حافظ في القهوة المصرية

كيفية احتياله على إحدى الغانيات الإفرنجيات – تقليده أبناء ذوات الفلاحين.

***

قلت إن حافظًا جلس في القهوة المصرية، وبينا هو جالس أحب أن يمثل دورًا قصيرًا على الهامش وصوَّب نظره نحو غانية كانت هناك.

ولكن جيبه كان فارغًا والمرء لا يكون وجيهًا ولا عالمًا ولا ذكيًّا بغير الذهب، فاضطر على الرغم منه أن يؤجل تمثيل ذلك الدور المضحك إلى يوم غد حتى يحصل على شيء من النقود لا سيما وأن عشاق تلك الغانية كانوا كثيرين.

ولقد تمكن بدهائه الشيطاني في اليوم الثاني من الحصول على مبلغ ليس بكبير من المال، فقصد لساعته إلى محل الماس بيرا، حيث اشترى عدة مصوغات كاذبة ولكنها تلمع في الليل لمعانًا يبهر الأنظار، ولا سيما نظر الغواني اللواتي لا أحَبَّ إليهن من الأغنياء الذين ينفقون عليهن عن سعة ورخاء.

وما أمسى المساء حتى قصد إلى القهوة المعينة، وظل فيها إلى أن قرب الليل من الانتصاف وهو يحاول استدعاء تلك الغانية إليه، فلم يجد فرصة مناسبة؛ لأن عاشقيها أربوا على الخمسة عدًّا وكلهم من أبناء العيون وعيون البلاد.

ولكنه طلب إليها أخيرًا أن تجلس معه، فلم تجِدْ بدًّا من إجابة طلبه أسوة سواه. وقبل أن تحضر كان حافظ قد تزين بما اشتراه من المصوغات من محل «الماس بيرا»، فظهر بها من أصحاب الثروة الواسعة والجاه العريض.

وقد أرادت الغانية المشار إليها أن تحرج موقفه لتخلص منه، فأخذت تحضر لنفسها من المشروبات ما غلا ثمنه، فلم تجد من حافظ إلا ارتياحًا، ثم آنست من سذاجته ما رغَّبها فيه بعد أن كانت راغبة عنه، على أمل منها بالضحك عليه واستنزاف ماله، جاهلة أنه حافظ نجيب آية المحتالين ونابغتهم بلا ريب في هذا الزمان.

أمعن حافظ النظر في الغانية وهي على تلك الحال من وجود خمسة أو ستة من العاشقين وكلهم يود الاستئثار بها، فرأى أن مركزه حَرِجٌ، فعَوَّلَ على استخدام ذكائه للفوز على خصومه.

وقد دارت بينه وبين تلك اللعوب محادثة قصيرة باللغة الفرنسوية، فأفهمها بأنه وإن كان يجيد هذه اللغة إلى حد بعيد، فهو ليس من سكان العاصمة؛ لأنه ذو أراض واسعة في مديرية الشرقية، وما جاء إلى القاهرة إلا لأخذ رخصة من نظارة الأشغال العمومية ببناء عزبة وتركيب وابور بخاري على النيل، فزاد رغب الفاتنة فيه نظرًا لما هو مشهور عن كرم المزارعين في محالِّ اللهو والزهو.

وما حانت الساعة الثانية إلا وقد اتفقا على أن يشرفها حافظ بزيارته إياها في تلك الليلة، فلبى طلبها مظهرًا لها أنه قتيل حبها وصريع هواها.

ولا ريب أن تلك اللعوب لم يخدعها إلا الحلي التي رأتها على حافظ، فظنت ما ظنت وتاهت في بيداء الأحلام الحلوة والأماني اللذيذة.

ولما أقفلت القهوة أبوابها وغادرها كل من فيها، انسل حافظ إلى الخارج ووقف أمام الباب منزويًا داخل عربة، حتى إذا ما خرجت الغادة المشار إليها دعاها إليه فركبت معه وسار إلى المنزل العامر.

وكأن حافظ أراد أن يطرد ما يجيش في صدره من الهموم والخوف من الوقوع مرة أخرى في أيدي البوليس والرجوع إلى النوم على «الأسفلت»، فطلب خمرًا جيدة فجيء بها إليه، وأخذ يشرب وفاتنته بين لهو ولعب كأنه لم يكن أمس سجينًا تحت رحمة القضاء.

وما حانت الساعة الرابعة من الصباح حتى أنهك التعب قوى الفتاة الأوروبية، فاضطرت إلى الرقاد وتظاهر حافظ بالنوم أيضًا، ولكن هيهات لمثله أن ينام في مثل ذلك المنزل، ولذلك صبر عليها حتى أيقن من أنها استغرقت في النوم، ثم خفَّ إلى الباب وخرج منه دون أن يدري أحد بعد أن نزع كل ما اشتراه من المصوغات الكاذبة، ووضعه على مائدة الشراب فوق ورقة كتب فيها ما يأتي:

عزيزتي …

لا تغتري بأي كان لأول مرة، فالإنسان كالدنيا دائمًا يغر في الابتداء ويسيء في النهاية.

لو شئت أن أسيء إليك لاستطعت، ولكنني لا أميل إلى الشر ولا أرغب في إيذاء أحد من عباد الله فنامي براحة وسلام.

إذا استيقظت فلا تعجلي في تفقد أمتعتك ومصوغاتك، فكلها سليمة لم تمسها يدي، بل زدت عليها جميع ما كان معي من المصوغات الكاذبة لتكون لديك تذكارًا من «العاشق الظريف».

حاشية: ربما عدت إلى زيارتك يومًا، فانتظري ذلك اليوم بفارغ الصبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤