بيوتيفول

عاد إلى بيته تلك الليلة فلم يجدها في السرير. كل ليلة منذ أن اشتغل في الشركة الجديدة وهو يعود بعد أن تنام، ويخرج في الصباح قبل أن تصحو. وقد تركها ذلك الصباح نائمة كعادتها، تشغل الجزء الملاصق للحائط من السرير، متكورة تحت الملاءة على شكل ارتفاعة بيضاء.

ظل واقفًا يحملق في الظلام، والسرير العريض ظل مستويًا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدًا.

سار بخطوات بطيئة نحو المرآة كعادته كلما حلت به مأساة، وأطل عليه من المرآة وجه نحيل طويل كوجه أبيه، وظهره أيضًا أصبحت له انحناءة لم تكن موجودة في الصباح. لكن الصباح يبدو له كأنما مضى منذ عام أو عشرة أعوام أو عشرين وأكثر، ومنذ ذلك الزمن البعيد لم يقف أمام المرآة. وصورته الأخيرة عن نفسه أنه كان شابًّا، مشدود الجسم والعضلات، ورأسه مرفوع، وظهره مستقيم، وذراعاه حين يضمهما يحوطان الكون، وفي الليل يحوطها كأنها الكون.

كانت معه في الشركة نفسها في مصر القديمة، والحياة أمامهما مساحة هائلة من الضوء البرتقالي بلون الشمس، وذراعاه حين يضمها يحوطان الكون. يملك الكون ويملكها حين يحوطها، ولذة الامتلاك فوق لسانه لها طعم لاسع ووجود مادي.

لم يكن يمتلك شيئًا إلا الكون وهي، وحين مات أبوه لم يرث إلا صورته داخل إطار، محفورة في رأسه ومعلقة فوق الجدار، وأبوه داخل الصورة واقفًا يتسلم الوسام، مرتديًا زي الحفلات، يده ممدودة بامتداد ذراعه، ورأسه محني بانحناءة ظهره.

لم يكن رأى أباه من قبل منحنيًا، كان حين يقف يراه طويلًا شامخًا مشدود الظهر، ورأسه مرفوع. وحين كان زملاؤه في المدرسة يتباهون بأسماء آبائهم وأملاكهم، كان هو يتباهى بأن له أبًا لم يعرف رأسه ولا ظهره الانحناءة لأحد.

ولم يكن زملاؤه في ذلك الزمن البعيد يتباهون بأمهاتهم، ولا يذكر الواحد منهم اسم أمه. لكنه في أعماقه كان يتباهى بأمه، فهي لم تعرف من الرجال إلا أباه، ولم تكف عن العمل والحركة إلا محمولة في النعش، وصوتها كالهمس لا يعلو، وخطوتها على الأرض لا يُسمع منها إلا حفيف الثوب، وإن عطست بصوت مسموع سدت أنفها بكفها وطلبت المغفرة.

وماتت أمه كأبيه وهي واقفة، ولم تكن تنام، وإذا نامت لا تشغل فوق السرير إلا مساحة صغيرة ملاصقة للجدار بحجم جسمها، وحين يعود أبوه تنهض، ولا تنام حتى ينام، ولم تمت أيضًا حتى مات، جمعت ملابسه ووضعتها في صندوق خشبي تحت السرير، وفي قاع الصندوق وضعت بدلة الحفلات والوسام مشبوك في صدرها، وكرات النفتالين البيضاء الصغيرة من حولها.

أغمض عينيه ثُمَّ فتحهما، واكتشف أنه لا زال واقفًا أمام المرآة، وأنه يرتدي بدلة حفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص يلمع كالوسام، لكن وجهه شاحب كوجه أبيه حين مات، ومن خلفه السرير العريض لا زال مستويًا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدًا، كأنما لم تنم فيه زوجته أبدًا. وكانت تنام كل ليلة على جنبها الأيمن، فيصبح ظهرها له ووجهها للحائط، تتكور حول صدرها، وتضم ساقيها حول بطنها، ورأسها أيضًا تغطيه، فلا يظهر منها شيء.

جسمها وهي نائمة كان يؤكد له إخلاصها الأبدي، ويملؤه بالثقة في نفسه، ويكاد يتباهى بها في أعماقه، بمثل ما يتباهى بأمه، لولا ما حدث.

أغمض عينيه وهو واقف أمام المرآة، وتلاشت من رأسه صورتها، ونسي ما حدث، لكنه عاد وتذكره، ثُمَّ نسيه، مئات المرات، آلاف المرات. يتذكر ثُمَّ ينسى، ثُمَّ يتذكر. ويراها أمامه، ليست نائمة في السرير، وإنما جالسة، ليس معه، ليس مع أخيها أو أبيها أو أي رجل من الأسرة أو الحي أو حتى البلد، وإنما مع رجل أجنبي، أجنبي تمامًا، ولا يعرف من العربية كلمة واحدة.

لم تكن تحب ثوبها الأحمر النايلون، وتفضل عليه الثوب القطني الأزرق بلون السماء، بنقوشه البيضاء على شكل زهرة الياسمين، وهو ثوب لم تكن ترتديه إلا له، وفي عينيها لمعة لم تعرفها عيناها إلا معه قبل الزفاف. وبعد الزفاف ظلت اللمعة في عينيها تروح وتجيء، ثُمَّ راحت. ولم يعرف كيف راحت، ولكنها منذ راحت وهو يتوجس، وشيء كالوسواس يجيء ويروح ثُمَّ يجيء. وما إن يلحظ اللمعة تعود إلى عينيها حتى يتلفت حوله، فإذا لمح نافذة مفتوحة أو نصف مفتوحة تصور أن وراءها رجلًا.

كان لا يزال في الشقة الصغيرة في مصر القديمة، وبيوت الناس متلاصقة، ونوافذ الجيران تظل طول النهار مغلقة أو مفتوحة، إلا نافذة واحدة كانت تظل نصف مفتوحة أو نصف مغلقة، والشيش متآكل قديم. والوجه الذي يطل من ورائه متآكل قديم، لكنه وجه رجل، والرجل في نظره لا يقف في النافذة إلا ليطل على امرأة.

ولم تكن هي تقف في النافذة إلا يوم الإجازة، وهو يوم واحد في الأسبوع، لا تذهب فيه إلى الشركة، وكانت النافذة صغيرة زجاجها مكسور وخشبها مسدود، والجدران من حولها تمنع الشمس إلا شعاعًا رفيعًا يتسلل قبل الغروب، يسقط على الجدار قرب حافة النافذة، ويداها حين تمدهما يلسعها الشعاع قبل أن يختفي، وفي الشتاء يصبح الشعاع دافئًا برتقاليًّا. وينعكس الضوء في عينيها كاللمعة، وحين يرى اللمعة في عينيها يتلفت حوله متوجسًا، ولا يرى الشمس ولا الشعاع، ولا يرى إلا تلك النافذة النصف مفتوحة أو النصف مغلقة، ولا يتصور أنها تظل بهذا الشكل إلا لتسمح لصاحبها بالرؤية دون أن يراه أحد.

وكان صوته كصوت أبيه، يرتفع عاليًا حين يغضب لأقل شيء، ولم يكن يغضبه منها شيء، فهي كأمه لا تكف عن العمل خارج البيت وداخل البيت، وحركتها كأمه بغير صوت، وصوتها كالهمس لا يعلو، وإذا ارتفع صوته حين يغضب تظل صامتة لا ترد. ولم يكن يغضبه سوى أن يراها واقفة في النافذة، وفي أعماقه يعرف أنها مثل أمه ولا تعرف من الرجال إلا هو، لكنه كأبيه لم يعرف الحب بغير شك، ولا يتصور امرأة تقف في النافذة فلا ترى إلا الشمس.

وضربها مرة لتغلق النافذة فأغلقتها، ودار الأسبوع وجاء يوم الإجازة ورآها تفتحها، فعاد وضربها أشد من المرة السابقة، وكان يظن أن شدة الضرب من شدة الغيرة، وشدة الغيرة من شدة الحب، وعليها أن تغتبط كأمه حين كان يضربها أبوه، لكنها لم تكن تغتبط.

ولم تغتبط حين اشترى لها الثوب النايلون اللامع، وظلَّت تُفضِّل ثوبها القطني القديم، وحين انتقل إلى شقة المعادي الواسعة لم يرها مغتبطة، وحين تضاعف مرتبه وأبقاها في البيت لم تغتبط، وحين جاء عم عثمان ولم تعد تطبخ ولا تغسل ولا تمسح، لم تظهر عليها علامات الاغتباط أو الراحة.

فتح عينيه واكتشف أنه لا زال واقفًا أمام المرآة، وجهه نحيل طويل كوجه أبيه، وانحناءة الظهر ذاتها، وبدلة الحفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص مستدير يلمع كالوسام، لكنه ليس معدنيًّا، وإنما من القطيفة الخضراء، تلمع عليها حروف بيضاء من النايلون: ترانزناشيونال.

بدت الحروف غريبة، مكتوبة بلغة أجنبية، كأنما لم يرَها من قبل، وكأنما يكتشف «البادچ» لأول مرة فوق صدره، وأنه يحمل اسم الشركة التي تعمل بها، وأنه يذهب إليها كل يوم منذ عشر سنين، وأنه منذ عشر سنين لم يرَ نفسه في المرآة. فالوقت أصبح ضيقًا، وكل دقيقة لها ثمن يسجله الكومبيوتر، ومرتبه يقبضه بالدولار، ومكتبه أصبحت له بنورة، وتليفون فوق المكتب له ذاكرة تحفظ الأرقام، والأزرار تكاد تنضغط وحدها قبل اللمس، وزجاج النافذة من النوع المستورد «الفيميه» يكشف من بالداخل، والضوء عشرات اللمبات النيون القوية.

وهي جالسة في الضوء، وثوبها النايلون الأحمر يلمع، ويتَّسع عند صدرها في كشكشة دقيقة كعش النمل، ويضيق عند خصرها تحت حزام عريض من القطيفة، ثُمَّ يدور حول ردفيها عدة دورات كأوراق زهرة اللوتس.

بيوتيفول!

وترن الكلمة في أذنيه بصوت الأجنبي، وكأنما يسمعها لأول مرة، ولأول مرة يكتشف معناها، ويدرك أنها تعني «جميلة»، وأن من يقولها رجل، ليس زوجها وليس أخاها ولا أباها ولا أي رجل من الأسرة أو الحي أو البلد، وإنما رجل أجنبي تمامًا، وجهه أحمر، وأنفه كبير مقوس، وفوق عينيه نظارات عدساتها «فيميه» يرى من خلالها كل شيء دون أن يرى عينيه أحد.

وهي جالسة أمامه ترتدي ثوبها النايلون الأحمر، يكتشف لأول مرة أنه شفاف، وأنه جالس أمامها ينظر إليها ويراها. وأخطر من الرؤية أنه يكتشف جمالها، وأخطر من الاكتشاف أنه يعبر عنه بصوت عالٍ، وهي جالسة أمامه تسمعه لا تغضب ولا تثور ولا يظهر على وجهها الضيق، بل تظل جالسة، وتهز رأسها كأنما مغتبطة، وتقول بصوت مسموع: «سانك يوه.»

وهو جالس أمامها، يعرف أن «سان كيو» تعني شكرًا، وأنها تشكره. وتظل جالسة، لا تنهض ولا تغضب، وهو يظل جالسًا أمامها يُغازلها، فالغزل هو أن يقول الرجل للمرأة إنها جميلة، وهي ليست أي امرأة بل هي زوجته، وهو ليس أي زوج، بل ذلك الرجل الحمش كأبيه، والذي لم يكن يسمح لأحد أن يراها من وراء شيش، فما بال أن يراها هذا الرجل الأجنبي وجهًا لوجه، ويصافحها يدًا بيد، ويغازلها بصوتٍ مسموع، وهو جالس أمامه لا ينهض ليضربه أو يضربها، أو على الأقل يعترض ويظهر الغضب، لكنه جالس لا ينهض ولا يعترض، ولا تظهر على وجهه علامات الضيق، وكلَّما التقت عيناه بعيونهما هزَّ رأسه وابتسم.

فتح عينيه فوجد أنه لا زال واقفًا أمام المرآة، وأنه لا زال يبتسم، لكن وجهه نحيل شاحب كوجه أبيه حين مات، وانحناءة الظهر كبيرة، يشد عضلات ظهره محاولًا أن يخفيها، لكنها لا تختفي وتظل مرئية، وعضلات وجهه يشدها أيضًا محاولًا إخفاء الابتسامة، لكنها لا تختفي، ويُحرك قدميه لينهض ويسير في الغرفة، لكنه لا ينهض. وهي أيضًا تظل جالسة، ويتوقع منها أن تنهض وتسير في الغرفة، لكنها لا تنهض ولا تسير، وتظل جالسة تهز رأسها وتقول: «سانك يو.»

وتخترق الكلمة بصوتها المسموع أذنيه كالسهم، كالدليل المادي تستقر في رأسه، تؤكد له خيانته الأبدية، كأنما تخونه طول العمر، منذ تزوجها وقبل أن يتزوجها، منذ وُجدت على ظهر الأرض، ومنذ وُجدت الأرض.

جاءت خيانتها كالمفاجأة، كاللطمة الأولى، فوق وجهه، وتوقع من نفسه أن يرد عليها بلطمة أشد، وارتفعت كفه الكبيرة في الهواء ثُمَّ اهتزت قليلًا في تردد، وكادت أن تسقط فوق وجهه أو وجه أبيه، لكنه عاد وتذكَّر خيانتها، وبكل غضبه من نفسه ومن أبيه، سقطت كفه الكبيرة فوق وجهها.

وفتح عينيه فجأة ليكتشف أنه لا زال واقفًا أمام المرآة، ووجهه لا زال طويلًا نحيلًا كأبيه، لكنه انقسم وأصبح وجهين نحيلين طويلين، بينهما شق طولي عميق وكفه اليمنى ممدودة أمامه، ومن فوقها خيط رفيع بلون الدم.

القاهرة، ١٩٨٣

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤