست امرأة حرة؛ لأن زوجي السعودي لم يطلقني، وقد يأتي في أي وقت ليردني إليه رغم إرادتي، وأعيش في بيت أبي مهددة، ولا أعرف ماذا أفعل؟ وليس لي مكان أذهب إليه.

•••

هذه قصة فتحية كما حكتها بنفسها، وهي تعبر عن مأساة أكثر من مائة ألف امرأة مصرية، يعانين من هذه المشكلة ذاتها (مجلة روز اليوسف، الصادرة بالقاهرة، ٣٠ أكتوبر ١٩٨٩).

إن الفقر الناتج عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها معظم البلاد في أفريقيا، ومنها مصر، قد أصاب النساء أكثر مما أصاب الرجال؛ فالرجل تحميه القوانين إلى حدٍّ ما، أمَّا المرأة فإن القوانين لا تحميها، بل تُعرِّضها للعذاب والتشرد. لا يزال قانون الأحوال الشخصية في مصر يُعطي الزوج الحق المطلق في تطليق زوجته في أي وقت يشاء ويتزوَّج عليها أربع زوجات، ولا يزال القانون المصري يحرم الأم المصرية من إعطاء جنسيتها المصرية لطفلها. إن أطفال الأم الأجنبية يحظون بالجنسية المصرية؛ لأن أباهم مصري، أمَّا الأم المصرية فهي محرومة من هذا الحق إذا تزوجت رجلًا ليس مصريًّا. وليس في القانون المصري أيضًا أي بنود تعاقب الآباء أو الأزواج الذين يسيئون استخدام السلطة المطلقة الممنوحة لهم في الشرع.

إن بعض المسلمين المستنيرين يرون أنه لا بد من تغيير هذه القوانين لتكون عادلة، وتعطي المرأة والأم بعض حقوقها المسلوبة، لكن هؤلاء المستنيرين أقلية للأسف الشديد، والأغلبية من الرجال (والنساء) يرون أن «الله» جعل الرجل مسيطرًا على المرأة، وأن أي إصلاح للقوانين الحالية إنما هو عصيان لقانون الله. وقد تزايدت هذه النغمة بعد تصاعد التيارات الدينية السلفية المتطرفة، التي تطالب بعودة المرأة إلى الحجاب والبيت، لتكون خادمة للزوج والأطفال فحسب، وليس لها دور آخر سوى ذلك.

إنها معركة طويلة شاقة، تناضل فيها النساء في بلادنا الأفريقية، فإن هذه الحركات السلفية الدينية أصبحت تنتشر في كافة البلاد في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا. إنها حركة سياسية بالدرجة الأولى، لكنها تعمل تحت غطاء الأديان كلها (الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها).

والنساء أول ضحاياها؛ لأن النساء حتى اليوم بلا قوة سياسية تستطيع أن تقف في وجه هذه القوى السياسية الصاعدة، والتي تساندها الحكومات والأحزاب بدرجات متفاوتة، لأغراض ومصالح متباينة.

القاهرة، مارس ١٩٩٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤