سجين البئر

كان ثمَّة قمر صغير يُضيء الطريق الخالي إلى هوَّارة، وبعد أن سار الأصدقاء بجوار الحمير فترةً من الوقت ركبوها، وانطلقوا في الضوء الخفيف للقمر الوليد. لم يكن أحدٌ منهم يُحدِّث الآخر؛ فقد استغرق كلٌّ منهم في خواطره. كانت الرحلة بالنسبة لهم رحلةً إلى المجهول … إلى مكانٍ غريب يعود تاريخه إلى ٤٠٠٠ سنة، وإلى ملاقاة عدو مجهول لا يعرفون عنه شيئًا.

كان صوت حوافر الحمير على الأرض خافتًا بعد أن ربطوها بالأقمشة الثقيلة، فلم يكن يقطع صمت الليل إلا أصوات صراصير الحقل … وبعض الطيور القلقة. وبعد نحو ساعة أشرفوا على منطقة الحفائر في هوَّارة … وكان الصمت يلف المكان … وقبل أن يصلوا إلى التلال الترابية التي تخلَّفت عن الحفائر … ترجَّلوا وربطوا الحمير الثلاثة بعيدًا، ثم ساروا في هدوءٍ إلى المنطقة، ولمحوا نارًا مشتعلة، وشاهدوا حولها الحُرَّاس الثلاثة كما تركوهم أول النهار.

همس «محب»: إنهم يحملون بنادق.

تختخ: أرجو ألَّا يسمعونا … إنني متجه إلى البئر التي حفرها رجال الآثار … لقد حفروا حتى الآن ١١ مترًا، وعندهم الأمل أن تُؤدِّي هذه البئر إلى قبر الملك «أمنمحات الثالث»، وما دمنا نعتقد أن عدوَّنا المجهول يبحث عن نفس القبر، أو يُحاول سرقته، فلا بد أن نرى ما يحدث في هذه البئر أو حولها.

محب: ولكن يا «تختخ» كيف نجد البئر؟

تختخ: سنمشي في حذرٍ بين الحفريات وسوف نعثر عليها.

محب: ولكن لا بد أننا سنُقابل أحد أفراد العصابة — أو العصابة كلها — في هذا المكان، فكيف نتصرَّف؟

تختخ: لا تخَف، سنجد وسيلة.

وتقدَّم الثلاثة على حذر، وخلفهم «زنجر» … كانت التلال تُشبه أشباحًا ضخمةً راقدةً على الأرض، وبعض الجدران الأثرية تُلقي ظلالًا مرعبةً على المكان الموحش، وأحسَّ «محب» برعشة تسري في بدنه، ولكنه تقدَّم بين «تختخ» و«عوَّاد»، وقد أطلق «تختخ» من بطَّاريته الصغيرة خيطًا رفيعًا من الضوء، وأخذ يُديره هنا وهناك … ولكنهم أحسُّوا بعد فترة بأن لا شيء هناك، لا أشخاص ولا بئر ولا أي شيء … لم يكن هناك إلا التراب والصمت والأحجار.

قال «عوَّاد» هامسًا: تعالَوا نعود … إن المنطقة واسعة جدًّا، ومن الصعب العثور على أي شيء هنا.

ردَّ «تختخ» بحزم: لن نعود حتى نعثر على البئر … هذه فرصتنا قبل أن يتحرَّك عدوُّنا المجهول بشراسة ضدنا.

ومضوا في طريقهم … وفجأةً وقع ضوء البطارية على ثعبانٍ ضخم ملتفٍّ حول نفسه، فوقف الثلاثة، ولكن «تختخ» قال: ابتعدوا عنه … إن هذه المناطق القديمة الرطبة كثيرًا ما تحفل بالهوام … كالثعابين والعقارب وغيرها … وسمعوا «زنجر» يُهَمْهِم، رأوه يتقدَّم للقفز على الثعبان، ولكن «تختخ» أخذ يربت عليه مُهدِّئًا وهو يُتَمْتم: ليس هذا وقت الصراع … ليس هذا وقت القتال.

وكأنما فهم «زنجر» ما يقوله «تختخ»، فمضى خلفهم بدون أن يتعرَّض للثعبان الضخم وأخذوا يتجوَّلون بين الحفائر، وقد اختفى ضوء القمر الوليد تقريبًا، ولم يبقَ إلا ضوء النجوم البعيدة، وفجأةً توتَّرت عضلات «زنجر»، ووقف مكانه وقد رفع أذنَيه إلى فوق … وأحسَّ «تختخ» أن «زنجر» قد وقف، فالتفت إليه وأدار بطاريته ليرى ما حدث … وأدرك من أول نظرةٍ أن «زنجر» يُحس بخطرٍ قريب، فأطفأ نور البطَّارية، وطلب من «عوَّاد» و«محب» أن ينبطحا على الأرض، وفعل مثلهم … ولم تمضِ سوى لحظات حتى حمل إليهم هواء الليل أصوات حديث يقترب، ثم ظهر شبحَا رجلَين يسيران معًا ويتحدَّثان، وتقدَّم الرجلان حتى أصبحا على بُعد حوالي أربعة أمتارٍ من الأصدقاء، ثم وقفا يتحدَّثان.

وضع «تختخ» يده على ظهر «زنجر» حتى لا يتحرَّك أو ينبح، وأصغى بانتباهٍ شديد إلى حديث الرجلَين.

قال أحدهما: يجب أن نُسرع في العمل أكثر؛ فسوف يعود رجال الآثار بعد ثلاثة أيام لاستئناف الحفر، بعد أن أحضروا الآلات التي تُجفِّف المياه من البئر، وسيكون من الصعب بعد ذلك الاقتراب من المنطقة.

ردَّ الآخر: وماذا أستطيع أن أفعل؟ لقد قمتُ باختطاف «الروبي» من المستشفى، وأحضرته، وأجبرته على مواصلة البحث عن مدخل غرفة دفن الملك «أمنمحات الثالث» الذي يعرف طريقه!

قال الأول: إن هرم الملك «أمنمحات» مبني من الداخل بطريقة معقَّدة؛ فقد حفر الملك قبل بناء الهرم بئرًا عميقةً مستطيلة، ثم أنزل فيها كتلةً من حجر الكوارتز الأصفر، هي في الحقيقة حُجرة دفنه، ثم صنع مدخلَين … أحدهما زائف حتى يُضلِّل اللصوص عن حُجرة الدفن، والآخر هو المدخل الحقيقي. وبرغم أن تابوت الملك قد يكون قد نُهب في عصورٍ قديمة وسُرقت مومياؤه، فإنني أعتقد أن مومياء الملك وكنزه ما زالت موجودة، وقد يكون في هذا الهرم أو في هرمه الآخر في دهشور.

قال الآخر: لقد أخذنا حتى الآن ما يكفي من الأواني الفضية والحُلِي الذهبية، فدعنا نهرب بها ولا داعي للاستمرار، وبخاصةٍ بعد ظهور هؤلاء الأولاد والورقة التي وُجدت معهم.

الأول: إنك لا تتصوَّر قيمة الكنوز التي قد نعثر … عليها … إن قيمتها تزيد على كنوز «توت عنخ آمون» التي تُقدَّر بثلاثين مليونًا من الجنيهات! ثم كيف نخاف من بعض الأولاد ولقد استطعنا إرعابهم بمؤامرة الحمير، ولن يعودوا مرةً أخرى … هيا بنا نرى ماذا فعل «الروبي» هذه الليلة.

الآخر: إن «مستور» يُراقبه من فُوَّهة البئر، فلن يهرب … ودعنا نعود فأنا متعب.

الأول: تعالَ معي دقائق فقط.

كان الأصدقاء يستمعون إلى الحديث بوضوحٍ شديد، وقد عرفوا الآن كل شيء، وهمس «تختخ»: سنذهب خلفهما … لا تُحْدِثا أي صوت. ثم ربت بيده على رأس «زنجر» كأنما يقول له التعليمات.

وسار الرجلان والأصدقاء الثلاثة و«زنجر» خلفهم على بُعدٍ كافٍ حتى لا يسمع الرجلان صوت أقدامهم، وبرغم هذا فإنه في الصمت المطبق خُيِّل ﻟ «محب» أن دقَّات قلبه مسموعة على بُعد عشرةٍ أمتار. وبعد مسيرةٍ قصيرة بين التلال والأحجار وقف الرجلان عند منحدر صخرة كبيرة، وسمع الأصدقاء صوت رجل يتحدَّث إليهما … ووصلت إليهم بضع كلمات … ثم سمعوا صوت دقَّاتٍ بعيدةٍ كأن شخصًا يحفر على عمق بعيد.

وظلَّ الحوار دائرًا بين الرجال الثلاثة، والكلمات المتناثرة تصل إلى الأصدقاء … «الروبي» … الجزيرة … القوارب … رجال السواحل … ثم ساد الصمت، وسمع الأصدقاء صوت أقدام الرجلَين وهما ينصرفان عائدَين من الطريق نفسه الذي قدما منه.

وانتظر الأصدقاء بضع دقائق حتى اختفى وقْعُ الأقدام وتلاشى في الصمت، وهمس «تختخ»: انتظرا عودتي.

وتحرَّك «تختخ» بحذرٍ حول الصخرة الكبيرة، ووجد شبح رجل يجلس بيده بندقية، وبيده الأخرى بطارية يُدير ضوءها بين لحظةٍ وأخرى حوله، وأدرك أنه الرجل الذي يُراقب «الروبي»، كما سمع من حديث الرجلَين. وظلَّ «تختخ» لحظاتٍ يُفكِّر فيما ينبغي عمله … ثم استدار بهدوءٍ وعاد إلى «محب» و«عوَّاد».

همس «تختخ»: إنه رجل واحد، وفي إمكاننا التغلُّب عليه، ولكن نُريد أن يتم ذلك في هدوءٍ حتى لا يشعر بنا الحراس.

محب: وهل فكَّرتَ في خطة؟

تختخ: نعم … سأجلس خلف الصخرة مباشرةً ومعي «زنجر»، وستبقيان على مبعدة، وأُريد منكما أن تدقَّا الأرض بقطعة حجرٍ بحيث يسمعكما الرجل ويتجه إليكما، وسأقوم بالباقي. فإذا سمعتما صراعًا بيني وبينه فتعاليَا مسرعَين.

وتسلَّل «تختخ» مرةً أُخرى في الظلام، ومعه «زنجر»، وهو يضع يده على رأسه لتهدئته … وسار حتى وصل إلى الصخرة الكبيرة، ثم قبع في الظلام. وبعد لحظاتٍ سمع الدقَّات التي يُحدثها «محب» و«عوَّاد»، واستمرَّت الدقَّات فترةً قبل أن يتحرَّك الرجل. وشاهد «تختخ» شبحه وهو يمر بجواره في الظلام مسرعًا، ومد «تختخ» ساقه أمام الرجل فتعثَّر وسقط على الأرض بشدة، وقفز عليه «تختخ» و«زنجر» معًا، وكانت الدهشة والصدمة كافيتَين للقضاء على مقاومة الرجل؛ فاستطاع «تختخ» أن يشل حركته، وسرعان ما ظهر «محب» و«عوَّاد»، وتمكَّن الثلاثة من تكميمه بمنديلٍ وربطه بالحبل الذي كان معهم.

عندما انتهى الأصدقاء من المهمَّة اتجها إلى البئر، وكم كانت دهشتهم أن وجدوه مضاءً من الداخل بمصباحٍ غازي قوي … وشاهدوا على الضوء رجلًا يقوم بالحفر! كان هو «الروبي» بكل تأكيد … وانحنى «تختخ» فوق البئر وصاح: «روبي».

توقَّف الرجل عن الحفر، ورفع وجهه إلى فوق … وعندما رآه «محب» قال: هذا هو الرجل الذي رأيتُه في منزل الدكتور «رياض» بكل تأكيد.

وأخذ الرجل ينظر إلى الأصدقاء، وقد بدت على وجهه علامات الدهشة والإعياء، فقال له «تختخ»: هل تستطيع أن تصعد؟

لم تكن البئر التي يعمل بها «الروبي» عميقة … كانت نحو أربعة أمتار، وكان هناك سُلَّم من الحبال مُعلَّق بين الحافة والقاع، فأخذ الرجل يصعد بجهد شديد حتى وصل إلى فوق … كان متعبًا وشاحبًا حتى بدا كأنه سيسقط ميتًا.

وقال «تختخ» مسرعًا: نحن أصدقاء، ونُريد أن نعرف قصتك كاملة.

الروبي: إنها قصة حزينة ومخيفة.

تختخ: لنبتعد الآن عن هذا المكان.

وأحاط الأصدقاء بالرجل، وأخذ «تختخ» يُنير الطريق إلى حيث ربطوا الحمير … ولكن في هذه اللحظة سمعوا صوت أقدامٍ تأتي بسرعة، وسمعوا صوتًا في الظلام يصيح: من هناك؟!

همس «عوَّاد»: إنهم الحُرَّاس!

ودوَّى طلقٌ ناري في الفضاء، ومرَّ يُزغرد بجوار الأصدقاء … وأحسُّوا جميعًا أنهم في خطرٍ شديد … وكان في إمكانهم أن يُطلقوا سيقانهم للريح لولا وجود «الروبي» معهم … ولم يكن في استطاعتهم أن يحملوه، وأدرك «تختخ» أنهم وقعوا في مأزق شديد … فقد كان الحُرَّاس يتقدَّمون بسرعة إلى حيث كانوا يقفون … ولم يكن يعرف أهؤلاء الحراس من أعوان العدو أم لا؟ … فإذا كانوا من أعوانه فسوف تكون نهايتهم رهيبة … وإن لم يكونوا فسوف يُواجهون متاعب لا حصر لها، وقد يُتهمون بسرقة الآثار … وكان «زنجر» يقف بجوار الأصدقاء وقد توتَّرت عضلاته، ووقفت أذناه، ولكنه كان يعرف الخطر الذي يتعرَّضون له لو أنه نبح أو أحدث أي صوت … وهكذا وقف ثابتًا في انتظار تعليمات «تختخ»، ولمَّا لم تصدر تعليمات أدرك أن عليه أن يتصرَّف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤