١٠

سرتُ ناحية ارتجاج الجدران بإنشاد البردة والأدعية والابتهالات وهبد الأقدام. حلقة الذكر الهائلة داخل صحن جامع ولي الله البوصيري ذي القباب الخمس. يلحق المريدون من الباب المفتوح، قبل أن يشير الرسيم بيده، أغلق المريدون باب القاعة، وقف المريدون صفين وسط القاعة، هدأت المناقشات، وساد الصمت، الذكر استيلاء على القلب والنفس والروح. نهى عن أداء الذكر بالرقص، ذلك ما لا يليق بجلال الذات العلية، ولا بآداب الطريق الصوفي. بدءوا التحرك على إيقاع تصفيق الرسيم بيديه، يتماوج من حولهم تراقُص ضوء النجفة الهائلة المتدلية من السقف.

قبل بدء الحضرة، يُرش الماء على جانب الساحة الملاصق لجدار الجامع، يُبسَط الحصير، يتقاطر المريدون، ترافقهم الابتهالات والدعوات وإيقاع النايات والطبول والدفوف.

البداية هادئة، يطرق المنشد على العكاز الحديدي، ينظِّم رنينُه الأداء، إلى جانب إيقاع التصفيق، يتدرج الإيقاع من البطيء إلى السريع، يعلو الإيقاع، يزداد التطوح والإنشاد والهتاف، يبلغ الذروة التي تغيب فيها النفس، فتذهل عن الدنيا، تأخذهم الذروة إلى حضرة الله تعالى، الجذبة والسكينة والهدوء وصفاء الأسرار وشرح الصدور وضياء القلوب، لا يفيقون منها إلا إذا لامسهم أحد، ينتبهون، ينفضون أجسادهم ورءوسهم، يستجيبون لإشارته بتصاعد الأداء من البطء إلى السرعة، فالميل إلى البطء، حتى الاسترخاء، والسكون تمامًا.

كان لبعض متعلمي عصره مؤاخذاتهم على حياته الشخصية والوظيفية، عابوا عليه من العبارات ما يصعب فهمه، متاهات متعرجة متشابكة من الغوامض التي يحار فيها المرء. يذكر المتصوفة بردته، وامتداحه الصوفية، وثناءه على إخلاصهم في التقرب إلى الله.

تعددت الروايات عن باعث تسمية البردة.

قيل إنه نظمها استشفاعًا بها إلى الله، حتى تعافيه من الفالج. من يَزُره رسول الله في منامه، فهو قد زاره بالفعل. قال البوصيري إنه بعد أن نظم قصيدته، زاره الرسول في منامه، ومسح بيده الكريمة عليه، وخلع عليه بردته الشريفة، فعُوفي من فالج عجز الأطباء عن علاجه. هو قد رأى رسول الله، لم يكن حلمًا ولا ما شابه، مسح الرسول على وجه البوصيري، وألقى عليه بردة. صحا الرجل من نومه، فحدث الشفاء من الفالج.

قيل إن البوصيري عجز — في المنام — عن تكملة بيت في القصيدة، فأكمله النبي. قيلت روايات أخرى كثيرة، لا يشغلني اختلافها. من ادعى واقعة تُنسب إلى خير الخلق، فهو من يتحمل حقيقة ما ادعى.

أجد في قوله الشعر اكتمالًا لقول ابن عطاء الله في النثر، هما تلميذان لأبي العباس المرسي.

استمعت في العديد من الحضرات إلى بردة البوصيري، الكواكب الدرية في مدح خير البرية. تكرر استماعي لها، فثبتت في ذاكرتي.

لم أجد فيما رواه البوصيري عن ظروفه الوظيفية والأسرية ما يباعد بينه وبين زهد الصوفية. الصوفي بشر يعيش كما يعيش البشر، ينتقد مرءوسيه وزملاءه، ويشكو من قلة الرزق، ويسعد ويحزن ويغضب. يشحب ذلك كله في ضوء بردته التي رفعها إلى مقام النبي الكريم، صارت نبضًا لما يصعب حصره من الإنشاد والحضرات وحلقات الذكر. أجاوز رواية إصابته بالفالج، واستشفاعه لله بقصيدة كي يعافيه. رأى النبي في نومه، مسح على وجهه بيده، وألقى عليه بردة، فانتبه من النوم. أجاوز كذلك رواية تُرجع التسمية إلى عجز البوصيري عن تكملة بيت في القصيدة. زاره الرسول، وأكمل النصف الثاني من البيت. أجاوز روايات أخرى كثيرة.

البردة كما تعلم ليست هي قصيدة المديح الوحيدة للبوصيري. سبقتها قصائد، وضعت الشيخ في قائمة شعراء المديح، لكن قصيدة «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» ذاب في أشعتها ما سبق للبوصيري من قصائد، وما صدر عن الشعراء الآخرين. إنها البردة التي عُقدت من أجلها الدروس — بتوالي السنين — في المساجد والزوايا والحضرات والسرادقات وحلقات الذكر، كثرت فيها اجتهادات البحث عن المعاني، وإعراب المفردات، والمعارضة والتشطير والتخميس، ومرادفات المدائح والنبوية.

أجد في البردة ما يُحسب للصوفية. أذكر قول الشهاب ابن حجر: إن لم يكن له إلا قصيدته المشهورة بالبردة، لكفاه فخرًا.

•••

بلغني من أخبار حسونة عبد الدايم ما حفزني للقائه.

رقيت الدرجات الرخامية إلى الباب الرئيس، المطل على المينا الشرقية، الكورنيش، أفق البحر، الحديقة الصغيرة، قضبان الترام في سيرها ما بين المنشية ورأس التين.

الدرجات الثلاث ترفع إيوان القبلة عن مستوى الصحن. خطوات مشيتها في الطرقة المغطاة بظلة، حتى ضريح الشيخ البوصيري، حجرة مربعة الجوانب، تعلوها قبة زُينت في زواياها بمقرنصات.

أطلت الوقوف أمام الضريح لقراءة الفاتحة.

سكتت الدنيا حين رفع سيد تهامي شومته، وهوى بها على كتف الفتوة جودة بلال.

وظيفته تلقي الضربات. الفتوة يضرب فقط. لاحظ أن الفتوة يضرب بتكاسل، يعتمد على المساعدين. زهق منه، أحاطه بذراعيه، وعصره حتى صعَّب عليه التنفس، ثم رفعه إلى أعلى، وطرحه على الأرض، ووقف على صدره. تهيأ لتلقي الضربات. فوجئ أن المساعدين عبروا بنظرات تأييد.

عرف أن أتباع جودة بلال كانوا يخافونه على أنفسهم، ويكرهونه في نفوسهم، كان سريع الانتقام من أية بادرة شك، أو سوء نية. عانَوا التوقع أن يحدث شيء ما، بأيديهم أو بواسطة آخرين، يصبح بعده الحال على غير ما هو عليه.

رفض جودة بلال أن يكون سيد تهامي خليفته في دنيا الفتونة. الفتوة يوجه الضربات، يهوي على الخصم بما يؤذيه، أو يؤلمه، أو يقتله. يتلقى المساعدون الضربات التي تريده، يواجهونهم بسواعد تحمي الوجوه والرءوس، أو تقاطع العصي والشوم.

كان حسونة عبد الدايم يضمر إعجابًا حقيقيًّا بالفتوة جودة بلال، لكنه لم يكن يملك إلا الإشفاق على سيد تهامي. بضاعته قوته الجسدية، وعمله تلقي الضربات حين يخوض الفتوة معاركه. لا يأذن له — ولو استطاع — رفع الشومة في مواجهة الخصم، تعلو الشوم والعصي، تتحرك الأيدي والأقدام، تختلط الهتافات والصيحات والحشرجات وانبثاق الدم. يبتعد سيد تهامي عن جسد الخصم، حتى إن لاحت ثغرة ينفذ بالشومة، ذلك شغل الفتوة، هو من تتجه ضرباته إلى خصمه. يظل الفتوة واقفًا، أو يدور حول نفسه، مرتين، أو ثلاثًا، ثم يضرب بالشومة في موضع يقصده من الجسد.

اعتاد الناس رؤية يده على اليد الأخرى، على المقبض العاجي للعصا التي غرس طرفها في الرمل، لا يفلتها. الضرب عمل الفتوة ضد الفتوات الآخرين، عمل المساعدين تلقي الضربات التي يحسن تفاديها، إلى جانب إبلاغ الإنذارات، وتلقي الإتاوات، ومتابعة تحركات الفتوات الآخرين، وكذلك تحركات الشرطة.

رفض ما قاله الريس هلال مرشدي في مجلسه بالحلقة، من أن مساعدي كل فتوة هم العامل الأهم في إبرازه، وتقديمه، وفرض سطوته. بدونهم تزول سيطرة كل فتوة على الحي أو مجموعة الأحياء، تتحول معاركه مع فتوات الأحياء الأخرى إلى خناقات فردية، دون أن يجاوز تأثيرها الفتوات أنفسهم.

قال حسونة إن المساعدين خُلقوا للهامش في حياة الفتوات، وهو ما يجب أن يظلوا فيه. الفتونة ليست قوة جسدية فحسب، إنما هي إرادة وذكاء وقوة شخصية وحسن قيادة للآخرين.

كان الناس يهملون أصله، ونسبه، وسيرته. رُوي أنه كان مساعدًا لغنيم فتوة اللبان، يتلقى عنه الضربات. استقل من يومها بنفسه، عمل لحساب تجار في مينا البصل، يخوض المعارك لصالحهم، ثم خرج إلى الناس من بيته ذات صباح وقد تغير سلوكه وكلماته، قال إنه تاب عما سلف من حياته، وأزمع سلوك سبيل الاستقامة.

لم يكن له أعداء، ولا يعاني ميولًا شاذة، ولا تردد على الأماكن المشبوهة، أوقاته خارج البيت يمضيها في زاوية الأعرج، يفرغ لتلاوة القرآن، أو يقرأ في الكتب الدينية.

رآه الناس في شبابه يفتش في بقايا الطعام الملقاة جانب الطريق؛ بقايا بطيخ وكسرات خبز وثمار فاكهة أصابها العطن. عمل حمالًا في الدائرة الجمركية، وشارك في عمليات تهريب البضائع والنقود. ثم عمل في بيع العقارات وشرائها، والمشاركة والمضاربة والمقايضة، يشتري البيوت القديمة، يُجري عليها ما تطلبه من ترميمات وتحسينات، تبدو كالجديدة، فيعرضها للبيع.

لاحظ جودة بلال قوته الجسدية، وعافيته الواضحة. وجد فيه قدرة على الاحتمال والمراوغة والاختفاء والتسلل والتنكر والابتكار والحيلة والدهاء.

ضمه إلى أعوانه، شرط عليه أن يقتصر فعله على تلقي الضربات، وألا يبدأ العراك.

حين غيَّب السجن جودة بلال، لاختراق مطواته بطن عيد أبي ركبة الريس بالحلقة، اختفى حسونة عبد الدايم، وبقية أعوان الفتوة، من حياة الناس. تأثروا كثيرًا، بدت لهم الطريق شاقة، أو مسدودة، فتلاشَوا، لا حس لهم ولا خبر.

•••

في ظهر جمعة، شارك حسونة عبد الدايم الناس صلاة الجمعة في أبي العباس. أعلن للنظرات المتسائلة أنه تتلمذ — في سنِي اختفائه — على الشيخ محرم عقيل. رقَّاه الشيخ من مرتبة المريد إلى السالك والولي والبدل والوتد، فالقطب في قمة الهرم. كان الشيخ قد أسن، ومال إلى القعود والراحة.

حين دخل حضرة الشيخ في ذلك اليوم في زاوية الأعرج، أفسح له إلى جانبه، وقال: أنت الآن في مرتبة الأئمة.

زكَّى الشيخ أهلية حسونة عبد الدايم في أن يؤخذ منه الطريق، أذن له الشيخ بالتسليك، فعرف أنه بلغ مرتبة الخلافة، صار شيخًا لعموم الطريقة.

لم يتيقن الناس — في روايته — ما إذا كانت الترقية من أسرار الطريقة، أم أنها قرار من الشيخ. أهمل الهمسات أنه لم يدخل في حياته زاوية الأعرج، وأن أكثر تردده — قبل اختفائه — على الساحة الخلاء، جوار قصر ثقافة الأنفوشي، يتدرب على فنون القتال، لا يلجأ إلى معلم، وإنما يترك للشومة في يده أذية خصومه، وتفادي الضربات.

أهمل صحبة أبناء الدنيا، حتى الزهاد والعلماء والصالحين. خاف أن يعطلوا رياضته الروحية.

لم يكن يبلغ مريديه ولا زواره بما يقوله حين يستغرق في خلوته، للطريقة أسرارها التي لا تنكشف إلا لمن يخلص في محبته. يخشى أن تُفشَى أسرار الطريقة، فيسيء مريدو الفرق الأخرى فهمها، تواجه الطريقة من العداء ما يعوقها عن أداء شعائرها. هو يشتري ولا يبيع، ذلك ما تعلمه في حضرة الشيخ ماجد حسنين.

– إذا تخليت عن الأسرار، فأنت تتخلى عن حياتك!

ويهمس من بين أسنانه: لا تأمن حتى لنفسك!

لنشر الطريقة؛ أمر حسونة عبد الدايم مريديه أن يرفعوا أصواتهم بالتكبير عقب كل صلاة، تعلو أصواتهم فتبلغ أسماع أهل بحري والأحياء المجاورة.

شاع بين الناس ما روج له أتباعه أنه موعود بأمره. أذاعوا ما نسبه إلى نفسه؛ صار إمامًا لأهل الذوق والعشق، له كرامات ورياضات، من فوق مجلسه قنديل دون أسلاك، يُشيع في المكان ضوءًا كضوء النهار، له سحابة يركبها في صيف وشتاء، تحمله إلى أي مكان، هو دائم الطيران والتحليق في الفضاء.

قال وهو يرنو إلى لوحة تمثل الهلالي يشهر سيفه: إن القوة هي الفعل الوحيد الذي تحترمه الفرق الأخرى.

توزَّع المريدون في ميادين بحري وشوارعه وحواريه وأزقَّته، وداخل الدكاكين والقهاوي، حتى البيوت كبسوها، وطرقوا الأبواب، وصعدوا الأسطح. منعوا الأفعال المحرمة، وأسكتوا الأصوات التي تنطق بالشر. حذروا من أن ترك الشيخ إلى شيخ آخر، فرارًا من القسوة، قد يصبح مجرد استبدال طاغية بمن هو أقل طغيانًا. الشيخ واسطة بين الله والبشر، هو يفعل ما فيه خير مريديه وخير الناس، حتى ما يغمض عنهم من تصرفاته، عليهم أن يثقوا بصحته، يعظهم بكلمات السماء، يدفعهم إلى ترك الهوى، وإنفاق أوقاتهم في المجاهدة والمحاسبة.

صادر الناس في أموالهم. أكثر أتباعه من أخذ الإتاوات والهدايا من التجار وأهل الحرف والوجهاء. كبسوا على البيوت والدكاكين، نهبوا ما بها من متاع وأموال. ارتكبوا المنكر والفجور، تمادَوا على ما لم يؤمروا به. أملى أوامره بإدراك أنه لن يخضع للمساءلة، حتى لو ضاق الناس بأفعاله.

صار نطق اسمه باعثًا لتحريك مشاعر الخوف في نفوس أهل بحري.

إذا ارتجفت العصا في يده، فطن إلى الخطر الذي يتهدده. يرفع العصا اتقاءً، أو يهتف في أتباعه للغوث.

تعددت الشكايات إلى الشيخ صلاح البابلي، إمام جامع المرسي أبي العباس، ما يُنزِله بهم مريدو حسونة عبد الدايم — أبرِّئ منه صفة الولي — من المظالم، حل بأهل بحري ما يصعب احتماله، يخلي أعوانه الطريق أمامه، يطوحون الشوم، يبسطون الأيدي، ربما لجئوا إلى الزغد واللكم.

ضج الناس من أفعال أتباعه، أخذوا عليهم فقدان الاتزان والتصرفات العابثة، يقرصون البنات في أثدائهن، يقذفون المارة بالشتائم، يعطون ظهورهم إلى الجدران، ويبولون.

علت الصرخات والاستغاثات بما لم يعرفه بحري، ولا طرأ على ناسه، كثرت اعتداءات أعوانه من ضرب بالشوم والخناجر، وقبضات الأيدي والركلات. اتخذهم جباةً لما يطلبه من إتاوات وهدايا، لقاء حماية الناس من أخطار يجد أنها تهددهم. تنطلق الصيحة، فتمتد الأيدي إلى السكاكين والسيوف والهراوات. يحرض أعوانه على الخروج ليلًا، يسهل الصيد خلف ساتر الظلمة، يتم الأمر في سرية وهدوء، في النهار يسهل انكشاف من نفَّذ فعل التخلص من الخصم، أو استلابه ما يملكه.

بدا شخصًا آخر لم يعرفه أهل بحري من قبل.

عاود الناس شكاياتهم إلى الشيخ صلاح البابلي، تكلموا عما يُنزِله بهم أعوانه من المظالم، يأخذون لأنفسهم ما يضعه الزوار في صندوق النذور. تعددت — بأوامره — حوادث السبي والقتل والسلب والنهب. أساء السيرة مع أرباب الأسر وأصحاب المحالِّ والقهاوي، توقعوا الخير فيه. لكنه جاوز التمتع بالحياة إلى الإسراف في التمتع بها. قصَر حياته على النهل من أطايب العيش، وعلى الميل إلى الترف في مأكله ومشربه وملبسه.

يرفض أن يقبِّل الناس يده، وإن أذن لهم بتقبيل طرف ثوبه. إلى جواره نوع مفتخر من العطور، يرشه الخادم على ثيابه فور أن يخلو مجلسه من الزوار.

رُوي أنه حَصور لا يأتي النساء، وأن كل ما يذيعه أتباعه عنه من اختراعه، وضعه في أفواه الأتباع، يرددونه في المجالس، يضيفون إليه من مخيلاتهم ما يصنع صورة للفحولة. نصحه الطبيب بدواء، أورثه حدة في طبعه.

الحياة مستحيلة في ظل الأمر والنهي والعقوبات القاسية.

أخرج مطواة من جيب سيالته. قرَّب نصلها الحاد من عين مصطفى نافع، تاجر الروبابكيا في شارع سوق السمك القديم.

– أنا مثل الليل، لا أحد يفر من ظلمتي!

من يخطئ يركع تحت قدمَي حسونة عبد الدايم، يتذلل، يطلب المغفرة. أحاط عنقه بذراع محيي الدين أبي قصيصة، صاحب إسطبل السيالة، طواه بقسوة حتى أحس بالاختناق، واصل الضغط حتى انبجس الدم من أنف أبي قصيصة وفمه. لكمه بآخر قوته في بطنه، أطلق محيي الدين صرخة مكتومة وهو يحاول تفادي السقوط، عاجله بضربة أخذته إلى الأرض. أمر بنتف حاجبَي بندقة محسب، العلاف بشارع الميدان، ولحيته. تبدَّلت صورته فأنكره الناس. نفض ما بيديه، تابع إعداد فطيرة محشوة بالسم، اختبرها في قطة تموء تحت قدميه، فماتت لتوِّها. حين أُصيبَ ريس الصيادين طلحة عبد الحافظ بزكام، قدَّم له حسونة سَعوطًا من سوق الترك، دس فيه سمًّا قاتلًا، خنق طلحة بمجرد تشممه، أفقده حياته.

لاذ المريدون بالصمت والسكينة.

جعل الفتوة نفسه فوق أي مساءلة، كلماته لا تحاول الإقناع، لكنها أوامر ترفض الأخذ والرد، تصر على التلبية، هو يقضي، وعلى المريدين أن ينفذوا، لا إرادة لهم، يوجههم كيفما شاء، عليهم السمع والطاعة. يخضعون لتعاليمه وأوامره، لا يتصرفون بغير ما يريد، يخشَون تغيُّر نفسه، يسترضونه بالوسيلة التي توافق مزاجه.

لما تناهت إليه أصداء الهمسات الرافضة حرص أن يخفي مكان إقامته، ويتنقل بين أماكن لا تخطر في بال أحد.

هجر بيته في شارع الشاروني القريب من السيالة، أقام فيه ثلاثة من كبار أتباعه؛ حلمي المليجي، وصفر حسب النبي، وشمعة شلباية، يراقبون الأحوال في بحري، يبادرون بما يجب فعله في مواجهة التصرفات والتوقعات.

•••

أنبل الأفعال حين يفتدي المرء الجماعة.

رأى طه رزيق — بائع الصحف أول صفر باشا — في المنام أنه يصعد درجات مئذنة بالغة الارتفاع. لما بلغ بسطتها النهائية، وضع راحتيه حول وجهه، وعلا صوته بالأذان.

الشيخ حمدون شكر الله، شيخ الطريقة الوفائية، فسَّر الحلم بالمكانة التي سيرقى إليها رزيق حتى يبلغ درجة القطب، يُقبِل الناس على مجالسه وعظاته، بما يؤلف فرقة من الصوفية، لها شعاراتها وطقوسها التي تختلف عما أَلِفه الناس في الفرق الأخرى.

لم يعرف الناس عن رزيق أي صلة بطريقة ما، ولا أظهر ميلًا لأحد الشيوخ، أو عُني بالتلمذة على يديه. أبدى رأيًا فيما يتوالى على بحري من الخلافات والفتن والمعارك والدماء.

نشأَت — في ظل التشاحن بين الطريقتين — طرق وفرق أخرى، لها أتباعها ومناصروها، مالوا إلى الانحراف عن طريق الشرع، وسلك مسالك البدع، واقتراف ما نهى الله من أذية الناس.

الفتوة تعبير صوفي، لكن فتوة حسونة عبد الدايم لا تنتسب إلى هذا المعنى.

أخذ طه رزيق عظم خطر الفتوة. سعى الناس لخطب وده، واسترضائه، والانصياع، وتلبية احتياجات أتباعه، ووافق شيخ الصيادين مرعي أبو البركات على اقترانه بنوال، ابنته التلميذة في الإعدادية، ثالثة لزوجتَيه.

راع رزيق ما وصلت إليه الأحوال، معارك لا شأن لها باختلافات الفرق، من له رأي يعلنه، تُقابِله آراء مغايرة.

فِعل الشيخ هو الأخذ بيد مريده إلى الترقي بين المقامات، وليس إلى النزول في الطريق لأذية خلق الله.

لماذا لا تنشغل الفرق بنصرة دين الله، بدلًا من التشاحن في أمور الدنيا؟

أزمع أن يفعل ما يعيد كل شيء إلى أصله.

توقع قتله، لكنه خاف أن يحدث الأمر قبل أن يعلن ما بنفسه.

إن كان الأذى في سبيل كلمة الحق، فلا بأس!

يريد لموته أن يكون نذيرًا لما يجري، يتنبه الناس، يفيقون، يعيدون رؤية المنمنمات؛ كيف صارت إلى ما يجب إنكاره؟!

انقطع عن الصلاة في الجماعة، وإن أزمع أن ينادي بمخالفة حسونة عبد الدايم وبقية الشيوخ على رءوس المصلين. يُقدِم على الفعل في صلاة الجمعة، في لحظة رفع الأذان الثاني. لم يُبلغ إخوانه بما ينتويه، ولم يسكن إلى مشاورتهم. خشي أن يعجِّل أتباع الفتوات بقتله، فلا يتيحوا له النداء بمخالفة الشيوخ. جلس أول درجات منبر الجامع، في منتصف الدَّرج تمامًا. اكتفى الإمام بنظرة التحير في المصلين.

هتف رزيق في ملامح الاستياء: لن أترك موضعي حتى يستقيم الحال.

مزق الغضب صوته، فداخلته حشرجة: اخترت طاعة الله عن طاعة غيره.

وفي لهجة متحدية، وذراعاه متقاطعتان فوق صدره: لا شيخ لي! ما سوى الله باطل!

واتخذ هيئة من يريد أن يدافع عن نفسه.

بدأ قوله: «أفعل هذا من أجلكم»، كأنه إشارة البدء لاندفاع المصلين في اتجاهه، انفرطت الدائرة من حوله، بعد انبثاق الدم من جسده الساكن على درجات المنبر.

كانت محكمة الحصيرة في الأنفوشي تحل مشكلات الناس دون أن يلجئوا إلى العنف، ولا إلى الفتوات والشرطة، ولا إلى المحاكم العادية. يجلس الحكماء من أهل بحري والمتقاضون فوق حُصر من المبسوطة أمام دكاكين سوق الحصرية وغيرها، يقدمها التجار سعيًا لصفاء النفس، فلا تنشغل بغير فاطر السموات والأرض، يطرحون النزاعات والخصومات، يُعنَون بتقريب التباعد، وبلوغ الكلمة السواء.

محكمة الحصيرة مثل اخترعه الناس لمشابهة محكمة الديوان التي ترأسها السيدة أم العواجز، يشاركها تدارسَ أحوال الناس ومشكلاتهم أقطابُ الصوفية الكبار؛ البدوي والرفاعي والدسوقي والجيلاني. الاختلاف في محاولة الناس أن يحلوا مشكلات دنياهم، يرفعونها — بعد أن يستعصي الحل — إلى مقام الديوان.

استفزني تملُّك النفوس فكرة الخلاص من شيخ الوقت. لعلي أتجه إلى غابة، أعرف ما ينتظرني من وحوش يجب أن أصارعها.

يا عزيز، يا غني، يا رحيم، يا كريم، يا واسع، يا عليم، يا ذا الفضل العظيم، اجعلني عندك دائمًا، وبك قائمًا، ومن غيرك سالمًا، وفي حبك هائمًا، وبعظمتك عالمًا، وأسقط البين بيني وبينك حتى لا يكون شيء أقرب إليَّ منك، ولا تحجبني بك عنك، إنك على كل شيء قدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤