١

تبدَّلَت صورة الميدان؛ هُدم الكثير من البنايات القديمة، أُقيمت محلَّها عمائر، أو ظلَّت خرائب، زادت حركة المرور، لكن الملامح التي أَلِفت رؤيتها ظلت قائمة في الدحديرة الفاصلة بين جامع المرسي وزاوية الست مدورة، وفي ميدان الأئمة، تتوسطه أضرحة أولياء الله، ومئذنة جامع ياقوت العرش وقِبابه، والشوارع المفضية إلى السيالة وشاطئ الأنفوشي ورأس التين، والطريق المنحدرة إلى الحجاري والموازيني.

اخترقتُ الشوارع بإحساس الغربة عما حولي.

أذكر أول عبوري إلى مصر في عهد الملك الكامل الأيوبي، هي الشوارع القديمة التي سلكت بعضها، أو ما كان موجودًا في أزمنة بعيدة. ترتبط ذاكرتي بشخصيات وأماكن ورؤًى وامضة.

ربما أخلِّي سبيل خطواتي، يغيب المقصد، مجرد السير، والفرجة، والتوقف أمام المشاهد التي تلفت النظر. أُسرع في خطواتي، أو أبطئ. أتأمل ما أراه ببصيرتي، وليس ببصري، اعتدت غمامة العين — لإهمال علاجها — أيام إقامتي في الإسكندرية، انعكس بصري على بصيرتي، فصرت كلِّي مبصرًا.

أسير إلى جوار الناس، أرى — من حيث أسير، أو أقف — كلَّ شيء دون أن يراني أحد، لا يراني وإن لامستُه، يذوب المرء في الصوفية حتى يشفَّ، لم يَعُد الناس يرَونني، أراهم ولا يرَونني، أخاطبهم، أهتف في خواطرهم، دون أن يتبيَّنوا مصدرَ الصوت.

أرى — بقدرة الله — ما حولي في كل اتجاه، دون أن أتلفَّت. لا أحد من الناس يراني، إلا من أريد — بإذن الله تعالى — أن يراني، في منام كالصحو، أو صحو كالمنام.

حتى من لا يراني، أو أراه، من الأولياء جسدًا حيًّا، فأنا أراه بالكشف، مثلما يراني بالوسيلة نفسها. منحَنا الله الكشف، لا تحجبنا الجدران، ولا تبعدنا المسافات عن رؤية ما يهمنا رؤيته. الكشف — كما تعلم — هو حق اليقين، نور اليقين، عين اليقين.

أعددت نفسي لاحتمالات كثيرة، أعرف أين تتجه خطواتي. أسير، وأسير، دون أن ألحظ حتى الشارع الذي مِلت إليه، يساعدني على السير — فيما يشبه الهرولة — طولُ البنية والساقين، ومَيلي إلى النحافة. في بالي ما أفكر فيه، أو أفعله، أخذني التطلع إلى البنايات والشوارع والأسواق، كأني أستعيد الصور، أو أريد أن تثبت في ذاكرتي. يداهمني الحنين إلى ما لا أتبيَّنه.

التصور كالومضة: هل كل ما حولي على ما كان عليه؟

تركتُ حُميثرا في انتباهة عين، غادرت المقام، انطلقت من الوادي المسمَّى باسمي، بين جبلَي حميثرا والمظلوم، ورائي سلاسل الجبال القصيرة في المدى إلى انتهائه في بحري. خلَّفتُ المريدين والزوار، والتكبيرات والأذكار والأوراد والأحزاب، والأدعية والابتهالات، والتهليل والإنشاد، والمدائح والتواشيح والمواويل والأشعار والأراجيز والزغاريد. خلَّفتُ كل شيء، وسرتُ وحيدًا. دافعي إمامتي للأولياء والصوفية، مقصدي التعرف إلى أحوال أهل الطريق، رجال الحقيقة، العلماء والزهاد والعارفين، أرباب القصد والوسيلة والفضل والثقة.

يزور آلاف المريدين ضريح حميثرا، من يعجزون — لسبب ما — عن الزيارة، ها أنا ذا أبادر فأزور أولياء الله، أقطاب الفِرَق المتفرعة من الشاذلية، نتدارس المشكلات، وسبل حلها. لا أنشئ محكمة أخرى للديوان. لرئيسة الديوان توقيرها، ولأعضائه المبجَّلين عرفاني بمكانتهم، ومحبتي، إنما أستحثُّ الأولياء على المراجعة، وإعادة النظر بما يبدِّل الصورة. تذوي المشكلات، أو تتلاشى. تقتصر زيارتي على من تشغلهم الإجابة عن السؤال الذي تركتُ له مرقد آخرتي، من يعانون تلاحُق المشكلات بين المريدين وعامة الناس. ربما أتجه إلى الخلفاء، ترامَى من أفعالهم ما يحفزني إلى التقصِّي والسؤال. استأذنت السلف من الأولياء، فأَقصُر زيارتي على الخلفاء الذين أوكلوا لهم مشيخة الطرق، عدا بقية أولياء الله الذين حملوا فكر الشاذلية، وطقوسها، وأعلامها، وبيارقها.

لا أخفي اعتزازي بمن ينسبون أنفسهم إلى الشاذلية، تتعدد الفرق التي يتبعونها، لكنها تسلك طريق الشاذلية، في سعيها للوصول إلى الكشف.

كثرة أولياء الله في بحري تشي بكثرة المظلومين وطالبي الشفاعة والنَّصَفة والمدد. بحري مجمع أولياء الله، خواصِّي ونوابغ تلامذتي. أقربهم إلى نفسي المرسي أبو العباس. هو وليٌّ عالي القدر والمكانة، الولي الحقيقي مشحون بالعلوم والمعارف، والحقائق له مشهورة، حتى إذا أُعطيَ العبارة كانت كالإذن من الله له في الكلام، مَن أذن له في التعبير تهيأت في مسامع الخلق عبارته، وحليت لديهم إشارته. ما من ولي لله كان، أو هو كائن، إلا وقد أظهر الله أبا العباس عليه. هو شمس انتشر نورها في الآفاق؛ الصدق والقنوت والتوبة والخشوع والسياحة واليقين والإخلاص والإحسان والتقوى والتوكل. أمَّنت على وصف ابن عطاء الله بأنه اغترف من فيض بحر إلهي، طلب العلم الله عز وجل، سُررت — لتدينه وتصوفه — بتزويجه ابنتي. النسب الجميل الذي تكرر — بما أضاف إلى مسرتي — في زواج ياقوت العرش، خادم المرسي وصفيِّه، من مهجة بنة أبي العباس.

قلت له يومًا: يا أبا العباس، ما صَحبتك إلا لتكون أنت أنا، وأنا أنت.

في حجتي الأخيرة، همس الخادم بالسؤال لما طلبت منه أن يستصحب معه فأسًا وقفة وخيوطًا، وما يُجهَّز به الميت.

قلت: عند حميثرا الخبر اليقين.

لما شعرت بدنوِّ الأجل، أوصيته بدفني حيث دُفنت في وادي حميثرا. أعدت الوصية على المريدين: إذا أنا مت، فعليكم بأبي العباس المرسي؛ فإنه الخليفة من بعدي.

ورنوت إلى المريدين بنظرةٍ مُحبة: لو أراد الله أن يخلِّد أولياءه في الدنيا لَفعل، لكنه يشفق على شوقهم للقائه.

بدأت رحلتي بطلب من الخضر، لا أعبأ بشيء إلا أن أفعل ما يجب أن أفعله، ذلك ما اعتزمته قبل أن أغادر مرقدي.

الخضر هو القطب الأكبر، يحكم — من ديوانه الباطني — بما يرى أنه الصواب، لا يناصر إلا من يناصر الحق. هو الذي علَّمه الله سبحانه من لدنه علمًا، يفعل في حياته — بصورة طبيعية — كل ما يُنسب إلى الأولياء من كرامات؛ الطيران في الجو، السير على الماء، الانتقال بالروح، رؤية الغيب، مخاطبة الحيوان والطير والحشرات والهوام، حتى النباتات تنصت إلى أوامره، وتلبِّيها. له الحول في أربعة أشياء؛ إغاثة الملهوف، إرشاد الضال، بسط سجادة شيخ الصوفية، وإعانته على رد مُناوئي الطرق، تولية الغوث حين وفاته.

الغوث — كما تعلم — له كلمة نافذة على الأقطاب، وللأقطاب كلمتهم على الأبدال، والأبدال على الأوتاد. يموت الغوث، فيولِّي الخضر من يحل محله. الخضر موجود في امتداد الأزمنة والأمكنة.

سأله نبي الله موسى: بأي شيء بلغت هذه المنزلة؟

قال الخضر: بتركي المعاصي كلها.

كيف لا أنصت إلى إرشاداته ونصائحه وتوجيهاته؟

فاعلم أن الخضر لا يظهر إلا للأقطاب من أولياء الله.

آخر لقاءاتنا في صحراء عيذاب، يضع ثوبه الأخضر على قامته الفارعة. تبادلنا السلام والتحية.

قال لي مودعًا: يا أبا الحسن، صحبك اللطف الجميل، وكان لك صاحبًا في المُقام والرحيل.

الهواتف تملأ نفسي، استبعدت الحلم، أن يكون ما رأيته قد جرى فيما يرى النائم، التفصيلات الدقيقة والمنمنمات تهملها النظرة الكلية، أو العابرة. أدركت أنه ينبغي أن أفعل شيئًا، لا أعرف صورته، ولا متى يبدأ، ولا أين ينتهي.

أزمعت أن أستبدل امتطاء صهوة الجواد، بالسير على القدمين. ثم بدا لي السير منفردًا فكرةً جيدة. يسهل التنقل بين الأمكنة؛ صحن جامع، مئذنة، ضريح مسدود، صفحة موج، تعلو، أو تضيق، أو يصعب دخولها إلا لمن خصَّهم الله برحمته.

من المؤلم أن يقصدك الناس، يتصورون استطاعتك أن تفعل شيئًا من أجلهم، لكنك لا تفعل شيئًا، لا تستطيع أن تفعل شيئًا. الدعوات، والتيقن من قدرة الله، هي ما يملكه العبد الخاضع لإرادة خالقه.

ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق.

ذلك شأن أهل الطريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤