الرجل الغامض

كان أمام منزل الدكتور «رياض» عالمِ الآثار المعروف زحامٌ غير عادي … وكان «محب» عائدًا من عند الكوَّاء يحمل «فستان» والدته؛ فقد تأخَّر صبي الكوَّاء في العودة ﺑ «الفستان»، وذهبت الشغَّالة لتستعجله ولكنها لم تعد … فرجته والدته أن يذهب بدرَّاجته، ويعود ﺑ «الفستان» حتى لا تتأخَّر عن موعدها في «القاهرة» هي ووالده. وأسرع «محب» بدرَّاجته، وحمل «الفستان»، ولكن الزحام الذي كان أمام منزل الدكتور «رياض» جذب انتباهه، فتوقَّف قليلًا يسأل عمَّا حدث، فأخذ كل واحد من الواقفين يروي حكايةً مختلفة. أحدهم قال: إن سرقةً وقعت بمنزل الدكتور، وآخر قال: إن رجلًا كان يجري قد اقتحم منزل الدكتور، وخلفه رجل آخر، وإنهما داخل المنزل. وقال ثالث: إن الدكتور استنجد بالشاويش «علي» لأن شخصًا اقتحم الفيلا، وإن رجال الشرطة داخل المنزل يُحقِّقون فيما حدث.

أثارت هذه المعلومات روح المغامرة في نفس «محب»، وأخذ يُفكِّر فيما يجب أن يفعله … أيذهب ﺑ «الفستان» إلى والدته أولًا، ثم يعود ليرى ما يحدث أم يدخل الآن؟

وقال في نفسه: لا بأس ببضع دقائق أخرى تتأخَّرها والدتي … ثم ترك الدرَّاجة بجوار الطوار (الرصيف)، وأخذ «الفستان» معه وأسرع يدخل منزل الدكتور «رياض»، ولكنه وجد شرطيًّا يقف أمام الباب يمنع الدخول، فوقف في طريقه قائلًا: إلى أين أنت ذاهب؟ الدخول ممنوع!

لم يتردَّد «محب» لحظةً واحدةً وقال: إنني صبي الكوَّاء، وقد أرسلني بهذا «الفستان» لزوجة الدكتور.

نظر الشرطي إلى ملابس «محب» النظيفة، وبدا في عينَيه الشك، وأدرك «محب» ما يدور بخاطره، فلم يترك له فرصةً للحديث، بل تقدَّم واجتاز الباب بدون كلمة واحدة. كانت فيلا الدكتور مزدحمةً بعدد غير قليل من رجال الشرطة، وبينهم بعض الضبَّاط وبعض الرجال في ملابس مدنية، والجميع منهمكون في الحديث. وتجاوز «محب» الواقفين إلى غرفة أخرى، وفوجئ برجل ممدَّد على فراش وطبيب يُحاول إسعافه ومعه ممرِّض يُناوله الأدوية، وقد وقف الطبيب وبجواره بعض الرجال، وبينهم رجل عجوز وقور كان الجميع يُنادونه باسم الدكتور «رياض»، فعرف «محب» أنه العالم الأثري الشهير.

لم يلتفت أحدٌ إلى «محب» وهو يتجوَّل في أنحاء المنزل يحمل «الفستان» ويُحاول معرفة ما يحدث حوله … وسمع «محب» من الرجل الراقد على الفراش صيحة ألم، ثم سمعه يهذي بكلمات غير مفهومة: القرن … القرن … ألف … ألف … ثم أطلق صيحة ألم، وسكت تمامًا. ورأى «محب» الطبيب وهو يحقن الرجل، ومرَّت فترة بدا فيها على الجميع السكوت والوجوم … وأدرك «محب» أن الرجل يمر بأزمةٍ قد تودي بحياته، وسمع أحدَ ضُبَّاط الشرطة يتحدَّث مع الدكتور «رياض» قائلًا: هل تعرف هذا الرجل؟

أخذ الدكتور «رياض» ينظر من النافذة، وقد بدت عليه علامات تفكير عميق، ثم قال: لا أدري بالضبط … إن وجهه ليس غريبًا عني، ولكن ذاكرتي لا تسعفني.

الضابط: ولماذا إذن لجأ إلى منزلك؟

الدكتور «رياض»: لا أعرف، لقد كنتُ أجلس مع زوجتي في طرف الحديقة عندما سمعنا صياحًا يرتفع وراء سور الحديقة، وصوت أقدام تجري وأولاد يتصايحون، ثم شاهدت هذا الرجل يقتحم الحديقة ورجلًا آخر يجري خلفه، ولم يرَني الرجلان، ودخلا الفيلا فأسرعت أدخل خلفهما لأعرف ماذا يحدث وماذا يقصدان من اقتحام الفيلا بهذا الشكل … وعندما وصلت كان هذا الرجل مطروحًا على الأرض والآخر يضربه بشدة، ويخنقه. وعندما سمع صوت قدمَي التفت نحوي وحاول الهجوم عليَّ، وبالطبع لم أكن أستطيع مقاومته، وبخاصةٍ أنني وجدتُ رجلًا آخر يُحاول الهجوم عليَّ من جهة أخرى، فأسرعت أطلب نجدة … وعندما عدتُ كانا قد اختفيا … وحضر الشاويش «علي» وحضر خلفه رجال الإسعاف، ثم حضرتم أنتم … هذا كل ما حدث.

الضابط: وما الشيء الذي يمكن أن يجعل هذا الرجل يأتي إلى منزلك؟

الدكتور: لا أدري!

الضابط: شيء غريب!

الدكتور: على كل حال لعله دخل الفيلا بالمصادفة ولا يقصد أن يُقابلني أنا بالذات.

الضابط: ممكن.

سمع «محب» هذا الحديث، وأخذ يتجوَّل في الفيلا باحثًا عن المكان الذي كان به الصراع، وسرعان ما وجد بساطًا قد تكرمش في أكثر من موضع، وكان واضحًا أن الصراع بين الرجلَين دار فوقه … ورأى «محب» قطعةً صغيرةً جدًّا من الورق ممزقةً تمامًا ومتكوِّرةً ملقاةً على الأرض، فنظر حوله حتى تأكَّد أن أحدًا لا يراه، ثم قرَّر أن يضعها في جيب «الفستان».

نظر «محب» في ساعته … كانت الثامنة والنصف مساءً، وأدرك أنه تأخَّر، وسوف يتعرَّض لتأنيب والدته … فأسرع خارجًا، ولكن رجل الشرطة تعرَّض له مرةً أخرى قائلًا: لماذا خرجتَ بالفستان ولم تتركه لصاحبته؟

أجاب «محب» وهو يمرق من الباب مسرعًا: لقد اتضح لي أن «الفستان» يخص سيدةً أخرى … آسف جدًّا.

ولكن المسألة لم تنتهِ عند هذا الحد؛ ففي تلك اللحظة ظهر الشاويش «علي»، ولم يكد يرى «محب» حتى صاح: أنت! … ماذا تفعل هنا؟

ارتبك «محب» ولكنه أسرع يُجيب: لا شيء يا حضرة الشاويش … لقد لفت نظري هذا الحشد من الناس، فجئت لأرى ماذا حدث.

الشاويش: وهل دخلتَ المنزل؟

وقبل أن يُجيب «محب» قال الشرطي الواقف على الباب: لقد قال لي إنه صبي الكوَّاء، فسمحتُ له بالدخول.

الشاويش: سمحتَ له بالدخول؟! ألَا تعرف أنه أحد الشياطين الخمسة الذين يُسمُّون أنفسهم المغامرين الخمسة … وأنهم إذا وُجدوا في مكانٍ فإنهم سيتدخَّلون فيما لا يعنيهم … وأنهم سيأخذون الأدلة التي يجب أن يحصل عليها رجال الشرطة؟!

ودقَّ قلب «محب» سريعًا، وتذكَّر قطعة الورق التي حصل عليها، ولكنه اطمأن؛ لأنها في جيب «الفستان» حيث لا يتصوَّر أحد أنها مخبَّأة هناك.

كان الموقف محرجًا، وكان ذهن «محب» يعمل بسرعة للتخلُّص من هذا المأزق، ولكن الحل جاء بأسرع ممَّا تصوَّر؛ فقد ظهر أحد الضبَّاط على السلَّم، وطلب من الشاويش الحضور، ولم يكد الشاويش يُحوِّل نظره إلى الضابط حتى كان «محب» قد انطلق كالسهم، وقفز إلى درَّاجته وأسرع إلى منزله.

كانت والدة «محب» تقف في الشرفة، فلم تكد تراه حتى صاحت تستعجله، فقفز السلَّم قفزًا، وسلَّمها «الفستان»، ثم أسرع إلى التليفون يتحدَّث إلى «تختخ» وروى له ما حدث، فقال «تختخ»: تعالَ نتقابل عند فيلا الدكتور «رياض» لنعرف ماذا تمَّ هناك.

ومرةً أخرى انطلق «محب» على درَّاجته، وعند فيلا الدكتور «رياض» التقى مع «تختخ» الذي لم يكد يراه حتى قال: هل أحضرتَ الورقة معك؟

محب: الورقة؟!

تختخ: نعم الورقة التي وجدتها مكان الصراع بين الرجلَين!

وخبط «محب» جبهته بيده … فقد نسي الورقة في «الفستان»! وهزَّ رأسه وهو يقول بحزن: تصوَّر، لقد نسيت الورقة!

تختخ: غير معقول!

محب: هذا ما حدث فعلًا!

تختخ: هل تعرف أن هذه الورقة كان يجب أن تُسلَّم إلى رجال الشرطة! لقد كان من الخطأ أن تأخذها، وكانت فكرتي أن نطَّلع عليها ثم نُعيدها.

محب: الحقيقة أنني فكَّرتُ في هذا أيضًا، وكنتُ سأُعيد الورقة بعد أن أطَّلع عليها.

تختخ: والآن لا بد من العثور على الورقة فورًا!

محب: هيا بنا نعود إلى منزلنا.

ومرةً أخرى انطلقا مسرعَين على درَّاجتَيهما إلى منزل «محب»، ولكن المفاجأة التي كانت في انتظارهما أن والدة «محب» كانت قد ارتدت «الفستان» وخرجت، ودخل «محب» غرفة والدته، وحضرت «نوسة»، واشتركا في البحث عن الورقة، في حين كان «تختخ» يجلس في غرفة الصالون ينتظرهما، ولكن لم تكن الورقة في الغرفة.

عندما خرج «محب» إلى «تختخ» كان واضحًا على وجهه أن الورقة قد اختفت، وقال «محب» بصوت مختنق: هناك أمل أخير … أن تظل الورقة في جيب «فستان» والدتي حتى تعود.

تختخ: إنه احتمال ضعيف؛ فلا بد أنها ستضع يدها في جيب فستانها وستجد الورقة المكرمشة وسوف تُلقيها في أي مكان تكون فيه.

محب: هل نعود إلى مكان الحادث الآن … ونتعلَّق بالأمل أن تكون والدتي قد احتفظت بالورقة؟

تختخ: هيا بنا.

وتدخَّلت «نوسة» في الحديث قائلة: إنني أعرف المكان الذي ذهبت إليه والدتي، وسأبحث عن رقم التليفون وأتصل بها هناك؛ لعلها لم تُلقِ بالورقة بعيدًا.

انصرف الصديقان، ووصلا إلى مكان الحادث، فإذا الزحام على باب فيلا الدكتور «رياض» قد خفَّ، فقال «تختخ»: انصرف رجال الشرطة، والمهم أن نعرف ماذا حدث للرجل!

محب: هل نطلب مقابلة الدكتور «رياض»؟

فكَّر «تختخ» قليلًا، ثم قال: ليس الآن … وبعد كل هذه الأحداث تعالَ نسأل الكوَّاء الذي كنتَ عنده؛ فهو قريب من بيت الدكتور، ولا بد أن عنده بعض الأخبار.

واتجها معًا إلى الكوَّاء، وسأله «محب» عمَّا حدث في فيلا الدكتور «رياض» فقال: لقد نقلوا الرجل إلى المستشفى؛ فإن الإسعافات التي قاموا بها لم تكن كافية.

لم يعُد أمام الصديقَين ما يفعلانه، فانصرف كلٌّ منهما إلى منزله على أن يلتقيا في الصباح؛ لمعرفة ماذا حدث للورقة التي في جيب «الفستان».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤