تمهيد

ما سقط حافظ نجيب في أيدي رجال البوليس وسيق إلى ظلمة السجن، حتى عرف أن كل امرئ معاقب على ما جنته يداه فاسودت الدنيا في عينيه، وندم على ما أتاه من الاحتيال والخداع مع حضرة الكاتبة الفاضلة البرنسس ألكسندره آفرينو، ولكن لات ساعةَ مندَمٍ.

ولقد عرف القارئون أن رجل البوليس السري قبض على حافظ نجيب بينما كان راكبًا دوكارًا وسائرًا به قبيل الغروب في شارع وجه البركة حيث يزدحم طلاب الغرام الفاسد وعشاق الليالي.

ومنه سيق إلى سجن الإسكندرية بعد أن أجرى رجال البوليس هنا التحقيق الابتدائي معه وحوكم أمام محكمتها الأهلية، وكان في كرسي النيابة يوم محاكمته سعادة القانوني محمد بك محفوظ رئيس نيابتها سابقًا والمستشار الآن في محكمة الاستئناف.

وقد روت صحف الثغر الإسكندري أثناء محاكمته حكاية مدهشة مؤداها أن المحامي الذي ندبته المحكمة للدفاع عن حافظ مجانًا قال في يوم الجلسة إنه متنازل عن الدفاع عنه؛ لأنه احتال عليه فأخذ منه أربعة جنيهات بدلًا من أن يعطيه ما يشجعه على الإجادة في دفاعه، ولذلك هو يخشى أن يسلبه ساعته وكل ما يملك إذا ترافع في دعواه، فأغرب الحاضرون في الضحك وكانوا كثيرين!

وقال توفيق أفندي فرغلي إنه خشي الدنو منه يوم المحاكمة مخافة أن يسلبه قلمه، وهو كل ما يملك في هذه الدنيا.

وقال طانيوس أفندي عبده: ما ذكر حافظ نجيب أمامي يومًا حتى تمثل لي في الحال روكامبول.

وروكامبول هذا كان آية المحتالين في زمانه، وله رواية مؤلفة من ١٧ جزءًا، وهي أشهر من أن تذكر.

ولما تنازل المحامي المشار إليه عن الدفاع عنه، قال حافظ إنه سيدافع عن نفسه بنفسه، وإنه في غنى عن جميع المحامين، فأظهر في مرافعته اقتدارًا غريبًا حتى أعجب به البعض وبكى الآخرون.

ومما يروى عن محاكمته أنه جيء بشاهد إثبات كان قبل القبض على حافظ نجيب محسوبًا عليه، فشهد شهادة تثبت الجرم على حافظ، وعند ذاك التفت رئيس المحكمة إليه وقال: «وما قولك الآن في شهادة هذا الرجل الذي طالما غمرته بإنعامك؟»

فأجابه حافظ لساعته: لقد كنت إلى ما قبل اليوم ماديًّا لا أعرف ما هي الأديان ولا أعترف بالأنبياء الأطهار، أما الآن فقد عرفت أن نبينا محمدًا نبيٌّ كريم إذ قال:

«أبت النفس الخبيثة أن تخرج من جسم صاحبها قبل أن تسيء إلى من أحسن إليها.»

وقد جاء هذا الحديث الشريف مصداقًا لما ورد عن ذلك الشاهد، فدهش القضاة والسامعون من قوة عارضته وسرعة بديهته.

غير أن ذلك الذكاء لم ينقذ حافظًا من السجن، فحُكم عليه بالنزول فيه عامين كاملين، فرضخ راغمًا لأحكام القضاء وسيق إلى سجن الحضرة لقضاء تَيْنِكَ السنتين.

وما شعر بغيابة السجن، وما لحق به من الهُون بعد ذلك الحكم حتى كتب إليَّ كتابًا مطولًا يندب فيه سوء حظه، وكأنه عز عليه أن يعترف بخطئه الذي أثبته القضاء، فقال: «وإنني — وحرمةِ الحقِّ — بريء من كل ما عزي إليَّ من النصب أو التبديد، ولكن هي الظروف صورتني للقضاء مبدِّدًا محتالًا.»

«هو الحب أنزلني منزل الشقاء، وكم لهذا الحب من ضحايا!»

•••

ولاح لي من كتبه العديدة التي أرسلها إليَّ من سجن الحضرة أن السجن لم يؤثر عليه كثيرًا إلا في الأيام الأولى فقط، ثم تعود على سكناه بعد ذلك فأخذ يمرح فيه كأنه في قصر مشيد تحيط به الحدائق الغنَّاء.

ومن نوادره في سجن الحضرة أنه كان يضع الخبز في إناء الماء الخاص به، حتى إذا اهترأ صنع منه جوزة أو شيشة وأهداها إلى المغرمين من ساكني السجن بشرب التنباك أو الحشيش.

ولا ريب في أنه لم يكن يقصد من عمل هذه الأركيلة إلا أن يُظهر للمسجونين أنه على جانب عظيم من الدهاء حتى ينال شهرة ذائعة بينهم، وهذه الشهرة هي الضالة الوحيدة التي ينشدها في هذه الحياة مهما عرض له في سبيلها من المصائب والعثرات.

ومن نوادره أيضًا حصوله على ورق أميري من أوراق السجن وإرساله الخطابات العديدة منه بطريق البريد، وتأليفه الرواية التي نشرها في كتاب نابغة المحتالين مع أن نظام السجن يمنع المسجونين من الكتابة على الإطلاق.

ومن حكاياته وهو سجين أيضًا أن أحد المسجونين شكا إليه سوء معاملة أحد موظفي السجن لامرأته التي تعودت على أن تزوره كل أسبوع، فسأله ما إذا كانت زوجته هذه حسناء، فأجابه: نعم. فقال له إن الانتقام سهل المنال إذا فعلت ما أشير به عليك. قال السجين: وما هو؟ فشرح له حافظ وسيلة الانتقام قائلًا: نبِّهْ على زوجتك عندما تأتي لمقابلتك أن تحضر في الأسبوع المقبل وهي على أتم ما يكون من البهرجة والرواء، حتى إذا ما قابلها ذلك الموظف أظهرت له الميل، ثم ماست أمامه بقدها المعتدل حتى يقع في شَرَكِ هواها، وعند ذاك تتفق وإياه على أن يزورها في المنزل في ساعة معلومة من يوم محدود، وأن يحضر معه ما يلزم من المشروبات الروحية والمأكولات الشهية، وبعد ذلك تقدم بلاغًا إلى مأمور القسم مؤداه أن موظف السجن المشار إليه راودها عن نفسها في كل مرة ذهبت فيها لمقابلة زوجها، فكانت تردعه بالتي هي أحسن فلم تفلح، وأخيرًا أخذ يتردد على منزلها وهي تبعده عنها بكل الوسائل حتى غدت غير آمنة على حياتها وعِرْضها؛ ولذلك ترجو تعيين من يلزم من رجال البوليس لمراقبة المنزل وذلك العاشق الثقيل، حتى إذا ما جاء إليها مهددًا ألقي القبض عليه وأُرسِل إلى المخفر للتحقيق معه ومحاكمته.

ولا أدري إذا كان ذلك السجين قد طاوعته نفسه على إنفاذ هذا الانتقام في ذلك الموظف، أم ردعه ضميره عنه.

وله عدة نوادر غريبة وحكايات عجيبة غير ما تقدم، ولكنها ضاعت من الذاكرة فأكتفي بهذا الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤