صنم الألاعيب (١)

شكري صنم ولا كالأصنام، ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم؛ صنم تتمثل فيه سخرية الله المُرة وتهكم «أرستفانيز السماء» مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس وسلوانهم.

ولم لا يخلق الله المضحكات وقد آتى النفوس الإحساس بها وأشعرها الحاجة إليها، ولم يلتزم في الإنسان ما لا يتوخى في سواه من وزن واحد وقافية مطردة؟

هنالك إذن على ساحل البحر شاءت الفكاهة الإلهية أن ترمي بهذا الصنم، وكأنما أرادت أن تبعث على تدبر القدرتين: هنا ثبج مزبد وأبد لا يحد، وموج لا يكاد يقبل حتى يرتد، وحياة متجددة وأواذي متوثبة متولدة؛ وههنا نفس خامدة وقوة راكدة وجبلة باردة جامدة، لا تمتد يدها إلى الثمار تهدلت بها غابات الأشجار، ولا يملأ صدرها حسن الآصال وروعة الأسحار، ولا يستجيش الحياة في عروقها منظر الكمائم تتفتح عن آنق الأزهار أو الغمائم، ترسم في صفحة السماء المقلوبة أبهى الصور أو الخضرة في مستهل الربع، تكاد العين ترى ذيوعها وانتشارها، بل «وثبها» من شجرة إلى شجرة ومن عود إلى فنن، حتى تعود الحقول إلى آخر مدى البصر بحرًا مائجًا من الزبرجد، لا ولا ينبه شعورهم الزهر في الصباح البليل وقد أثقلت أكمامه الأنداء، فتساندت رءوسها كأن سربًا من العذارى على الماء بوغتن، فتزاحمن تحت ثوب أبيض.

كلا، ليس في كل مفاتن الطبيعة وروائع الحياة ومعانيها ما يحرك هذا الصنم؛ لأن باطنه شاعت فيه لعنة السماء، فعاد أشقى الناس بنفسه، وصار لا ينقذه منها ومما منته به من صنوف البلاء إلا أن تهدمه فئوس الكاشفي طبقات التراب عنه، وليت تراب الخمول لم يرفع عنه، فقد ولد ميتًا ولم يجد نور الحياة وحرها، ولا أغنيا عنه من جمود طبعه شيئًا، وإن كان وهو ملقى بين أنقاض حياته يتوهم أنه ملهب الموج بسياطه ومدير الأفلاك بتدبيره وحكمته.

يقول كلما أعجبه شكله أو حاله أو أثارة نبذه وإهماله: «أنا إله الشعر.» فتلطمه الرياح وتدحرج ثقله على إفريز البحر، وترميه الأمواج برش من سخرها وتسك أنقابه برعد من ضحكها، فما أجله من إله يتضاحك به كل شيء حتى الهواء والماء! وللناس العذر إذا كانوا أسلم فطرة من أن يكترثوا لدعي أخرس لا ينطق ولا يبين، وإذا تركوه غارقًا في طوفان من الأوحال النفسية مدفونًا في قبر من بكمه العجيب، وأي بكم أعظم مما أصيب به هذا المنكود الذي لا يكفيه أن يدعي النطق، حتى يريد أن يكون شاعرًا ونبيًّا فنيًّا ورسولًا بدين هداية في الأدب؟!

وأنت أيها القارئ قد تعلم أن سر النجاح في الأدب هو علو اللسان وحسن البلاغ وقوة الأداء، وأن على من يريد أن يشرح دينًا جديدًا «لأطفال» هذا العالم، أو أن يحدثهم بما أحب أسلافهم في سالف الزمن، أو بما يلذهم أن يحبوه لو عرفوه؛ أن يذكر أنهم لم يتعلقوا به بعد ولا استطعموه فاستمرءوه، وأنه لكي يغريهم به ينبغي له أن يتوخى القوة في العبارة عما يريد، فإن الناس خليقون ألا يؤمنوا إلا بمن عمر صدره الإيمان.

وقلما ظهر كاتب أو شاعر إلا بالأداء، وكثيرًا ما يمتاز بعض الكتاب وتخلد آثارهم لما أوتوه من القدرة على إجادة العبارة عن آراء غيرهم؛ كأبي إسحاق الصابئ كاتب الملوك والأمراء، وإن كان لا محل لهم بين المفكرين وأصحاب العقول الكبيرة الذين تكون آراؤهم بمثابة محور انقلاب في تاريخ العقل الإنساني، والذين يستطيعون أن يستغنوا إلى حد ما عما لا مسمح للأديب عنه، وعلى قدر ابتعاد الكتابة عن مجال التفكير البارد ودنوها من ميدان الذهن المشبوب والعواطف الذكية؛ تكون الحاجة إلى ضرورة فن الأسلوب.

ولعل هذا أكبر الأسباب التي أفضت إلى خمول شكري وفشله في كل ما عالجه من فنون الأدب؛ لأنه لا أسلوب له؛ إذ كان يقلد كل شاعر ويقتاس بكل كاتب وينسج على كل منوال، وحسب المرء أن يجيل نظره في كلامه ليدرك ذلك إذا كان على شيء من الاطلاع، فإذا لم يكن فهو لا يعيبه أن يرى أنه يستعمل اللغة جزافًا ويكيل «توافيق وتباديل» — كما يقول الرياضيون — من الكلام غير واضحة ولا مؤدية معنًى بعينه، ويسطر على الطِّرْس أصداء متقطعة لأصوات مألوفة لا رموزًا منتقاة لتمثيل المعنى وإحضاره، وسنمثل لكل ذلك في موضعه من هذا النقد.

ويخيل إلينا أن شكري على كثرة الشكوى في شعره من الخمول، وحقده على إغفال الناس أمره، كما هو ظاهر من قوله:

قد طال نظميَ للأشعار مقتدرًا
والقوم في غفلة عني وعن شاني
هذي المعاني تناجيهم فما لهمُ
لا ينصتونَ بأفهام وأذهانِ؟

وتعزيه بأن الزمان سينصفه ويُديل له من خصومه، وتظاهره بالاطمئنان إلى حكم الأيام في قوله:

أرمي بشعريَ في حلق الزمان ولا
أبيت منه على هم وبلبالِ

مجاراة للمتنبي وتقليدًا له في قوله:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرَّاها ويختصمُ

نقول: يخيل إلينا أن شكري لو شاء لفطن إلى سر هذا الخمل وعلة ذلك الإهمال، ولعرف أن داءه كامن فيه، وأن الناس لا ذنب لهم؛ فقد بحثوا في شعره على شيء جليل يروع، أو حسن يلذ ويمتع، أو مستظرف يلهي ويسلي، وتقطع به ساعات الفراغ وأوقات البطالة؛ فلم يجدوا عنده غناءهم، وألفوه يريد أن يجعل نفسه هزؤة السخفاء وضحكة الفارغي القلب والعقل جميعًا، ولقد كان هيني الشاعر الألماني الجليل يسخر من نفسه، ولكنه كان بذلك يسخر بالإنسانية كلها ممثلة في شخصه، ولا يسع كل قارئ إلا أن يحس أنه أصاب موضع الداء، أما شكري الذي أراد أن يقلد هيني، والذي زعم أن العالم يفقد بموته ساخرًا عظيمًا، وذلك حيث يقول:

وأن «أدرج» في قبري
قتيل الحب والياسِ
فمن يصدح بالشعر
ومن يسخر بالناسِ

هذا الساخر العظيم والصيدح الفريد والرسول الجليل؛ لا يطمع في منزلة ملحوظة، ولا تشرئب آماله إلى سمو قلق، وإنما غايةُ ما يرجو في حياته أن يفوز به — على قدر ما استطعنا أن نستوضح غرضه من إيماءاته الخرساء — وكل ما يقنع به ويسكن قلقه وتهدأ ثورته إذا بلغه؛ هو أن «تمر به الحسان فترتضيه»! هذا هو دينه الذي يدعو الناس إلى عبادته، ولا ينفك يشكوهم إلى الزمان ويشتمهم ويرميهم بالغباء؛ لأنهم لا يستمعون إليه. أليس هو القائل في بعض هرائه، إذا لم يكن الناشر قد نحله ذلك نكاية فيه:

كفاني من نبيه الذكر أني
تمر بي الحسان فترتضيني

ولا أدري ماذا يرتضين منه؟ لعله يدعي بعد الشعر والتبريز فيه أنه جميل؟ وكيف تمر به وترتضيه؟ هل أقام نفسه في معرض تمر به فيه وتجسسه بعيونها وأكفها كما يفعل الصبيان باللعب والصور؟ وما ذنب نصف الناس على الأقل إذا كانت هماتهم ومساعيهم وآمالهم تنأى بهم عن دائرته الضيقة؟!

وعلى أنه عجز عن إيضاح هذا الغرض الضئيل؛ إذ من الذي يستطيع أن يفهم شيئًا من ارتضاء الحسان له؟ ومع ذلك لا يتحرج أن يقول في نفس القصيدة، التي أنزل فيها دينه على الناس وأطلقها من قيود القافية — والوزن أحيانًا — لكيلا يعوقه عن التحدر شيئًا معاتبًا الغرام:

أتُقصينا ونحن مقربونا
من التبيان والأدب الغزيرِ

ولعمري ما عدا الواقع في قوله إنه مقرب من البيان والأدب، ولكن التقرب منهما شيء، وورود شرعتهما شيء آخر، وهل بلَّ طرف لسانه من معينهما الفياض من يقول:

وفي السعي شيء يعوق الطماح
فيخطي الأجل ويصمي الأفلَّا

ولو سئل هو نفسه في معناه لضاقت عليه مذاهب القول، ومن يقول في صفة المشنوق:

ضاقت الأرض عن مآتمه فاعـ
ـتاضَ عنها برقة الملحودِ
كأنما حسب المرزوء في عقله — إن كان ما فهمناه من البيت هو المقصود — أن المشنوق سيظل معلقًا في الفضاء إلى الأبد، أو أن الأرض تضيق عن شيء من المآتم أو المحامد، أو أنها هي التي لفظته وأعلته لتمكن حضرته من وصفه. ومن العجيب، والذي يدل على أن شكري متكلف لا مطبوع، وأن ما يزعمه من أنه من أهل المذهب الجديد في الشعر باطل؛ أنه هو نفسه قال ينعي على المتأخرين حماقاتهم وسخافة مناحيهم:

وإذا صلب أحد الأمراء قالوا إن قاتليه أجلوه فلم يرضوا له القبر، وينشدون أبيات الأنباري التي يقول فيها:

ولما ضاقَ بطنُ الأرض عن أن
يضم علاك من بعد المماتِ
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
من الأكفان ثوب السافياتِ

ويقولون: انظر إلى مهارة الشاعر في قلب الحقائق وإظهار الذميم مظهر الحسن … وليس أدل على جهل وظيفة الشاعر من قرنهم الشعر إلى الكذب، وليس الشعر كذبًا، بل هو منظار الحقائق ومفسر لها وليست حلاوة الشعر في قلب الحقائق، بل في إقامة الحقائق المقلوبة، ووضع كل واحدة منها في مكانها … إلخ.

فما أحلى هذا الكلام وأصدقه! وما أبعد قائله عن العمل به وأدناه إلى المتأخرين الذين مسخوا الشعر «حتى صار» كما يقول «كله عبثًا لا طائل تحته»! أو ما أجدره أن يكف عن دعواه أنه من رجال المذهب الجديد في الشعر، وهو لا يقلد إلا السخفاء من القدماء باعترافه! أترى هذا المفتون يحسب أنه يستطيع أن يخدع الناس بهذه النظريات التي ينقلها ولا يفهمها، إذ لو كان يفهمها ويؤمن بها لما كان شعره من النوع الذي ينعاه على سواه ويعيبهم به؟ أم ظن أنه يكفي أن يلوك المرء جملًا كالببغاء ليكون في نظر الناس حديثًا سائرًا مع الزمن مؤديًا فرائض الحياة؟ يظهر أن هذا هو الذي يعتقده شكري، فبينما تراه يقول في مقدمات ديوانه: «إن الشاعر الكبير (مثله بالبداهة) يخلق الجيل الذي يفهمه ويهيئه لفهم شعره.» ترى له في بعض الدواوين يصف ليلة ذكرها:

يبيت الندى فوق الزهور مرقرقًا
كما انبعث الطل الرقيق ليقطرا

أو قوله في فلسفة «تزاوج النفوس»:

والنفس للنفس زوج طاب عرسهما
ومهرها الحب لا يغلو لها المهرُ
من لي بنفس أرى نفسي بها مُزجت
كما تمازج في وديانها الغدرُ
والنفس في عيشها شتى منافذها
منها القلوب ومنها السمع والبصرُ

«المقصود هو البيت الأخير»، فأي جيل يريد هذا المائق أن يخلقه ليفهم هذه السخافات؟ (بضم السين كما ينطقها هو) أما كفى أن في الدنيا سخيفًا مثله حتى يطلب أن يوجد من أمثاله جيل برمته؟ وأي بلية تكون شرًّا على العالم من هذه؟ وأي خطب يكون أدهى وأعظم من وجود جيل كل تفكير أهله منسوج على منوال القائل:

كأننا والماء من حولنا
قوم جلوس حولنا ماء!

وقد يكون من المستحسن قبل أن نخرج من هذا التمهيد إلى النقد التفصيلي، أن نورد للقراء مثالًا لشعر السخر الذي يباهي به: قال:

ناصر صروف الدهر مستقبلًا
قذاله لو جزته أقرعُ
فجز من لمته خصلة
لعلها من خلفه ترفعُ
فالدهر إن أقبلت ذو لمة
لكنه من خلفها أقرعُ
مطلعه مثل طلوع المنى
وحسرة ما خلَّف المطلعُ
ولا ترمْ بالذم صفعًا له
فإنما يصلع إذ يصفعُ
قراعه مثل قراع الظبي
وإنما يقرع إذ يقرعُ
فَاطْلِ قفاه بمداد لعل
اللون من روقته يخدعُ
وغض عنه نظرًا واعيًا
فإنما يعديك ما يطبعُ
وإن جرى في الدم كُرْهٌ له
فخير ما يجدي لك المبضعُ
حجامة لا شك في نفعها
وقد يضير المرء ما ينفعُ
ولا تعف صحبته إنه
بالرغم من صلعته أروعُ
واحن له الرأس لكيلا ترى
فإنها من خلفه تلمعُ

ونحن إنما نمثل لبكم هذا المسكين، ولا نستقصي مخافة أن نحتاج إلى نقل كل شعره على التقريب؛ ونقول على التقريب لأن له أبياتًا مبعثرة في أجزاء ديوانه السبعة، لو كان كل شعره على مثالها منسوجًا على منوالها لصار صنمًا معبودًا لا منبوذًا كما هو الآن. وما بالعجب أن يكون له بضعة أبيات مفهومة، فإنك لو جلست ساعة إلى مجنون أبله لجرى لسانه بجملة أو جمل تلمح فيها أثر العقل، وإن كان لم يفكر في مبلغها من الصواب وحظها من السداد! وللعقل الذاهل المضطرب انتباهات فجائية لعلها من أقوى الدلائل على الرزء فيه، وقد جمع صاحبنا إلى البكم الذي مثلنا له ضعفًا في الذهن واضطرابًا في جهاز التفكير، لم تنفع في معالجتهما كثرة القراءة والاطلاع على خير ما أنتجت العقول. وقد يعلم القارئ، أو لا يعلم، أن الاطلاع قلما يجدي إذا كان الاستعداد مفقودًا، وكان الذهن غير مستو أو صالح «لهضم» ما يتلقاه والانتفاع به، وتحويله إلى فكرة مكونة من امتزاج الجديد بالموجود: كالمعدة الضعيفة لا ينفعها أن تزحمها بألوان الطعام، وكثيرًا ما يكون الإقبال على الكتب والولع بها نوعًا من الشره تحول من المعدة إلى الدماغ، وما عدونا بقولنا هذا ما وصف به نفسه حيث يقول: «ويمتاز الشاعر العبقري (يعني نفسه أيضًا) بذلك الشره العقلي الذي يجعله راغبًا في أن يفكر كل فكر»، ولكن ما به ليس من هذا القبيل، وشرهه لا يجعله يحس إلا بالحاجة إلى قراءة كل كتاب لا إلى التفكير، هذا هو ما يعانيه شكري، ولعله من أسباب ضعفه العديدة؛ فإنه يقرأ حتى كتب العفاريت وقصص السحرة والمردة والجان؛ لما وقع في نفسه من أن هذا حقيق أن يقوي خياله، ويجعل له أجنحة يحلق بها في سماء الشعر، وفاته هو وأمثاله أن الخيال يجب أن يطير بجناحين من الحقيقة، وأن كل كلام ليس مصدره صحة الإدراك وصدق النظر في استشفاف العلاقات لا يكون إلا هراء لا محل له في الأدب، ومتى كانت حمى الحواس وهذيان العواطف وضعف الروح تعيش في عالم الشعر؟

وليس في الوضوح وقوة الأداء وحسن البيان ما ينفي العمق؛ لأن العمق ليس معناه الغموض، فليكن الشاعر عميقًا كما يشاء، ولكن مع الوضوح والجلاء؛ إذ أيهما أحوج إلى النور يراق عليه ويكشف عنه: ما تلمسه اليد وهي تمتد وتعثر به الرجل وهي تخطو، أم ما يغوص عليه المرء في أغوار الفكر؟ فكل غموض دليل إما على العجز عن الأداء أو التدجيل أو استبهام الفكرة في ذهن صاحبها، على أنه من أفحش الخطأ وأضره بالاستعداد وأشده إفسادًا للفطرة؛ أن يتكلف المرء غير ما أعدته له طبيعته، وأن يعالج محاكاة النسور إذا كان طوقه لا يتجاوز دبيب النمال، فإن العقل الصغير إذا التزم حدوده، وقام بما يستطيعه على الوجه الصحيح، قد يصل إلى غايته من طريقه، ولا يحس الحاجة إلى قوة العقل الكبير.

وقد ركب شكري هذا الجهل فتكلف ما لا يحسن وأراد أن يكون شاعرًا وكاتبًا من الطراز الأول، وظن أن الاجتهاد يغني غناء الاستعداد، فلا هو بلغ أية درجة مما طمع فيه، ولا هو أبقى على خلقه الوادع وقناعته بميسور العيش ومنزل أنزله الله وحال ألبسه إياها.

ولما كان السقم في الكلام مرده السقم في الذهن، فسنبدأ نقدنا بالدليل الضمني المستخلص من كتاباته على اتجاه ذهنه، ثم نعقب ببيان الفساد الذي اكتظت به دواوينه، ونختم الكلام بتقصي سرقاته وإغاراته على شعراء العرب والغرب جميعًا.

•••

لا نقول إن شكري مجنون، فنحن أرفق به من أن نصدمه بذلك، وأعرف بحاله وبأمراض العقل من أن نهيجه إلى الخبال بالإيحاء والتذكير والإلحاح، ولكننا نقول إن ذهنه متجه أبدًا إلى هذا الخاطر — خاطر الجنون — وإن فكرته مالئة لجو حياته، والخوف منه منغص عليه كل لذاته وعلالاته، وإنه حتى في طعامه يتوخى ما يظن — أو يقال له — أنه يكفل اتقاء هذه النكبة أو يساعد على المقاومة؛ كالسمك والبيض والمخ وأشباه هذه الألوان، وإن ذكر هذا اللفظ على مسمع منه يدخل في روعه أنه هو المعني به، فيمتقع. ولا يخفى أن اتجاه الذهن له دلالة خاصة، وهو قرينة قلما تخطئ؛ إذ لماذا ينصرف المرء إلى خاطر بعينه، لا يعدوه في روحاته وغدواته وفي طعامه وشرابه ويقظته ومنامه وفي أقواله وكتاباته من شعر ونثر — أو منظوم ومنثور على الأصح — ولكن اتجاه الذهن لا يصح أن يؤخذ به وحده في البت بأن المرء صائر لا محالة إلى آخر الطريق. وأكثر أهل الذكاء فضلًا عن العظماء فيهم شيء كثير من الشذوذ، والجنون والعبقرية بسبيل، وهما في الحقيقة صنوان، وحالتا العقل فيهما متماثلتان، فالعبقري ذهنه مكظوظ بالآراء حافل بالذكريات، يتمخض أبدًا عن إدراك علاقات بين الحقائق والأصوات والألوان لا تفطن إليها عقول الأوساط، والمجنون في ذلك نده وقريعه، وكلاهما ترجع مميزات تفكيره وعمله إلى فرط النشاط في بعض نواحي المخ أو فتورها أو قابليتها للتنبيه والتهيج، وكثيرًا ما تنقلب العبقرية جنونًا والجنون عبقرية. وقد فطن الأقدمون إلى هذه العلاقة ولمحوها، وإن كانوا لم يتقصوا — كالمحدثين — غير أن جنون العبقرية منتج يُخرج — كما يقول أفلاطون — الشعراءَ والمخترعين والأنبياء، أما الجنون المألوف فهذا عقيم، نعيذ صاحبنا شكري منه، ولا ينبغي أن يتوهم أحد أن العبقرية هي الجنون، فليس أفحش من هذا الخطأ ولا أقتل من ذلك الظن؛ لأن العبقرية قوة زائدة عن نصيب الرجل العادي، وقلما يؤتاها المرء ولا يصحبها نوع من الاضطراب في التوازن العقلي والعصبي.

قلنا إن ذهن شكري متجه إلى هذا المعنى، وقد يكون هذا غير راجع إلى علة أصيلة فيه، إلى ما يجشِّم نفسه من المتاعب ويحمل عليها ويرهقها به، كأن يكتب جزءًا من ديوانه في شهر واحد، حتى كأنما هو مأجور على ذلك ومشروط عليه أن يتمه في وقت محدود.

وقد كانت نتيجة ما أصابه من الكلال أن حدثته نفسه بإحراقه بعد طبعه، ومع ذلك لم يعمل بنصيحتنا، ولم يُعْطِ نفسه حظها من الراحة، ولا عرف لجسمه وجهازه العصبي حقهما عليه، وظل يخرج للناس الجزء تلو الجزء، كأنما يخشى أن يخب به المرض ويوجف بعقله الداء، فلا يستطيع أن يصدح بالشعر ويسخر بالناس!

وماذا أجناه كده؟ كان كل جزء يصدر فكأنما هو حجر وقع في بئر، فلا هو «صدح» ولو في حمام، ولا استبقى قوة جسمه واستواء عقله.

وإلى القراء أمثلة لذلك. قال من قصيدة «الحب والموت»:

حنيني إلى وجه الحبيب جنون
جنون يهيج القلب وهو شجونُ

وقال من قصيدة «الدفين الحيُّ»:

فهاج هياج الشر في الأسر طرفة
وأدركه حتى الممات جنونُ

وقال من قصيدة «غاية الحب»:

وإن كنت عندي جئت بالعقل والحجا
وإن لم تجئ فالقلب مجنون ثائرُ
ولكن وجدي منك جن جنونه
فها أنا من حبي بحسنك هاترُ

وقال في «طبع الإنسان»:

إن بالمرء جنونًا جاعلًا
نوبة للشر فيه تحتدم
لا ينال البرء من نوبته
أو يذيع الشر منه والألم

وقال من «مرآة الضمائر»، وكان له في البيت معدى عن لفظ الجنون:

وفي كل وجه من جنون ومن أذى
ملامح لا تخفى تناديك بالجهرِ

إذ من الذي يستطيع أن يدعي أن في كل وجه ملامح من الجنون ظاهرة ناطقة؟ ومن غير السكران يحسب كل امرئ غيره سكران؟

وقال من قصيدة «سلوان الجنون»:

عسى أن تجن النفس فيكم جنونها
فلا ذكرة تصبي ولا فكر يخطرُ
فإن جنون النفس سعد وراحة
وإن عناء الحب ذاك التذكرُ
فأنساك حتى لست أدري أعائش
على الأرض تسعى أم دفين معفرُ
فإن يبلغ الحب الجنون فلا تلم
أما كل مجنون على الهجر يعذرُ؟

وقد كان له مندوحة عن تمني الجنون، وكان في وسعه أن يطلب الموت أو السلوان، ولكنه لشقوته يحسب أن المجانين سعداء، لا يكرب أحدًا منهم خاطر ملحٌّ أو وهم جاثم، ولو أنه سأل طبيبه لعرف منه أن بعض المجانين يعذبون أنفسهم بما يتخيلون، وأنهم كثيرًا ما يخلقون لأنفسهم جحيمًا من الأوهام يصلونها، على أنا لا ندري من أين جاءه؟ ولماذا ظن أن حبيبه سيلومه ويعاتبه على الجنون إذا بلغ الحب ذلك؟ ولكنه معذور على هذه السفسطة على كل حال، والناس كذلك معذورون إذا لم يقرءوا نظمه.

وقال من قصيدة «صنم الملاحة»:

بلغ الغرام إلى الجنون
فلا عتاب ولا ندم

وقال من قصيدة «الحسود»:

وأدركه مس الجنون وأظلمت
عليه السماء والنهار جميلُ

ومن قصيدة «بالله ما تفعل لو بلغوك»:

بالله ما تفعل لو بلغوك
أني عرتني جنة من هواك؟
وكيف لا يذهب لبي والهوى
إذا مضت لي أشهر لا أراك؟

ومن قصيدة «أنا مجنون بحبك»:

أنا مجنون بحبك
فأزل غلة صبك

ومن قصيدة القديم والجديد:

ومن العشق جنون خابل
يزدري المرء له وقع التهم
إنما الحب جنون وجوى
ورجاء واجترام وندم

وقد ترقى في هذا المعنى من القول بأنه هو مجنون إلى نسبة الجنون إلى الناس كلهم، إلى الحياة نفسها والدهر أيضًا. وقال من قصيدة «جنون الحياة»:

لا ترع فالدهر مجنون
كل حي فيه مغبون
جن من حول ومقدرة
وكذا ذو الحول مجنون
فتضاحك ثم قل أبدًا
إن هذا الدهر مجنون
دهرنا دار المجانين
كل حي فيه مسجون

ومن قصيدة «بعد الحسن»:

وكنت أعد الحسن فيك فطانة
وأن جنوني في هواك صواب

ومن قصيدة «وحي الشعر»:

كجنون النعيم والبؤس فيهم
وهي تبدو لغيرهم كذكاءِ

وفسر البيت بقوله: «أي عواطف الشعراء تهدي غيرهم، ولكن من أجلها يحس الشعراء جنون اللذة والآلام.» فأنا أشهد الله والناس أني لا أحس هذا الجنون، ولكني أحسبه سينكر علي الشاعرية لهذا على الأقل. وقال من قصيدة «مشتري الأحلام»:

لو يستحيل المستحيل على الورى
وأنال من أحلامه ما أطلبُ
لجننت جنة قادرٍ متحكمٍ
يرضى على هذا الأنام ويغضبُ

فالحمد لله الذي لم يحكم في الناس نزوات جنونه.

وقال من قصيدة «صوت النذير»:

أم ضحكة الرجل المجنون من حزن
لشد ما نال منك البؤس يا رجلُ
حتام تنكر حقًّا غير مشتبه؟
لا يكره الحق إلا من به دخَلُ

وهذا تقييد عجيب، فقد يكره المرء الحق، ويكون بغضه إياه راجعًا إلى أي سبب غير الجنون:

وقال من قصيدة «بين الحب والبغض»:

وإن بقلبي من جفائك جنة
فإن رام يومًا قتلكم ما تأثما
فأسقي جنوني من دمائك جرعة
وهيهات يجدي القتل قلبًا مكلمَا

فيظهر أن حبيبه عرف ذلك منه وأدرك أن جنونه قد يدفعه إلى الإجرام فتحرى البعد عنه، فما أشقاه! جنونه يغري حبيبه بالهجر، والهجر يزيد في جنونه، فأين المخرج من هذه الحلقة؟ وإلى أي حال ينتهي به هذا الدوران؟ ونحن بعد لم نقلب إلا جزءًا من ديوانه لا يبلغ عدد صفحاته السبعين، وناهيك بما في الأجزاء الأخرى، ولم ننقل من شعره إلا ما كان لفظ الجنون فيه صريحًا لا معناه، وإلا فإن هناك أبياتًا عديدة تضمنت هذا المعنى، وإن خلت من اللفظ كقوله:

أمشي «حدث نفسي» عن محاسنكم
حتى يخال حديثي لغو نشوان
نشوان ليس له عقل فيسكته
الحب خمري وليس الخمر من شاني

فإذا كان هذا ليس بالجنون فلا ندري ماذا يكون؟! وقوله وهو أدهى:

وأهتف طول الليل باسمك جاهدًا
وهاجس هذا الذكر داء مخامرُ

فهو يقطع الليل كله مجتهدًا في الهتاف، ويعترف بأن هذا داء ملازمه لا عرض زائل. وقوله:

«غاب رشد الناس» عن أنفسهم
ضاع منهم تحت أشلاء الرمم

إلخ … إلخ.

وليس الأمر بمقصور على جولان هذا الخاطر في نفسه وملازمته إياه أبدًا، وعلى الصياح طول الليل وتحديث نفسه بمحاسن الحبيب في الطريق كالسكارى، والاعتقاد بأن كل الناس مجانين وأن الحياة نفسها جنت والدهر كذلك، وأن لكل شيء جنونًا مجنًا، وأن الزمن دار المجانين ومستشفى مجاذيب، وأن الناس كلهم مرضى كما يقول:

في كل دار من جواه مريض
وكل قلب فيه جرح رغيبُ

كأنما يريد أن يعتذر لنفسه من استهتاره، وما عرفنا أن الأمر كما وصف والحال على ما زعم، وإن كنا نعلم أن الحب بني عليه بقاء النوع، ولكن ليس كل حب ذاهبًا باللب؛ نقول ليس الأمر بمقصور على ذلك، فإن شكري على ما يظهر من كلامه بدا يجرب ما يسمونه هذيان الحواس، وهو — تساهلًا في التعبير — مرض يجعل صاحبه يتوهم مثلًا أنه يسمع أصواتًا، أو يرى أشباحًا تختلف وضوحًا واستبهامًا حسب درجة الحالة، فإذا أصاب العين رأت ما لا وجود له، والأذنَ، سمعت ما لم يصدر فعلًا من الأصوات، وقد لا يصحبه أي اضطراب محسوس في القوى المفكرة، وإن كان لا شك مع ذلك في أنه اضطراب محلي في المخ، إذا اتسعت رقعته أحدث الجنون، وكثيرًا ما يصحب بعض حالات الجنون «هذيان الأذن»؛ أي اعتقاد المصاب أنه سمع أصواتًا أو أن أرواحًا تخاطبه، ومن ذلك ما رواه الدكتور نسبت عن بائع كتب في برلين اسمه نيقولا، كان يرى جثث الموتى تسير في الطرقات، وأشباح الآدميين والحيوان أيضًا، وكان يسمع أرواحًا تلازمه بالليل تتخاطب وقد تكلمه، ويسأل بعضها عن بعض، وقد عولج من ذلك بوضع «الدود» على عنقه؛ إذ كان سببه كثرة الدم الصاعد إلى بعض نواحي المخ.

وقد قال شكري — أعاذه الله من شر ذلك — في الصفحة الثانية والخمسين من الجزء الثالث تعليقًا على بيته هذا:

أو كنور البدر فضيًّا له
وتر في القلب فضيُّ النغم

ما رأيت القمر إلا أحسست كأن نواقيس تطن في أذني، وأن ألذ الأنغام رنة الفضة المجوفة. ا.ﻫ.

فهذا كلام لا مجال فيه للتأويل والتخريج، وهي قاطعة في أنه في كل مرة يرى فيها ضوء القمر، «يطن» في أذنه صوتُ نواقيس فضية. ولنا أن نلاحظ أمورًا:
  • أولها: أن البيت لم يكن يستدعي هذا القول منه؛ لأن معناه مفهوم بدونه.
  • وثانيها: أن ما «يطن» في أذنه «كلما» رأى ضوء القمر ليس له علاقة كبيرة — سوى علاقة اللفظ العارض — بتقريره أن ألذ الأنغام رنة الفضة المجوفة، خصوصًا وأن رنتها «ليست» ألذ «الأنغام»، وإن كانت «أخلص» الأصوات وأصفاها، والفرق كبير بين صفاء الصوت وبين حلاوة النغم … نعم إن الصفاء من عوامل الحلاوة في النغم، ولكن خلوص الرنة من الأكدار — مع التسامح في عد الرنة نغمة — لا يمكن أن يعد «ألذ» الأنغام.
  • وثالثها: أنه كلما رأى «ضوء القمر» طن في أذنه هذا الصوت ذو الرنين، ويعرف الخاصة وأهل الاطلاع والملاحظة أن «ضوء القمر» مقرون في أذهان شعوب كثيرة بذهاب العقل والهذيان، كما يدل على ذلك استعمال هذه العبارة في لغاتها.
  • ورابعها: أنه إن كان صادقًا فيما يزعم، فالدلالة هنا كبيرة وقد لا يتردد المرء في الذهاب إلى أنها مريبة، وإن كان قد كذب على نفسه، فلنا أن نتساءل: لماذا يعزو إليها غير الواقع؟ ولماذا اختار من الكذب ما يدل على اضطراب في طائفة من الأعصاب لها اتصال عظيم بالدماغ؟

ولو شئنا لامتد بنا نفس الكلام، واتسع لنا مجال القول في هذا الباب، ولكنا قد أطلنا، وإن كان التحليل ممتعًا مغريًا بالإسهاب والإفاضة؛ ولذلك نجتزئ بملاحظة أخرى، وهي أن لشكري كتابين غير دواوينه: أحدهما اسمه الاعترافات، وليس فيه ما يستحق الذكر إلا أنه وصفه بأنه «أحلام مجنون»، والآخر رواية اسمها «الحلاق المجنون»، وهي كذلك تافهة لا قيمة لها، وقد احتذى فيها كاتبًا روسيًّا في رواية اسمها «هل كان مجنونًا؟» وموضوع قصة شكري أن حلاقًا ذبح زبونًا له؛ لأن رأس الزبون تشبه رأس الخروف! فأغراه هذا الشبه بذبحه بموساه، وهي في الحقيقة سلسلة قصص من هذا النوع مروية على لسان زبائن الحلاق.

وقد سبق لنا أن نبهنا شكري إلى ما في شعره من دلائل الاضطراب في جهازه العصبي، وأشرنا عليه بالانصراف عن كل تأليف أو نظم؛ ليفوز بالراحة اللازمة له أولًا؛ ولأن جهوده عقيمة وتعبه ضائع ثانيًا، ولم تكن أمامنا في ذلك الوقت كل هذه الشواهد، فلعله الآن وقد رأى كثرتها وتوافرها — وهي كثرة مروعة — يرجع إلى رأينا، ويرتضي ما ارتضينا له وما هو خليق أن يحمده الناس منه، فلا يحاول أن يغالب مشيئة الطبيعة، التي لا تخلق الأبكم إلا وهي قادرة على إلزامه البكم طول حياته، ولو «جن» تحرقًا على النطق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤