عربة «الزبالة»

ظلَّ «محب» ساهرًا في انتظار عودة والده ووالدته من السهرة التي ذهبا إليها؛ فقد حاولت «نوسة» الاتصال بهما، ولكن التليفون الذي كانت تعرف رقمه لم يكن يرد … وهكذا لم يبقَ أمام «محب» إلا أن ينتظر، أمَّا «نوسة» فقد قرأت قليلًا في كتاب كانت تحمله، ثم قامت لتنام.

مضت الساعات بطيئةً و«محب» يُفكِّر في سر الرجل الهارب والرجلَين اللذَين حاولا قتله، والورقة الضائعة … وانتصف الليل وهو ما زال ساهرًا يُفكِّر، وأحسَّ بالنوم يُغالبه فقرَّر أن ينام على أن يسأل والدته في الصباح، لكنه لم يكَد يدخل غرفته حتى سمع صوت سيارة والده وهي تدخل الجراج، فعاد إلى البهو (الصالة)، وانتظر حتى دخلت والدته، فلمَّا رأته ابتسمت قائلة: مساء الخير يا «محب»، لماذا أنت سهران حتى الآن؟

بادل «محب» والدته بسمتها، ثم قال: سأسألك عن شيء كان في جيب «فستانك»!

زوت الأم حاجبَيها وقالت: في جيب «فستاني»؟!

ردَّ «محب»: نعم … إنها ورقة صغيرة كنت قد وضعتها في جيب «الفستان»!

فكَّرَت الأم، ثم قالت: تذكَّرت … ففي أثناء الحفل وضعتُ يدي في جيبي مصادفة، وعثرتُ فعلًا على ورقة صغيرة، وقد أدهشني وجودها في جيب «الفستان»، وقد كلَّفتُ أحد الشغَّالين أن يُلقي بها في صندوق «الزبالة»!

أحسَّ «محب» بالحزن وقال: في صندوق «الزبالة»؟

قالت والدته وهي تدخل غرفتها لتخلع ثيابها: نعم، لقد كانت ورقةً قديمةً وقذرة، ولم أجد ما يدعو إلى الاحتفاظ بها … هل تهمك؟

محب: إنها تُهمُّني جدًّا!

الوالدة: لعلها أحد الأدلة في أحد الألغاز.

محب: بالضبط!

الوالدة: ولماذا وضعتَها في جيبي؟

محب: كانت هناك أسباب قوية لهذا … المهم أين كنت؟

الوالدة: لماذا؟

محب: سأذهب غدًا للبحث عن الورقة حيث ألقيتِ بها.

الوالدة: غير معقول يا «محب»! أهي مُهمَّة إلى هذا الحد؟

محب: نعم، إنها في غاية الأهمية … أرجوكِ أن تقولي لي العنوان.

الوالدة: إنه منزل الأستاذ «سعيد عثمان»، ٩ شارع عرابي بالعجوزة بالدور السادس، شقة ٢٤.

محب: شكرًا، وتصبحين على خير.

وانصرف «محب» إلى غرفته بعد أن تبادل هو ووالده تحية المساء، وألقى بنفسه على الفراش، وفكَّر قليلًا، ثم استسلم للنوم بعد أن ضبط المنبِّه على الخامسة صباحًا ليستيقظ مبكِّرًا، ويذهب للبحث عن الورقة في صندوق «الزبالة» في العنوان الذي ذكرَته له والدته.

في الخامسة والنصف صباحًا كان «محب» يُغادر منزله وحيدًا. لقد قرَّر أن يذهب للبحث عن الورقة وحده بدون أن يتصل بأحدٍ من الأصدقاء في هذه الساعة المبكرة من الصباح. وبعد رحلة سريعة على الأقدام، كان يستقل المترو إلى «القاهرة». وفي محطة باب اللوق ركب الميكروباس الصغير الذي يصل إلى قرب جسر (كوبري) الزمالك. ومرةً أخرى استخدم قدمَيه وسأل عن العنوان حتى وصل إليه، واتضح له أن العمارة ليس بها مصعد، فأخذ يقفز السلالم قفزًا … وعندما وصل إلى الدور السادس كان متسارع الأنفاس، ولكن ما يهمه كانت صفيحة «الزبالة» التي أمام الشقة … وكم كانت حسرته عندما نظر فيها فوجدها فارغة! وأخذ ينظر ويُدقِّق النظر في الصفيحة؛ لعل الورقة تكون ملتصقةً بأحد جوانب الصفيحة، ولكنها كانت نظيفةً تمامًا. وفي اللحظة التي قرَّر فيها أن يعود فُتح الباب، وأطلَّ وجه صبي طويل القامة أشقر الشعر، وتبادل الصبيَّان النظرات … وأحسَّ «محب» أن من واجبه أن يُوضِّح ماذا يفعل في هذه الساعة المبكِّرة أمام الشقة، فقال: آسف جدًّا … فقدت والدتي شيئًا عندما كانت عندكم أمس.

قال الصبي الأشقر: هل كانت في الحفلة التي أقمناها ليلًا؟

محب: نعم.

الصبي: وماذا فقدت؟

تردَّد «محب»، ثم قال: إنه شيء ليس له قيمة مادية … مجرَّد قطعة قديمة من الورق.

الصبي الأشقر: قطعة قديمة من الورق! … وما قيمتها إذن؟

محب: إنني الذي أبحث عنها؛ فقد تحل لغزًا أو تكشف سرًّا.

الصبي: وهل أنت من هواة حل الألغاز وكشف الأسرار؟

محب: نعم، ومعي أربعة أصدقاء، ونُسمِّي أنفسنا المغامرين الخمسة.

الصبي: إنني أسمع عنكم، واسمي «ياسر» … لقد جئتَ متأخِّرًا بضع دقائق؛ فقد حضر «الزبال» وأفرغ صفيحة «الزبالة» منذ عشر دقائق فقط.

محب: وهل تعرف أين يذهب بعد ذلك؟

ياسر: إنه يتجه بعد ذلك إلى المنازل المجاورة، ثم ينتهي به المطاف في مدينة الصحفيين القريبة.

محب: صف لي مكان مدينة الصحفيين.

ياسر: إنني ذاهب بالمصادفة إلى هناك، عند صديق لي يُدعى «أشرف»؛ لأننا سنقوم برحلة إلى الهرم فتعالَ معي.

نزل الصبيان يقفزان السلالم قفزًا في طريقهما إلى مدينة الصحفيين؛ فقد رأى «محب» أنه لن يستطيع تتبُّع «الزبال» من منزل إلى آخر، ومن الأفضل له أن ينتظره في آخر مكان يصل إليه.

كان هواء الصباح رقيقًا وباردًا، ومضى الولدان يتحدَّثان حتى شاهدا عربة «الزبالة» تنحرف داخلةً إلى حيث تقع مدينة الصحفيين، فسارا خلفها، و«محب» يُفكِّر في طريقة للحديث مع الولد السمين الذي كان يقود العربة، وهو شبه نائم، وفجأةً قال «ياسر»: نستطيع أن نتحدَّث معه عندما يصل إلى منزل «أشرف»، فتعالَ نسبقه إلى هناك.

عندما وصلا إلى الشارع الذي يسكن فيه «أشرف» لمحاه من بعيد يقف أمام حديقة منزلهم يُداعب كلبًا رماديًّا، فلما رآهما أسرع إليهما، وخلفه الكلب يجري في سعادة. وتعرَّف «محب» ﺑ «أشرف»، وشرح «ياسر» سبب حضور «محب»، فقال «أشرف»: هذا الولد ابن «الزبال» ويُدعى «جمعة»، وأنا أعرفه وسوف أتحدَّث إليه.

وعادوا معًا إلى حديقة منزل «أشرف» حيث دعاهما إلى فنجان من الشاي، ولم يكادوا يفرغون منه حتى وصلت عربة «الزبالة» يجرُّها الحمار، ووقفت أمامهم، فقال «أشرف»: انتظراني لحظات.

ثم انطلق إلى «جمعة» «الزبال» وأخذ يتحدَّث معه، ثم أخرج خمسة قروش أعطاه إياها، فسُرَّ بها كثيرًا.

أمام منزل «أشرف» قطعة أرض خالية لم يكن بها شيء، وسرعان ما اتفق الأصدقاء مع «جمعة» على تفريغ حمولة العربة بها، والبحث عن الورقة، ثم إعادة «الزبالة» إلى مكانها.

وبعد لحظات كانت عربة «الزبالة» قد أُفرغت على الأرض، وكانت مُهمَّةً شاقةً للأربعة أن يبحثوا بين كل هذه المخلَّفات عن الورقة … وبخاصةٍ أن «محب» فقط هو الذي يعرف شكلها … وحتى هو لا يعرفها جيدًا؛ فكل ما يتذكَّره منها كان لمحةً خاطفةً عندما شاهدها في مكان الصراع بمنزل الدكتور «رياض».

كان الصديقان «ياسر» و«أشرف» متحمسَين لمساعدة «محب»؛ فلم يتردَّدا في تقليب «الزبالة» برغم القاذورات، أمَّا «جمعة» فقد جلس تحت شجرة واستغرق في نوم عميق.

بين لحظة وأخرى كان أحد الصديقَين يعثر على قطعةٍ ممزَّقة من الورق فيصيح: وجدتها! ثم يعرضها على «محب» الذي كان يتأمَّلها ثم يضعها جانبًا. ومضت ساعة أتمَّ فيها الثلاثة مهمَّتهم الصعبة، وكانت حصيلة الساعة ست قطع من الورق، كلٌّ منها تُشبه الورقة التي يبحث عنها «محب»، فطواها جميعًا، ووضعها في مظروف أحضره «أشرف» من منزلهم، ثم أعادوا «الزبالة» إلى العربة، ودخل الثلاثة بعد ذلك منزل «أشرف»، حيث اغتسلوا جيدًا، وشكرهما «محب» ووعدهما بزيارة قريبة، ثم انطلق عائدًا إلى المعادي.

في التاسعة تقريبًا كان «محب» يجلس مع «نوسة» في حديقة منزلهما، بعد أن اتصلا ببقية الأصدقاء؛ «تختخ» و«عاطف» و«لوزة». وكان «محب» يتناول طعام إفطاره، ويروي ﻟ «نوسة» رحلة الصباح، ومعرفة الولدَين الظريفَين اللذَين قابلهما. وكانت قطع الأوراق الست منشورةً في الشمس؛ فقد كان بعضها ملوَّثًا ببقايا المأكولات.

بعد دقائق وصل «تختخ»، ثم تبعه «عاطف» و«لوزة»، وجلس الأصدقاء ومعهم الكلب «زنجر»، يستعيدون تفاصيل حوادث الأمس.

وقالت «لوزة»: لغز … أشم رائحة لغز.

قال «عاطف»: إنني لا أشم سوى رائحة «الزبالة»!

تختخ: إن ﻟ «لوزة» أنفًا بوليسيًّا يشم الألغاز، وأنا أثق في قدرتها على معرفة اتجاه الريح … ريح الألغاز طبعًا.

عاطف: على كل حال هذه ست ورقات قديمة وقذرة، فأين اللغز فيها؟! إنني ألمح في إحداها كشف حساب أحد البيوت، كشف الخضار واللحم والصابون … فإذا كان فيها لغز فلا بد أن نُسمِّيه لغز البقَّال الأحمر، أو لغز الجبنة الرومي، أو لغز البطاطس المشوية.

لوزة: إنك لا تكف عن إرسال نكاتك كالقذائف الصاروخية! ولكن ألَا ترى أننا لا نضحك؟!

عاطف: لا يُهمُّني أن تضحكوا أو تبكوا … إن ما يُهمُّني حقًّا أننا نُضيِّع وقتنا وراء ورقة قديمة قذرة، ونتصوَّر أننا سنخرج منها بلغز يهز الدنيا!

وفجأةً قالت «نوسة»: لماذا لا نتصل بالمفتش «سامي»؟ … لعل الرجل المصاب قد روى قصته ولا نحتاج إلى الورقة أو غيرها.

كانت فكرة، وسرعان ما أحضرت «نوسة» جهاز التليفون وقدَّمته إلى «تختخ» الذي رفع السماعة وأدار القرص، وسمع صوت المفتش «سامي» على الطرف الآخر يرد. وروى «تختخ» للمفتش كل ما حدث في الليلة الماضية وفي صباح اليوم، ولاحظ «تختخ» أن المفتش يستمع باهتمام بالغ، ثم سمعه يقول: إن الأمور تطوَّرت تطوُّرًا خطيرًا … لقد قام رجال مجهولون بخطف الرجل المصاب بدون أن نعرف عنه أي شيء. خطفوه من المستشفى عن طريق النافذة، ولم يبقَ عندنا أي دليل عمَّا حدث … ويُهمُّني جدًّا أن أرى هذه الورقة … سأحضر حالًا.

ووضع «تختخ» السمَّاعة في مكانها، ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: أيها المغامرون، إن الورقة القديمة القذرة أهم كثيرًا ممَّا تتصوَّرون!

ونظرت «لوزة» إلى «عاطف»، ولكن «عاطف» أدار وجهه إلى ناحية أخرى حتى لا يرى نظرات «لوزة» الساخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤