صديقتان

اللمعة في النني الأسود لا زالت كما كانت منذ ثلاثين عامًا، قوية مقتحمة كضوء النهار، وذراعها ارتفعت بغير إرادتها، عضلات الذراع تتقلص مترددة بين العناق الكامل أو ترك مسافة هواء، أية مسافة وإن كانت ميلليمتر، تمنع تلامس الصدر بالصدر.

صدرها لا زال كما كان منذ ثلاثين عامًا، ومن فوقه الوشم كزهرة البنفسج، والنهدان الصغيران تحت الثوب الأبيض عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة للعطاء بغير مقابل، وقلبها مفتوح كفتاة ساذجة وبراءة طفلة لم يلمسها رجل، ولم تحمل ولم تلد ثلاث مرات، وابنها الأكبر أصبح رجلًا، وابنتها الصغرى لها طفلان.

ثلاثون عامًا مضت دون أن تلتقيا، وإذا لمحتها في مكان وكادت العيون تلتقي، حرَّكَت رأسها إلى الناحية الأخرى لتبتعد العين عن العين. ولم يكن اليوم الواحد يمر دون أن تراها أو ترفع سماعة التليفون لتحكي لها ما حدث في نهارها وليلها. وفي أيام الدراسة لم تكن الساعة الواحدة تمر دون أن تلصق رأسها برأسها وتهمس بآخر خبر، أو فكرة شيطانية، أو مجرد نكتة. وتضحكان بصوت مكتوم حتى ينتفخ صدرهما بالهواء، وتوشكان على الاختناق، فيندفع الهواء المحبوس من الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة، فإذا بالمدرس يتوقف عن حركته الدائبة كالبندول أمام السبورة، وبإصبع نحيل كإصبع الطباشير يطردهما خارج الفصل. وفي الإجازات الصيفية لا يكون الصيف مصيفًا، ولا السفر سفرًا، إلا إذا جاءت معها صديقتها، والبحر والرمل والبيت والمدرسة والشارع والدنيا كلها بغير صديقتها تفقد البهجة، والحياة تبدو مملة بلا فرح، وليس بينها وبينهم كلام ولا حديث، ولا يعرفون عنها شيئًا إلا نتيجة امتحان آخر العام. واستدارة جسمها وهو ينمو، والنهدان يكبران ويكبران، ليصبح صدرها بحجم صدر أمها، ومن تحت صدرها الضخم، لا يعلم أحد منهم أن عضلة صغيرة بحجم قبضة يدها تدق وتدق، إذا وقعت عيناها من خلال ثقوب النافذة على الوجه الطويل، بأنفه الحاد والشارب الكثيف الأسود. ولا يمكن أن يسري اسمه على لسانها، وأمها تتنهد في راحة وأذنها ملتصقة بباب غرفتها المغلق عليها وصديقتها، فلا يمكن أن تلتقط أذنها من ثقب الباب اسم رجل يتردد بينهما، وإنما هي كلها أسماء مؤنثة، وفي نهاية كل اسم يترهف أذنيها حتى الحرف الأخير، فإذا بالتاء المربوطة في نهاية كل اسم تجعل أمين أمينة أو نبيل نبيلة، حتى نهاية الحديث الذي لا نهاية له لآخر النهار، وآخر العام، والعام الأخير في الدراسة والامتحان النهائي، ثُمَّ التخرج. ويوم عقد القران، تنفصل التاء المربوطة فجأة عن الحرف الأخير، ويصبح الاسم مذكَّرًا.

ذراعها لا زالت مرفوعة بغير إرادتها، وعضلات الذراع متقلصة متمردة بين التلامس الكامل أو ترك مسافة بين الصدرين. صدرها كبير ضخم متهدل تحت ثوب الحداد الأسود كصدر أمها الكبير، أرضعتْها منه وإخوتها السبعة، ولم يفرغ ولم ينقص، بل كان يمتلئ أكثر. وكراهيتها لأمها تزداد، ومنذ فطمتها أمها لم يحدث أبدًا أن تلامس صدرها مع صدر أمها في عناق، وإن سافرت ثُمَّ عادت، فلا يزيد العناق عن تلامس اليد باليد أو ترتفع لتحوطها دون التصاق، ولتظل دائمًا مسافة هواء تفصل بينها وبين أمها، وفي الهواء تسبح ذرات بلون التراب. وفي أذنيها يسري الصوت الناعم كصوت أبيها، يزحف فوق عنقه الضخم، ثُمَّ تتسلق لتمسك شاربه الكثيف، تفوح منه رائحة الدخان، ومن خدها يقرصها فتضحك، من شاربه تشده فيقهقه، كاشفًا عن أسنان صفراء بالتبغ، وترفع أمها عينيها وهي تكنس الأرض على امتداد مسافة الهواء، تسبح فيها ذرات الغبار، وفوق عينيها طبقة رمادية ويهمس الأب في أذنها بصوت ناعم: «أمك تغار منك.» وبغشاء أذنيها المخاطي يلتحم الصوت، وتسري الحروف في عروقها كرات من الدم، تتحول في خلايا المخ إلى فكرة ثابتة كقطعة من الرصاص: «أمها تنافسها، وهي والمرأة غريمتان.»

ومات أبوها قبل أمها، فأيقنت أن أمها قتلته، وامتلأت عيناها بنظرة الإدانة لها دون سؤال ودون كلام. حتى النفس الأخير، وهو يخرج من صدر أمها الكبير، وذراعها ترتفع لتحوطها في العناق الأخير دون تلامس، وقبل أن ينسدل الجفن فوق العين إلى الأبد، رفعت إليها أمها عينيها بحدقتين متسعتين، وفي نظرتها المتسعة دون كلام أدركت حقيقتها المكتشفة بعد فوات الأوان، والجفن سقط فوق العين إلى الأبد، وعضلات ذراعها تستميت في الالتفات حول صدر أمها، دون مسافة هواء. لكن المسافة لم تعد هواء، وأصبح لها كثافة الحائط في غرفة أمها تلاشي طلاؤه، وظهرت قطع الطوب الواحد فوق الأخرى، ومن فوقها صورة أبيها، يرتدي فوق رأسه شيئًا كبيرًا بحجم رأس آخر، وفوق كل كتف انتفاخة بحجم كتف آخر. وفي كل عين من عينيه المبتسمتين في رقة وعين أخرى بغير ابتسام وبغير رقة.

ذراعها المرفوعة لا زالت تلتف حولها في محاولة يائسة للعناق، وإلغاء المسافة بين الصدرين، والصدر الآخر منتصب مشدود العضلات، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء. لكن صدرها كبير متهدل ممتلئ بالذنب، ثقيل بثقل الأرض، وثلاثون عامًا عاشتها وهي تكره أمها، والصدر الكبير الذي ورثته عنها، والكراهية امتدت من صدرها إلى كل جسمها، ولم تعد تصدق أن رجلًا يمكن أن يحبها بمثل ما أحبها أبوها. وتزوجت بعد موت أبيها من رجل أخفته في صدرها العام وراء العام. وبعد القران سقطت عنه تاء التأنيث المربوطة، فوق صدره المغطى بالشعر تتكور كالجنين، وتزحف برأسها فوق عنقه لتشد شاربه وتضحك. ولم تسمعه أبدًا يضحك أو حتى يبتسم، وأنجبت منه أربعة أولاد وبنتًا، بغير ابتسام وبغير فرح وبغير لذة، حتى لذة الأكل راحت، ورائحة الصبح راحت، ولم يَعُد في أنفها إلا رائحة التراب وهي تكنس الأرض. ومن فوق الكنبة ابنتها الصغيرة تتأرجح على ركبته، ويصنع من نفسه حمارًا لتركبه، وعبر شعاع الشمس المحمل بذرات الغبار تلتقي عيناها بعيونهما الأربعة، فيتوقف الضحك ويضيع الابتسام، ويطفو فوق العيون الستة لون رمادي.

منذ ليلة الزفاف وهي تكرهه، وابنها الأول كبر، وهي لا تزال تغسل ظهره بالليفة والصابون، والشعر الكثيف ينبت كالعشب فوق صدره، وكلما خرج وعاد تحوطه بذراعها، وصدرها الممتلئ الكبير يحوط صدره. وفي أذنيها يسري صوت أبيه الغليظ: لم يعد طفلًا، وأصبح بغلًا. ويرد الابن بصوت مكتوم: ليس بغلًا إلا أنت.

وتنتصب الشعرات البيض فوق الشفة العليا، كاشفةً عن أسنان متآكلة صفراء بالتبغ، وترتفع الكف الكبيرة في الهواء مترددة بين السقوط على وجه الابن أو وجه أمه. وقبل أن يزحف الشيب إلى الشعر الأسود كانت الكف تسقط على وجه الطفل، لكن الطفل أصبح رجلًا، وارتفعت قامته ضعف قامة أبيه، ولم تَعُد الكف الكبيرة تتردد في السقوط على وجه الأم.

في كل صفعة، كانت يدها ترتفع في الهواء، متقلصة العضلات مترددة بين السقوط على وجهه أو على وجه واحد من أولادها الأربعة أو البنت الصغيرة، وفي مرة لم تكن يدها تسقط إلا على وجه البنت، فهي الأصغر، وهي الأضعف، وهي فوق كل ذلك ليست إلا بنتًا. وفي الليل تنام إلى جواره وكأن شيئًا لم يحدث، ويمتد ذراعه نحوها ليحوطها وكأن شيئًا لم يحدث، وفي الصباح تصنع له الشاي وكأن شيئًا لم يحدث، ويخرج إلى عمله كالعادة ثُمَّ يعود بعد الظهر، وتخرج إلى عملها كالعادة ثُمَّ تعود قبل أن يعود ليجدها قد كنست وغسلت وطبخت.

لا زالت ذراعها تمتد لتحوط الصدرين معًا، وعضلاتها تتقلص عاجزة عن إلغاء مسافة الهواء بين الصدر والصدر، والعين عاجزة عن الثبات في العين، لكن كانت اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية مقتحمة كضوء النهار، كما كانت منذ ثلاثين عامًا. وحول العينين والفم خطوط في الجلد كالتجاعيد، لكن الوجه لا زال مشدودًا كالوتر، والصدر ينبض تحت ذراعها كالقلب، وسخونة كفورة الشباب تسري كالعدوى في الدم من ذراعها إلى كتفها وظهرها، وكل عضلات جسمها تنبض وتنفض عن نفسها العام وراء العام. ثلاثون عامًا تنفضها لتعود كما كانت تلميذة بالفصل، والوجع المزمن في مؤخرة الرأس يخف، وثقل جسمها فوق الأرض يخف، وثقل رأسها فوق عنقها، وثقل عنقها فوق ظهرها، وثقل صدرها فوق قلبها، وكل شيء فيها يصبح أقل وزنًا، حتى النهدان الكبيران الضاغطان على المعدة يصغران، وينهضان من فوق الضلوع بعضلات مشدودة، وقنوات الهواء المسدودة في القلب تتفتح، ويندفع الهواء من أنفها وفمها إلى صدرها كالشهقات المتقطعة. وذراعها لا زالت تمتد أكثر، وعضلاتها تتقلص، في محاولة يائسة لإلغاء المسافة. والفكرة الثابتة في المخ مثل كرة النحاس، وكل شيء في حياتها تغير إلا هذه الفكرة. جسمها تغير، ملامح وجهها ولون عينيها تغيرت، شكل عضلاتها وحركتها فوق الأرض، والأرض أيضًا تغيرت، وخلايا المخ تحت عظام رأسها تغيرت بخلايا أخرى، إلا هذه الفكرة ظلت مثل كرة النحاس بحجم رأس الدبوس، تتحرك قليلًا من مؤخرة الرأس إلى الأمام، أو من اليسار إلى اليمين، أو من اليمين إلى اليسار، لكنها تظل كما هي لا تتغير.

ذراعها لا تزال مرفوعة تحوطها، ومسافة من الهواء لا تزيد عن الملليمتر لا تزال تفصل بين الصدر والصدر، ورأسها يزحف فوق العنق النحيل، والنبض فيه يدق كقلب الأم، ويسري الدم من عنقها إلى ظهرها وعمودها الفقري، ويصعد مرة أخرى إلى رأسها، ليصطدم بكرة النحاس الصدئة، وتمتد أنفها فوق العنق تتشمم رائحة الدخان، وتكاد يدها تمتد لتشد الشارب فوق الشفة العليا، لكن أصابعها تتقلص فوق البشرة الناعمة بغير شعر، ورائحة البنفسج تملأ صدرها بغير دخان، ومن فوق ذراعها الممدودة ترى الحائط بغير طلاء، ومن فوقه وجه أبيها داخل برواز أسود، وخط عميق كالخندق على الجبهة العريضة، ومن تحت الخندق عيناه تحدقان فيها كعيني زوجها، وثلاثون عامًا عاشتها معه في سرير واحد دون أن ترى عينيه، وتمر السنة وراء السنة والليل وراء النهار دون أن تنظر في وجهه، تخرج في الصباح إلى العمل كالعادة بعد أن يخرج وتعود آخر النهار قبل أن يعود، فتكنس كالعادة، وتغسل وتطبخ.

وعلى غير العادة، عادت مرة من عملها قبل موعدها، فوجدته في سريرها وذراعه حول امرأة أخرى. ظهره كان ناحيتها، فلم تر وجهه، وفي مواجهتها صدر المرأة الأخرى، النهدان الصغيران عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة بغير مقابل، ووشم بشكل زهرة البنفسج فوق الصدر والقلب.

عضلات ذراعها لا تزال تتقلص، في محاولة مستميتة لإلغاء الصورة المحفورة في مؤخرة الرأس، والزمن كالسحابة السوداء فوق عصب العين، والألم كالخندق العميق في القلب، وزوجها غاب ثُمَّ مات وعاد. ومن فوقه ملاءة كحجاب المرأة، تغطيه من الرأس إلى القدم، وعيناه فوق الحائط تحدقان فيها بغير ابتسام كعيني أبيها. وعلى الجبهة العريضة خط عميق كالخندق، ولا زالت ذراعها تلتف في محاولة أخيرة للعناق، ومسافة من الهواء لا تزال بين الصدر والصدر، والهواء له كثافة الحائط، وفي الحائط شق عميق كالجرح. لكن اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية مقتحمة كضوء النهار، وفوق صدرها الوشم كزهرة البنفسج، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء بغير مقابل، والدم يندفع من القلب إلى الرأس، وفي اندفاعة الدم تنفصل قطعة الصدأ عن خلايا المخ، ويغسلها الدم. ومن فوق عصب العين يذوب الزمن كالغلالة، ويغسله الدمع، والصدر يحوطه الصدر بلا مسافة، والرأس يلتصق بالرأس كأيام الدراسة، وأنفاسهما مكتومة حتى ينتفخ صدراهما بالهواء وتوشكان على الاختناق، ويندفع الهواء المحبوس من فتحات الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة. كطفلتين تضحكان وتبكيان، وترمقها الحدقة المفتوحة في شقِّ الحائط، فيغلب الضحك على البكاء.

القاهرة ١٩٨٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤