١٢

اخترقت شارع حافظ باشا الموصل بين الميدان وشارع الحجاري. فرحت لانتقال ولي الله داود بن باخلا إلى رحاب الله، وإن اكتفيت من جنازته — لانشغالي بأمور المتصوفة، وأمور المسلمين — بالتعرف ممن حضروا غسله، وشاركوا في جنازته، إلى ما جرى من مكاشفات هو بها خليق. الشيخ داود خليفتي الخامس في الطريقة، عقب توسدي أرض حميثرا. أوصى قبل وفاته ألا يوضَع على خشبة الغسل، فالملائكة ستغسِّله. لما أحس دنوَّ الموت، دعا مريديه إلى مفارقته، وإفساح الطريق لملائكة يرفعونه إلى السموات العلا. تضوع ماء الغسل برائحة أطيب من المسك.

رُوي أن نعشه انسلت من الجنازة، طار فوق رءوس المشيعين، وفوق الشوارع، والواقفين داخل الدكاكين، وعلى الأرصفة، والمطلِّين من النوافذ والشرفات. تعالت أصوات المريدين والأتباع بالآيات والبشارات والأدعية.

أتعبت الجنازة حاملي الخشبة والمشيعين، أصرت على التنقل بين أضرحة الحي ومقاماته ومزاراته، لما أعيت الناسَ الحيلُ، أخلَوا للنعش طريقه، أجبر المشيعين على السير في هرولة إلى ميدان المنشية، ومنه إلى طريق الكورنيش، ناحية الأنفوشي ورأس التين. زاحم المشيعين أعدادٌ هائلة من النسوة، تعالت أصواتهن بالبكاء والصراخ والوجد واللطم والزغاريد، والتقنع بالنيلة، وتمزيق الثياب.

مضت الجنازة حتى استقر النعش على أرض خلاء، ملاصقة لسور قلعة قايتباي.

تجلت في أفق البحر هالةٌ واسعة من النور، انبثقت فيها أشجار كثيفة الأغصان والأوراق. تعالت — مختلطةً — أصواتُ طيور لا يراها الناس.

أعرف أن ولي الله داود أوصى — قبل أن تدركه الوفاة — أن يُدفن في مدخل البوغاز، جاءه في المنام من أخبره عن المدخل إلى الجنة، هو الموضع الذي دُفن فيه، جثمان الميت لا يبلى، تصعد روحه إلى السماء بلا حساب ولا عقاب، يدخل الجنة.

فاض النور الإلهي، تلاوة القرآن والمقامات والقبض والقضاء والبسط والفقد والوجد والأغنيات العلوية والقصائد والموشحات والابتهالات. اختفت المرئيات تمامًا، ترامى الفضاء الفسيح، علا عن كل شيء، بدت الرؤيا غير الرؤيا، ألَقَ الصفاء والبساطة والسكينة، تضوعت عطور أنهار الجنة، وما على ضفتيها من أشجار، علت دقات الطبول والصنوج والمزاهر والدفوف والصفافير والشعارات والأعلام والرايات والزينات.

لما انطوت حياة القطب، وجد المريدون فيما تعلمه تلميذه نعمان عبد الشكور من الخليفة الراحل أنه يأخذ موضع الصدارة في حضرته. أخلص في خدمة ولي الله، وخدمة مريديه وزواره. خصَّه الولي بمكاشفات لا تُتاح إلا للأقطاب. لا بد للطريقة من شيخ يرهص لها بأفكاره، ويغذيها بأوراده وأذكاره وأدعيته، ويرسم لها الطريق الصحيحة للتقرب إلى الله.

ناقش مع المريدين والمحاسيب ما ينبغي فعله.

استصوبوا الرأي أن يأخذوا جثمان القطب من حيث دُفن بمقابر العامود إلى المكان الذي اختاره، حرصوا أن يتم الأمر ليلًا، حتى لا يلقَوا متاعب في استخراج الجثمان من القبر الذي أُودعَ فيه، وتوسيده قبرًا يجاور جامع المرسي.

عميت أبصار سكان البنايات المطلة على أبي العباس من ناحية الدحديرة، وعلى الطريق من داخل أسوار العامود إلى الجامع. حتى الناس المقيمون في المقابر لم يشهدوا عملية انتقال الجثمان إلى موضعه الجديد.

رُوي أن سيارتَي نقل ألقتا الردم في البحر، ناحية ضريح ولي الله داود. تملَّك الذهول أعين الناس والسيارتان — واحدة وراء الأخرى — تغوصان خلف الردم في مياه البحر.

سرب المريدون اعتقادًا أن من يلامس الضريح بإيذاء، كتلويثه، أو الكتابة عليه، يعرِّض نفسه للإصابة بالصمم، أو العمى، أو الشلل، وقد تلحقه شهقة الموت.

أضاف إلى اعتقاد الناس ما صاحب غرق السيارتين من اهتزازات عنيفة لأغصان شجرة وحيدة في طرف الساحة، دون أن يشي الجو بعاصفة، أو ريح.

نُسب ولي الله — في روايات الأتباع والمريدين — إلى أصله، اتصل الورثة بالغصن، امتد لبقية الأغصان، فالشجرة الهائلة فروعها الدوحة المحمدية، ويمثل الحسن بن علي جذرها.

قيلت حكايات عن تجليات داخلته — في سيره المنفرد — على رمال الشاطئ، لم يكن قد فطن إليها، ولا إلى المعاني التي تنبض بها. يؤثر الخروج إلى البحر بمفرده، يتمشى على الساحل، يرنو إلى السماء في تقلباتها، تحليق أسراب الطير، امتدادات الأفق. يشرد في تأملات، تتوالى على قلبه النفحات والإشارات والمكاشفات والاستغراقات وأنوار الفتح. تعلو عن الحس، فتفتح في روحه الأسرار العلوية.

رُوي عن طيرانه في الجو، غوصه إلى أعماق البحر، سيره على الأمواج، اختراقه الجدران، قراءته المقدر والمكتوب.

عندما يقف على مرتفع في الشاطئ، فإن الأسماك تتكاثر تحت قدميه، تغري الصيادين بإلقاء طراحاتهم وجرافاتهم.

عُرف عنه القدرة على التنقل من مكان إلى آخر في لحظة كالومضة، يرتفع في الهواء، يواصل ارتفاعه، يعلو، ويعلو حتى تخفيه السماء، يسير على المياه فلا تبتل قدماه. يغطس في الموج، لا يصعد حتى ينسى الناس أمره، لا يخشَون على حياته، يعرفون أنه ينزل في ضيافة مخلوقات البحر، يتنقل بين الصخور والكهوف والأعشاب، كأنه واحد من أهل الأعماق، يفهم لغة الأسماك، ومخلوقات البحر، يتبادل معها الكلام. يأخذ العهود، تحمي المخلوقات من يريد حمايته، وتمنع أذاها عن البشر. يصعد من المياه دون أن تبتل ملابسه.

استغاثت به امرأة غاص ولدها في العميق، ولم يعد. وقف على صخرة في طرف الساحل. نظر ناحية نزول الولد، قرأ ما لم تفهمه الناس من التعاويذ، علا هتاف الولد من فوق الموج.

ألف الصيادون والبحارة، وقاطنو البيوت المطلة على البحر — بعد رحيله — أنه إذا ثار البحر، فهبَّت العواصف، واقتحمت النوات ما يصادفها، لجئوا إلى طلب الغوث من ولي الله، ينذرون له النذور، يمسِّدون كسوة المقام، يذكِّرونه بوعده — في حياته — أن يظل راعيًا لهم بعد مفارقة الدنيا.

•••

كان الشيخ شعبان الأنصاري حلقة في سلسة الخلفاء الذين تعاقبوا، شغلتهم أحوال الطريقة، وعُنوا باستمرارها. تمنى الناس أن تظل بركات ولي الله — بعد رحيله — ممتدة في خلفائه. توقع المريدون خيرًا بتوليه أمر المشيخة. عُرضت عليه من العلماء والفقهاء والمتنورين من وجهاء الحي، فاعتذر عن قبولها. قال إنها ليست له، ولا يرى نفسه فيها. لم تخطر الحياة في باله إلى ما بعد وفاة شيخ الوقت. كان على يقين أنه سيرحل قبله، رتب الأمور في ذهنه على هذا النحو. ثم وافق على إلحاح الشيوخ والمريدين بإقامة حفل تنصيبه في درجة الخليفة، أُعطيَ — في نهايته — إجازة الطريقة، شهادة مختومة بخاتم المجلس الأعلى للطرق الصوفية.

وعد الشيخ شعبان أن يُعنَى بإصلاح ما أفسده الشيوخ السابقون، يضيف — بما تسعفه قدراته — إلى الطريقة، ويجدد أداءها، ويحافظ على أذكارها وأورادها. يخرج عليها الكثير من المتصوفة في المجاهدة والخلوة.

أخذ على الطريقة — في الجلسة نفسها — ما لحقها من حيف، بكثرة الدخلاء والأدعياء وناقصي الهمة. حين تغلب العشوائية، وتتلاشى الفواصل بين الصواب والخطأ، فإنها تنتهي إلى الزيغ والضلال.

رفض المحاكاة، أزمع أن يبدأ من حيث انتهى سابقوه، له سيرته الشخصية والروحية التي تختلف عن سير خلفاء الأولياء في بحري، تميزه بمناقب وكرامات.

عهد إلى نفسه شأن الإمامة، وما يتصل بها، عُني بتوسيع مقام الولي، وفرشه بالسجاد، وطلاء حوائطه، وبدل باللمبات الصغيرة، الموزعة على الجدران، نجفة هائلة، تدلت من أوسط السقف، وحرص على موعد مولده، يحضره المريدون والأتباع، تزايدوا فبلغوا الآلاف.

درءًا للريبة والظِّنة، قصَر صلته بالمسجد على إمامة المصلين، وإلقاء العظات، لا يقبل الصدقات ولا الزكوات، لها صندوق نذور موضعه على باب المسجد، يعود عائده إلى العاملين في المسجد.

جعل التفاضل بين خدم المسجد على مدى نجاحهم في ترغيب الزوار لوضع المال في صندوق النذور، إلى جانب هدايا الطعام والكسوة.

دسَّ شيخ الصيادين يعقوب أبو الوفا مبلغًا في صندوق النذور، شفاعة ألا يتكرر إجهاض زوجه قبل الولادة. أضاف وعدًا بذبح عجل، وتقديم السمك المقلي والفول النابت لمريدي الولي وزائريه. بعد عملية جراحية لمحيي الدين السلاب، المعلم بالقزق، ألزمَته القعود على كرسي متحرك؛ صار يحرص على وضع النذور بيده في الصندوق، لا يعهد بها إلى موظفيه، يَقصُر عملهم على العناية بممتلكاته من أراضٍ وعقارات ووكالات في بحري والعطارين. دسُّ النذور بيده داخل الصندوق يعكس الرجاء أن يعفو الله عن سيئاته. لم يضع النقود في الصندوق الْتماسًا لبركة المنبر والجدران والأعمدة والحصير، الضائقة دفعته إلى الْتماس الغوث من ولي الله صاحب المقام، النذر وسيلة كي يتشفع له الولي، فيفك الله كربته.

صندوق النذور بجوار المقام يعني قدرة الولي على تحقيق الكرامات، وعلى تحقيق ما يتمناه الناس. يقصدون المقام للتبرك والدعاء، وتقديم النذور، وطلب النصفة والمدد.

الولي هو صاحب الكرامات وليس صندوق النذور، الصندوق سبيل إلى تحقيق البرء والشفاء والنصفة والمدد. أموال النذور منحة ولي الله لخدمه ومريديه. إذا احتاج الجامع إلى إصلاح وترميمات، فتلك مسئولية الوزارة، للإنفاق على الجوامع والزوايا والأضرحة والمقامات بنوده الثابتة في ميزانية الوزارة.

حدث الكثير من المشكلات عند توزيع حصيلة الصندوق، كلٌّ ينسب إلى نفسه فضلًا يهبه الحق في أن يحصل زيادة عن الآخرين.

أمر الشيخ شعبان الأنصاري بإعادة توزيع حصيلة صندوق النذور على العاملين في الجامع، ومريدي المرسي أبي العباس، حتى النذور العينية منعها، وأمر بإعادة توزيعها، ما كان يتسلمه خدم الجامع من الطير والحيوان والفاكهة واللحوم المذبوحة يُوزَّع على المتصوفة والدراويش.

سكت ذوو الأنصبة الضئيلة بمعنى الموافقة، أما من كانوا يحصلون على الأجر الأعلى، القارئ والمؤذن والمبلغ والخدم، فقد جاهروا بالرفض!

مضت أيام المولد دون أن تحدث زيادة في صندوق النذور. امتلأ الميدان قبالة الباب الرئيس بالآلاف من مريدي الفرق الصوفية، علت البيارق والأعلام والأشاير والأدعية والابتهالات والهتافات. أدرك الشيخ أن فاعلي الخير أشفقوا من ذهاب تبرعاتهم إلى غير وجهتها.

ناقش الأمر مع خدم الجامع. راعه أن المعلم عودة خفاجة، التاجر بشارع الميدان، استبدل بما كان يضعه في صندوق النذور أطعمة وملابس للأسر الفقيرة من أهل الحي.

عهد إلى نفسه حماية الصندوق من سرقات المغيرين، يتظاهرون بالطواف حول المقام، أو الوقوف أمامه، يحاكون الناس في أدعيتهم وابتهالاتهم، والْتماس الشفاعة والمدد، ربما كنسوا حول المقام، يشاهد الشيخ من موضعه ما يجري لحصيلة الصندوق من النذور، يعرف الفاعلين بأسمائهم، من زائري الجامع، أو من المحسوبين على صاحب المقام، يكتم الأسماء حتى لا يثير فضائح، أو يشوش على الطريقة. للشيخ طريقته — التي لا يدركها أحد — في الحصول على مال المسلمين، وسيلتهم لبلوغ ما يريدون. هدد بالعقاب الإلهي كل من يأذن لنفسه بالحصول على ما ليس من حقه، إن تردد في رد ما أخذ، فإن ولي الله سيأتيه في المنام يوبخه، يعنفه، يأمره بإعادة الحقوق إلى أصحابها.

ثار خلاف بين الشيخ شعبان وخدم المسجد، عاب كلٌّ على الآخر أنه يحاول أن يحصل على ما فوق حقه من أموال النذور.

الإمام هو المسئول عن الإنفاق على المسجد، يُعنَى بحصيلة صندوق النذور، تسلم من السرقات، ومن حصول من لا يستحق على ريعها، ينفق معظم ما تدره على احتياجات المسجد، بحساب وتدقيق، يتصرف في الوارد والمنصرف، إن أُهديَ له مال أو كساء فرَّقه عن آخره، لا يُبقي لنفسه شيئًا.

قال إن النذور ليست سبوبة، هي للإنفاق على المسجد، ما زاد يُوزَّع — بأنصبة متساوية — على العاملين. حتى مقيم الشعائر وعامل الإضاءة والشباك والنجار. حامل مفتاح المقصورة له حق الزيادة فيما يحصل عليه، بركة ولي الله تميزه، كما تميز القراء والزهاد والنساك والعباد، يشعر بالسمو الروحاني، يأخذ نفسه بالمحاسبة والمراقبة، يحب الدنيا بجسده، بأنفاسه الزائلة، من غير أن يعلق بها قلبه.

ارتاب الناس في حقيقة ما أظهره الشيخ من ميل إلى الزهد. أدركوا أن الرجل ليس من أهل الانجذاب والغيبة.

لم يعد الصندوق يُفتح — كما جرت العادة — كل ثلاثة أشهر. تناثرت همسات عن خزائن الأموال التي أودعها بيته في كفر الدوار.

فرض على الجميع أن يسلموا إليه كل ما في الصندوق من أموال، وكل ما نذره الناس من شموع وعجول وأغنام وطير، يحملها خدم المسجد إلى مزرعته القريبة من كفر الدوار.

ترك حمزة العطيفي الجامع مغضبًا بعد أن دس في صندوق النذور شكوى إلى محكمة الديوان، يطلب نصفتها من أحكام الشيخ الجائرة.

التقيته في حجرته المطلة على شارع الكناني، قبالة الطلل المتبقي من مدرسة البوصيري. الأرضية مغطاة بالسجاجيد الفارسية، والجدران عُلقَت عليها آيات من القرآن، وصور الكعبة والأقصى.

الدائرة السوداء الصغيرة — أوسط جبهته — تشي بكثرة السجود.

قال: النذور من مناقب الولي. تكثر بحصول المراد.

ورفَّت على شفتيه ابتسامة غامضة: من يضع في الصندوق نذرًا لا يشترط وجه إنفاقه.

– لأنه أسلم نفسه إلى التوكل!

– اطمأن إلى سلامة تصرفنا، ونحن بحول الله نحسن التصرف.

استعاد سرقة الخادم (صادق أبو حطب) حذاء المعلم عودة خفاجة في مغادرة الجامع، قال إنه أخطأ، فدسَّ قدميه في حذاء ليس له، لم يقتنع الشيخ بما رواه، شدد العقاب على سارقي المصلين في المساجد، سرقة المسجد هي سرقة لبيت الله، ومن يسرق الله فإن عقوبته لا بد أن تكون مغلَّظة.

وهو يضغط على الكلمات: نحن نمنح الفقراء ما يأذن دخل الصندوق من الإحسان والخيرات والصدقات.

وبطريقة من يريد أن يبدل مجرى الحديث: أنا لا أملك سوى مساحة الأرض التي بنيت فيها قبري!

قلت بنبرة مضمرة: أتمنى أن يأتي يوم نبحث عن مستحقي الزكاة فنجد أحوال الناس ميسورة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤