الحلاوة والنعومة والأنوثة

وبعدُ، فماذا في كتابات المنفلوطي مما يستحق أن يعد من أجله كاتبًا وأدبيًا، إلا إذا كان الأدب كله عبثًا في عبث لا طائل تحته؟

سمعت بعض السخفاء من شيوخنا المائقين يقول: «إن في أسلوبه حلاوة.» ولو أنه قال «نعومة» لكان أقرب إلى الصواب، ولو قال «أنوثة» لأصاب المحز. وهذا كلام يكاد يعده من لا عهد له بغير كلام المقلدين من الألغاز والأحاجي، فلنفسره لفائدة الناشئة إن لم يكن لفائدة ذاك الذي لا نرجو منه خيرًا. قال مهيار:

فيا رب قلد دمي مقلتي
بما نظرت واعف عن قاتلي
هنيئا لحبك ذات الوشاح
دم طل فيه بلا عاقل
وحبي لذكرك حتى لَثَمْـ
ـت مسلكه من فم العاذل

هذا مثال للنعومة؛ كلام مصقول لين الانحدار، تستطيع أن تعرف مقدار الصنعة ومبلغ الصقل فيه إذا نثرته وتأملت ما تحاشاه الشاعر من الألفاظ مثل مخرجه مكان مسلكه. وهو بعد إذا تدبرته لم تشعر أن وراءه شيئًا لا من العاطفة ولا من المعنى، وغاية ما في الأمر أن صاحبه أراد القول في هذا المعنى بغير باعث من النفس، فهو عبث محض، ولما كان الشاعر قد أعوزته العاطفة هنا ونقصته البواعث، فقد لجأ إلى الاحتيال والصنعة وحسب الإفراط في الرقة يكسب الجمال ويغني عن الإحساس به، فَقَلَبَ كل شيء، وحمل عينه ذنب النظر إلى الحسن، ودعا الله أن يبوء المقتول بالقاتل تناهيًا في اللين وذهابًا إلى أقصى المدى في الطراوة، ولا قتل هناك ولا قاتل ولا دم مطول بغير عاقل، وإنما هو التطري والرخاوة، ثم ذهب يقول إنه لفرط حبه لذكرها قبل فم العاذل حين جرى لسانه بحديثها، وهو من سخافات التطري، ويكفي لإدراك مبلغ السخافة أن تتصور مثل هذا المنظر حادثًا واقعًا، وأمثال هذا كثير في غزل المقلدين والعابثين؛ لأنهم لما فاتهم صدق السريرة، لَجَئُوا إلى الصقل وضحوا في سبيله الرجولة والعقل. ومهيار بعد من الفحول أو هو على آثارهم ماض، وهو من القليلين الذين ينم شعرهم عن بعض الإدراك للفرق بين مذهب العرب في الشعر ومذهب الآريين؛ أو الفرس، فقد كانوا لا يعرفون إلا عربًا وعجمًا. يدل على ذلك قوله يصف شعره:

حلى من المعدن الصريح إذا
غش تجار الأسعار ما جلبوا
يشكرها الفرس في مديحك للـ
ـمعنى وترضى لسانها العربُ

فكأنه لم يغب عنه عناية العرب باللفظ وإكبارهم شأنه، وذهاب غيرهم إلى المعنى قبل اللفظ، وله ما لا يكاد يدانى في حلاوته وعذوبته كقوله:

اذكرونا ذكرنا عهدكمو
رب ذكرى قربت من نزحا

وقوله:

آه على الرقة في خدودها
لو أنها تسري إلى أكبادها

فإذا كان مهيار — وهو من علمت — يقع في هذا، فما ظنك بالمتأخرين والعابثين الذين افتنوا في العبث كشعراء اليتيمة، حتى ليخيل للإنسان أنهم كانوا يتبارون ليروا أيهم أعظم تطليقًا للعقل وإتيانًا بالمستحيل ونسيانًا لأحكام الحياة؟! أما الحلاوة فتجدها في مثل قول الشريف الرضي:

أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرَّك في قلبي وأحلاكِ!

وقوله من القصيدة عينها:

عندي رسائل شوق لست أذكرها
لولا الرقيب لقد بلغتها فاكِ

وليس يمنعك أن تتذوقها من البيت الأول ذكر المرارة، فإنها هنا أخف ما تكون، وليست كل القصيدة من هذه الطبقة، ولعل التمثيل لذلك من الشعر الحديث أو الغربي أجدى وأنفع في تبيين المراد، ولكننا لا نحب أن يفهم أحد أننا قوم افتتنا بالغرب حتى ذهلنا عن محاسن العرب، ولا أن يظن بنا الإعلان عن النفس، وإن كان لا غضاضة في ذلك ما دمنا ندعو إلى حق وقولة صدق.

ومرجع هذه الحلاوة إلى ما ترك من التنوع في الاطراد وإلى إحساس الشاعر باللذاذة والحسن إحساسًا هو مزيج من الإعجاب والطلب، خذ البيت الأول مثلًا «أنت النعيم»، وتأمل اطراد العاطفة في مصراعيه، وتوازن قوتها في شطريه، وكيف أنه مع هذا الاطراد والاستواء يفجؤك بالتنوع من حيث لا يصدمك، ويريك وقعين مختلفين ولكنهما غير متنافرين؛ لأن العبارة موزونة على قدر الإحساس لا أكثر ولا أقل، ولو أنه كان قال «أنت النعيم لقلبي والجحيم له … فما أمرك … إلخ» لأحسست التنافر واختلاف القوة في الشطرين، ولَمَا استعذبت منه قوله: «فما أمرك … إلخ» بعد لفظة الجحيم. وتأمل في عقب هذا قول المسكين شكري يصف جميلًا ويبالغ في حسنه:

كأنما صاغكم كيما يحبكمو
يا فتنة الحسن قد جار الهوى فينا

يعني الله في صدر البيت، فإنك تحس إذ تنتقل من الشطر الأول إلى الثاني كأنما قذف بك من رأس جبل أشم، فهنا لا اطراد ولا تساوق، وكأنما صادف ماء البيت انحدارًا مباغتًا، وكأنك بين مصراعيه على أرجوحة غير مستوية.

وتدبر بيت الشريف الثاني، وانظر تحريه الدقة في العبارة عن مقصوده تحرِّيًا أكسب البيت الاستواء والاطراد، وتأمل كيف عبر بالشوق، حيث يدس العابثون والمقلدون أقوى الألفاظ وأشدها من غير حساب: كالجوى والصدى والحنين والنزاع وغيرها، مما لم يكن يعجز الشريف عن حشره في البيت لو كان مثلَهم فسادَ ذوقٍ وضعفَ طبعٍ وسليقة.

ولست تأخذ من البيت أكثر من العبارة عن الإعجاب، وهو من أخف مراتب الحب وأولها، ولا أكثر من الرغبة المعتدلة لا الجامحة، ومن اشتهائه التقبيل اشتهاء لا ينبو مع ذلك في زمام الإرادة، فالتناسب تام بين أنواع المعاني والإحساسات المتنوعة التي ضمنها البيت: من إعجاب واحتشام واشتهاء والتشاكل كامل والاستواء بالغ الغاية، دع عنك عذوبة التعبير عن القبلة وسلامة الذوق وحسن المعنى في الكناية عنها بأنها رسالة لا تبلغ إلا للفم، ومراعاة ذلك وامتناعه عن ذكرها عن بعد.

وإذا أردت أن تعرف الفرق بين حلاوة الطبع وإفساد التصنع، فقارن قصيدة الشريف الرضي التي يقول في مطلعها:

يا ليلة السفح ألَّا عدت ثانية
سقى زمانك هَطَّالٌ من الديم

بقصيدة الطغرائي التي احتذاه فيها وترسم مواقع أقدامه، وليس يسعنا إيراد القصيدتين، ولكنا نجتزئ بذكر البيت من قصيدة الشريف ونعقبه بما قال الطغرائي مجاراة له. يقول الشريف:

قَدِرت منها بلا رُقبى ولا حذر
على الذي نام عن ليلي ولم أنمِ

فيأخذه الطغرائي ويحرج صاحبيه أن كان لهما وجود:

يا صاحبيَّ أعِيناني على كلفي
بمن تناوم عن ليلي ولم أنم

ويقول الشريف يصف ليلته معها:

وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا
على الكثيب فضول الريط واللممِ
يشي بنا الطيب أحيانًا وآونة
يضيئنا البرق مجتازًا على أضمِ

فيسطو عليه الطغرائي ويصوغهما في أربعة أبيات مرذولة:

بتنا وبات الصبا وهنا يغازلنا
وفرشُنا الرمل رشته يد الديمِ
والليل يكتم سري والصبا كلف
بنشر ما كاد تطويه يد الظلمِ
يا نفخة الريح باتت بين أرحلنا
بالجزع تسلك بين العذر واللممِ
نهبت طيبًا وأغريت الوشاة بنا
يا حبذا أنت لو لم تقتدي بهمِ

ويقول الشريف:

وأكتم الصبح عنها وهي غافلة
حتى تكلم عصفور على علمِ

فيضمه الطغرائي في هذا البيت المنحوس:

وغاب عنا غراب البين ليلتنا
فناب عنه عصيفير على علمِ

ويقول الشريف:

يُولِّع الطل بردينا وقد نَسَمَتْ
رُويحةُ الفجر بين الضال والسلمِ

فيمسخه الطغرائي هكذا:

وآذنتنا بقرب الفجر واشية
باتت تُحَرشُ بين الضالِ والسلمِ

ويقول الشريف:

بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى
يلفنا الشوق من فرع إلى قدمِ

فيأبى إلا أن يعف عفته ويجئ بهذا البيت المنثور السخيف:

ورق لي قلبه القاسي ومكنني
مما أريد فلَم آثم ولم ألمِ

ويقول الشريف في غير هذه القصيدة:

أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاكِ!

فلا يرى الطغرائي أن يتركه في قصيدته دون مسخ:

طاب الهوى في الجوى حتى أنست به
فهو المرارة يحلو طعمها بفمِ

فيخلط ويحسب الشريف إلى هذا قصد. ويقول الشريف:

ولا استجد فؤادي في الزمان هوى
إلا ذكرت هوى أيامنا القدمِ

والذكرى طبيعية، ولكن فساد ذوق المقلد الطغرائي يأبى له الوقوف عند حد الطبيعة:

تريد أن أستجد الحب بعدهم
والحب وقف على أحبابنا القدمِ

إلخ … إلخ.

وشتان بين كل بيت ونظيره.

كلام الشريف مستقيم المعنى والأداء، وأبيات الطغرائي لا يسيغها المرء إلا بعناء، والفرق بين الكلامين أوضح من أن يحتاج إلى جلاء، ولعل القارئ قد رأى مما أوردنا، أن الحلاوة لا تتفق مع العبث والتكلف ولا مع اضطرام العاطفة ووقدتها.

•••

ولست بواجد شيئًا من هذه الحلاوة في كلام المنفلوطي، سواء في ذلك شعره ونثره؛ لأنه متكلف متعمل يتصنع العاطفة كما يتصنع العبارة عنها، وقد أسلفنا أن وصف أسلوبه بالنعومة أقرب إلى الصواب، ولكنه ليس كل الصواب؛ لأنه متجاوز ذلك ذاهب إلى أدنى منه، وليس أدنى من ذلك إلا الأنوثة، وهي أحط وأضر ما يصيب الأدب، ولكنها مع الأسف تجوز على فريق من الناس يتلذذونها ويسيغونها ويعجبون بها، ويبلغ من استحسانهم إياها أن يشجعوه ويغروه بالكدِّ في إبراز ما ليس أقتل منه للرجولة ولا أعصف.

قال المنفلوطي في مقدمة عبراته:

الأشقياء في الدنيا كثير، وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئًا من بؤسهم وشقائهم، فلا أقل من أن أسكب بين أيديهم هذه العبرات، علَّهم يجدون في بكائي عليهم تعزية وسلوى.

وأحسبه توقع أن يكبر الناس منه هذه الرحمة ويعجبوا بهذا القلب الذي شغل عن مطالب الحياة بالدق عطفًا على المساكين أمثاله، ولو شاء لقال إن الناس جميعًا كذلك إن كان يريد أن يذهب إلى هذا المعنى؛ لأن كل امرئ طالب محروم، ولكن وظيفة المرء في الحياة ليست أن يكون ندابة، فما لهذا خلق، بل وظيفته أن يغالب قوى الطبيعة ويصارعها؛ لأن الأصل في الحياة هو هذا الصراع وتلك المغالبة، وهي قائمة على ذلك، ولا سبيل إليها بدونه، بل هي تنتفي إذا امتنع وبطل.

وهذا شيء يعرفه كل واحد ويحسه كل حي، وقد فطن إليه الأقدمون البسطاء الذين كانت تنقصهم وسائل الاستدلال العلمي على ذلك وإثباته في مظاهره، ومن آيات هذه الفطنة — فطنة عميقة مستولية على النفس — أنهم قالوا: إن في الوجود قوتين متنازعتين أبدًا: قوة الشر التي تطغى بالليل وتجلل في الرعد وتقذف بالصواعق، وتبتلي بالجدب والمحل والأوباء والأرزاء والفناء، وما يدخل في ذلك ويتفرع منه؛ وقوة الخير التي تسح بالغيث وتفيض نور الشمس وحرارتها، وتجود بالخصب والحياة إلى آخر هذه المعاني، وقد رمز الفرس للأولى بأهرمن وللثانية بأهورمزدا.

ومثل هذا واضح في جميع الأديان، وإن تغيرت الأسماء وتبدلت النعوت، وما إبليس إن فكرت إلا اسم آخر لأهرمن والأهورمزدا؛ لقوة الشر الخارجة على قوة الخير المغالبة لها.

بل ذلك ملحوظ في خرافات العجائز وقصصهن، حتى لعهدنا هذا، وفي أوهام العامة التي تعزو الأمراض إلى فعل الشياطين، وفي خوف الأطفال من الظلام وفزعهم من الوحدة فيه وتهيبهم السير في دياجيه. ولماذا يفزع الفازع من الظلمة، ويتهيب القفار والغاب والدور المهجورة والخرائب والمقابر؟ أليس هذا أثرًا من الاعتقاد الأول بأن هذه مظاهر قوة الشر كما كان يفهمها القدماء؟ فالحياة مبنية على المغالبة، ولكن هذا الذي يحسه الأطفال والعامة، والذي فطن إليه الأقدمون السذج بغرائزهم وفطرهم السليمة، لا يدركه المنفلوطي المسكين، الذي يحسب أن ليس له من عمل في الدنيا إلا البكاء على الأشقياء، كأنما خلق الرجل أضعف من الدودة الجوالة في جوف الثرى.

وعسى قائل يقول: إن هذا منه فرط حب للإنسانية، وهي فضيلة لا يقلبها رذيلة أن صاحبها بالغ وغلا في الأمر؛ لأنه إنما يغرق في النزع ليبعد المرمى ويجاوز القصد في التصوير؛ ليكون أبلغ في التأثير ويتناهى في الدعوى استدناء للغاية القصوى.

هكذا يصنعون إذا أرادوا التضليل أو الاعتذار لأنفسهم من الانخداع بمثل هذا التدجيل، وهو شعب من القول يحتاج إلى كلام تدخل فيه مسائل قد يقطع استقصاؤها عن الغرض؛ لأن الانتصاف منها لا يتأتى إلا باستعانة العقل والعلم عليها، ولكن لا بأس علينا من ذلك، فلننظر ما معنى قولهم هذا إذا ترجمناه إلى لغة العلم ونظرنا إليه في ضوء الاستقراء الحديث.

ما هي أخلاق المنفلوطي؟ هي بألفاظه — أو إن جادل فيما ارتضى أن يوصف به من الألفاظ — انقباض عن الناس ووحشة، عفة حتى من مد يده إلى أبو يه، كرم في خلق طالما كان سببًا في وصول الأذى إليه، حلم يظنه الظان عجزًا وضعفًا، صمت طويل يحسبه الناظر عيًّا، ما رؤي يومًا من الأيام ملمًّا بما يفسد عليه دينه أو مروءته، صبر على ما يذهب بلب الحكيم ويطير رشد الحليم،١ مات له طفلان في أسبوع واحد، فسكن لهذا الحادث سكونًا لا تخالطه زفرة، ولا تمازجه دمعة على شدة تهالكه وجدًا عليهما — وليس أحقر في نظره من المادحين له، ولا أصغر في نفسه من انتقاد المنتقدين عليه — لو أن الناس جميعًا أجمعوا على انتقاد خلة من خلاله لما ثناه ذلك عنها، ولو أنهم اتفقوا على رأي مناقض لرأيه لما نال ذلك من عقيدته، ليس أبغض إليه من الكذب، يحب حتى العتاب المر والتقريع المؤلم ما دام المتكلم صادقًا، يطلب من الناس غير ما يطلب بعضهم من بعض، إن كان في أخلاقه مأخذ، ففي هذا الخلق خلق النفرة من الناس والعجز عن احتمالهم ولبسهم على سوءاتهم، وطني يتهالك وجدًا في حب وطنه ويذري الدمع حزنًا عليه … إلخ.

ولا تنسَ أنه جريء جرأة معدومة النظير في التقحم على حياء الناس بهذه النعوت الغالية، وأنه محب مفرط الحب للإنسانية — فيلانثروبست — وأن أسرته مشهورة بالتقوى، وأن أبناءه يموتون في غير السن التي يكون فيها الإهمال والجهل سبب الوفاة المباشر في الأغلب والأعم.

•••

فكيف تصف هذه الأخلاق أيها القارئ؟ إما أن تكون مصدقها فتنظر في دلالتها، أو مكذبها فيكون حسبنا ذلك منك رأيًا لك.

أخلاق نادرة؟ نعم ليس أندر منها مجتمعة وإن اتفقت للناس متفرقة! ولكن الأمر أكبر من ذلك وأبعد مدى وأعمق، هاك دلالة هذه الأخلاق الرائعة النادرة في نظر الدكتور نسبت، قال:

ولما كانت التقوى في الأغلب من أعراض الحالة التشنجية وكان الغرور وكثير من الخصائص البسيطة أو المركبة توجد في حالة غير عادية من النمو، وإذا كان الجهاز العصبي غير سليم؛ فليس من المدهش أن يكون البخل من أعضاء ما يسميه «فيري» أسرة الأمراض العصبية، وحب الإنسانية — فيلانثروبي — نفسه مما يجري هذا المجرى، وقد كان «هوارد» مصلح السجون جبارًا في بيته، وكان له ابن مجنون، ومثل هذا يقال عن الأنانية أيضًا، وشرح هذه الحقائق فيما أسلفنا عليه القول على الإرادة، وذلك أن بعض مراكز المخ — واحدًا أو أكثر — تكون قاصرة عن تلقي المؤثرات أو الإجابة عليها، فتسود في حيز الإدراك طوائف معينة من الآراء، أو تصير الغلبة لنزعات معينة مستقلة عن الإدراك، وهناك قوم — كما يقول المثل — لا يصغون إلى داعي العقل ولا يحسون إلا أنفسهم ومصالحهم، وآخرون يبلغ من تضحيتهم بالنفس وإنكارهم الذات أن يخرجوا — بغير مبرر معقول — عن كل متعهم، وكل ما ملكت أيمانهم لفائدة جيرانهم مثلًا، وكلا الفريقين من مرضى الأعصاب، كالمعمودين أو المصابين بالتشنج، ويقال على العموم: إن الاعتقادات الحادة القوية تصاحب الضعف أو المرض أو الاضطراب العصبي. وعلى العكس من ذلك ترى الموفور الصحة متسامحًا بالضرورة متعدد جوانب الرأي.

فما قول المحتج للمنفلوطي في هذه الكلمة، التي كأنما كتبها صاحبها لما نحن في صدده؟ وأيهما خير فيما يرى لصاحبه؟ أن نؤمن بصدقه فيما نحل نفسه من الصفات النادرة والخلال الغريبة، فليزمه حكم الدكتور نسبت ويدخل حظيرة المرضى والمبتلين في أعصابهم؟ أم نقول كذب فيما ادعاه لنفسه، وأن ما به ليس إيثارًا وحبًّا للإنسانية متجاوزًا به حدود القصد والاعتدال، بل أنوثة يتوخاها في الكتابة وتكلف بيِّن وتصنع لكل عاطفة، وتدجيل على الناس ومخادعة لهم، واستصغار لأحلامهم واستهانة بعقولهم؟

لسنا نتشبث بأحد الحكمين، فليختر القارئ لهذا الكاتب أخفهما وأهونهما في رأيه؛ فسواء لدينا هذا وذاك، والنتيجة بعد واحدة.

الأشقياء في الدنيا كثير وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئًا من بؤسهم وشقائهم.

سوداء ما أشدها! وظلمة يأس ما أحلكها! وإحساس بالعجز المطلق والقصور التام، وما أبعد هذا عن الكآبة الطبيعية المعقولة التي تغشى النفس أحيانًا، ويكون مردها إلى ما يلقاه المرء من الخطوب في حياته، أو في علاقاته مع أسرته أو بيئته وأوساطه، والتي لا تمنع أن يكون الإنسان موفور النشاط والمراح، صحيح النظر إلى الأمور، صادق الوزن لأقدارها! نعم من الطبيعي أن يكتئب مثلًا من يحتسب طفلًا له كان يشيم الخير من لمحاته ويأنس الرشد من سماته، أو من يرى نفسه منبوذًا من الناس لفقره أو ضعة قومية في أبيه، أو من يعنى بالفشل في بعض ما يعالج أو نحو ذلك، ولكن هذه السوداء اليائسة التي تصور لصاحبها الحياة كأنها مستشفى عجزة ودار أيامى ومفجعين ينقطع للبكاء عليهم، أي تعليل لها من الأحوال التي تكتنفه هو أو سواه؟ وأي باعث عليها غير عدم التلاؤم بين المرء والبيئة؟

خذ مثلًا لذلك مفتاحًا وقفلًا تعالج أن تفتح هذا بذاك فتفشل، ولا يخرج الأمر عن ثلاثة احتمالات: فإما أن يكون العيب في المفتاح، كأن يكون مكسورًا أو أن تكون أنبوبته مسدودة، أو أن تكون أسنانه بالية؛ وإما أن يكون الذنب ذنب القفل، كأن يكون لسانه قد سقط في جوفه، أو أن يكون شيء فيه خرج عن موضعه وعاقه عن العمل، أو أن يكون الصدأ عطله، وأنت في كلا الاحتمالين لا تستطيع أن تفتح القفل، ولكن هناك احتمالًا ثالثًا، وهو أن تنحرف بأنبوبة المفتاح عن حديدة القفل، أو أن تديره فيه مقلوبًا، أو ألا تبلغ بأسنانه اللسان، ولا يكون العيب في هذه المرة راجعًا إلى القفل أو المفتاح، بل إلى الخطأ في عملية الفتح.

هبني غضبت، فالأمر في هذه الحالة لا يعدو أحد فرضين: أن يثير غضبي رجل مثلًا بعمل مسيء، فإذا كان إحساسي مناسبًا لدرجة الإساءة ومتكافئًا معها، كان ذلك مني طبيعيًّا، ولكن لنفرض أن الأمر جاوز المعقول، وأن الغضب هاجه ما ليس فيه إساءة، وهو الفرض الآخر، فنعود إلى مثال المفتاح والقفل ونقول: إما أن تكون الظواهر الخداعة أو الأنباء الكاذبة قد حملتني على اعتقاد القصد إلى الإساءة وتعمد الإيذاء، فيثير في نفسي ما يحيط بي مثل ما يثيره الإيذاء لو كان واقعًا، ويكون عدم التلاؤم بين الإحساس والعمل راجعًا إلى الوسط، والعيب عيب القفل؛ أو يكون العمل في ذاته غير مقصود به إلا الخير، كأن يرتب لك خادمك أوراقك في غيابك، ولكنك لما لقيت في يومك من النصب أو لعسر هضم تعانيه تخرج عن طورك ويبلغ غضبك مبلغًا لا يتناسب مع الظروف — أي لا يلائمها — وفي هذه الحالة يكون عدم التناسب بين الإحساس والظروف مرجعه إلى علَّة فيك والعيب عيب المفتاح؛ إذ كان قد هاجك ما لا يهيج، فإذا أصبحت في اليوم التالي، وقد سري عنك وسكنت نفسك، وهدأ ثائرك وبدا لك تهورك، فقد أعدت التوازن بين الإحساس والحادثة، ولكن إذا ظل غضبك في الصباح كما كان في المساء وطردت الخادم، فإن المسألة تخرج عن كونها عدم تناسب بين الإحساس والحادثة، وتصبح عجزًا عن إعادة التوازن بينهما، يدل على أن «عملية» الموازنة أو الملاءمة مضطربة.

وهذان المثلان ينطبقان على عدم التلاؤم بين المرء والبيئة على العموم، فقد يكون انتفاء ذلك راجعًا إلى علة عضوية، أو إلى أن للبيئة أحوالًا ليس لها المرء بكفاء، أو هو يجهلها أو لا يعرفها معرفتها، وفي كلتا هاتين الحالتين يكون العيب في القفل أو المفتاح، ولكن إذا كانت البيئة ليس فيها من الأحوال إلا ما يستطيع أن يكافحه الرجل العادي، وكان المرء قادرًا على الوجهة الجسمية، ولكنه يعجز مع هذا أن يلائم بين نفسه وبينها، فإن الفشل في هذه الحالة لا يكون مرجعه إلى عدم كفاية أو عيب في هذا العامل أو ذاك، بل إلى فساد عملية الملاءمة ذاتها، ومعنى ذلك ومدلوله يعرفهما كل طبيب، وهذا الفساد تصحبه أبدًا ثلاثة مظاهر: اضطراب الأجهزة العصبية، والاضطراب في السلوك، والاضطراب في الإدراك. ويدخل في هذا ما يعتور الفكر والإحساس والشعور بالذات وبعلاقة المرء بالوسط، وهي أشياء على أوضح ما تكون في قصص المنفلوطي كما سترى فيما يلي.

١  قال لسنج الشاعر الناقد الألماني: «من لا يفقد عقله أمام بعض الحوادث فليس له عقل يفقده.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤