صنم الألاعيب (٢)

كتبنا كلمة أولى عن شكري في الجزء السابق أرضت اثنين: أهل المذهب العتيق البالي الذين كانوا يأبون إلا أن يعدُّوا شكري من دعاة الجديد، وإلا أن يحسبوه علينا، ويأخذونا بشعره، ولكن هؤلاء سخطوا من حيث رضوا، ولم يرقهم أن يرونا نميط الأذى عن المذهب الجديد، وننفي عنه وخامة شكري. وليس يعنينا أمرهم ولا نحن نبالي سخطهم من رضاهم، فإنهم في رأينا جثث محنطة.

وثاني فريقي الراضين، المتعلمون من أهل البصر والاتزان وسلامة الذوق والشبان، السائرون على الدرب، وهم من نرجوهم لصلاح الأدب ونفض غبار الماضي عنه. ولهم لا لسواهم كلامنا.

أما فئة الساخطين فمؤلفة ممن يحملون على أكتافهم رءوسًا، وكأنما حملوا معدة أخرى لا عقلًا يفكر وذهنًا ينظر ويتدبر، وهم يطالبوننا ألا نشيم الخير من أحد، وألا يكون لنا رجاء في مخلوق مخافة أن يخيب هذا الأمل، فنكون قد تناقضنا ووقعنا في محظور وجئنا أمرًا يلزمنا عاره ويبقى وسمه! فيا ويحنا! لقد أسخطنا والله هذه المعدات الضافية، وهجنا ثعالبها اللاحسة بنقدنا شكري الذي «وضع أهم أحجار النهضة، وضحى في سبيلها شخصيته وشهرته» كما يقولون. ولكن لا ضير علينا من غضبهم، ولا داعي لهذا الغضب، فإنا لا ننكر أن شكري «ضحَّى بشخصيته»!

مسكين هذا الصنم! لا يعرف لبكمه ماذا يقول، ويتطوع المشفقون عليه للدفاع عنه، فيجيء دفاعهم أقتل له من نقدنا، وينقمون منا أنا جعلناه صنم الألاعيب، وهم يسخرون منه ويتضاحكون به، وماذا يجدي ذودهم عنه؟ لقد كنا نخلص له النصح ونُمحضه الرأي والسداد، ونشجعه ونغتبط بما نراه من تململه من قيود العهد القديم، ونعتد ذلك منه رغبة صادقة في التحرر ونجري مع الأمل فيه، فهل كان علينا أن نظل العمر طامعين في غير مطمع؟ ثم أهملناه على شيء من اليأس منه، ثم تخشنا له وعنفنا عليه في الزجر فلم يغن لا الإغضاء ولا اللين ولا العنف، وظل سادرًا راكبًا رأسه حتى أحفاه.

ولقد كنا في كل ما كتبناه عنه في أول عهده بقرض الشعر لا نغفل إلى جانب التشجيع أن ننبهه إلى عيوبه، فقلنا عنه لما صدر الجزء الثاني من ديوانه «إنه يطأ مفاخر الصنعة بقدميه»، وإنه: «لا يتعهد كلامه بتهذيب أو تنقيح، ولا يبالي أي ثوب ألبس معانيه»، وعللنا يومئذ جموحه هذا بأنه: «نتيجة طبيعية لتمادي الشعراء في المنهج القديم ولجاجتهم في احتذاء المال العتيق»؛ أي إنه نتيجة رد فعل، فهو تطوح وتطليق للعقل يقابلهما من الجهة الأخرى غطيط المقلدين في كهف الماضي، وكان ذلك في ١٩١٣، فهل يرى أحد أن رأي اليوم لا يتفق مع رأي الأمس، إن صح أن هناك رأيين؟ كلا لقد أدينا الواجب له وللأدب قديمًا، ولكنا اليوم نؤدي حق الأدب وحده.

ومن المضحكات أن رسالة وردتنا بدون توقيع يقول فيها كاتبها: «إنك تتهم شكري بالجنون، وأنت مثله والجنون في شعرك كثير.» وما رمينا أحدًا بالجنون، بل قلنا إن ذهن شكري متجه أبدًا إلى هذا الخاطر مكتظ به، وإن لهذا الاتجاه دلالته. على أن كوني مجنونًا لا يشفع لشكري ولا لسواه في شيء — جَلَّ أو دَقَّ — وما اتهمنا شكري ولا تقولنا عليه، ولكنه هو الذي يتهم نفسه بالجنون؛ ألم يقل في كتابه «الاعترافات صفحة ٧١»:

إني أسيء الظن بكل شيء، سواء الحميد والذميم، فلا غرو إذا رأيت في الضياء ظلامًا، ورأيت في سواده ما يخلقه سوء الظن من الأوهام التي هي كخيالات الشياطين في ظلام الليل. ومن بلغ به سوء الظن هذا المبلغ يسمع همس شياطينه في أذنه، فإذا تلفت إلى يمينه وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليمنى، وإذا تلفت إلى يساره وجد سوء الظن يهمس في أذنه اليسرى، ومن العجيب أن هذه الشياطين التي يخلقها سوء الظن لا تخفي قبحها لتخدعنا، بل تظهر قبحها في حركات وجهها وجسمها (!) هذه الشياطين هي الخواطر التي يهيجها سوء الظن، تمرح في ظلامه كما يمرح الوطواط في الظلام، وتؤدي بالمرء إلى الجنون نعم قد عانيت من أجلها الجنون، وجرعت كأسه المُرة، وبلغت أعماقه ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه؛ ذلك الجنون الذي لا ينسي المرء الذكر والأماني. ا.ﻫ.

فهل رأيت أيها القارئ أننا فيما كتبناه عن شكري أكثر اعتدالًا منه هو نفسه، وأننا إذا كنا نبالغ في شيء ففي الحذر والاحتياط، وفي التحرز من التعبير بأكثر من المراد، وفي فرط توخينا للقصد وتحرينا للضبط والدقة؟

ولقد قلنا إن شكري بدأ يجرب ما يسمونه هذيان الحواس، وأوردنا شاهدًا على ذلك، وفي النبذة التي اقتطفناها من «الاعترافات» شاهد آخر؛ فإنه فيها يقول بأصرح لفظ: «ومن العجيب أن هذه الشياطين لا تخفي قبحها، بل تظهر قبحها في «حركات وجهها وجسمها».» وليس هذا من المجاز في شيء؛ فإن صاحبنا شكري لم يدع سبيلًا إلى هذا الفرض والتأويل، فقد سد بابه بإعلان دهشته والجهر بعجبه واستغرابه حدوث ذلك.

وهو القائل أيضًا في اعترافاته ص١٠:

ويسمع المحب أنغامًا وألحانًا (غريبة) لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالًا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة، ويرى أزهارًا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات.

فهو يسمع ويرى ما يعلم أن لا وجود له، وفي هذا تأييد لقوله في وصف جنونه:

ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه.

وشكري قديم العهد بالشياطين والعفاريت. قال في ص٢١ من الاعترافات:

لقد كنت في صغري كثير الاعتقاد بالخرافات، وكنت ألتمس العجائز من النساء أسمع قصصهن الخرافية، «حتى صارت» هذه القصص تملأ كل ناحية من نواحي عقلي، «وحتى صارت» عالمًا كبيرًا ملؤه السحر والعفاريت، وحتى صارت العفاريت حولي تحل حيث أكون. وأذكر أني رأيت مرة عفريتًا على سطح منزلنا، وكان أسود الجسم، شخصه مثل شخص الإنسان، ولكن جسمه يعلوه الشعر الكثيف.

وليس ذلك في صغره فقط، بل هو الآن بعد أن كبر وبلغ أشده كما كان في حداثته. انظر قوله في ص٢٥ من الاعترافات:

وفي بعض الأحايين أخاف خوفًا شديدًا أن يظهر لي إبليس، فأتلفت كي أثق أنه لم يظهر بعد، وفي بعض الأحايين أعتقد وجود العفاريت والجن، كما كنت أعتقد في أيام صغري، لقد سمعت البارحة القطط تعوي وتصرخ مثل عواء «المجانين»، أو عواء الأرواح الحائرة المعذبة التي تتخذ الليل جلبابًا ثم تفرغ في ذلك العواء ما تقاسيه من العذاب، فلما سمعت عواء القطط كأنها الخرس إذا حاولت الكلام، لم أشك في أنها عفاريت من الجن وأصابتني رعدة شديدة.

وتأمل تدقيقه في وصف هذه الأرواح الحائرة التي يذكرها، وكيف أنه لا يجد تمثيلًا لمواء القطط — لا عوائها — إلا بعواء العفاريت، وكذلك كل صوت في سمعه. قال في ص٢٦:

وقد سمعت مرة عواء الخنازير كأنها عواء جنية أصابها الموت في ولدها.

وهو بعد يلتذ المرعبات كمنظر النار تأكل الدور، قال في ص٣٤:

أذكر أني رأيت مرة حريقًا هائلًا في جنح من الليل، فهيج في قلبي عواطفه، ولم يهيج سطح العاطفة بل هيج أعماقها، وجعلت أشعر بالجلال؛ جلال ذلك المنظر الهائل، وبرقت عيناي حتى كدت أرى بريقها، وصارت النار تأكل المنازل فتنهدم وتنهال، وتتصاعد ألسنة النار والدخان يعلوها والظلام حولنا، وعلى أوجهنا نور يزيدها شحوبًا، وكنت أحس لفح تلك النار في خيالي وذهني … هذه هي المناظر التي «ألتذها»، ومن الغريب أني يخيل لي أن هذه المناظر وما تبعثه من الإحساس تعين المرء على أن يفهم الحياة ومعرفة سرها.

ثم تصور شكري واقعًا له ما يصفه هنا في اعترافاته ص٧٢:

ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يذكراني بسوء … أو أحدًا ينظر إليَّ إلا حسبته يحدث نفسه عني بسوء، وإني لأسيء ظني الآن بمن سيقرأ هذا الكتاب، وما رأيت أحدًا ينظر في ثيابي إلا حسبته رأى فيها شيئًا خفي عني، وما رأيت أحدًا ينظر في وجهي إلا حسبته رأى فيه شيئًا قذرًا، وما رأيت أحدًا عابسًا إلا حسبته يعبس من أجلي بغضًا أو حقدًا، وما رأيت أحدًا باسمًا إلا حسبته يسخر مني ويهزأ بي، وما سمعت ضحكًا لم أعرف سببه إلا خجلت خجلًا شديدًا وحسبتني غرضًا لذلك الضحك (ومن أجل ذلك صرت أعبس في وجه كل من يبسم في وجهي من الناس إلا من عرفت سبب ابتسامه، وأحيانًا أعرف سبب ابتسامه فلا يمنعني ذلك من إساءة الظن به).

وليست خواطر الجنون وسوء الظن والعفاريت كل ما يملأ ذهن شكري، فإن فيه ناحية يشغلها خاطر الإجرام.

قال في ص٧٥ من الاعترافات:

الفزع من التهم ضرب من سوء الظن والجبن. لقد رأيت في الحلم البارحة أني اتهمت (كذبًا) بإتيان جريمة، ولم يكن عندي ما أدفع به التهمة، فصرت أصيح أمام القاضي وأقول: أنا بريء. والقاضي يهز رأسه ولا يصدقني، والشاهد الكاذب يبتسم ابتسامًا خبيثًا، ثم رأيت بعد ذلك أني أساق للسجن والإعدام. إنه لحلم يفزع … إني لأذكر أني اتهمت (زورًا وبهتانًا) في أيام صغري بسرقة علبة من الحلوى، ولا أزال أذكر ما نالني من الفزع أن تكون الحياة كلها تهم (كذا) باطلة … على أنه من «جنون» اليأس والفزع والجبن توقع ما لم يحدث من المصائب وقتل النفس بهذا التوقع.

ولا ينبغي أن تفوت القارئ ملاحظة تنبيهه دائمًا إلى أن هذه التهم مزورة كاذبة، حتى التي حلم بها، فإن لهذا الخوف منه أن يصدق القارئ ما يرويه معنًى ولا شك.

وقال في ص٨٥:

يحسب كثير ممن لم يتعود التفكير أن الناس منقسمون بفطرتهم إلى قسمين: فهم إما مجرمون وإما أبرياء، وهذا نظر فاسد؛ فإن في نفس القديس جرثومة الإجرام … أيُّ الناس لم تخطر بباله خواطر الإجرام ولم يفزع مما يتحرك في نفسه من حشرات الشر؟! … لقد مرت بي ساعات كنت أحس فيها تلك اللذة، التي تدفع المرء إلى الشر، فإن الجريمة مثل السراب اللامع، والحياة كالصحراء القاتلة الحرارة، والمرء فيها كالمصحر الظمآن، يليح له سراب الشر (بضيائه)، فيريد أن يروي ظمأه وينقع غلته. أنا اليوم بريء، ولكن ما يدريني ربما كنت في غد مجرمًا، ربما تحركت عوامل الشر التي في نفسي … وكنت أشفق على المجرمين وأملأ لهم قلبي رحمة، فإنه لا يحزنني في الحياة مثل رؤية آثار التعاسة التي يجلبها الإجرام للمجرمين. لقد رأيت في الحلم مرة أني أتيت جريمة القتل، ثم وقفت أمام جثة المقتول وقد أحسست دوارًا وصار العرق يتصبب على جسمي، وكنت أحس جريه كأنه دبيب الحشرات، وقد جمد الدم في عروقي، واسودت الدنيا في عيني، وكلما أردت أن أتنفس أحسست شيئًا يسد مجرى النفس، وكنت أحس صوتًا كأنه صوت أعصابي تتقطع فيحكي صوت تقطع أوتار العود، وكنت يخيل لي كأن يدًا من جليد قد وضعت على ظهري هذه الأحلام التي تمكن الأديب أن يعدم شخصه في أشخاص غيره، وأن يلج إلى أرواح الناس وعواطفهم، وأن يرحم المجرم كما يرحم التعيس.

وقال في ص٦٢:

ليس من سبب لبغض المنتحرين وانتقاصهم إلا حب الأحياء أنفسهم وخوفهم من الموت. لقد حاولت مرة أن أنتحر فرارًا من سلطان القضاء، فأخذت سكينًا وأدنيتها من صدري، ثم قدرت مكان القلب، وقلت: هنا ينبغي أن أضرب نفس الضربة القاضية. فلم تهن عليَّ نفسي، فقلت: الليلة الآتية أفعل ذلك. ولما أتت الليلة أرجأت الانتحار إلى ليلة أخرى حتى أفكر في طرق الانتحار وأختار منها واحدة.

وقد فكر في الانتحار مرة أخرى لسبب هذا خبره، قال في ص٩٦:

إني لا أزال أذكر ذلك اليوم النحس الذي لطمني فيه شقيقي، لم يكن يدري مبلغ إساءته، فرفعت يدي لألطمه ولكن الجبن وأخاه الحزم همسا في أذني قائلين: إنك إذا لطمته لطمك مرة ثانية وهو أقوى منك، فلا تصيبه إلا ببعض ما يصيبك، فخير لك أن تتحمل اللطمة الأولى وأن تنجو سليمًا. فوقعت يدي إلى جانبي وأحسست أن روحي قد سلبت أجلَّ شيء فيها، فنظرت إلى ما بين قدمي لأرى ما سقط منها من العزة والأنفة والشجاعة، ثم أحسست كأن عظامي قد احترقت ولم يبق إلا رمادها، وخارت قواي وعرتني حيرة، وشككت في الحياة، فجعلت أعدو من الغيظ وقد اسودت الدنيا في عيني، وجعلت أنظر إلى المارين وهم ينظرون إلي، فأرميهم بلحاظ المقت والكره؛ لأني كنت أحسبهم يسخرون بي ويعرفون ما حدث لي ويفهمون سر روحي التي أهينت ولم تعد تصلح للحياة، ثم وقفت على غدير وهممت أن أرمي نفسي فيه، ولكني هزأت بنفسي؛ تلك النفس التي تفر من اللطام إلى الحمام، ثم ذهبت إلى البيت … وخطر لي «أن أتأبط سكينًا أو مسدسًا وأن أنتقم من ذلك الشقي فأقتله»، ولكن الحزم والجبن وهما سميراي ونصيحاي ألاحا لي بالقضاء والمحاكم، فجعلت أقرض أسناني من الغيظ، حتى تكسر بعضها، وكنت في حالة من حالات «الجنون». ا.ﻫ.

على أنه تشجع مرة بعد هذه وأراد أن يظهر أنفته وعزة نفسه، فوقع له هذا الحادث المضحك، نرويه تفكهة بعقب هذه المرارات.

قال في ص٩٨:

فلما احتدم الجدال بيننا وخفت أن يبدأ اللطام بدأته به؛ فإن المبادرة نصف الظفر، فبادرته بلطمة بين عينيه، وكنت أريد أن يخر مغشيًّا عليه منها، ولكني خفت أن أفقأ عينه، أو أن أصيب أحد أعضائه بتلف دائم، أو أن تكون ضربتي هي القاضية فتعود عليَّ بالطامة وبالعقاب الشديد … كل هذه الخواطر جالت في ذهني عندما سددت يدي لألطمه، ومن أجل ذلك لم يكن وقع اللطمة عليه شديدًا، فمد إليَّ يده باللطام، ولكن يخيل لي أنه لم يخش ما خشيت من العقاب، وإنما استنتجت ذلك من وقع لطماته، فانصرفت بأنف مهشم وعين سوداء حمراء زرقاء كأنها قوس قزح.

وقلنا عن شكري إنه أبكم فكأننا اخترعنا شيئًا، وحَسِبَ البعض ممن يظنوننا نلقي القول على عواهنه، ولا نبالي أين وقع من الحقيقة؛ أننا نستطيل بلساننا عليه مبالغة في إيجاعه وتنقصه والزراية عليه، ولهم العذر إذ ما أدراهم أنه هو القائل في ص٣٩ من الاعترافات:

إني في خلوتي بنفسي أعد الكلام البليغ والحجج الراجحة والكلمات البليغة، وأتخيل محادثات تجري بيني وبين الناس، تكون كل كلمة من كلماتي فيها آية من آيات البلاغة، ولكني إذا لقيت هؤلاء وحادثتهم لم أجد في كلامي هذه الآيات البينات. ثم إذا خلوت بنفسي بعد ذلك أقول: كان ينبغي أن أقول لهم كذا كذا. فينطلق لساني بالكلام الفصيح البليغ. ولكن أي مزية في أن يكون المرء «عييًّا» في المجالس فصيحًا في الخلوات؟ وهذا سبب من أسباب انفرادي ووحدتي. ويرى الناس «سكوتي» ووحدتي فيحسبون حياتي هادئة مطمئنة.

وليس الأمر عنده من قبيل صمت المفكر أو المحزون أو قليل الكلام في العادة، بل هو داء قديم مستعص. قال في صفحة ٤٧ من الاعترافات:

لقد كنت في صغري كثير الحياء، وكنت أنظر إلى جرأة أترابي من الغلمان (وحسن لهجتهم)، وأعجب بها وأتمنى أن أكون مثلهم. أذكر أن أبي زار بي صديقًا له من الفرنسيين وكنت صغير السن، وكان لصاحب البيت ابن في عمري، فجاء الغلام وصافحنا وحيَّانا «بفصاحة وطلاقة ورشاقة» أعجب بها المحاضرون، وصاروا ينظرون إليَّ ويضحكون.

ولا تظن بنا الآن حاجة إلى استقصاء «الجنون» في شعره بعد إقراره به وتقريره أنه جرع كأسه المرة، وأنه وصل إلى أعماقه، وأنه يحس بجنونه ويعرف أسبابه ونتائجه، لا كأولئك البيمارستانيين البلهاء الجهلاء الذين لا يعرفون أنهم مجانين، وفي الناس كابون حتى على أنفسهم، ولكنا عاشرنا شكري أعوامًا طويلة، خالطناه وبلوناه ولا نراه بالغ في شيء مما وصف به نفسه، بل لعله آثر السكوت عن أشياء يعرفها عنه كثير من خلطائه وملابسيه. ولا يمكن أن يقال في الرد علينا وفي تبرئة شكري مما قرف به نفسه أن «الاعترافات» صاحبها رجل آخر اسمه م.ن، وأن شكري ليس إلا ناشرًا لها، فإن هذه الاعترافات ليست إلا طائفة من المقالات، لا يربطها شيء إلا ضمير المتكلم، وقد نشر شكري أكثرها في «الجريدة» بين ١٩٠٩ و١٩١٣ بتوقيعه على أنها له، ثم عاد فجمعها في كتاب طبعه في ١٩١٦، ويرى قارئ الاعترافات أبيات شعر كثيرة واردة في أثنائها، وفي الهامش أنها من شعر المؤلف، وصاحب الأبيات هو شكري، وربما ذكر اسم القصيدة التي هي منها، وقد يعين الجزء من ديوانه الذي وردت فيه.

ومما هو خليق أن يبعث القارئ على الركون إلى هذه الاعترافات وتصديقها أنه يجد مصداقها في شعره، فكما أنه قال في الاعترافات في نفس القديس جرثومة الإجرام، كذلك قال في شعره «فقد أغرم الإنسان بالشر والأذى» وقال:

كل نفس فيها من الخير والشر
دواع طويلة الإغفاء

وقال معترفًا: أنا اليوم بريء ولكني ربما كنت في غد مجرمًا، ومن شعره:

ربما شب بين جنبيك للشر
ضرام ما إن له من فناءِ
أنت في اليوم واسعُ الجاه غضُّ الـ
ـخيرِ لَدْنُ الرخاءِ رَطْبُ الرجاءِ
خالص الكف من دماء قتيل
أبيض الطبع لم يشب برياءِ
ربما كنت في غد أشعث الطبـ
ـع لئيم الخصال جم الشقاءِ
خاضب الكف من دماء عدو
طائر الضغن ثائر الشحناءِ

وقلنا إن ذهنه مشغول بخواطر الإجرام والقتل، وأوردنا نبذًا من اعترافاته، وفي شعره شواهد كثيرة على ذلك، فمنها قصيدة «الزوجة الغادرة»، وهي قصة امرأة أرادت أن تسمَّه فسمَّها هو:

وهي قد أفرغت لي السم في كو
بي وقامت تمر غير بعيدِ
ثم غافلتها وأفرغت كوبي
فوق ماء بكوبها منزورِ
ثم نلنا من الطعام بلاغًا
وشربنا برءًا من التصريدِ
ثم جاء اليوم الجديد فنامت
زوجي الرود نومة المقبورِ
فعل السم فعله في حشاها
ودهاها من الرَّدى بقيودِ

ومنها قصيدة عنوانها «أم أسبرطية قتلت ابنها»، وهو فيها يبرر هذه الجناية؛ لأنه فر من الحرب، قال وقد نسي أنه هو أيضًا جبان حتى في مواطن «اللطام»:

أيها الخائن الجبان خشيت الـ
ـموت والموت حادث مقدور
إن أمًّا تعزى لها قتلت في
قتلك العار لم يصبها معيب

ومنها قصيدة اسمها «قبلة الزوجة الخائنة»:

قد قبلتني قبلة مرة
كأنها من حمة العقربِ
تنهش جاهًا لم يكن نهزة
لشاحذ الأنياب والمخلبِ
لولا وميض الرأي يقتادني
يعيذني من سفه المغضبِ (!)
جللتها بالسيف أمحو به الـ
ـذنب بذنب رائع معجبِ

وتأمل في هذه الأبيات همس «الجبن وأخيه الحزم»، وكيف أنه يصف الجريمة بأنها رائعة معجبة. ومنها قصيدة العقاب بالقتل، وفيها يعذر المجرم:

أطيلوا حياة الجارمين فإنها
حياة إذا سد المطامع عاقر
لقد أخلفتهم بلغة العيش برها
زمانًا وحاجات الحياة غوادر
فبئس حياة المرء والفقر عاكف
عليه وأسباب الحياة جرائر
هنالك إني للفقير لعاذل
وإني له مما يعانيه عاذر

كأن كل من يجرم يكون باعثه الفقر والخصاصة. وله عدا ذلك أبيات كثيرة في تضاعيف شعره كقوله يخاطب حبيبه:

فلو كنت بين الناس ربًّا معززًا
ونادوك إني فاتك النفس جارمُ
لألفيت غفرانًا لديك ورحمة
فما يغفر الزلات إلا الأعاظمُ

وقوله:

رحت أسعى كمصحر بان عنه الـ
ـصحب فردًا ذا وحشة واطراحِ
أو كذا الجرم حين طال به السجـ
ـن يضل الطريق عند السراحِ

وقوله:

كأن هموم المرء ذئب مراوغ
فيا بؤس مقتول ويا بؤس من نجا

وفي اعترافاته أنه يحلم بأنه اتهم بارتكاب الجنايات، وكذلك في شعره:

يرى الناس أن النوم أمٌّ رحيمة
ولكنَّ نوم الجارمين عقابُ
يسل عليَّ الحلم أسياف نقمة
فأحلام نومي كالجحيم عذابُ
كم هد من عزم صليب عذابها
وشيب وراد الذنوب فشابوا

ومنها:

وغيرني عما عهدت جرائري
فليس إلى الحال القديم إيابُ
فلا تحسبن الشر يمحى بتوبة
وإن غفر الجرم العظيم متابُ
يواقع كل الناس بالفكر شرهم
وقد عابني أني جرؤت وهابوا
وكم حدثت بالشر ذا الخير نفسه
وذاك حديث ما عليه عقابُ

وقد شبه في اعترافاته الجريمة بالسراب، وجعل للشر ضياء، وكذلك فعل في هذه القصيدة:

ظمئنا فخلنا الشر في العيش منهلًا
ولكن ورد الجارمين سرابُ

وقد حدثته نفسه بقتل حبيبه، وبرر ذلك ولم ير فيه مأثمًا:

وإن بقلبي من جفائك «جنة»
فإن رام يومًا قتلكم ما تأثما
فأسقى جنوني من دمائك جرعة
وهيهات يجدي القتل قلبًا مكلما

إلى آخر ذلك فإن المقام يضيق عن تقصيه، وما بقي من شك في أن الرجل ممسوخ الطبيعة.

هذا هو شكري، قد رسمنا لكم صورته بقلمه، وهذه هي صفاته وميوله ونزعاته واتجاهات ذهنه، وكلها شاذ غير مألوف في الفطر السليمة والطباع القويمة كما نعرفها ويعرفها الناس، فهل بالغنا؟ اللهم لا! وهل يخرج ممن كانت هذه حاله شعر سليم؟ كيف والطبع أعوج والذهن مقلوب، والعين تنظر إلى الحياة من منظار معكوس يريها الأشياء على غير حقيقتها وعكس نسبها وعلاقاتها؟

إبراهيم عبد القادر المازني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤