حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي

منذ العام الماضي بدأت تحملق في الليل بلا نوم، وإن نامت رأت الطوفان يغرق الأرض، وسيدنا نوح يركب السفينة ويمضي بدونها، ترى نفسها في الآخرة، ماشية فوق الصراط من تحتها النار، قدماها داميتان، جسمها يتأرجح قبل أن يسقط، تفتح عينيها فتجد نفسها راقدة فوق سريرها ملفوفة بالبطاطين، غارقة في عرقها، تقرأ الفاتحة، تحمد الله أنها لم تمُت بعد وأمامها فرصة للتوبة، تنهض إلى الحمام، تغتسل خمس مرات، ثُمَّ ترتدي الثوب الواسع الطويل، حول رأسها تلف القماش السميك، تقف أمام الله لتصلي، لا شيء يظهر منها إلا ثقبَين صغيرَين موضع العينين في القماش الأسود. بعد الصلاة تجلس في حجرها كتاب الله، تقرأ وتستغفر الله على ذنبها الكبير، ليس في حياتها إلا هذا الذنب، منذ وُلدت وهي تنام على صوت أبيها يرتل القرآن. منذ الطفولة لم يرَ وجهها رجل غريب. طوال سنين الدراسة لم تكلِّم أحدًا، وبعد التخرج اشتغلت في مكتب ليس فيه أحد، مخزن بالدور السفلي في متحف صغير مهجور لا يزوره أحد، تجلس إلى مكتبها وأمامها الدفتر، تسجل عدد المومياء التي تأتي للتخزين أو المخزونة من قبل، تنفض عنها التراب بفوطة صفراء، ثُمَّ تعدها وتسجل الرقم في الدفتر، تغلق الدفتر وتضعه في الدرج، ثُمَّ تفتح كتاب الله وتقرأ حتى يحين موعد الانصراف. تحمل حقيبتها وتعود إلى بيتها ماشية على قدميها. مسافة ساعة ونصف، تقطعها بخطوة متزنة محكومة، ولا شيء في جسمها يهتز من تحت الثوب الواسع السميك.

رأسها الملفوف بالقماش الأسود مطرق إلى الأرض، في الحرِّ والبرد تمشي المسافة مرتين في الذهاب والعودة، لا تركب الأوتوبيس حتى لا يحتك بها أحد من الخلف، ولا تركب «تاكسي» وحدها مع سائق غريب. وفي البيت تغتسل من تراب الطريق، وتتوضأ وتصلي قبل أن تأكل، وبعد الأكل تنام وتحت وسادتها كتاب الله. تصحو على صوت أبيها يناديها لتعد له الطعام. بعد أن يأكل، يصلي ويدعو الله أن يحمي ابنته من الشيطان، لولا المائة والأربعين جنيه كل شهر ما جعلها تخرج من البيت، وهو رجل عجوز بلا مورد، وهي بلا زوج يعولها. لم يتقدم إليها إلا ابن أخته العاطل بلا دخل، لو أرسل الله إليها زوجًا ميسور الحال لما خرجت من البيت.

في غرفتها كانت هي أيضًا تركع وتصلي. لم تكن تطلب من الله أن يرسل لها زوجًا، أي زوج. فكرة الزواج طردتها من رأسها منذ الطفولة، ماتت أمها تنزف بعد أن ضربها زوجها قبل النوم. الموت مكتوب، لكنها تريد الموت بطريقة أخرى غير الضرب، ليس في حياتها رجل، أي رجل. ولا تعرف شيئًا عن ذلك الجنس الآخر. وإذا ما وصلها من عند الجيران صوت موسيقى أو غناء سدت أذنيها بأصابعها، وأحكمت إغلاق النوافذ والأبواب.

ثُمَّ جاء ذلك اليوم في أبريل الماضي، كانت جالسة إلى مكتبها كعادتها، انتهت من عدِّ الموميات والتماثيل المخزونة، اكتشفت وجود تمثال لم يكن موجودًا بالأمس. راجعت الدفتر والأرقام، ثُمَّ أغلقت الدفتر ووضعته في الدرج، فتحت كتاب الله، وبدأت تقرأ بلا صوت ورأسها مطرق. بينما هي تقرأ، تحركت عيناها من خلال الثقبين الصغيرين في القماش الأسود، ودارتا حول الموميات والتماثيل، ثُمَّ استقرتا على وجه ذلك التمثال. تقاطيع وجهه منحوتة بشكل عجيب، وأعجب ما فيها عيناه، تنظران نحوها بحركة في «النني» لم ترها من قبل في أيِّ تمثال آخر. استغفرت، واستغاثت بالله من الشيطان، وأطرقت برأسها مرة أخرى لتواصل القراءة. لكن عينيها كانتا تتحركان بغير إرادة لتنظر إلى التمثال، كان صغيرًا، أصغر من التماثيل الأخرى، والتراب يغطيه، كأنما أُهمل في المخازن سنين. مسحت عنه التراب، ووضعته قرب النافذة، وعادت تقرأ في كتاب الله. لكن عينيها تحركتا من خلال الثقبين الصغيرين مشدودتين نحو وجهه، عيناه فيهما الحركة الغريبة، مسحوبتان إلى أعلى قليلًا كعيون قدماء المصريين. أمسكته في يدها داخل القفاز الأسود، وراحت تبحث عن علامة أو حروف تكشف عن اسمه أو العصر الذي عاش فيه. لم يكن هناك شيء. عادت إلى مقعدها وراء الكتب، واستقرت عيناها فوق السطور في كتاب الله. لكن سؤالًا بدأ يدور في رأسها:

ألم يرَ أحد من قبلها هذه الحركة في عينيه؟

لم يكن معها في المتحف إلا موظفة عجوز تقوم بأعمال الإدارة، تهبط إليها من حين إلى حين تفتش وتراجع الدفتر، تمر بعينيها على التماثيل واحدًا واحدًا، وقد تتوقف عند تمثال يلفت نظرها … مرت عيناها ذلك اليوم من فوق التمثال الصغير دون أن يلفت نظرها شيء. وتحيرت، ولماذا لم ترَ المديرة في عينيه الحركة التي هي رأتها؟ وأصبح السؤال يشغلها كل يوم، منذ أن تدخل مكتبها وتجلس … تتحرك عيناها وحدهما لتستقران على وجه التمثال، الحركة في عينيه ما تزال، وقد أصبحت الآن حركة خاصة بها وحدها، لا ينظر بهاتين العينين إلا لها، وهي منذ رأتها للمرة الأولى لا تكف عن النظر إليها، وإذا حركت رأسها بعيدًا أو خرجت من المكتب، ظلت عيناه أمامها تطلان عليها بهذه النظرة، كأنه يعيش هذه اللحظة وليس منذ سبعة آلاف عام. ليس في نظرته غطرسة الفراعنة الآلهة، وليس فيها خضوع العبيد من الشعب. ماذا فيها؟ لم تعرف. وفي كلِّ يوم تستولي عليها رغبة المعرفة، تزيد يومًا عن يوم كالرغبة الآثمة، وأصبحت كلما جلست إلى كتبها تتلفت حولها تخشى أن تهبط المديرة فتضبطها وهي تنظر في عينيه. أكثر ما كانت تخشاه أن يصدر أمر ينقله إلى مخزن آخر. وأصبحت حين ترقد في السرير لا تنام. ماذا يحدث لو ذهبت في الصباح إلى مكتبها فلم تجده؟ كانت منذ وجدته تسير إلى مكتبها بخطوة أسرع، وما إن تفتح الباب وتدخل، حتى تتحرك عيناها من خلال الثقبين، تبحثان عن وجهه بين وجوه التماثيل الأخرى … وما إن ترى الحركة في عينيه، حتى تنفرج شفتاها المطبقتان عن تنهيدة خافتة من تحت القماش الأسود.

ودخلت ذات يوم إلى مكتبها فلم تجده، بحثت في كل المخزن، لم يكن هناك، في كل ركن، بين أرجل التماثيل الكبيرة فوق الأرض، حيث ترقد مئات التماثيل الصغيرة، لم يكن هناك.

وعادت إلى مكتبها تجلس. لم تستطع أن تدوِّن شيئًا في الدفتر، ولم تستطع أن تقرأ سطرًا في كتاب الله، رأسها مطرق وقلبها ثقيل. أين ذهب؟ مكانه بالقرب من النافذة خالٍ، والكون كله أصبح خاليًا، ولا شيء في حياتها، لا شيء. يدها من تحت القفاز الأسود باردة، وفي عروقها يكف الدم عن الحركة، ومن حولها لا ترى إلا الموت على شكل تماثيل من الحجر، وهي أيضًا تموت هذه اللحظة جالسة إلى مكتبها.

ثُمَّ رفعت عينيها بحركة مندفعة كاندفاعة الهواء في الصدر قبل النفس الأخير، ورأته واقفًا في مكانه مختفيًا وراء ضلفة النافذة. ولم يكن للمديرة لو هبطت في تلك اللحظة أن تعرف ماذا حدث، مظهرها من الخارج كما كان، جالسة في مقعدها خلف المكتب وأمامها الدفتر، راسها مطرق ولا شيء فيها يتحرك إلا «النني» الأسود من خلال الثقبين، واندفاعة الدم الساخن في عروقها تحت الجلد.

قبل أن تنصرف ذلك اليوم، أخفته في حقيبتها معها إلى البيت، وفي الصباح أعادته إلى مكانه. لم تلحظ المديرة غيابه وعودته، وفي البيت لم يلحظ أبوها وجوده داخل الدولاب. وفي الليل بعد أن ينام أبوها تخرجه من الدولاب وتضعه أمامها، لا تكف عن النظر إلى وجهه، تنام عيناها في عينيه، في الحلم تراه واقفًا والطوفان يغرق الأرض، واقف أمامها من لحم ودم، وسيدنا نوح يركب السفينة ويمضي بدونه، أيكون ابن سيدنا نوح الذي لم يركب السفينة وغرق؟ أيكون عاصيًا من أتباع الشيطان وليس مؤمنًا من أتباع الله!

وأهم من هذا كله، هل يمكن أن يعود حيًّا بعد أن مات منذ سبعة آلاف عام؟

في الصباح تفتح عينيها والسؤال يدور في رأسها، تمشي في الطريق إلى مكتبها مطرقة الرأس، تخشى أن ترفع عينيها فتراه أمامها بلحمه ودمه كما رأته في الحلم، ومن الثقبين الصغيرين في القماش الأسود بدأت عيناها تتحركان، ترتفعان ببطء وحذر، تختلس النظر إلى وجوه الناس. هل يمكن أن يكون بين البشر وجه يُشبهه؟ أو عينان فيهما هذه النظرة؟

مضى شهران وهي لا تكف عن التفكير، عيناها لا تكفان عن اختلاس النظر إلى وجوه الناس في ذهابها إلى المكتب وفي عودتها إلى البيت. ستون يومًا مضت وهي لا ترى بين الوجوه وجهًا يشبهه، لا ترى بين العيون عينين لهما نظرته.

نامت الليل مؤرقة، وفي النوم يعاودها الحلم، ترى الأرض تغرق في بحر من الطوفان، وهي واقفة في مدخل المدينة. فجأةً تراه أمامها، هذه المرة لا يلحظ وجودها، ويسير بخطوات هادئة إلى الأمام، ثُمَّ يستدير وينظر إليها. في عينيه النظرة هي هي لم تتغير، المياه تغرقه من كل جانب، يظل ينظر إليها، آخر ما يختفي فيه عيناه.

في الصباح فتحت عينيها، هدير المياه ما زال في أذنيها، أصوات استغاثة تعلو عليها أصوات أمواج. في اللحظة بين اليقظة والنوم يبدو لها الحلم حقيقة، وأنها شهدت بعينها دمار مدينتها منذ سبعة آلاف عام، وأنه غرق ضمن من أغرقهم الله في الطوفان. ظلت راقدة في السرير، تأخرت عن موعدها في المكتب، ثُمَّ نهضت بجسم ثقيل. في المرآة رأت عينيها حمراوتين فيهما دموع، بطرف إصبعها أدركت أنها دموع حقيقية، وعرفت أنها تبكي على موته غريقًا، وأكثر ما كان يبكيها أنه لم يكن من أتباع الله.

أدركت عن يقين أنه من أتباع الشيطان، ومع ذلك ظلت الدموع تنهمر من عينيها وهي واقفة أمام المرآة، بدا لها أنه مات هذه اللحظة فقط، ولم يمت منذ سبعة آلاف عام.

في طريقها إلى المكتب ذلك الصباح، عند تقاطع الشارع، رفعت عينيها نحو إشارة المرور، فجأة رأته يسير بين الناس ويجتاز الشارع. تعرَّفت عليه على الفور، الوجه هو الوجه، التقاطيع المصرية القديمة، والعينان هما العينان فيهما الحركة والنظرة، واندفع جسمها بغير إرادتها نحوه، كادت تمسكه من يده، لكنها تراجعت في آخر لحظة، وانفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش الأسود قائلةً: أنت؟!

كان الشارع مزدحمًا، والكل يجري في طريقه دون توقف، لكن الناس توقفوا وقد أذهلهم المشهد، رأوها تندفع نحوه، وهو يندفع بعيدًا عنها. هي فتاة، وهو فتى يسير في الشارع، لم يكن مألوفًا أن تندفع الفتاة نحو شاب لا تعرفه بهذا الشكل، وهي ليست أي فتاة، إن شيئًا لا يظهر من كيانها إلا الثقبين الصغيرين في قماش أسود، وهي تندفع نحوه، وهو يبتعد عنها بخطوات سريعة. بدا لهم المشهد غريبًا ومضحكًا في آنٍ واحد.

في أذنيها دوَّت ضحكاتهم، فانكمشت على نفسها تحت القماش السميك، ظلت منكمشة طول النهار، وهي جالسة في مكتبها أمامها الدفتر، رأسها مطرق، عيناها تتحركان وحدهما ناحية النافذة حيث يقف في مكانه … وجهه هو وجهه، عيناه فيهما الحركة، النظرة الإنسانية أكثر إنسانية من عيون الناس في الطريق، مع أنه مات منذ سبعة آلاف عام، غرقًا مع من غرقوا في الطوفان، وقد بكت على موته. وكل إنسان يموت، لكن التمثال الحجري يعيش سبعة آلاف عام، فهل الحجر أبقى من البشر؟

في رأسها يدور السؤال بغير جواب، أصبح لها صديقًا من الحجر، تحس وجوده أكثر من وجود أي إنسان آخر له جسد. فلتت الكلمة من بين شفتيها المطبقتين بلا صوت «جسد»، الكلمة في حدِّ ذاتها تبعث في جسدها رعشة، لا تعرف تمامًا أين تكون الرعشة. عيناها من خلال الثقبين من تحت القماش السميك تختلسان النظر إلى جسدها، في صدرها قلب ينبض، وفي رأسها عروق، يصعد الدم إليها كهواء ساخن، عقلها يدرك أن صديقها ليس إلا تمثالًا من الحجر، لكنها ترى في عينيه نظرة متحركة توشك على النطق.

هل يمكن أن ينطق؟ وبأيِّ لغة؟ العربية أم الهيروغليفية؟ أهو خيال أم حقيقة؟ وإن كان خيالًا، فمن أين يأتي الخيال؟ هل يختلط الخيال في عروقها بالدم؟ في رأسها يدور السؤال مع دورة الدم، كدوامة في بحر المياه تغرقها كالطوفان، هو واقف أمامها ينظر إليها، عيناه فيهما النظرة الإنسانية، في أعماقها تدرك عن يقين أنه أكثر إنسانية من كل الناس في الكون، لا يمكن أبدًا أن يكون شريرًا، يمكن لها أن تقسم وهي في كامل الوعي والإدراك أنه من أتباع الله وليس من أتباع الشيطان.

كانت لا تزال في كامل الوعي والإدراك، لا يمكن لأحد إذا رآها أن يُساوره الشك في كونها في كامل الوعي والإدراك. يراها أبوها كما يراها كل يوم بكامل وقارها وملابسها، تخرج إلى مكتبها وتعود في الموعد. وتراها مديرة المتحف جالسة بكامل الوعي والإدراك وأمامها الدفتر، فإذا ما انتهت من الدفتر، لم يصبح أمامها إلا كتاب الله. وفي الطريق تمشي بخطوتها المتزنة المحكومة، ورأسها مطرق بكامل الوعي والإدراك.

إلا أنها وهي سائرة ذات يوم، رفعت عينيها من خلال الثقبين فرأته يخرج من باب أحد البيوت، ويجتاز الشارع بخطوات هادئة، رغم صراخ الأبواق، رأته هو بعينه، لا يمكن لها أن تخطئه بعد كل هذه الأيام.

تسمَّرت قدماها في الأرض، وارتفعت يدها داخل القفاز الأسود فوق قلبها، كان واقفًا وسط الشارع ومن حوله السيارات كالطوفان. تصورت أنه سيسقط ويغرق بين العجلات، لكنه لم يسقط، ظل يسير بخطواته الهادئة متجهًا إلى شارع النيل، واندفع جسمها يتبعه، كانت تدرك أنه خيال وليس حقيقة، لكنها تراه بعينَيْها، ولم يَعُد يهمها ما دامت تراه بعينيها أن يكون خيالًا أو حقيقةً. قدماها تسيران وراءه، في أذنيها تسمع وقع حذائه على الأرض، يسبقها بخطوات قليلة، يمكن لها إذا نادته أن يسمعها، لم تعرف بماذا تناديه، لم يكن له اسم، وانفرجت شفتاها المطبقتَين من تحت القماش السميك عن صوت: يا أنت. رأته يستدير إليها، يواجهها وجهًا لوجه، أدركت أنه هو، وعيناه هما عيناه، ونظرته هي نظرته، وسمعته يقول: مَن أنتِ؟! أخرستها المفاجأة، فتسمرت في الأرض. كان يتكلم بلغة عربية، وليس هيروغليفية، وكانت تظن أنه يعرفها كما عرفته. كيف تعرفه كل هذه الأيام وهو يسألها من أنتِ؟! ظلت واقفة بلا حراك، تنظر إليه، ثُمَّ أطرقت إلى الأرض، أطرقت طويلًا وهي تنكمش داخل نفسها من الخزي.

أبعد كل هذا يسألها مَن هي؟ عقلها لا يصدق، ورفعت عينيها مرة أخرى لتتأكد، لكنه كان قد استدار ومشى في طريقه، ثُمَّ اختفى بين الناس.

في اليوم التالي وهي في الطريق إلى مكتبها، ظل رأسها كما كان مطرقًا، لكن عينيها تدوران كالنحلتين داخل الثقبين، تتفرسان وجوه الناس. عقلها الواعي يقول لها إنه لا يعيش اليوم بين الناس، وإنه عاش منذ سبعة آلاف عام. لكن عينيها لا تكفان عن البحث، تدرك بعقلها الواعي أنه موجود، فقد رأته، وما دام هو موجودًا، فيمكن أن تراه مرة أخرى. واستولت عليها الرغبة في أن تراه بأيِّ شكل، ولكن مصنوعًا من لحم ودم، أو ليكن روحًا بغير جسم، المهم أن تراه. وما الفرق أن يكون روحًا أو جسمًا، ما دامت قادرة على رؤيته؟

وفي المكان نفسه حيث لقيته بالأمس انتظرت، وحين ظهر في الشارع اندفعت بجسمها نحوه وهي في كامل الوعي والإدراك. كان هو بوجهه وعينيه ونظرته الإنسانية، لم يتغير فيه شيء، إلا أن شاربًا أسود نما فوق شفته العليا. انفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش السميك عن كلمة بلا صوت: «ذكر؟» الكلمة في حد ذاتها غير قابلة للنطق. لم تنطقها في حياتها من قبل، كانت تظن أنه إنسان، مجرد إنسان بلا جنس، لكن هذا الشارب يؤكد أنه … وظلت قدماها مسمرتين في الأرض، ويدها داخل القفاز الأسود ارتفعت وحدها وأخفت الثقبين الصغيرين في القماش السميك

حين رفعت يدها عن عينَيْها كان الشارع لا زال مزدحمًا بالناس، وهو لم يعد واقفًا أمامها، هي لا تزال واقفة بكامل الوعي والوقار، وتحت إبطها حقيبتها الجلدية، ترقد في التجويف بين الذراع والصدر، يلامس طرفها من خلال القماش السميك طرف الثدي الأيسر، تحس التلامس كمس من الكهرباء، عقلها يدرك عن وعي أنها ليست إلا حقيبة من الجلد، وليس بداخلها إلا كيس النقود وتمثال صغير من الحجر، ولكن التلامس ظل يسري من ثديها الأيسر إلى صدرها كتيار الكهرباء.

عادت إلى بيتها ذلك اليوم بغير الحقيبة، ألقت بها كما هي دون أن تفتحها في خرابة كبيرة، لم تأخذ منها شيئًا، حتى كيس النقود تركته، تصورت أنها لو فتحته فسوف تراه، أصبحت راقدة في سريرها، كانت تدرك بعقلها الواعي أن الحقيبة لم تَعُد معها، وأنه من المفروض أن يغادرها الخوف.

لكن الخوف لم يغادرها حتى الصباح، وفي اليوم التالي ظل الخوف يُلازمها في الشارع والمكتب وفي البيت وفي كل مكان. كان يلازمها كانتفاضات الحمى … وسمعها أبوها ذات ليلة تئن أنينًا خافتًا، وفوق جسدها رعدة كرعدة الملاريا. أخذها أبوها إلى طبيب الحميات، تناولت الدواء ثلاثين يومًا، وظلت الحمى كما كانت. وفي الليل سمعها أبوها تكلم أحدًا وهي راكعة تصلي. تصور أنها تخاطب الله وتطلب منه المغفرة، لكن صوتها كان يعلو والكلمات أصبحت واضحة. لم تكن تناجي الله، كانت تلعن الشيطان بكلمات غريبة لا يمكن أن تخرج من بين شفتي طاهرة، وأدرك أنها اقترفت ذنبًا تخفيه في طيات نفسها لا تبوح به. وأخذها إلى رجل طاهر يتوب الناس بين يديه عن ذنوبهم. بعد التوبة ظلت معها الحمى، وفشلت الأقراص التي كتبها طبيب الحميات مرة أخرى. وحين زارتها مديرة المتحف قالت إنها ليست الملاريا، ولكنها حالة نفسية. هكذا جاءت إليَّ.

القاهرة، مايو ١٩٨٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤