مقدمة

جاء ريتشارد ويكوف إلى وول ستريت في عام ١٩٨٨، ووُثِّقت تفاصيل حياته المِهَنية التي استمرَّت ٤٠ عامًا في سيرته الذاتية التي كانت بعنوان «مُضاربات ومُغامَرات في وول ستريت» (١٩٣٠). إنَّ حكايات الشركات الكبيرة التي رصدها والقصص الداخلية للمُناورات التي قامت بها تُعدُّ مادة مُثيرة للقراءة. ولكن أبحاثه من أجل اكتساب «تقدير خبير» لعمليات التداول تُعد القصة الأكثر جذبًا وإلهامًا. ففي وصفه للتقدم الذي أحرزه في هذا الشأن عام ١٩٠٥، كتب يقول:
أمضيتُ حتى الآن حوالي سبعة عشر عامًا في وول ستريت؛ كصبيٍّ، وموظَّف، وشريك صامت وشريك مُدير في البورصة. ولكن رغم كل ما رأيتُه ودرستُه ولاحظته، ليس لديَّ حتى الآن خطة أو طريقة محددة الملامح لكسب المال في البورصة، سواء لعملائي أو لنفسي.1
حتى هذه النقطة في حياته المهنية، كان ثمَّة أمران يسيطران على خبراته؛ أولًا، يقضي كبار المُتعاملين في البورصة ساعات في دراسة عمليات التداول الخاصة بالأسهم كما تظهر على شريط أسعار التداول. ثانيًا، أدرك الحاجة إلى وجود كلية أو مؤسسة تعليمية لتدريس «الأعمال الداخلية لسوق الأوراق المالية.» كان يريد أن يُبيِّن الطريقة التي كان العامة يَنخدِعون بها مرارًا وتكرارًا من المتلاعبين الكبار في السوق. وفي أواخر عام ١٩٠٧، عندما عانت سوق وول ستريت من توابع حالة ذعر أخرى، قرَّر ويكوف أن يُصدر منشورًا تعليميًّا — مجلة شهرية بعنوان «ذا تيكر» — يتضمَّن مقالاتٍ عن سوق الأوراق المالية. كان الجزء الأكبر من الكتابة يقع على عاتق ويكوف، وقادته ضغوط العثور على مادة جديدة إلى تناول العديد من جوانب أسواق الأسهم والسندات والسلع. واختبر أساليب التداول الميكانيكية المُعتمدة على الإحصاءات والعديد من النظريات المُقدَّمة له من القرَّاء. وبينما انتقل في نهاية المطاف إلى اتجاه مختلف، أدرك أن الرسوم البيانية تقدم سجلًّا لتاريخ الأسعار أفضل من الإحصاءات الصرفة. وعندما وصلت دراسته للرسوم البيانية وتقنيات سوق الأسهم لمرحلة متقدمة، التفت إلى شريط أسعار التداول. قال في هذا الشأن: «زاد إدراكي أن سلوك الأسهم يعكس خطط وأغراض أولئك الذين يُسيطِرون عليها. وبدأت أرى إمكانيات فهم ما كانت هذه العقول تقوم به من خلال الشريط نفسه.»2 وبتوجيهٍ من تاجر قاعة سابق في البورصة، بدأ ويكوف دراسةً جادة لقراءة شريط أسعار التداول، وأصبحت ملاحظاته دافعًا لكتابة سلسلة من المقالات حول قراءة شريط الأسعار في مجلَّته، وتاق قراؤه للمزيد منها. ومثَّلت هذه السلسلة الأصلية من المقالات مادة لكتاب ويكوف الأول «دراسات في قراءة شريط أسعار الأسهم» الذي نُشر في عام ١٩١٠ تحت اسمٍ مستعار هو «رولو تيب». وكتب ويكوف لاحقًا في سيرته الذاتية بشأن هذا الكتاب قائلًا:
كان الغرض من التدريب الذاتي والتطبيق المُستمر للطُّرُق المُقترَحة في كتاب «دراسات في قراءة شريط أسعار الأسهم» هو تطوير مَلَكة التقدير الحدسي، والتي ستكون نتيجة طبيعية لتمضية سبع وعشرين ساعة في الأسبوع أمام شريط الأسعار على مدى أشهر وسنوات عديدة.3

وفي السنوات القليلة التالية، أصبح تأرجُح أسعار الأسهم أكبر، وطبق ويكوف أساليبه لقراءة شريط الأسعار على التحركات الأوسع للسوق. وطالب الجمهور بتوصيات تداول أكثر مع تقليل التركيز على التحليل. وأدى هذا إلى إصدار «تريند ليتر»، وهي عبارة عن نشرة أسبوعية من صفحة واحدة تحتوي على قائمة بعمليات التداول، والتي نمَت شعبيتُها حتى أصبحت متابعتها ضخمة للغاية مما تسبَّب في معاناة ويكوف وسعيه للحصول على مزيد من الخصوصية. وهذا ما جعله يوقف نشرها في عام ١٩١٧ بعد تحقيقه لأكبر متابعة مقارنةً بأي فرد في وول ستريت منذ تسعينيات القرن التاسع عشر.

لم يَختفِ ويكوف بعد ذلك، بل ألَّف العديد من الكتب. وتحوَّلت مجلة «ذا تيكر» إلى مجلة «ماجازين أوف وول ستريت»، والتي بذل جهدًا كبيرًا في تحريرها حتى تسبب تدهور صحته إلى تركه لها في عام ١٩٢٦. وفي السنوات الأخيرة من حياته، عاد إلى فكرة تعليم الجمهور، وأطلق فكرة إنشاء كلية وول ستريت. وتسبَّب تدهور صحته في تقليل الجهد الذي يبذله في هذا الصدد. وفي عام ١٩٣٢، وجَّه انتباهه إلى تقديم دورة يشرح فيها طريقة تداوُله للأسهم، وقُسمت الدورة الأصلية إلى قسمَين؛ القسم الأول: «دورة تعليمية في علم التداول في سوق الأوراق المالية وتقنياته»، والقسم الثاني: «دورة تعليمية في قراءة شريط أسعار التداول والتداول النشط». وتُوفي ويكوف في عام ١٩٣٤.

منذ عام ١٩٣٤، حافظت «دورة ويكوف التعليمية»، كما عُرفَت، على مكانة ويكوف بين خبراء السوق. وحصل آلاف من المُتداولين والمستثمرين على الدورة، والتي لا تزال تُقدَّم حتى الآن من قِبَل معهد سوق الأوراق المالية في فينيكس بأريزونا. وعلى مدى السنوات الثمانين الماضية، عُدِّلت الدورة وحُدِّثت لاستيعاب التغيُّرات في ظروف السوق دون الإضرار بعمل ويكوف الأصلي. وتُقدم الدورة التفاصيل الدقيقة لأساليب ويكوف للتداول/التحليل. ويقدم الفصل الموجود بالدورة الذي بعنوان «تحديد اتجاه السوق من خلال الرسم البياني العمودي لمؤشِّر نيويورك تايمز لمتوسط أسعار ٥٠ سهمًا» جوهر عمله، ويُعَد الدليل الإرشادي لكتابي هذا.

يُركز العديد من الطلاب الذين يَحصُلون على دورة ويكوف اليوم على نماذج التجميع والتوزيع. لم يَضع ويكوف هذا التأويل لعمليتَي التجميع والتوزيع؛ بل أُضيف بعد وفاته. لقد ناقَش بالتأكيد بعض سمات سلوك السوق التي كانت موجودة في هذه النماذج. يُدرَّس التجميع والتوزيع اليوم كسلوكٍ ظاهر على الرسوم البيانية العمودية مع حجم التداول. ومع ذلك، عندما ذكر ويكوف هذين المصطلحين، كان ذلك في الغالب متعلِّقًا بالرسم البياني بالنقطة والرقم، ولم يتعلَّق أبدًا بأجزاء محدَّدة. وفي رأيي أن هذه النماذج أُنشئت عن طريق شركائه السابقين لإضافة المزيد من التحديد للدورة. وكما أشار ويكوف في سيرته الذاتية، فقد أراد أن يُعلِّم الطلاب كيفية اكتساب شعور المُتداول؛ أي، حَدَسِه. والتحديد يُمكن الترويج له بنحوٍ أفضل من الحدس؛ فهو ملموس أكثر. أعتقد أنه يوجد اعتمادٌ على إدراك أنماط السلوك أكثر بكثير من الاعتماد على فن قراءة الرسوم البيانية العمودية. ويُمكن أن تتحوَّل هذه الأنماط بسرعة إلى رسوم بيانية دائرية — على غرار التشكيلات الهندسية — توضع فيها حركات السعر عن طريق أولئك الذين يَبحثون عن حلِّ سريع دون تفكير. وهي تؤدي إلى تفكير جامد بدلًا من تفكير إبداعي، وهي غالبًا ما تحبط الطالب الجديد الدارس لأسلوب تحليل ويكوف الذي قد لا يدرك أن عالم قراءة الرسوم البيانية رمادي، وليس أسود أو أبيض. ويجب أن يكون المرء مُنفتحًا بدلًا من أن يكون ثابتًا على صورة مثالية مُسبقة. وفي حين أن الاستعارات التي ابتكَرها بوب إيفانز — المُحاضر الشهير لدورة ويكوف — والتي تصفُّ الكسر الهبوطي الوهمي والكسر الصعودي الوهمي وخط الجليد، وما إلى ذلك؛ مفيدة ونابضة بالحياة، فإن ويكوف لم يستخدم هذه المُصطَلحات قطُّ؛ إلا أن ذلك لا يجعلها محظورة أو غير مجدية. على العكس من ذلك، فهي مفيدة للغاية. كان ويكوف بالأساس قارئًا لشريط أسعار التداول، وبينما زادت قوة الأسواق وأصبحَت أكثر تقلُّبًا، طبَّق مهاراته في قراءة شريط الأسعار على قراءة الرسوم البيانية العمودية، حيث يُركِّز على النطاق السِّعري، ومناطق الإغلاق، وحجم التداول. ومن الواضح أن ويكوف عرف أهمية خطوط الاتجاه، والقنوات، وخطوط الدعم/المقاومة؛ إلا أنها مُنحَت تغطيةً أكبر في الدورة الحديثة.

لقد اعتمدتُ في عرضي على كتابات ويكوف الأصلية وكذلك مفاهيم بوب إيفانز. ويستخدم نهجي — الذي يتضمَّن النطاق السِّعري، والإغلاق، وحجم التداول — أيضًا ما أُسمِّيه «قصة الخطوط»، وهي قصة سلوك السعر/الحجم كما تَصوغها وتربط بينها الخطوط التي تُرسَم على الرسوم البيانية. تركز الخطوط على حركة السِّعر وتوجه المرء نحو السلوك الذي يحفز حركة السوق؛ ومن ثمَّ أُحاول أن أجد عمليات التداول على الرسوم البيانية بدلًا من أن أُحدِّد ما إذا كان يحدث تجميع أو توزيع أم لا. ثمَّة منجم حقيقي من المعلومات في طريقة ويكوف لقراءة الرسوم البيانية العمودية، والتي أصبحت فنًّا منسيًّا.

إنَّ غرض كتابي هو توضيح كيف يُمكن للمرء أن يُفسِّر الرسوم البيانية العمودية والرسوم البيانية الموجية على نحوٍ منطقيٍّ للعثور على الصفقات التي تُوشك أن تحدث. ومن خلال دراسة القارئ لأمثلة الرسوم البيانية الموجودة في هذا الكتاب، أعتقد أنه سوف يَكتسِب بصيرة نافذة فيما يتعلق بقراءة ما تقوله الأسواق عن نفسها. قد يبدو هذا مملًّا ومجهدًا في البداية، ولكن من خلال الممارسة والتكرار (فالتكرار يحقق الإتقان)، سوف يصبح عادة بالنسبة لك، وسوف يمنحك القدرة على تحديد نقاط التحوُّل من مختلف الدرجات.

في دراسات الرسوم البيانية التي تظهر في هذا الكتاب، سنقوم بما يلي:
  • مقارنة جهد الشراء أو البيع مع المكاسب (أي حجم التداول مقابل التقدم صعودًا أو هبوطًا).

  • ملاحظة سهولة الحركة أو عدم الحركة (أي أعمدة الأسعار الواسعة مقابل أعمدة الأسعار الضيقة).

  • تأمُّل معنى الإغلاق ضمن نطاق العمود السعري.

  • ملاحظة تراجع حدة الاندفاع (shortening of thrust) الصعودي أو الهبوطي.
  • ملاحظة المتابعة أو عدم المتابعة بعد اختراق الدعم/المقاومة (وهذا يشمل فكرة الكسر الهبوطي الوهمي والكسر الصعودي الوهمي).

  • ملاحظة اختبارات المناطق ذات الحجم الكبير أو «الرأسية» حيث يَتسارع السِّعر صعودًا أو هبوطًا.

  • تأمُّل تفاعل السعر مع خطوط الاتجاه والقنوات وخطوط الدعم/المقاومة، والتي غالبًا ما تُسلِّط الضوء على قصَّة السعر/الحجم.

وفي النصف الثاني من هذا الكتاب، سوف أعرض التعديلات التي أدخلتها على أدوات ويكوف الأصلية لقراءة شريط الأسعار، والتي تُعَد أكثر ملاءمة للتقلبات الشديدة في أسواق الأوراق المالية والعقود الآجلة اليوم. ويُمكن تطبيق هذه الأدوات على حركة السِّعر خلال اليوم والحركة اليومية، وصُممت بعض البرمجيات لتحقيق هذا الغرض لحظيًّا. وللعثور على الصفقات على أي نوع من الرسوم البيانية، سوف نَسترشِد بالعبارة التالية التي كتبَها ريتشارد ويكوف منذ فترة طويلة:
قراءة الشريط [قراءة الرسم البياني] الناجحة هي دراسة للقوة؛ فهي تتطلَّب القدرة على الحكم على الجانب الذي يَمتلِك قوة جذب أكبر، ويجب على المرء أن يتحلى بالشجاعة للانضمام لهذا الجانب. ثمة نقاط حرجة تحدث في كل تأرجُح كما هي الحال في حياة الشركات التجارية أو الأفراد. ويبدو في هذه النقاط كما لو أن وزن ريشة على أي من الجانبَين سيُحدِّد الاتجاه الفوري. وأي شخص يَستطيع تحديد هذه النقاط ستزيد فرص ربحه وتقلُّ فرص خسارته.4

وأضمَنُ لك أنك بعد قراءة هذا الكتاب لن تعود إلى طريقة رؤيتك السابقة للرسوم البيانية. أنا ليس لديَّ أسرار وسوف أُقدِّم كلَّ ما أعرفه عن ويكوف وسلوك السعر/الحجم. قال كونفوشيوس: «المعلم الحقيقي هو الذي يَعرف الجديد (ويُعرف الآخرين به)، من خلال إحياء المعرفة القديمة.»

هوامش

(1) Richard D. Wyckoff, Wall Street Ventures and Adventures (New York: Greenwood Press, 1968), 134.
(2) Ibid., 168.
(3) Ibid., 176.
(4) Rollo Tape [pseud.], Studies in Tape Reading (Burlington, VT: Fraser, 1910), 95.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤