ماجي تفقد السُّلطة

أراها تجمع أوراقها والميدالية الذهبية محفور عليها اسمها، تضعها ببطء في حقيبتها الجلدية، تغلقها بصوت خافت، يرن عاليًا في الغرفة الغارقة في الصمت، تنهض من وراء مكتبها الكبير بمبنى الرئاسة في القصر، تمشي بجسم ثقيل وظهرها محني قليلًا، تغلق الباب خلفها بلا صوت. تلمح زوجها جالسًا في البهو الخارجي، واضعًا الساق فوق الساق، لا ينزل ساقه حين يلمحها كما كان يفعل. تفرد ظهرها لتخفي الانحناءة، تشرئب بعنقها إلى أعلى كالزرافة، تشد عضلات وجهها لتنزع ابتسامة، وصوتها خافت شبه متلاشٍ: هيا بنا يا دنيس. يميل جسمها قليلًا مع رأسها، تكاد قدمها تعثر داخل الحذاء ذي الكعب العالي، فيمد ذراعه إليها لتمسك يده. تتردد يدها في الهواء لحظة، كما كانت تتردد وهي طفلة تتعلم المشي، وأمها تمد لها يدها لتمسكها. سارت إلى جواره تتأبط ذراعه، تحرك رأسها بعيدًا عن عينيه، تتفادى النظرة التي كانت تراها في عيني أبيها حين كان وراء الجريدة ينظر إلى أمها، نظرة مليئة بالشفقة والأدب، خالية من الاحترام، لا يتبادل معها الحوار، ولا شيء يجمعهما إلا مائدة الطعام أو السرير في الليل، وأوقات الفراغ يقرأ الجريدة، لا يكاد يرفع عينيه إليها وهي تنحني أمامه بفنجان الشاي، واقفة فوق ساقين نفرت عروقها الزرقاء وقدمَين متورمتَين داخل البانتوفلي الأزرق البالي، وحول بطنها المنتفخ مريلة المطبخ، تفوح منها رائحة الكرنب. وتطرد من رأسها الصورة وتمشي إلى جواره مشدودة العضلات حتى السيارة الصفراء، سيارتهما الخاصة، وليست السيارة السوداء الكبيرة التي يرفرف عليها العلم والتاج، والحرس ذو المعاطف الحمراء والأزرار الذهبية لم يَعُد هناك والأيادي لم ترتفع بالتحية، والموسيقى لم تعزف. وعيناها شاردتان من خلال النافذة، تريان العالم كأنما هو عالم آخر. والكوبري لم يعد هو الكوبري، والضوء لا ينعكس على مياه النهر. وهو جالس إلى جوارها صامت، والصمت ثقيل، يُشبه الصمت في البيت منذ كانت طفلة، وفي عينيه النظرة إياها. ومن تحت الشفقة والأدب لمعة ابتسامة ساخرة أو شامتة، وفي كل هزيمة لها تكاد ترى هذه النظرة ذاتها. كان يريدها منذ تزوجته صورة طبق الأصل من أمه، تطبخ الكرنب بالطريقة نفسها، وفي الساعة الخامسة تقدم له الشاي، وهو جالس الساق فوق الساق يقرأ الجريدة، أو يشهد المباراة فوق الشاشة. وفي الصباح لا مانع من ذهابها إلى مكتبها في الحزب أو الوزارة، وحصولها على شيء من الشهرة أو المال، بشرط أن يظل هو الرئيس في البيت. وإذا احتدم الخلاف حول أي شيء، يسود رأيه بصرف النظر عن أي شيء. لكنها منذ اليوم الأول للزواج حسمت أمرها وقالت: اسمع يا دنيس، لن أكون مثل أمك ولن تكون أنت مثل أبي، ولن تنظر إليَّ يومًا من الأيام تلك النظرة المشفقة الخالية من الاحترام. ووقفت أمامه مشدودة الظهر، مشرئبة العنق، رأسها مرفوع لا ينحني. ولم يطاوعها دنيس طويلًا، فهو يأكل الكرنب في الغداء بطريقة أمه من يد خادم من زنوج الجنوب، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وبابيون معقود حول العنق على شكل الوردة، ينحني بأدب شديد ووجهه الأسود في الأرض. ولم يعد من سبب للصراع في البيت، إلا رأسها المرفوع أكثر من اللازم، وعيناها تثبتان في عينيه أثناء النقاش، ويسود الرأي الصواب بصرف النظر عن الجنس. وحينما اشتد الصمت داخل السيارة، فتح الجريدة في حجره، ورأى صورتها أصغر مما كانت، وبضعة سطور تحت الصورة تقول الآتي:

«مسكينة» ماجي؛ إن الحرمان من حنان أمها في الطفولة هو السبب وراء شخصيتها العدوانية، فلم تكن أمها ترى فيها أي أنوثة، وتنبأت لها بالفشل في حياتها. وماجي لم تكن ترى في أمها أيَّ عقل، وتمنَّت لها الموت. وبعد أن ماتت أمها، أقسمت أن تُكذِّب نبوءتها، وأن تحقق في حياتها نجاحًا لم يحققه أبوها ولا أي رجل في الأسرة أو البلد.

وفي السرير تنام، يحوم شبح أمها حول رأسها، يؤكد لها الفشل، وتصحو كل يوم بإرادة أصلب من الحديد. ويوم فوزها بمقعد الحكم، وبعد كل فوز، تكرر العبارة للشبح الزائر في الليل. وحين أعلنت الحرب في فوكلاند قالت لأمها: أرأيت أنني أصدرت قرارًا يعجز عن إصداره أعتى الرجال؟ وظلت أمها صامتة في الموت كما في الحياة. ومن وراء الجريدة سمعت زوجها يقول، وهو واضع الساق فوق الساق: وماذا أخذت يا ماجي من كل هذا النجاح، إلا حرمان أطفالك من أمومتك وحرماني من …؟ وسكت لحظة، وقال لنفسه: «حرماني من أنوثتك.» ورمق التجاعيد حول فمها المزموم المدهون بقلم الروج، والثدي المتهدل المرفوع بالمشد المطاطي تحت الجاكت الرسمي الأسود، وخصرها الممتلئ باللحم رغم عذابات الريجيم. والتفتت إليه بغضب تقول: أتتكلم الآن يا دنيس مثل أمك وأمي؟ ولم يسكت كما كان يسكت، وقال بصوت مرتفع قليلًا: أتظنين يا ماجي أن حياتك كانت أسعد منهما؟ حتى النساء يا ماجي اتهموك بأنك عدوة تحرير النساء، تحكمين بعقلية الرجال، وتساندين الحكومات العنصرية في جنوب أفريقيا وإسرائيل، وتتبعين رئيس أمريكا مثل ذيله. الناس يقولون إنك مريضة بعقدة «إلكترا» أو عقدة النقص، تسعين للحصول على العنصر الناقص دون جدوى. وقاطعته بحركة قوية من رأسها: أنت تردد ما يقولون؟ وقال الزوج دنيس: تعرفين يا ماجي أنني وقفت إلى جانبك في كل المعارك لأني كنت أحبك … وصاحت بغضب: تقول «كنت»؟ أتعني أنك لم تَعد تحبني يا دنيس؟ ورد الزوج بسرعة: أقسم لك يا ماجي أنني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك وأنت في الحُكم. وهنا قالت ماجي: أنت تحب هزيمتي يا دنيس، ولا تحبني أنا. وكادت عيناها تلمعان، تحت دمعة سرية ابتلعتها قبل أن تظهر، لكنه لمحها بطرف عين، ومدَّ يده فأمسك يدها، وقال: لم يبقَ لنا في العمر كثيرًا يا ماجي، فلماذا لا نعيش؟ … انظري يا حبيبتي إلى أشعة الشمس المنعكسة على السحب. وحرَّكت ماجي رأسها ناحية الأفق، وكانت السيارة قد وصلت البيت.

وهي واقفة إلى جوار زوجها في الشرفة، تنهدت وهي تتأمل ألوان السماء لحظة الغروب، خرج من صدرها زفير طويل من تحت المشد المطاطي، وعينان غارقتان في ألوان الطيف. منذ الطفولة لم ترَ هذه الألوان في السماء، وقالت لزوجها: الطبيعة جميلة كما كانت، لكن الناس تغيرت منذ تركت الحُكم، أتظن يا دنيس أنني خالفت الطبيعة حين دخلت الحزب واشتغلت بالسياسة؟! وأخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة، تأملت وجهها: عيناها مرهقتان قليلًا، شفتاها باهتتان. أخرجت إصبع الروج، ومرت به فوق شفتيها بسرعة، وقالت لزوجها: هل السياسة تُفقِد المرأة أنوثتها يا دنيس؟ وقال الزوج ناظرًا إلى الأفق: وتفقد الرجل رجولته يا ماجي، فالسياسة لعبة قذرة، وصراع لا ينتهي على السلطة، تُفقد الإنسان إنسانيته. واستدارت نحوه بكل جسمها نظرت إليه بكل عينيها الواسعتين، وقالت: وأنت يا دنيس ألا تحب السلطة؟ ألم تحاول السيطرة عليَّ أول الزواج؟ وقال دنيس: حاولت يا ماجي وفشلت، ومن الفشل خلعت الرجولة الكاذبة وتعلمت الإنسانية. وابتسم برقة وهو ينظر في عينيها وقال: لهذا أنا مسرور يا ماجي بهزيمتك، وأرجو أن تكون درسًا. ولم تسمع هذه العبارة، كانت قد أخرجت المرآة مرة أخرى، وتأمَّلت وجهها بسرعة ثُمَّ أدخلتها، وقالت: وماذا عن أنوثتي يا دنيس التي لم تعترف بها أمي؟

واتسعت ابتسامة دنيس وقال: أنت مليئة بالأنوثة يا ماجي، أكثر أنوثة من المرحومة أمك، لكن المشكلة يا حبيبتي ليست الأنوثة أو الرجولة، المشكلة هي الإنسانية، أنت يا ماجي كنت تصدرين القوانين ضد حضانة الأطفال وضد حقوق النساء والزنوج، وترين في الشتاء أجسام الفقراء راقدة في علب الكرتون تحت أعمدة القصر الملكي، وتمرين بسيارتك دون أن يرتعش لك جفن، مع أن جفنك مفتوح مثل الفنجان، ورموشك منتصبة مثل قرون الاستشعار. لكن عينيك الجميلتَين يا حبيبتي لا تريان إلا القصر والحكم والمنصة التي تقفين عليها، وفي يدك الإنجيل، تخطبين بصوت ممطوط عن عدالة المسيح، وأنه صُلب من أجلِ الحق، وتتحدثين عن السلام بعد أن تعلني قرار الحرب في فوكولاند أو الخليج، وتضغطين على الكلمات بشفتيك الجميلتَين الحمراوَين بلون الدم، كأنما أكلت أحدًا ولم تمسحي فمك بعد الأكل، و…

ويأتيها صوته من تحت الوسادة، وهي راقدة إلى جواره في السرير، لا يكف عن الكلام حتى منتصف الليل، كأنما في بطنه مخزون من الكلام المضغوط تحت مشد مطاطي، وتعطيه ظهرها، ووجهها ناحية الحائط تقول له: كيف اختزنت يا دنيس هذه الكراهية لي كل هذه السنين؟

ويقول دنيس وهو يغمض عينيه متظاهرًا بالنوم: كنت أخاف يا ماجي من رئيسة الحكومة. وتغمض عينيها، فترى شبح أمها يحوم حول السرير، تطرده بيدها، وتمد ذراعها إلى زوجها تعانقه في الظلمة، تجهش بلا صوت فوق صدره، وهو يجهش بلا صوت فوق صدرها، أنفاسهما تهمس في يأس وأمل: ربما يا ماجي، ربما يا دنيس، نتخلص معًا من الخوف.

القاهرة، نوفمبر ١٩٩٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤