العبرات «قصة اليتيم»

ونعود بعد هذا الإيضاح إلى ما كنا بدأناه من الكلام على عبراته، فنقول إنها على نوعين: منها طائفة مترجمة عن أمثلة الضعفاء الذاهبين مذهب التصنع والإفراط في الرقة والأنوثة، والباقي موضوع، وهو في كليهما ملفق مستحيل التلفيقات، حتى فيما هو مترجم منها يأبى له ذهنه المنتكس إلا أن يغير ويبدل تبديلًا كبيرًا الدلالة. وقد قرأت له هذه العبرات فوجدته في كل قصة تقريبًا، بينما هو جالس في مكتبه — الذي كأنما صار ملتقى كل صوت، ولاقط كل نبرة وموجة أثيرية — إذا به يسمع أنينًا أو حنينًا أو صوتًا خافتًا أو توجعًا أو زفيرًا أو نهيقًا أو شيئًا من هذا القبيل، فيطل من نافذته السحرية، فيرى فتى — فيما شاءت له تلفيقات أوهامه ومنكرات أحلامه — من العمر ملقى يتوجع على سرير أو حصير، فيذهب إليه ولا يزال به حتى يقص عليه أمره، ويروي له خبره، ويكشف له عن مظاهر أنوثته، ثم يموت الفتى — وهو ما لا بد منه في كل حكايات المنفلوطي، فما أعظم شؤمه على أبطاله! فيغسله ويلفه في الأكفان، ويحمله إلى قبر يدفنه فيه، وينثر عليه دمعة من دموعه، التي كأنما لها «زر» في تضاعيف ثيابه، يضغط عليه فتنحدر وتسيل، وإن كان لم يبك على طفليه اللذين ماتا في أسبوع واحد!

فبالله ما لهذا الحانوتي الندابة وللأدب الذي هو حياة الأمم وباعث القوة فيها ونافث الحرارة في عروقها وحافزها إلى أجل المساعي؟! لقد كان المنفلوطي يستطيع أن يتعظ بمصير أبطاله المخنثين — إن جاز الجمع بين النعتين — وبموتهم في شرخ الشباب وميعة العمر، وكان في وسع قرائه أن يعتبروا بهم، لولا سقم أذواقهم ومرض نفوسهم، ولكن لكل كاتب قراء على شاكلته منسوجين على منواله، وإن أخوف ما نخاف على هذه الأمة أن تجد هذه الجراثيم ترى صالحًا في نفوسها، في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى من يبذر فيها بذور القوة، ويدفعها إلى تطلب الحياة العالية.

كتب جيته الشاعر الألماني رواية «أحزان فرتر» وهو في التاسعة عشرة من عمره؛ أي قبل أن ينضج ويستكمل الرجولة، فراجت واشتهر أمرها، وانتشر بها الصيت إلى كل ركن وذهب بها السمع في كل زاوية في العالم الغربي، ونقلت إلى جميع اللغات الحية، ولكن واضعها الذي كان حقيقًا أن يزهى بهذا النجاح، وأن يفتتن بما وفقت إليه باكورة أعمال من الذيوع واستفاضة الذكر، وأن يغريه ذلك بالمضي في هذا السبيل وبتقليد نفسه مرة ثانية وثالثة؛ ظل إلى أن مات لا يندم على شيء ندمه على وضع هذه الرواية، ولا يخجل من عمل له خجله منها، حتى لقد تمنى لو استطاع أن يجمع كل نسخها من أيدي الملايين من قرائها ليوكل بها النار!

ولماذا كان يخجل منها، ويشعر أنها وصمة لرجولته؟! لأن فرتر بطلها انتحر من أجل خيبة في ميدان لهو وغرام! والحياة أجل من أن يقطع المرء حبلها لخيبة أمل كائنًا ما كان، أو إن شئت فقل هي أهون من أن يكبر المرء أمر سعودها ونحوسها إلى هذا الحد، وأن مما يصم الرجولة — ولا شك — ألا يكون صحيح الإدراك للأمور، وألا يستطيع أن يلابس الحياة ملابسة قوامها حفظ التوازن بينه وبين الوسط.

فأين تخنث العبرات من هذه الرجولة الضخمة التي تقدر واجب الحياة وتعرف فرائضها ولا تفر منها؟ رجولة لا تقول في الدنيا أشقياء كثيرون، فلأبك عليهم ولأندب سوء حظهم ونحس طالعهم ولأنعهم إلى الناس، بل تقول الحياة طلوع ثنايا ومصارعة منايا، والناس كلهم ساعون، فمن مخطئ ومصيب وناهض وكاب عاثر وناجح موفق وخائب مجهود، وكلهم يقضي حق الحياة عليه ولا يمطلها دينها، بل يؤديه إليها من دمه وقوته وعمره، وهو مشكور إن أفلح ومعذور إن أخفق.

جيته — تلك الصخرة القائمة في لج الحياة تناطحها كل موجة وتلطمها كل ريح، وهي وطيدة لا تلين ولا تساقط على الصدمات والأهوال — هو مثال الرجل الخليق بالحياة، هو البطل الذي قرت عنده ثورة «كارليل» الهائج في ميادين الفكر، لا يعرف السكون، ولا يذوق طعمه إلا بالتمني، حتى لم يسعه لما ترجم إحدى روايات جيته إلا أن يخضع للجامه ويستفيد لعنانه، وإلا أن يخرج عن طبيعته — إن صح هذا التعبير — وينسى جموحه مع المعاني وركضه في حلبة متوعرة من الأداء، فجاء أسلوبه فيها سلسًا كالماء الرقراق المنحدر في سهل دمث من الأرض.

ولعمري ما أبعد البون بين أدب تمليه الحياة المتدفقة وصحة الإدراك، وبين كتابة ميتة مملوءة صديدًا وبلى شائعًا فيها كهذه العبرات والنظرات والسخافات والتلفيقات والمنكرات، التي لا نعرف لها مثيلًا في كل عصور الأدب التي مرت بالأمم قاطبة من آرية وسامية!

خذ مثلًا لذلك قصة «اليتيم» التي صدر بها عبراته، وموضوعها أن فتى في العشرين من عمره مات أبو ه وتركه فقيرًا لا يملك شيئًا، فكفله عمه وأكرمه، وأحسن إليه إحسانه إلى ابنته التي كانت في مثل عمر الفتى، فشبا عشيرَي صفاء وخدنَي مودة ووفاء، ثم ذهب العم إلى جوار ربه بعد أن أوصى زوجته أن تكون للفتى — الذي لا اسم له ولا أم — أمًّا كما كان هو له أبًا، ولكن الزوجة لم تلبث أن تنكرت للفتى، فزعمت أنها عزمت أن تزوج ابنتها ترى أن في بقائها بجانبها ما يريبها عند خطيبها، وأنها تريد أن تتخذ للزوجين مسكنًا ذلك الجناح الذي يسكنه الفتى من القصر، وأمرته أن يتحول إلى منزل آخر يختاره لنفسه من بين منازلها، تقوم له هي بشأنه وشأن نفقاته فيه، فأكبر الفتى ذلك وعظم عليه الأمر واسودت الدنيا في عينيه؛ لأنه يحب الفتاة حبًّا لا يعلم به أحد ولا الفتاة نفسهما، بل ولا هو نفسه إلا في هذه الساعة، فانسل من البيت ليلًا، وآثر أن يستشرد ثم سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزل المنفلوطي، ولكنه لم يستطع البقاء فيها ساعة واحدة، فرحل رحلة طويلة قضى فيها بضعة أشهر لا يهبط ببلدة حتى تنازعه نفسه إلى أخرى، ثم شعر بسكون فعاد إلى الحجرة فلزمها هي ومدرسته، ولم يبق من أثر لذلك العهد القديم إلا نزوات تعاود قلبه من حين إلى حين، ثم إن خادمته في بيت عمه اهتدت إليه وحملت إليه كتابًا من الفتاة تطلب إليه فيه أن يأتي ليودعها قبل موتها، ولكنها ماتت قبل وصول الكتاب إليه، فلحق بها ومات هو الآخر، فدفنه المنفلوطي معها تنفيذًا لوصيته.

هذا هو موضوع القصة. والآن فلنرجع أيها القارئ إلى مثال القفل والمفتاح. ليس في المفتاح عيب، فإن الفتى كان صحيح الجسم موفور العافية ليس به شيء من الآفات التي تقعد بالمرء عن ملابسة الحياة على الوجه الصحيح، فإذا كان الأمر على خلاف ذلك، فالذنب للمنفلوطي الذي نسي أن يذكر لنا علله وأوصابه الجسدية. كذلك ليس في القفل عيب؛ لأن الظروف المحيطة بالفتى والأحوال، التي كانت تكتنفه ليس فيها ما يعجز الرجل العادي السليم عن مكافحته، ولكي يقتنع القارئ بما نذهب إليه نجاوز الإجمال إلى التفصيل.

أرادت امرأة عمه أن تزوج ابنتها وهي رغبة طبيعية تحسها كل أمٍّ، ولم تكن تعلم أن الفتى يحبها؛ لأنه هو نفسه لم يكن يعلم ذلك ويدريه، ومصداق هذا قول الفتى وهو يحدث المنفلوطي:

ولا أعلم هل كان ما كنت أضمره لابنة عمي في نفسي ودًّا وإخاء أو حبًّا وغرامًا، ولكني أعلم أنه إن كان حبًّا كان فقدًا بلا أمل أو رجاء، فما قلت لها يومًا إنني أحبها؛ لأني كنت أضن بها، وهي ابنة عمي ورفيقة صباي، أن أكون أول فاتح لهذا الجرح الأليم في قلبها، ولا قدرت في نفسي يومًا من الأيام أن أصل أسباب حياتي بأسباب حياتها، ولا حاولت في ساعة من الساعات أن أتسقط منها ما يطمع في مثله المحبوب، ولا فكرت يومًا أن أستشف من وراء نظراتها خبيئة نفسها لأعلم أي المنزلتين أنزلها من قلبها: منزلة الأخ فأقنع منها بذلك، أو منزلة الحبيب فأستعين بإرادتها على إرادة أبويها.

فما ذنب امرأة عمه إذا كان قد شاء ألا يتكلم أو يقدر أو يتسقط أو يستشف ما يستشفه كل محب ويتسقطه ويقدره ويقوله؟! وهو يعلم أن لا لوم عليها في جهلها ما لو كانت علمته لكان لها شأن آخر معه، ولا يعقل أن يحسب المرء أن الناس أعرف منه بخبيئة نفسه.

إذن فليس في رغبة امرأة عمه أن تزوج ابنتها شيء يستدعي منه ما صنع، كذلك لم يكن يستوجب منه التشرد والانسلال تحت الدجى طلبها إليه أن يتحول إلى منزل له غير الذي يسكنه على أن تقوم له بنفقاته فيه حرصًا على الفتاة أن يريبها شيء من وجوده إلى جانبها عند خطيبها؛ فإنه موقف معقول وإحساس طبيعي، ولا شك أن في هذا الطلب غضاضة، ولكن قليلًا من التفكير بعد ليلة أو ليلتين كان خليقًا أن يجعله يسيغها، فلماذا انسل وآثر الاستشراد والرحيل في البلاد؟ ثم لماذا بعد أن سكنت نفسه بلغ من وقع الخبر الذي حملته الخادمة إليه أن مات؟! أليس الواضح البين أنه عجز عن الملاءمة بين نفسه وبين هذه الأحوال والظروف عجزًا، ليس مرده لا إلى آفة في جسمه ولا إلى الظروف؟!

وهذا بعد ليس في شيء من الحب الطبيعي الذي يحس حامله بالغاية منه إحساسًا واضحًا ويدركه أتم إدراك، والذي لا يفتأ يتطلب التعارف الجثماني الكفيل بحفظ النوع، لا كهذا المسكين الذي لا يدري أهو يحب ابنة عمه حب الأخ لأخته أم حب الرجل للمرأة، ولا يقدر في نفسه أن يصل أسباب حياته بأسباب حياتها، ولا يحاول أن يعرف ما عندها له أو يطلب منها ما يطلب كل محب، وهو كلام لا يرضي من قلبت الروايات الفاسدة عقولهم ومسخت طبائعهم، ولا يروق من تعلموا من هذه القصص أن يعدوا الهوى العذري — الذي لا وجود له في هذه الدنيا الدنية — مثلًا ليس أعلى منه للحياة، واللين الذائب والنحول والضنى من دلائل سمو النفس، والانقياد للمرأة كالكرة في يدها والقعود تحت حكم نظراتها وإيماءاتها وحركات حاجبيها وشفتيها ويديها ورجليها؛ من علامات الرجولة وآيات الفتوة والبطولة، دع عنك الاضطرابات البهلوانية من جسمية وقلية، والزفرات والأنات والدموع وتقليب الأكف والذهول والنحول والاصفرار والإطراق، ونكت الأرض والكلام الذي لا يقوله ولا يفهمه عاقل، والنظرات الشاردة البلهاء في المجالس والمحافل وسهر الليل، ورعي النجوم وضم المخادع ومعانقة السرير، وتقبيل أطراف الأصابع للأشباح والخيالات، وتحميل الرياح أنواع السلامات والتحيات الطيبات المباركات.

لا. لا يرضى هؤلاء كلامنا وإن كان الحقيقة؛ لأنهم لا يطلعون على الحياة إلا من منظار المنكرات التي تصفها لهم هذه الروايات، ولا يفكرون أو يحسون أو يعملون إلا على مثال أشخاصها، ولا غرابة في ذلك، فإن من لا تؤهله تجاربه أو معارفه لتصحيح خطأ الروائي، لا يسعه إلا أن يسلم بصدقه، ويستمد رأيه في الحياة من كتابته، ويتخذ أشخاصه قدوة تحتذى وتقلد، وهي نتيجة يعلمها من له أقل إلمام بعلم النفس وبتأثير الإيحاء، لا سيما في الضعفاء والشبان والنساء ومرضى الأعصاب.

وأذكر على سبيل التمثيل لتأثير هذه القصص المنحوسة، أني أعرف رجلًا بلغ من استيلاء «سنكلر» وضروب احتياله على نفسه وهواه في صدر أيامه؛ أن ظل سنين وليس له غاية يطلبها سوى أن يكون على رأس فرقة من «البوليس» السري يطارد المجرمين؛ ذلك لأن هذه القصص الكاذبة الصور المستحيلة الوقائع تحدث الاضطراب في نضوج الإحساسات الطبيعية في نفوس الشبان، وأخصها الحب، بتنبيهها مركز التوليد قبل الأوان، وقبل أن يكون الباعث على الحب هو النضوج الجنسي في الفرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤