في أديرة الأقباط الأرثوذكس

التجاء حافظ إلى الأديرة للفرار من مطاردة البوليس – تأثير الرهبنة عليه – بماذا احتج للاندماج في سلك الرهبان – رثاؤه المرحوم مصطفى باشا كامل باسم الراهب غبريال إبراهيم بدير الأنبا بيشوي – اهتمام أدباء الأقباط والغيورين منهم بشأن هذا الراهب الجديد – حافظ يناظر واعظًا قبطيًّا بصفة كونه راهبًا – الراهب غبريال يظهر المعجزات – انتقاله إلى دير المحرق – احتياله على أسقفي بوش والمحرق.

***

ما تناولت القلم لأسطر هذا الفصل من فصول حافظ نجيب حتى أسفت على أن يكون هذا المحتال الظريف، مستودع ذلك الذكاء النادر؛ لأنه لم يستخدمه إلا في أعمال لم تعُدْ بفائدة ما سواء عليه أو على الهيئة الاجتماعية، مع أنه لو كان صحافيًّا لنفع بمعارفه الاجتماع، وكان خير معين لرجال البوليس على كشف المخبآت وإظهار ما في الزوايا من الخبايا والأسرار.

ولهذا لا عجب إذا اعتقدت أن الذكاء قسمان؛ قسم وهو الذي يصاحب الأدباء وأهل الشرف يدعى ذكاءً عن عدل واستحقاق، وقسم وهو الذي يظهر على نوابغ المحتالين يدعى مكرًا؛ لأن الذكي الحق لا يعمد إلا إيذاء عباد الله واستحلال المحرم، في حين أنه قادر على أن ينتفع من الطرق المشروعة عدلًا أكثر مما ينتفع من سبل النصب والاحتيال.

•••

اختلى حافظ ذات يوم إلى نفسه بعد أن غادر تفتيش سعادة خليل بك إبراهيم فحزن حزنًا شديدًا على ما وصل إليه من سوء الحال، فكر في المستقبل فرآه أسود من الغراب، فتمشى قلبه في صدره لشد ما أخذه من الحزن وتساوره من الهم، فصفق بيديه صفقة الأواه وندم على ما فات من أيامه وأعماله ندامة الكسعي في سالف الأزمان.

وبعد أن أطال التفكير وبرَّح به الشقاء أيامًا، لم يجد أمامه من وسيلة للخلاص غير التنسك في أحد الأديرة التي لا تنصرف إليها أفكار رجال البوليس؛ لأنهم لا يتصورون أن حافظ نجيب يدعي النصرانية ويقيم بين أظهر القسيسين والرهبان.

ولما صحت عزيمته على ذلك ذهب إلى دير وادي النطرون، ولما سئل عن الداعي الذي حمله على مغادرة العالم والانقطاع لعبادة الله قال:

إنني أحد أبناء ذوات مدينة أسيوط، توفي والدي قبل أن أبلغ سن الحلم، فأرسلتني والدتي إلى مدينة طولوز حيث مكثت فيها ثلاثة عشر عامًا أتلقى العلم العالي والحقوق.

ولما انتقلت والدتي إلى رحمة الله عدت إلى بلادي وأخذت أجاهد في معترك هذه الحياة، فكان حظي منها وافرًا، فعشت عيشة الرخاء واليسار، وكان لي شقيقة وحيدة وابنة عم يتيمة جعلتهما موضع آمالي، فكانتا لي نعم العزاء في أيام الكدر والشقاء، وكنت أحب ابنة عمي حبًّا مبرحًا كما كانت هي تهواني أيضًا، فتعاهدنا على الحب الدائم وإقرانه بالزواج، ولكنني قبل أن أفوز بهذه الأمنية اللذيذة رُمِيتُ على حين غِرَّةٍ بمصاب بدَّد آمالي وصرم حبل آمالي، وتركني في أشقى حالات النكد والهوان بعد أن عشت مع عزيزتَيَّ تسعة أعوام كاملة آصالها مواسم وأسحارها بواسم، أما ذلك المصاب الذي دهمني فهو موت أختي وخطيبتي فجأة اختناقًا بالغاز.

وبيان ذلك أن المنزل الذي كنا نقيم فيه معًا ينار بالغاز الممتد بأنابيب إلى المنازل والحوانيت، وقد صادف ذات يوم أنهما دخلتا إلى مخدعهما ونامتا دون أن يلتفتا إلى أن الغاز يتصاعد من المصباح، وإن كان غير مضاء، فأوصدتا الباب والنوافذ وغرقتا في بحار النوم، ولكن عدم وجود منفذ يخرج منه الغاز دعا إلى اختناقهما قبل أن يدخل عليهما أحد يمكنهما من النجاة، ودون أن يتمكنا من الاستنجاد بأحد من العالمين.

وفي صباح اليوم الثاني أبطأتا في الخروج من مخدعيهما، وقد جرت عادتي ألا أخرج إلى عملي قبل أن أتناول معهما طعام الصباح، فأسرعت إلى غرفتهما وطرقت بابها مرارًا على غير جدوى، وعند ذاك أخذني الخوف والقلق من كل جانب، فدفعت الباب بكل قواي فانفتح، ويا لَهَوْلِ ذلك المشهد الأليم الذي رأته عيناي بعد ذلك! فقد شاهدت أختي وابنة عمي قتيلتين لا حراك فيهما، وشعرت للحال بضيق الصدر من رائحة الغاز، فأدركت سبب الموت واستخرطت في البكاء والعويل، ولكن ماذا يفيد البكاء وقد حل القضاء المحتوم وذبلت تانك الزهرتان اليانعتان، وعما قريب أودعهما الوداع الأخير؟ ثم بلغ مني الحزن حدًّا كرهت معه الحياة الدنيا، فتركت أعمالي وأودعت ما أملك من المال أحد البنوك، وجئت إلى هذا الدير لأكون أحد رهبانه منقطعًا لعبادة الله، والصلاة عن نَفْسَيْ تَيْنِكَ العزيزتين رحمهما الله.

ثم أجهش للبكاء.

فما سمع رئيس الدير هذه الحكاية المؤثرة حتى أخذته الشفقة على حافظ، فرحب به وألبسه المسوح، فغدا راهبًا قبطيًّا اسمه الراهب غبريال إبراهيم.

وقد أقام حافظ في ذلك الدير بضعة شهور وشيمته الورع والزهد، وعمله الصلاة صباح مساء، فأَجَلَّه كل من كان في ذلك الدير من رهبان وقسيسين، وقد أعانه على الظهور بمظهر المسيحي المتمكن من دينه أنه ربي في مدرسة الفرير الكبرى بالعاصمة، وتلقى فيها التعليم المسيحي أسوةَ سواه، فلم يَرْتَبْ في نصرانيته أحد.

وكأن حافظ قد ملت نفسه الجهاد فاستسلم إلى القضاء، وعول على قضاء أيامه بعيدًا عن حركة هذا العالم في ذلك الدير النائي.

ولكن ما فطر حافظ عليه من الميل إلى إتيان كل حيلة نادرة وأمر غريب لم يمكنه من البقاء على تلك الحال طويلًا، فغادر ذلك الدير إلى دير أنبا بيشوي؛ لأنه لم يجد في وادي النطرون ما تطمح إليه نفسه من الآمال.

ومما لا يحتاج إلى بيان أنه قوبل في دير أنبا بيشوي بإكرام وإعزاز لا سيما بعد أن حسنت الشهادة في حقه من رئيس دير وادي النطرون، فعمد عند دخوله إلى اكتساب ثقة أسقف الدير ورئيسه وسائر من فيه من أهل الدين والدنيا، فلم يعسر ذلك على نابِهٍ قدير كحافظ نجيب.

وقد حدث عند ذاك أن المنية استأثرت بالمرحوم النابغة مصطفى باشا كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني، فما علم حافظ بانتقاله إلى رحمة الله تعالى حتى أثار النبأ المفجع شجونه وحرك يراعه بعد أن مضت عليه سنة أو يزيد وهو ساكت هادئ، فنظم المرثية الآتية وبعث بها إلى جريدة الوطن فنشرتها في العدد الذي صدر يوم ١٧ فبراير سنة ١٩٠٨ بالنص الآتي:

دموع الأدباء على فقيد الوطنية: دمعة راهب من داخل الدير

تحطمت الآمال وانحسم الأمر
فكل الرزايا دون خطبك يا مصر
ومن كارثات الدهر هل بت مثلما
تبيتين ثكلى لا عزاء ولا صبر
وهل أوحشت في موت فرعون مصره
وحلت بواديك المخاوف والذعر
وهل مرَّ ماء النيل من هول حادث
كما مر مرتاعًا وفي مائه المر
ومن قبل هذا هل شهدت مناحة
يضيق لها التاريخ والنظم والنثر
فأي فؤاد لا يذوب لما جرى
وأي جَلُود لا يفتته القهر
فيا عين جودي بالمدامع والدما
ويا حزن لا تبرح وموعدك الحشر
فما كل خطب يُنْتَسى سوء وقعه
ولا كل ذكر حظه الطي والنشر
وما خلَّف الثاوي بديلًا له ولا
تجود به الأزمان هيهات والدهر
وفي القبر هل ترضى المقام وعهدنا
بأنك يا محبوب موضعك الصدر
ومن للملا من بعد صوتك صائح
يصيح فتهتز المغارب والقطر
ومن يُرتجى للشعب بعدك قائد
وأنَّى له منك العزيمة والفكر
وأي خطيب بعد موتك مصطفى
إذا قرع الأسماع ينتثر الدر
وأي يراع بعد ذيَّاك إن جرى
أثار جبان القلب وانتعش الحر
وأي زعيم للسياسة بعده
وقد ضاع منها الرأس وانقصم الظهر
وهل للصحافة بعد فقدك عامل
يخلد ذكراها كما خلد الذكر
قضيت فأبكيت العداة وحسَّدا
وشاركنا في حزننا الجلمد الصخر
وسالت مع العبرات نفس عزيزة
وليس إلى السلوى سبيل ولا وعر
فلا تهدأ الأحزان ما دمت صامتًا
وما دام ذاك البدر يحجبه القبر
الفقير الراهب
غبريال إبراهيم
بدير الأنبا بيشوي

وما ذاع أمر هذا الرثاء حتى أعجب به إخواننا الأقباط أيَّما إعجاب، وسُرُّوا لوجود كاتب ناظم في عداد الرهبان، فأخذوا يتساءلون عن هذا الراهب الجديد الذي ظهر على حين غرة وأخذوا يبنون على وجوده داخل الأديرة القبطية الآمال الحلوة، مؤملين أن يكون باعثًا لكثيرين سواه على الاقتداء به، فينتقل الرهبان إلى حالة جديدة ويغدو بينهم عدد كبير من أهل العلم والحصافة والذكاء.

وقد حرك هذا الاهتمام حضرة الفاضل جندي بك إبراهيم صاحب جريدة الوطن بصفة كونه أحد زعماء الحركة الفكرية بين الأقباط ومدير جريدة هي لسان حالهم من قديم إلى أن يبعث بكتاب إلى حضرة رئيس الدير، فجاءه منه الكتاب الآتي نصه:

عزتلو الفاضل جندي بك إبراهيم باركه الله

نهديكم وافر التحية وأذكى السلام مع صالح الدعوات، وبعد؛ فقد ورد لنا خطابكم وردًّا على سؤالكم بخصوص صاحب قصيدة الرثاء فإنه حقيقة موجود بالدير رئاستنا، ويمكنكم الحكم على مقدرته في اللغة العربية والنظم من قصيدته الثانية المرسلة مع هذا، وتقبل احترام وتحية المخلص، وسلام الرب ليكون معكم.

رئيس دير الأنبا بيشوي
ووصلت مع هذا الكتاب مرثية ثانية من الراهب غبريال إبراهيم أو حافظ نجيب وهذا نصها:

أنَّةُ مكلوم

بعادك يا ربَّ اللواء أساءنا
وزعزع طودًا راسخًا وجليلَا
ولم ترَ عينُ الشمس قبلًا نظيره
ولا ترتجي الأزمان عنه بديلَا
يد الموت هلا كنت عنه قصيرة
وأبقيت فينا حازمًا ونبيلَا
يد الدهر لم تعرف سبيلًا لخذله
فكيف وجدت للعظيم سبيلَا
ألم يجزع الموت العشية بعده
وهلا بكته الحادثات طويلَا
وقد جفَّ ماء النيل حزنًا وما جرى
ولكن جرى دمع المحاجر نيلَا
وقد أظلم الكون الذي كان نيرًا
ولم يغْنِ ضوء الشمس عنه فتيلَا
فهل ضمَّه القبر الذي صار موطنًا
وما وسعته الأرض قبلُ نزيلَا
عجيب لصرف الدهر فيه وإنني
مرارًا شهدت الدهر آب ذليلَا
وكم مرة عاد الزمان بجيشه
حسيرًا وردَّ الطرف عنه كليلَا
فلا تنزعي مصر الحداد فإنما
على مثله يبقى الحداد طويلَا
وحجي إلى قبر الفقيد ورددي
ثناه فقد ذاع الثناء جميلَا
وفي كل عام عيدي يوم وضعه
وضجي ونوحي يوم مات عليلَا
وإن قام تمثال يشير لمجده
فقد شاده الثاوي الكريم أثيلَا
فيا مصر إن لم ترجعي شخص مصطفى
كما كان عاد الجسم منك نحيلَا
ويا عين إن لم تبصري شخص مصطفى
كما كان خِلْت النور فيك ضئيلَا
ويا عصر عباس إذا اليوم لم يعد
خطيبك قلت الخطب صار وبيلَا
ويا حزبه شق القلوب لفقده
قليل وإنا لا نريد قليلَا
ويا حزب إن لم تحمل اليوم حمله
وهيهات أصبحت الغداة هزيلَا
غبريال إبراهيم
الراهب بدير الأنبا بيشوي

وما أقام حافظ في ذلك الدير قليلًا حتى عمل على اكتساب ثقة نيافة أسقفه الفاضل الورع، فغدا بدهائه موضع ثقته ممتازًا على غيره من الرهبان في معاملته كما امتاز عليهم بعلومه ودهائه.

ومما أتاه من الأعمال المبرورة في ذلك الدير ليذاع فضله بين الرهبان ويعتقدوا والأسقف بصلاحه وتقاه أنه أظهر لنيافة الأسقف افتقار الرهبان إلى العلم الصحيح؛ لأن غالبهم إن لم تَقُلْ كلهم لم يأخذوا من العلوم إلا قشورًا لا تغني ولا تفيد، واقترح عليه إنشاء مدرسة خاصة لهم يعلَّمون فيها اللغة العربية واللغة القبطية وبعض اللغات الأوروبية ليكونوا على بينة من أمور دينهم ودنياهم.

ونظرًا لما فطر عليه نيافة أسقف دير أنبا بيشوي من حسن النوايا وحب الخير للرهبان أجمعين، أحل اقتراح الراغب غبريال إبراهيم أو حافظ نجيب محلًّا كبيرًا وأثنى على فكره الصائب وعمله على ما فيه خير إخوانه من العابدين والزاهدين، ثم طلب إلى حافظ أن يشرع في تأسيس هذه المدرسة فعلًا وإحضار المعلمين اللازمين مع ما تحتاج إليه من الكتب والأدوات، فشمر عن ساعد الجد إنفاذًا لرغبة نيافة المطران، وذرًّا للرماد في العيون، حتى لا يسيء أحد فيه الظن ولا ينصرف فكر إخوانه إلا إلى أنه من خيرة التقاة الصالحين.

وقد تبرع حافظ بإلقاء الدروس اللازمة في هذه المدرسة بلا مقابل إفادة لإخوانه، وأخذ يلقي عليهم مبادئ اللغة الفرنسوية وفلسفة الدين المسيحي، ولو قيل هذا عن رجل غير حافظ نجيب لما صدقه إنسان لاستبعد صحته كل واحد من القارئين، ولكن حافظًا أبو المعجزات ورب كل غريبة وعجيبة، ولهذا أظهر اقتدارًا مدهشًا في تعليم الرهبان قواعد الدين المسيحي السامية ولا بدع، فهو متمكن من هذا الدين؛ لأنه ربيب طغمة الفرير الذين يُدَرِّسون التعليم المسيحي جميع التلاميذ على السواء.

بل إن حافظًا برز على المسيحيين بين إخوانه الطلبة؛ لأنه منذ صغره شب على الدهاء والمكر، فكان يحتال على بعض الفرير المدرسين بأنه مغرم في الدين المسيحي، وأنه عازم على اعتناقه مظهرًا رَغَبًا كبيرًا في التبحر فيه والتضلع منه، فكان أساتذته يحسنون معاملته ويهدونه من حين إلى آخر عدة هدايا نفيسة ترغيبًا له في إنفاذ وعده، فكان حافظ يأخذ تلك الهدايا شاكرًا لسانه ضاحكًا في قلبه من صفاء سريرة المدرسين من أولئك الإخوة الطيبين.

ومما زاد الفرير تعلقًا به ما رأوه من ذكائه ونباهته، وما كان يقول لهم من أنه ابن غني كبير يملك الألوف من الجنيهات، ولا وارث له سواه، فهو إذا ما اندمج في سلكهم آلَ كل ذلك الإرث العظيم إلى طغمتهم غنيمة باردة ولا مراء.

وقد استعان حافظ أيضًا على تلقين الرهبان التعليم المسيحي بالكتب الفرنساوية الكثيرة التي وضعها الجزويت والفرير لإفادة الطالبين، فظن الرهبان أجمعون أن حافظًا من كبار علماء اللاهوت وأنه في النصرانية من الأساتذة المبرزين.

ومن ذلك الحين غدا حافظ أو الراهب غبريال موضوع إجلال وإكرام الرهبان أجمعين، ولقد تمكن بعد ذلك من الاحتيال على ساكني ذلك الدير النائي، وأخْذِ مبلغ عظيم بحيلة نادرة لا محل لذكرها الآن؛ لأنها ستكون فاتحة الجزء القادم مع تلك الحيلة الغريبة التي أتاها على نيافة أسقف دير المحرق مما سيدعو إلى دهش جميع القارئين.

وقبل أن ينتقل الراهب غبريال إبراهيم من دير الأنبا بيشوي إلى الدير المحرق، حدثت بينه وبين أحد وعاظ الأقباط مناظرة أدبية نأتي على بعضها دليلًا على اقتدار حافظ نجيب في عالم الأدب، وإظهارًا لبراعته في صناعة التحبير.

ذلك أن حضرة الأديب حبيب أفندي شنودة واعظ أقباط أسيوط راعه أن يكون داخل الأديرة القبطية راهبًا أديبًا مثل الراهب غبريال ولا يعمل على خدمة طائفته، وظن أنه طامح إلى رتبة أسقف، فبدد له هذا الأمل لأسباب واضحة كلها في الرسالة الآتية التي كتبها ذلك الواعظ الأديب إلى بطل كتابنا حافظ أفندي نجيب في ٢٤ فبراير سنة ١٩٠٨ على صفحات الوطن، قال:

من الواعظ إلى الراهب
عزتلو الفاضل صاحب الوطن

اسمح لي أن أسطر على صفحات جريدتك الحرة هذه الكلمات التي أحرجت صدري وجعلتني في موضع الحائر المندهش، فقد قرأت القصيدتين الشعريتين اللتين جادت بهما قريحة راهب الدير في رثاء فقيد الوطن مصطفى باشا كامل، فأخذني العجب من كل جانب وقلت في نفسي إذا كان هذا الراهب الشاعر من سكان الأديرة حقيقة، فما الذي أثار فيه ثائر الوجد والحزن وهو في داخل «صومعته» بعيدًا عن مشاغل هذا الكون، عاملًا آناء الليل وأطراف النهار على التعبد والسجود، لا يلهيه عن ذلك لاهٍ، ولا يشغله شاغل، وهو يعلم — حفظه الله وأبقاه — أن أهل العالم أحق من سواهم بأن يبكوا بعضهم بعضًا ويرثوا بعضهم بعضًا، وأما هو فقد زهد في العالم واحتقر الحياة الزائلة وفضل أن يكون قريبًا من الملأ الأعلى بأصوامه وتهجداته وعبادته، ثم إذا كان هذا الراهب قادرًا على النظم بمثل ما رأيت وكان رقيق العواطف لهذه الدرجة، فلماذا لا يصرف ذكاءه وشاعريته إلى رثاء أمته القبطية التي يرى حالها أمامه مما تنفطر له المرائر: يرى معابد مهجورة، ومدارس قاصرة، ومجالس نائمة، وجمعيات خاملة، وأفرادًا مفككَّةً عصبيَّتُهم، منحلَّةً رابطتُهم، يرى قسوسًا ورعاة جهلاء لا علم في رءوسهم ولا حرارة في قلوبهم لرعاية القطيع المسلَّم إليهم، ويرى رؤساء مشتغلين بهموم هذا العالم وأباطيله، شغوفين بأمواله وزخارفه، ويرى أمورًا أكثر مما ذكرت تستحق البكاء ويخلق بها الندب والرثاء. فلماذا لا يوقف هذه الموهبة الشعرية على نظم المراثي المحزنة التي تؤثر على القلوب لعله يعيد إلينا عهد أرميا، ومراثي أورشليم، فيُلِينَ لنا هذه الأفئدة القاسية التي قُدَّت من الصخور؟

على أني لا أتمالك نفسي من الشك في وجود راهب بالأديرة كهذا الشاعر، ولو أني قد صدقت الوطن وما نشره من جواب رئيس الدير؛ لأني أعتقد أن أديرتنا كانت في الزمان القديم مدارس حافلة بالعلم والعلماء، وأما الآن فأضحت مدارس لتعليم الطباخة والخبازة والزراعة والأعمال الشاقة الخشنة التي لا يستطيع راهب متعلم أن يحتملها، بل إذا وجد راهب ذكي وقصد أن ينتفع بالدرس والمطالعة في الكتب النفيسة المذخرة في مكاتب الدير، وهي الآن طعام للعث والجرذان، لم يلقَ غير الامتهان والاحتقار من إخوانه الرهبان، وربما من رئيس الدير فيعيرونه بأنه طامح للأسقفية ويقضون على مواهبه شر قضاء — اللهم إلا إذا كان راهبنا الشاعر قد تعلم في المدارس العالية قبل دخوله إلى الدير، وفي هذه الحالة فإني أوجه إليه أشد كلمات العذل والتأنيب على رضائه بالبقاء في وسط منحط ليس فيه أقل واسطة لتشجيع ذي المواهب والمعارف الدينية والدنيوية، فهو عبارة عن قبر تدفن فيه صفات الذكاء الفطري والجد والعزيمة، وتنبت على جوانبه حشائش الخمول والجمود وقساوة الطباع وفظاظة الأخلاق، مع أن كثيرين من الرهبان هجروا الأديرة لسوء حالتهم، وهم الآن يطوفون البلاد ويجوسون خلال الديار فارين من وجه ذلك العيش الخشن والمعاملة القاسية، وبعضهم ترك الدير ساعيًا وراء جمع المال، حتى إذا قضى منه وطره طلق البتولية وعاد رجلًا علمانيًّا.

فاسمع يا أيها الراهب الكريم نصيحتي، واعلم بأنك إذا كنت بدخولك إلى الدير تطمح إلى رتبة أسقفية، لا تنال مرادك؛ لأن رؤساءنا يشق عليهم أن يروا في هذه الوظائف رجلًا مهذبًا متنورًا مثلك لئلا يكون سلاحًا ضدهم، ولذلك هم لا يرقون إليها إلا البارعين في التمليق والمداهنة ولو كانوا من الجهلاء — وإذا كنت تريد أن توسع مداركك وتهذب نفسك، فالدير لا يبلغك أمنيتك ولا يقضي حاجتك ولا يشفي أوامك ولا يبرد ظمأك — وإذا كنت تريد الشهرة وجميل الذكر فلا تبك على الذين استراحوا من عناء الحياة؛ لأنك من القائلين بالبقاء، بل تعال وابك حال أمتك وانظم أبياتك الشعرية في معنى تأخرها وانحطاطها لعلك تستطيع أن تنهض عزائمها وتبث فيها روح الحماسة والغيرة والشوق إلى الإصلاح العملي، فتقوم طالبة إياه وأنت أمامها تنشد الأشعار وتشدد القوى.

وأما إذا كنت أيها الراهب خيالًا أو أرواحًا جئت من عالم الأرواح لتسأل عن سلامة إخوتك في هذه الأديرة التي ينعق فيها بوم الجهل والعماية، فاذهب من حيث جئت وبلغ الذين أرسلوك بأننا في حال تستحق النوح والرثاء، وسلام عليك من.

حبيب شنودة
واعظ أقباط أسيوط

وما اطلع حافظ على هذه الرسالة حتى هزته عوامل الطرب؛ لأنها غدت من أكبر الأسباب التي تمهد له الظهور وهو كل ما يشتهيه من هذه الحياة الدنيا، وما كانت أعماله كلها إلا عن رغبة منه في الاشتهار بين العالمين بالاقتدار الغريب والذكاء النادر.

ولذلك عمد إلى قلمه وهو أطوع إليه من ظله، ورد على ذلك الواعظ ردًّا جميلًا نثبته هنا بنصه قال:

من الراهب إلى الواعظ

تعسًا لي أنا الضعيف الشقي، فررت من الحياة العالمية وأوصابها، وابتعدت عن ضوضاء الكون ومشاغله، وانزويت في هذه البرية النائية لكيلا تشوش علي جلبة القوم، ولا تلهيني ملاهي العالم وزخارفه. تركت كل شيء واحتقرت كل ما يظنه الغير لذة، وعفت كل ما يزعمونه مجدًا وترفًا، واقتنعت بهذا السكون المخيم على كل ما حوالي وهذا القفر الخالي إلا مما يدل على مجد الرب وقدرته العظيمة. فهل هدأ خاطري وسكن اضطراب قلبي وارتاح ضميري، وانقطعت عن الافتكار في العالم ومشاغله؟ هل صرت جديرًا بهذا الاسم أحمله وبهذا الطقس يكون شعاري؟ هل أنا راهب بكل معاني الكلمة لا يبكتني ضميري على ذلة وتتعفف نفسي عن الخطية؟

الإنسان إنسان ما دام على الأرض ضعيف بطبيعته خاضع لأحكام البشر وإن اعتزلهم، معرض للسقوط في كل لحظة من حياته غير معصوم من الزلل، وله في كل يوم تجارب ودروس جديدة لا تنتهي إلا في ساعته الأخيرة.

هذا ما ناجيت به نفسي بعد أن اطلعت على رسالتك أيها الأخ الواعظ، ولست أدري كم كان أسفي لتلك الهفوة التي عرضتني لتقولات العالم وأحوجتني للخوض مع البعض في أخذ ورد. فانعم بك يا سيدي من واعظ كريم، فقد ألفت نظري إلى مركزي ورددتني عن سبيل لا يليق بمثلي، وسددت في وجهي بابًا لو ولجت منه خرجت عن سواء السبيل. فتأكد أن العظة من هذه الوجهة كانت بالغة وحلت من نفسي مكانًا ساميًا وفي عزمي أن لا أعود فأطيع شعوري مرة ثانية، ولا أضعف لهذه العواطف التي تدفعني لمثل ما عيرت به.

وصدق إنني حاسبت نفسي قبل إرسال هذه الأبيات، فرأيت لها قصدًا يحمد، فأقدمت غير هياب ولم يدر في خلدي أن هذه الدمعة تبقى ولا تضيع بين مثيلاتها. فعذري أن الفادح عظيم جزعت له الأمة المصرية عن بكرة أبيها، اللهم إلا من كان مجردًا عن الشعور والإحساس وكان قاصرًا عن إدراك فضل الرجل على أمته. وقد سرني ما رأيته من مشاركة الطائفة إخوانهم في الحزن على زعيم الحركة الوطنية، ومحيي الشعور والوجدان في هذه النشأة الجديدة المباركة. وتراني وطنيًّا أرفع صوتي مع أبناء طائفتي ندبًا على هذا البطل، وأذرف لفقده الدمع السخين الدامي، فمن شأن أن يكون له هذه المنزلة في القلوب والمحبة في كل الأفئدة والتبجيل والإكرام عند مواطنيه، فليحذُ حذوه وليتبع طريقه وخطته الشريفة. وكان غرضي من النشر أن أظهر عواطفنا لإخواننا في الوطن والمصالح، وتأثرنا لهذا الخطاب، وأبرهن لهم على اشتراكنا معهم في السراء والضراء، وهذا مما يقوي بيننا عرى الألفة التآخي.

وقد لاحظت علي يا سيدي أنني ابتعدت عن العالم ولم تعُدْ لي علاقة به، فلم بكيت مع الباكين ولم رثيت مع الراثين، والجواب على ذلك سهل تراه إذا قلبت طرفك في أنحاء وادي النيل، ولم تجد أخًا للفقيد في قوة الإرادة أو مثيلًا في مضاء العزيمة والتفاني في خدمة بلاده منزهًا عن كل غرض. ولو وقع بصرك على من يحلف الثاوي ويحمل حمله الثقيل أكتب لي فأمسح دمعتي وأقصف قلمي وأخفت صوتي وأعود إلى سكوني الأول، ناعم البال وأختفي إلى الأبد. وأملي عظيم في رحمة الرب فهو لا يعاقبني ويسامحني في هذه اللحظات التي قضيتها في رثاء الصحافي الكريم.

وقد رأيتك تعجب وتسائل نفسك لم لا أصرف فكري إلى ندب ورثاء الأمة القبطية وهي في حال يشمت ولا يسر وأنها، إلخ، فاعلم يا رعاك الله أن الطائفة حية بمشيئة الرب خالدة إلى اليوم الأخير، ولا أظن أن الرب يسمح بموت من أتى لخلاصهم ووهبهم الحياة الأبدية.

وفي الناس من يقول إن هذه الحياة ظاهرة، وأن الطائفة وضعت قدمها على أول درج الحياة الراقية وابتدأت تسير على أثر الأمم الحية، وقد أصبح بعون الله بين أبنائها كثيرون ممن تعلموا ونبغوا وظهروا في مصاف الفحول والمقتدرين، لا تنقصهم إلا إرادة كإرادة مصطفى كامل، ويعوزهم عزمه وثباته وتفانيه في خدمة أمته، فترى الطائفة منهم خيرة رجال لعمل رقيها ولم شعثها وتقوية رابطتها.

وفينا من يقول إن الحياة كامنة غير ظاهرة، تحتاج لمن يبعثها وينشط بها من مكمنها، فقد طال عليها القدم، ولو عرف هؤلاء أن من أبناء الطائفة حضرة الواعظ البليغ وأمثاله لغيروا معتقدهم وعرفوا بخطاهم واتفقوا مع أصحاب الرأي الأول، على أن الطائفة حية تنمو وترقى بقدر ما تسمح به سنة الطبيعة والظروف السياسية الحالية، ولا تفتقر إلى الثبات والمحبة والإخلاص والتعاضد والتكاتف في هذا المعترك الحيوي. لا يعوزها إلا أمثال حضرة الفاضل ويراع كيراعه فيؤثر على القلوب الصخرية التي قال عنها. يؤثر على الحائدين فيردهم إلى أحضان الكنيسة أمهم الشفيقة الحنونة، يؤثر على الزائغين والمتكبرين فيهديهم سواء السبيل، يؤثر على كل أفراد الطائفة وعلى الأخص من سَمَت مراكزهم في الهيئة الاجتماعية فنسوا واجبهم نحو الله، يؤثر على الجميع فتمتلي بهم المعابد ويراها آهلة معمورة فلا يعود يذكرها آسفًا حزينًا.

ومتى سادت المحبة وأخلصت القلوب تزول كل أسباب الشقاق الذي يجزئ القوى فتضعف وتتلاشى. تزول كل أسباب التنافس وتتفاهم الرؤساء والأعضاء فترى الأمة كما تحب وتشاء. وجولة من قلمك أيها الواعظ المجيد وعظة من عظاتك البليغة، بل صيحة من صيحاتك تبعث في هذه الجمعيات روح الحياة العاملة وتوقظها من سباتها وتنشط بها من خمولها.

لا تيأس يا سيدي ولا تكتئب ولا تضعف نشاط نفسك بهذه التصورات، ولا تنظر للطائفة بمنظرك المصغر ولا من جهتها المعلولة، وابعث الأمل إلى الأفئدة والقلوب لتنتعش وتبتهج فتتقوى وتشتد، فبغير الأمل لا عيش ولا حياة.

سيدي الواعظ، لست أدري كيف طاوعتك نفسك ولم يعصِك اليراع عند ذكر ما ذكرت بخصوص القسس والرعاة، هل فاتك وأنت المتعلم المهذب أن مقام الكهنوت جليل لا يرمى بمثل هذه المطاعن، ولو صحت وهو أرفع من أن يكون قلمي الضعيف محاميًا عنه فاسمح لي أن أقتصر هنا على هذه الكلمة وأن أذكرك فقط بأن الرعاة ترعى الخراف الوديعة لا الذئاب الجارحة. وأما الرؤساء الذين نعتهم بما شئت فإنهم أقدر مني على تبرير أنفسهم، ولا أخالك إلا تضرب على وتر دق عليه كثيرون قبلك فباتت النغمة غير مقبولة، والعاقل الحكيم من لا يندفع لذم من ذمه غيره إلا إذا خبر الحال بنفسه.

وأما الدير ومشقة البقاء به والعيش فيه، فأراك غير عادل في التشنيع في أخلاق سكانه متحامل على من به، وربما خبرت نفرًا منهم فشمت الجميع مثله. وإنك تتوهم أن قضاء الحوائج الضرورية للإنسان من خبز وإصلاح طعام وما أشبه مما يحط من شأن الرهبنة أو يجعلها شاقة خشنة لا تحتمل، أو يتعاظم عليها المتعلم المهذب وإن كان متنغمًا مترفهًا. فهل غاب عنك أن المرء في حاجة للطعام في كل بقعة من بقاع الأرض، فإن لم يجد من يقوم بتهيئته قضاء لنفسه. والراهب لم يقم بالدير ليتنعم ويخدم بل ليتواضع وينقشف ويترك كل أباطيل المجد الباطل والعظمة والكبرياء، فأتوسل إليك أن لا تصور الوسط الذي أعيش فيه بمثل ما صورته وأملته عليك مخيلتك وجسمه الخيال، فإن ما تراه قبرًا تدفن فيه المواهب العقلية يراه مثلي ملجأ يفر إليه من شرور العالم، ويهرب إليه من ذلك الوسط المملوء بالمفاسد والمنكرات.

هذا المكان الذي تخاله يقضي على الذكاء الفطري والجد والعزيمة هو المكان الذي يتجرد فيه العقل من كل فكرة شيطانية خبيثة، ويتفرغ لإدراك الحقائق الغامضة وأسرار الكون الغريبة، هذا المكان الذي تظن أن حظ من يدخله الخمول والجمود هو المكان الذي يرد إليه الظمآن ويستقي ماء حياء من شربه لا يعطش إلى الأبد. والمرء إن كان ذا عزيمة ثابتة وإرادة قوية لا يحتاج للتشجيع الذي تفوه عنه، فهو ثابت بطبعه قوي بإرادته، ومحبة الرب والخوف منه تزيد الثبات ثباتًا والقوة قوى.

ولا تظن أن الذين هجروا الأديرة وساروا يتطفلون على العباد ويعيشون عالة على الغير يلتقطون فتات الموائد، ويريقون ماء الوجه تطلعًا وسؤالًا، لا تظن أنهم عباد ولا تحسبهم رهبانًا حقيقيين، فإنما هم إخوة الشيطان لم يطيقوا مع المؤمنين المجاهدين المتعبدين ثباتًا ولا صبرًا، فاندحروا وباءوا بالذل إلى حيث تراهم مرذولين محتقرين عليهم مسحة الخزي وغضب من الله عظيم. واللوم على الشعب الذي لا يرقى لهم وينزلهم بينه منزلًا رحبًا.

وانزع من فكرك «يا من توصيني» أنني أطمح للانخراط في مصافِّ المطارنة أو الأساقفة أو في أي صف من صفوف الكهنة والقمامصة، وأؤكد لك بل أعاهدك على أنني أرفض ذلك بتاتًا ما حييت، وهذا وعد مني ولستُ أَمِينُ، وأما الشهرة والذكر الجميل فإنني تركتهما لمن يبتغيهما من الطامحين إلى الباطل، ولم يعُدْ لي مطمح في البائد الزائل، ولا أرجو من الرب إلا أن يقويني ويثبتني على محبته وفي طاعته.

ولو كنت أنا الواعظ لاستعملت كل ما آتاني الله من المواهب لإحياء الأمل في القلوب ونزع أسباب الخلاف والنفور من بين أبناء الطائفة، لو كنت أنا الواعظ لأرشدت الأتقياء من المعلمين الأذكياء إلى طريق الدير وحببت إليهم الرهبنة فلا يعود لطاعن وجه للطعن على معلومات القسس والرعاة، لو كنت أنا الواعظ لما أضعت وقتًا ثمينًا في تثبيط عزائم ضعيف مثلي، ولكنت أكتب إليك أشجعك وأنشطك وأقوي عزمك، لو كنت أنا الواعظ لناجيت النفوس وحركت الضمائر لمعرفة الرب معرفة حقيقية، لو كنت أنا الواعظ لذكَّرْت الشعب بجلل مقام الكهنوت ورفَعْتُه وأزلْتُ من بين الفريقين سوء التفاهم، وقويت بينهما رابطة المحبة والسلام، ولكن ما كل ما يتخيله العقل يتحقق، فأنت أنت الواعظ، وأنا الفقير.

غبريال إبراهيم بدير الأنبا بيشوي

لا يسع المطلع على هذه المقالة الشائقة إلا الإعجاب ببلاغة الكاتب وقوة حججه، فقد ناضل خصمه نضالًا محوره الأدب ولُحْمَتُه الحكمة والسداد، فأقنعه وأقنع جميع القارئين، وهي خطة مثلى في المناظرة نرجو أن يتعلمها الصحافيون من حافظ نجيب.

ثم إنك إذا أمعنت النظر في مرامي المقالة المشار إليها، والمعاني التي وردت فيها، والطريقة التي كُتبت بها، لا يسعك إلا القول بأن كاتبها مسيحي من صميم المسيحية، وراهب شب على حب دين المسيح ودخل إلى الدير زاهدًا عن رَغَبٍ منه في عبادة الله ونيل رضاه ليس إلا.

ولهذا لا بدع إذا اهتم له أدباء الأقباط وتضاربت بشأنه الظنون، لا سيما بعد أن خرج من معابد الله إلى معترك هذه الحياة ثانية، حتى اضطر أن ينشر على الأمة القبطية البيان الآتي تهدئة للخواطر وإزالة لكل الشكوك والشبهات قال:

اعتقد الجميع ورسخ في الذهن قصور الرهبان العلمي وضعف مداركهم، وثبت لدى الملأ استحالة العيش بينهم لتنافر أذواقهم وخشونة طباعهم، فغير عجيب أن يدهش مثلكم من وجود متعلم بين ظهرانيهم أو يلجأ إلى الدير غير معدم أو ذو طمع، ولا غرابة إذا أسأتم الظن فيمن ترك الحياة وملذاتها وزخارفها وانخرط في زمرة هي على زعمكم مسوقة بالفاقة والعَوَز إلى الاستكانة وراء الأسوار، فاقتنعوا من اللباس بما يُطرَح عن سواهم واكتفوا لسد أودهم بالكفاف، وإشباع بطونهم بفضلات ترمى إليهم بتأفف وضجر، ولا عجب إذ رأيتم عسيرًا بل محالًا إمكان العيش في وسط قاحل مجدب أو بين ضوارٍ تأنَّسَت أو أقوام توحَّشت، حياتهم طعام فنوم، فنوم فطعام؛ لأن أناسًا هذا شأنهم لا يألفون من كان على غير شاكلتهم وينفرون ممن آمنهم من ذوي الميزة والإدراك. فمن استكان وصبر ولو على مضض كان لعلَّة أو لسر أضمره، أقول لا عجب إذا أسأتم الظن وعددتم ترهُّبَه نادرةً في القرن العشرين.

إن رأي الطائفة بأسرها وصاحب الوطن على الأخص مشهور وذائع عن أمر الأديرة والرهبان، بل ليس في القطر من ينكر تأخر الإكليروس القبطي أدبيًّا وعلميًّا، وطالما ارتفعت الصيحات وتعدد الرثاء والندب على حال مصيره إلى أتعس مما نرى إذا لم توجد نهضة حقيقية من رجال الدين وأبناء الطائفة لترقية وتحسين هذه الطغمة، وقد تشبع أسقف الدير المحرق بهذا الفكر وعمل بلا جلبة ولا صياح على تربية وتعليم نشئه الحديث، فانخرط في سلك رهبنته عشرات يُركَن إليهم بعد حين، ولم يبغِ نيافته شهرة ولا مجدًا بل رمى لأسمى الغايات وأشرف المقاصد بلا جلبة ولا غوغاء.

ففي هذا الدير يمكن العيش بهدو واستثمار الفكر بالعمل والدرس بين أفراد، وإن لم يحصلوا كثيرًا فهم أرقى الآباء وأكثرهم وداعة، فغير عسير على مثلي العيش معهم وقضاء بغيته أيام الحياة بين ظهرانيهم مستفيدًا أو مفيدًا، إلا أن الحياة لا تخلو من الأوصاب والشقاء لم يترك مكانًا دون أن يطرقه ويزعج ساكنيه.

ولو لم أطلع على ما كتب الوطن أمس بشأني لما كتبت إليكم يا سيدي؛ إذ لم يكن بودي أن أخطَّ شيئًا تنشره صحيفة فيتحرك ساكن قوم تذهب أقلامهم كل مذهب، أغراضهم متباينة ومصالحهم متضاربة، فتأخذني الصيحات من كل فج وتحُلُّ عليَّ اللعنات من رجال الدين وهم يسوءهم أن يرتفع صوت بصيحة حق أو يظهر امرؤٌ قضوا عليه بالصمت والجمود، ولكن ما ذيَّل الوطن عبارته به دفعني للكتابة فأنا مسوق مرغم.

كتب الوطن ما وصل إليه عن شخص محرَّفًا أو محورًا فوهم وأوهم، ونقب وظن، ولو تروى صاحبه فطلب مقابلتي قبل أن يكتب ما عنَّ له لأحسن، ولكنه متحفز وثَّاب يهب للصغيرة والكبيرة، شغوف بجلاء الغوامض، فليسمح لي أن أذَكِّره بأن كل خبر لا يستقى من مصدر محقق كان إذا أذيع أكثر ضررًا من كتمانه، وربما آذى امرأً يود له الخير والفلاح. وليسامحني الفاضل إن رأى في كلماتي ما يمس رقيق عواطفه أو يجرح صدره، فإنني لم أقرأ رسالته إلا بعد أن تركت الرهبنة وتركت الدير، ولو كان حقيقة نقَّبَ كما ادعى واستسقى الأخبار من مصادرها لكان في علمه أنني حضرت إلى القاهرة من نحو شهر، وطلبت إلى نيافة أسقف الدير المحرق أن يجردني من شعار الرهبنة بعد أن كتبت إليه من أشهر رسائل بريدية وبرقية أكرر فيها نفس الطلب، ليس في وسعي أن أصرح بسبب ترك الدير حرصًا على سمعته ومراعاة لعواطف نيافة الأسقف الذي لا أذكر له إلا كل حسنة.

قرأت كلمات الوطن أمسِ ليلًا بعد أن حضرت بأمر نيافته فرابني الأمر، وتبادر لذهني أن اليد التي أرغمتني على ترك الدير والترهب هي التي تحرك اليوم الوطن مستترة عنه أو متحدة معه، ولكن ليهنأ بال الجميع فقد أخليت لهم المكان حيث لم أجد فيه الهدو المنشود وراحة الضمير والفكر التي ابتغيتها، والأرض واسعة الفضاء لا تضيق بمثلي، وأبواب العمل مفتوحة في وجه المجد.

وحذرًا من تخبُّط الأفكار لاستنادها على المنقول، أرى من اللزوميات أن أجْمِل ما تَهُمُّ معرفته عني مؤجلًا زيارة الوطن لأيام ريثما يهدأ فكري وأرتب أعمالي وأثبت مركزي.

أنا شاب في بدء الحلقة الرابعة، تيتمت من والدي في صبوتي، درست كل أيامي بتولوز ولبثت بها ثلاثة عشر عامًا، خرجت بعدها فنقبت عن رزقي وكفاف فتاتين كانتا أملي في الحياة ورجائي منها، وغالبت الشقاء تسعة أعوام كنت فيها ميسورًا، وادخرت من كسبي ما يعين على المضض ويدفع الفاقة ويقضي الحاجة. واختطف الموت عزيزتي فشق الخطب وسئمت العيش، فالتجأت إلى الدير فلم أجد ما أنشده من الهدو والسكينة.

وخلق الحسد ووجد التنافس، فأزعجتني الدسائس وأحاقت بي إهانات توالت، فطلبت إلى نيافة الأسقف السماح لي بترك الدير فماطل وسَوَّف ووعد وأمهل وخمَّن وفصح ووعظ، ولكن سواه غمز ولمز ودسَّ وحرك الفتن، فتركت باختياري وسطًا عيشه نكد ونعيمه شقاء وهدؤه جلبة، وحضرت أمسِ ليلًا طوعًا لأمر نيافة الأسقف وأنا أُجِلُّه وأحترمه، ورأيت كلمة الوطن فعزوتها لغرض مهم، وفضلت الانزواء في داري عن مقابلة ربما تلجئني لما لا أحب، وكتبت للوطن الأغر أطمنه وأهدي روعه وأسكِّن جأشه، ولي معه كلمات ومقابلات ورسائل ربما كانت للصالح العام إن كان حقيقة ينشده، وأرجو منه أن يفسح لكلماتي مكانًا في وطنه كما أفسحت لنفسي فنزعت رداء الرق والعبودية، وتركت واسع الأكمام لألبس زيي الإفرنكي غير حامل اسمي في البريد.

فيلوثاؤس

ولو شئت أن أورد في هذا الجزء كل ما حصل لحافظ في الأديرة القبطية، أو بالحري كل ما أتاه هذا المحتال القدير من الحيل المدهشة والأعمال الغريبة لاضطررت إلى جزء آخر غير هذا على الأقل، ولذلك أقف بالقلم إلى عند هذا الحد واعدًا حضرات القراء الكرام بتفصيل تلاعبه المدهش مع حضرات نيافة الأنبا باخوميوس أسقف الدير المحرق والقس إيذيروس رئيس ذلك الدير وكاتبه المعلم إبراهيم وسائر رجال دير أنبا أنطونيوس ورؤسائه العظماء وغيرهم مما يضيق عن ذكرهم هذا المقام.

وسيكون لهذه الحكايات وقع غريب وتأثير عجيب على القارئين لا سيما لمناسبة ما حدث أخيرًا من فرار نفر رهبان دير المحرق، مما ذاع وشاع وعرف به القاصي والداني من جمهور القارئين.

ومن غريب النوادر أنه كان لحافظ نجيب في فرار أولئك الرهبان اليد الطولى كما أثبتت ذلك جريدة الوطن الغراء في عددها الصادر يوم السبت ٢٠ نوفمبر سنة ١٩٠٩.

أما تفصيل تداخل حافظ في أمر أولئك الرهبان وكيفية وصوله إليهم، فما سيأتي عليه الكلام في الجزء القادم إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤