في قهوة الرقص

كيف أوقع إحدى الراقصات في شرك احتياله – إيهامها بأنه عازم على التزوج منها – مرافقتها إلى محل أساياس بالموسكي – إلقاء القبض عليه في فندق الكونتننتال – وقوعه في أيدي البوليس – فراره من السجن بعد ذلك.

***

يتشوق الناس كثيرًا للاطلاع على الحوادث التي أجراها حافظ نجيب عندما تنسك وجعل نفسه من الرهبان المسيحيين منقطعًا للصلاة والصوم في «الدير المحرق» تارة، وفي دير أنبا بشوي أو أنطونيوس مرة أخرى؛ لأن لغط الناس بهذه الحوادث كثر إلى حدٍّ ضاع معه الصحيح، ولأنه لم تقم صحيفة من الصحف لإذاعة تلك الأسرار بإيضاح يشفي الغليل، إذ قصرت فيما كتبته على ذكر موجز لا يغني ولا يفيد.

وأراني إجابة لرغائب غالب القراء مضطرًّا إلى تأجيل بقية النوادر العجيبة المدهشة التي أتاها حافظ تحت الستار قبل أن يجترم خداع تلك الراقصة الغانية التي كانت سببًا في إيداعه السجن، بادئًا الآن بذكر تفصيل ذلك الخداع متدرجًا منه إلى بيان بقية حوادث حافظ ليعلم القارئون كيف نجا من أيدي البوليس؟ وكيف غش رؤساء الأديرة القبطية مدعيًا أنه قبطي من أبناء السروات في أسيوط، إلى غير ذلك؟ حتى أصلَ به إلى تفصيل التحايل الغريب الذي أتاه على بعض رؤساء الأديرة المشار إليها، حتى حصل على مبلغ وافر من المال.

قلت إنني سأبدأ الآن بذكر حكاية حافظ مع الراقصة، وإليك تحريرها.

بينما كنت ذات مساء جالسًا في قهوة الشيشة مر بي حافظ، وسرعان ما اتخذ إلى جانبي مكانًا، وبعد أن حدثني طويلًا لاح لي أنه على أشد ما يكون من البؤس، فأشفقت على ذكائه وعلمه أن يكونا في رأس شاب مثله لا يستخدمهما في عمل سامٍ ينال منه أجرًا يجعله في أحسن حال.

غير أن حافظًا كان من الذين يعملون دائمًا بقول القائل:

وتجلُّدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتضعضع

فلهذا لم يشأ أن يظهر لي بؤسه، مع أن شواهد الحال كانت تنمُّ عليه، وبعد أن شرب القهوة غادرني يتسكع في مشيته مطرقًا برأسه مفكرًا في حيلة تنقذه من ورطة الإملاق.

وبعد يوم واحد فقط سمعت أن حافظًا أنفق على إحدى الراقصات في قهوة النوفرة بشارع كلوت بك خمسين جنيهًا في جلسة واحدة. فتأمل أيها القارئ الكريم كم كان دهشي عظيمًا عند ذاك! إذ بينا كان حافظ مملقًا لا يملك بارة إذا به قد ظهر فجأة وهو ينفق إنفاقًا يعجز عنه الأغنياء المسرفون.

من أين أتى حافظ بالذهب الرنان؟ لا أدري ولا أحب أن أختلق الحوادث والأخبار، ولهذا أقتصر على ذكر ما أعلمه من التفاصيل التي وصلت إليَّ عن حادث احتياله على الراقصة المشار إليها من العارفين بمحاضر البوليس.

لما عرف حافظ راقصة قهوة النوفرة أراد أن يخدعها بأنه من أبناء الذوات الوارثين، فلم يخيب لها طلبًا قط، فظنته عند ذاك غنيمة باردة، فأخذت تطلب زجاجات البيرة بالعشرات وحافظ يدفع الثمن عن طيبة خاطر، غير مُظْهِر ضجرًا أو مللًا، باذلًا كل جهده في إرضاء تلك التي وهمها أنه وقع في غرامها حتى الرُّكَب.

ولما رأت الراقصة منه هذه السهولة في الدفع، وذلك الكرم الحاتمي، رجته أن يشرفها في منزلها على أمل أن تحتال عليه؛ لأنه مهما أنفق في القهوة من المال لا ينالها منه إلا التفاخر على زميلاتها من الراقصات، وذلك، ولا ريب، لا يزين معصمها بسوار ذهبي، ولا رأسها بتاج من الماس. فلما سمع حافظ دعواها لم يرفضها، بل شكر لها لطفها وظرفها ومكارم أخلاقها، ثم وعدها أن يزورها بعد ظهر الغد.

ولما حانت ساعة العصر ارتدى حافظ ببدلة جميلة المنظر، حسنة التفصيل، غالية الثمن، فاستقبلته الراقصة مرحبة به.

ومن ثم طلب حافظ شرب كأس من الخمر؛ لأن المُدام من مستلزمات الغرام في عرف الأكثرين، واللبيب تكفيه الإشارة، فسرعان ما جاءته بزجاجة من كونياك مارتيل ماركة VO، وجلست إلى جانبه تناجيه بلغة الهيام.

والظاهر أن حافظًا لم يرُقْ له نوع الإدام الذي يُستعمَل «مازة»، فنادى الخادم وأمره بإحضار حمامتين ناضجتين من أحد المطاعم، فجاءه بهما وكان قد أعطاه جنيهًا، فقدم الخادم إليه بقيته وهي تسعة وثمانون قرشًا صاغًا، فأشار حافظ بيده وقال له: «أبقِ الباقي معك؛ فهو لك.»

وما رأت الراقصة ذلك الكرم الحاتمي النادر المثال حتى أخذت تعِدُ نفسها بالهيل والهيلمان والمصوغات النادرة والأصفر الرنان، جاهلة أنها إن كانت ريحًا فقد لقيت إعصارًا.

ولما لعبت الخمر برأس الراقصة المشار إليها أخرج حافظ من جيبه حافظة من الجلد الثمين وأخرج منها عشرات من أوراق البنك الأهلي قائلًا لها: انظري كم من مئات الجنيهات في هذه الحافظة! وإنني لم أُرِك إياها لأظهر لك أنني غني جدًّا، ولكن لأعتذر لك عن الحضور هذا المساء إلى القهوة؛ لأن عندي أعمالًا مهمة تعوقني عن الذهاب إليها، ولكن ثقي أن حبك ثابت في فؤادي وأنني لن أرضى سواك بديلًا.

والحقيقة أن جيب حافظ كان قد فرغ من المال، فأتى هذه الحيلة للخلاص من إنفاق عدة جنيهات في قهوة الرقص التي تشتغل فيها تلك الراقصة، وما كانت الأوراق المالية التي أظهرها إلا من الأوراق التي يصدرها البنك الأهلي مبصومة بختم فيه كلمة «لاغ»؛ لأن هذه الأوراق يوزعها على الصيارف والبنوك المالية للمضاهاة عليها عند اللزوم، ولا أعرف كيف حصل حافظ عليها ومن أين جاء بها هذا الشيطان؟ غير أن تلك الأوراق البائرة التي لا ثمن لها قد أدهشت الراقصة وحملتها على الاعتقاد بأن حافظًا قارون زمانه وحاتم عصره وأوانه، فأجابته إلى ما طلب ببشاشة وابتسام.

ولما حانت الساعة التي يجب على الراقصة أن تخرج فيها إلى القهوة قال لها إنه يخشى أن تعلق بسواه، ولذلك هو يطلب منها عربونًا على المودة والهيام لا سيما وأن في عزمه أن يتزوج منها، فحصل بهذه الواسطة على سوارين ذهبيين كانا يزينان أحد معصميها.

ذهبت الراقصة إلى قهوتها وهي تهجس بذكر حافظ وغناه والأوراق المالية التي معه، وذهب حافظ إلى حيث ثمَّن السوارين عند أحد الخبراء، فرأى أن ثمنهما لا يعادل ما أنفقه في ليلة واحدة على تلك الراقصة، فلم يرضَ بهما وعوَّل على نزع بقية الحلي والمصوغات، ولذلك عاد في اليوم الثاني إلى منزل الراقصة عند الأصيل في عربة فاخرة استأجرها لسبك احتياله من العربات التي لا نمرة عليها ليوهم تلك الفتاة المسكينة أنها عربته، وأمر الحوذي أن يبقى بالانتظار، فاستقبلته ربة الدار بما يليق بقدره الرفيع من التجلَّة والإكرام، وأخذت تبالغ في احترامه وهي تظن بأنها تعمل على خداعه، متخيلة «أن في القبة شيخًا»، وما دَرَتْ من هو حافظ نجيب؟

وقبل أن تغرب الشمس قال حافظ للراقصة إنني أريد أن أشتري لك بعض الهدايا من أكبر المحال التجارية، وأرجو ألا تردي رجائي وأن تسرعي الآن بارتداء ملابسك لنذهب معًا، فشكرت له الراقصة هذه العناية شكرًا جزيلًا ودعت له دعاء طويلًا.

ولكيلا نضيع على القارئ الكريم وقته بالتفاصيل التي لا فائدة منها، نختصر من القول على أن حافظًا أركب الراقصة معه تلك العربة الفاخرة فتاهت به عجبًا ودلالًا، ثم أوقف العربة في أول شارع الموسكي عند محل La belle jardiniére، الذي أسسه الخواجا أساياس لبيع فاخر الأقمشة وأنواع الهدايا، ثم قلد الوارثين والأغنياء في كلامه ومساومته ودلاله حتى ظن صاحبنا أن هذا الزبون الكريم خير من ألف زبون، خصوصًا وأن حافظًا لم يُقَتِّر في ثمن ما مالت إليه الراقصة الحسناء.

وما زال والراقصة يطلبان هذا وذاك حتى زاد ثمن ما انتقياه على الثلاثمائة جنيه، فاكتفت الغانية به وأشارت إلى حافظ بأن هذا يكفي الآن على نية أن تذهب به في يوم ثان إلى محل جوهرجي أو تاجر آخر حيث تربح ما ربحته من محل أساياس.

ولما قدم صاحب المحل كشفًا بأثمان الأشياء التي انتقتها الراقصة إلى حافظ أخرج هذا من جيبه دفتر شيكات من الدفاتر التي تعطيها البنوك المالية إلى الذين يودعونها أموالهم، وكتب بالمبلغ المطلوب تحويلًا على بنك الكريدي ليونه، وأعطى صاحب المحل عنوان الراقصة ليرسل البضاعة لها على عجل.

وبينا هو عائد مع الراقصة قال لها إنه مضطر إلى مغادرتها بعد أن يصل بها إلى منزلها حيث يغيب أربع ساعات ثم يعود، ولكنه لا يريد أن تذهب الليلة إلى القهوة؛ لأنه يرى من الواجب عليها الامتناع عن العمل بتاتًا؛ إذ ستغدو عن قريب زوجته، فأجابته إلى ما طلب عن رضًى بالطبع، ولكنه قال لها إنه يخاف ألا تَصْدُق في كلامها، ولذلك يرجوها إذا كانت صادقة في وعدها وحبها أن تعطيه ما عليها من الحلي؛ لأنها بغيرها لا تقدر على الذهاب إلى القهوة، ثم يعيدها إليها عند رجوعه، فلم تجد المسكينة مناصًا من إجابته إلى ما طلب خيفة أن يهرب العصفور من الفخ الذي وقع فيه!

ولما وصلا إلى المنزل أخذ حافظ منها مصوغاتها وودعها على أمل اللقاء العاجل في المساء بعد أن أعطى الخادم جنيهين لإحضار الكونياك وما يلزمه من المأكولات الشهية.

ذهب حافط وظلت الراقصة التعسة في انتظار تشريفه وانتظار الملابس وبقية الأشياء الثمينة التي انتقتها من محل أساياس، فذهب انتظارها سدًى؛ لأن الخواجا أساياس عندما ذهب إلى البنك لقبض قيمة التحويل عجب موظفوه منه، وأجابوه ضاحكين بأنْ لا اسم مطلقًا لصاحب التحويل عندنا؛ لأنه لم يودع البنك قرشًا من أمواله، فعض عند ذاك على أرمه من الغيظ، وأدرك لساعته أن ذلك البك العظيم الجاه لم يكن إلا نصابًا محتالًا.

أما حافظ فقد فاز بالمصوغات والحلي وترك الراقصة تضرب أخماسًا لأسداس.

ولما لم يعد حافظ في مساء ذلك اليوم ولا في صباح اليوم الثاني، عرفت هي أيضًا أنه محتال كبير، فأسرعت إلى قسم الأزبكية حيث قصت الخبر على حضرات مأموره وضباطه، فكتبوا أقوالها في المحضر اللازم.

ثم ذهب الخواجا أساياس أيضًا لشدة ما لحق به من الغيظ إلى قسم الموسكي، وأبلغ تفاصيل الخبر إلى حضرة المأمور النشيط، وعاد وهو يكاد يتميز من الكيد. ومن ثم أخذ رجال البوليس السري يبحثون على حافظ في كل جهة، فلم يقفوا له على مقر معلوم.

أما هو فقد باع المصوغات التي أخذها من الراقصة، ووضع ثمنها في جيبه، وذهب إلى فندق الكونتيننتال الشهير حيث نزل فيه باسم البرنس يوسف بك كمال بعد أن ارتدى بأفخر الملابس، وتحلى بالذهب البراق والماس الثمين، فلم يشكَّ عمال الفندق فيه؛ لأنه ليس لديهم قلم لتحقيق شخصية من يقصدون إليهم.

وقد وصل إلى علم حضرة الأديب صالح بك شاكر خبر نزول حافظ نجيب في فندق الكونتيننتال، فحدثته نفسه بإلقاء القبض عليه، فقصد إلى الفندق وجلس في المحل المعد قهوة عامة لكل الناس، حتى إذا ما نزل حافظ حياه بوقار واحترام كما لو يحيي فعلًا صاحب الدولة الأمير الخطير يوسف بك كمال، وسأله أن يسمح له بكلمة وجيزة في أمر ذي بال، فأجابه حافظ إلى ما طلب وجلسا معًا على مائدة واحدة.

وبعد أن حياه دولة البرنس «حافظ نجيب» بسكارة من سكاير جناكليس سأله الإفصاح عن بغيته، فقال له صالح بك: إنني أعلم حق العلم أن حضرتك لست بالبرنس يوسف كمال، وأنك حافظ نجيب المحتال الهارب من وجه البوليس، فلذلك أنصح لك بالذهاب معي إلى أقرب مخفر حتى لا تحول الأنظار إليك، ويكون في ذلك ما فيه من الفضيحة والعار عليك.

فشمخ حافظ بأنفه كبرًا وأجاب صالح بك بأنك واهم يا هذا فيما قلت، وما أنا بحافظ نجيب ولكنني البرنس يوسف كمال، ثم مد يده إلى جيب بنطلونه ليوهم مخاطبه بأنه سيخرج منه مسدسًا أو مُدْيَة أو ما شاكل ذلك، فأسرع صالح بك وقبض على ذراعه بيد من حديد، وقال له: إما أن تسير أمامي وإما أن أستعين على إلقاء القبض عليك بخدم الفندق ورجال البوليس، فصغرت عند ذاك نفس حافظ وحاول إرشاء صالح بك فلم يفلح.

وأخيرًا اضطر أن يسير وإياه جنبًا إلى جنب كأنهما عاشقان أو قتيلا غرام حتى وصلا إلى قسم الموسكي، وهناك سلمه حضرة صالح بك إلى حضرة الفاضل رزق أفندي إبراهيم مأمور القسم بعد أن كان صلة تعارف بين الاثنين.

ولا ريب أن حضرة المأمور النابه قد أدرك اقتدار حافظ وسعة حيلته ودهائه الشديد، فأودعه سجنًا لا يستطيع منه فرارًا، فضاقت الدنيا على رحبها في وجه حافظ، فسلم أمره إلى المقدار وقال بلسان الحال ما يقوله العامي في مثل هذا المقام «الصباح رباح».

ولكن ذلك الرأس المفكر الكبير رأس حافظ نجيب عسُر عليه أن يلتحف الأرض دون أن يفكر في طريق النجاة قبل أن تبدأ النيابة العمومية معه بالتحقيق، فيضطر إلى الافتكار بما ينقذه من شر التهم التي توجه إليه، فلم يطلب الراحة إلا وقد أعياه الفكر، ثم ابتسم ضاحكًا من تقلب الأحوال؛ لأنه منذ ساعة واحدة فقط كان الأمير يوسف بك كمال موضوع التجلة والإكرام في أعظم فنادق القاهرة، فغدا الآن طريح «الأسفلت» وعشير اللصوص وغيرهم من المجرمين بعد أن كان خلطاؤه من ذوي الجاه والمال والنقود من القوم السائحين.

ولكن صاحبنا حافظ تعود على أن يستهين بالأخطار ويضحك من تقلبات الأحوال، فنام وهو واثق بالنجاة في القريب العاجل.

ولو كان في ذلك المقام وعلى تلك الحال شاب غير حافظ نجيب ليئس من الحياة الدنيا وأيقن بالشقاء المقيم، ولكنَّ حافظًا يرى مثل هذه الكوارث سحابات صيف لا تلبث أن تزول.

وفي صباح اليوم الثاني نادى حضرة المأمور على حافظ نجيب وشرع في إجراء التحقيق معه، فكان يجيب على كل سؤال يوجه إليه برزانة وثبات جأش يدلان على اقتدار عجيب في المواقف الحرجة، فعجب له حضرة المأمور ودهش من سرعة بديهته وقوة حاضرته.

ولقد ضبط معه قبل أن يودع السجن عدة أوراق مالية من أوراق البنك الأهلي الملغاة فأودعت محضرَ التحقيق.

وبعد أن انتهى رجال البوليس من تحقيقاتهم أرسلوه مع محضرهم إلى نيابة محكمة الموسكي لتتم التحقيق القضائي اللازم في مثل هذه الحال.

وقد حدث أنني صادفته ذات يوم والجنود عائدون به من نيابة الموسكي مع عدد ليس بقليل من المتهمين وفي يده الأغلال الحديدية فحياني مبتسمًا وقال لي على غفلة من رجال البوليس: «لي يا سي جورج في كل يوم شأن، وما هو إلا مظلمة جديدة من مظالم بني الإنسان. فقد اتهموني الآن بالنصب والاحتيال على راقصة طالما غمرتها بإنعامي وأغرقتها في بحر مكارمي، ولكن لا بأس فإن العصفور لا يظل في القفص طويلًا.» وهو يرمي بالجملة الأخيرة إلى أن يوم فراره قريب.

وكأنه عز عليه أن يكون كاذبًا في دعواه فأسرع في الهرب من أيدي البوليس متخلصًا من غطرسة السجانين وعذاب التحقيق الدقيق.

وبيان ذلك أنه كان آيبًا ذات يوم عند الظهر من محكمة الموسكي الجزئية حيث كان حضرة وكيل نيابتها يحقق معه وإلى جانبه عسكري يحرسه ويحافظ عليه من الهرب، فلما وصلا إلى العمارة الكبرى الكائنة على مقربة من محل «ستين» الشهير قال للجندي: أنت تعلم يا صاحِ أنني لست بالفقير المعدم وأن لي في النيابة العمومية مبلغًا طائلًا من المال وعدة مصوغات، ومن كانت حالته هكذا يصعب عليه كثيرًا أن يقضي أيام التحقيق سجينًا دون أن يكون معه في جيبه مال يمكنه من شراء كل ما تتوق إليه نفسه من الأكل والدخان، فإذا تفضلت علي بالانتظار قليلًا ريثما أصعد إلى منزل أحد أصدقائي العظماء الساكن في هذه الوكالة، وآتى منه بخمسين جنيهًا أو ما يقرب من ذلك أعطيتك عشرة جنيهات لقاء لطفك ومكارم أخلاقك، وغدوت لك من الشاكرين، كما أنه يجب أن تثق أنني بعد خروجي سأكون لك نعم النصير وبك خير شفيق.

فسال عند سماع الجنيهات لعاب العسكري شوقًا إليها، وقال لحافظ: «إنني أسمح لك بما أردت، على شريطة أن يظل القيد في يديك.»

فأجابه حافظ: «لا بأس في ذلك؛ لأن صديقي هذا يعلم أنني سجين ظلمًا، فهو لا يزدري بي إذا رآني مقيدًا مثل سائر المتهمين.»

وسرعان ما أخذ يصعد الدرج أربعًا أربعًا تاركًا الجندي بانتظاره، ناسيًا هذا المسكين أنه إنما ينتظر أحد القارظَيْنِ.

مضت ساعة وأخرى والعسكري التعِس في انتظار حافظ وهو يَعِدُ نفسه بالجنيهات العشرة، ولكن حافظًا لم يعد حتى أيقن ذلك العسكري أنه احتال على الفرار، وأن أوبته من المستحيلات، فصعد إلى المنازل التي في تلك العمارة الكبرى، وأخذ يطرق أبوابها واحدًا بعد آخر فلم يجد لذلك السجين الهارب من عين ولا أثر، فأدرك إذ ذاك عظم خطئه ونتيجة إهماله، واستعد للعقاب العادل الذي سيحل به جزاءً له على تهاونه.

أما حافظ فإنه خرج من باب آخر بعد أن حمل أحد الخادمين من البرابرة على حل قيوده، وسار في طريقه آمنًا عيون العواذل والرقباء.

وفي مساء ذلك اليوم ذهب إلى القهوة المصرية الشهيرة باسم Café Egyptienne حيث توجد البلياردات النادرة المثال؛ لأنه كان من المولعين بلعب البلياردو ومشاهدة ما يأتيه كبار اللاعبين من الألعاب المدهشة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤