٢

ساحل رأس التين أول رؤيتي للإسكندرية، أحزنني — عند القدوم — ما كنت أَلِفته من رؤية المئذنة العالية لجامع المرسي، حجبَتها البنايات العالية، فحدست موضعها.

هدير الموج، وتخلل الجو رائحة البحر، اختلاط الملح واليود والأعشاب والرطوبة. النوارس تحلِّق ما بين الشاطئ وجزيرة الأنفوشي. طريق الكورنيش خالٍ، ساكن، إلا من سيارات تمرق في الاتجاهين. تغطت السماء بالسحب، لا فواصل من الزرقة، وإنما رمادية يختنق وراءها ضوء شاحب.

لم تكن الصورة كما أراها الآن. الفاصل الحجري بين البحر ورماله، وبين الطريق — اسمه الآن شارع قصر رأس التين — والبيوت في الضفة المقابلة. كانت الأكواخ والعشش متناثرة في بحر الرمال، حتى حصن «ألاطة» زال كما زالت بنايات قديمة، كثيرة. الحركة المصاحبة لقدوم الصباح؛ النوافذ تُفتح، لمبات الشوارع تُطفأ، باعة الصحف يرتبون بضائعهم، عربات الفول تلم حولها الرائحين إلى أعمالهم، والمقاهي مفتوحة على الخواء.

آخر زياراتي لقلعة قايتباي المطلَّة على ضريح ولي الله الأنفوشي. كان البحر يحيط بها من ثلاث جهات، لا بنايات، إنما أمواج من الرمال تختلط بأرض المقابر القديمة، في الجهة الغربية لجامعَي أبي العباس والبوصيري.

عرف الناس أن له قدم صدق عند الله تعالى. تردد على ضريحه أرباب الحوائج، يلتمسون شفاعته، فيقضيها الله لهم. تتزايد أعداد النسوة عقب صلاة الجمعة، يقبِّلن أعتاب الضريح، يتمرَّغن في ترابه، ينذرن الشموع والذبائح والثياب والأغطية. هاجسهن امتلاء الأرحام برقًى ودعوات، تتعالى الزغاريد لوفاء النذور، ويتناثر الحمص والملح.

ذاكرتي لا تخطئ.

ترامي الأمواج — قبل إنشاء الكورنيش الحجري — إلى داخل المدينة، إلى حيث يعيش الناس في هذه الأيام؛ الجوامع والزوايا والمدارس والحدائق والمقاهي والبنايات والشوارع المرصوفة.

صحبني — عند قدومي إلى الإسكندرية — نخبة من تلاميذي؛ أبو العباس المرسي، وأبو العزائم ماضي، ومحمد القرطبي، وأبو الحسن اليجائي، وأبو عبد الله اليجائي، وغيرهم.

أول نزولنا في عمود السواري، ثم مضينا إلى قلب المدينة.

همَّني أن أعود على بدء، قدومي إلى المدينة، تنقلي بين المساجد وأماكن العلم، ترددي على مجالس الزهاد والفقهاء والعلماء، مثابرتي على المشاركة في أمور دينهم ودنياهم، استقبالي في مجالس دروسي العلماء والزهاد وأهل التقوى.

عشت في المدينة لما كانت عامرة بالجوامع والمساجد والزوايا، والكنائس والأديرة، والتكايا والخانقاوات، والمدارس ومعاهد العلم، والقلاع والقصور، والأربطة وخزائن السلاح والمتاجر، والمزروعات والبساتين والقنوات المائية، وصرف مجاري المياه في الخلاء إلى ما وراء العمران، أو بالقرب من البحر، والبحر في حدَّيه الشرقي والغربي. حتى جزيرة فاروس، جزيرة رأس التين، أتاح لي ناس بحري زيارتها. لم تكن الجزيرة قد اتصلت بالمدينة بعد، عبرت إليها، وعدت، بالمشي فوق صخور وصلت بينها وبين الساحل.

اعتدت السير في شوارع الإسكندرية، يحيط بي العلماء والفقهاء والزهاد وعوام الناس، ينشرون الأعلام على رأسي، ويضربون الكاسات بين يديَّ.

قصد إلى مجلسي في جامع العطارين، الجامع الجيوشي، الخاص والعام من أهل المدينة، يتقدمهم تلامذتي أبو العباس المرسي وأبو القاسم القباري وابن المنير ومكين الدين الأسمر وأمين الدين جبريل.

تحدد معظم تنقلي بين البيت الذي جعلته لسكناي في كوم الدماس، كوم الدكة الحالي، والجامع في العطارين، حتى صحبني أبو العباس وعديد التلاميذ إلى بحري، بعد أن استخلفت المرسي في حفل حضره المئات من أتباع الشاذلية.

أودعت مجالس البيت وجامع العطارين موضعًا غاليًا في نفسي، حضرها الخواص وعامة أهل المدينة، حدثتهم في التفسير، وتصنيف الكتاب، وشرح ما غمض عن المريدين. حرصت أن أفيد مما يسر لي الله من علوم. جمعت بين العلوم الظاهرة والعلوم الباطنة، بما ينتهي إلى المعرفة الحقيقية لخالق الأكوان. يسألونني عن مسألة قد لا يكون لها عندي جواب، أرى الجواب — بحول الله — في الدواة والحصير والحائط. عظتي لجلسائي أن يرجعوا عن منازعة الله؛ ليصيروا موحدين، والعمل بأركان الشرع كتحقق للسنة، وبلوغ التكامل بالجمع بينهما، أن يفطنوا إلى ثقل الذكر على ألسنتهم، وكثرة اللغو في مقالهم، وانبساط الجوارح في شهواتهم، وسد باب الفكرة في مصالحهم. ذلك — إن حدث — من عظيم الأوزار، أو كمون إرادة النفاق في القلب، فليس لهم إلا الطريق والإصلاح والاعتصام بالله، والإخلاص في دين الله تعالى.

حرمتني فضيلة التواضع أن أسعد بالقول إنه ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلس العبد الفقير. حتى قول ابن عطاء الله السكندري إني كنت صاحب سياحات كثيرة، ومنازلات جليلة، وإني جئت في طريق الصوفية بالعجب العجاب، وشرحت من علم الحقيقة الأطناب، ووسَّعت للسالكين الركاب، حتى هذا القول امتصته فضيلة التواضع، فلم ينعكس على حياتي بما يؤثر فيها.

ألفت الإسكندرية؛ مساجدها وأحياءها وشوارعها وبناياتها وأسواقها، منذ بداية رحلاتي إلى البيت الحرام، والروضة الشريفة. خلَّفت فيها علماء وتلاميذ، أعتز بصداقاتهم؛ المرسي وياقوت العرش والقباري وابن المنير ومكين الدين الأسمر من تلاميذ الشاذلي، إلى جانب ابن عطاء الله وابن أبي الحوافز وشرف الدين البوقي وغيرهم. إن لم أكن ألفت الكتب، فإن هؤلاء الأصدقاء هم كتبي.

صار لي في الإسكندرية — مثلما حدث في كل مدينة دخلتها، أو أقمت بها — علماء جلست إليهم، وأفدت من أقوالهم وأفعالهم، وتلاميذ أنصتوا إلى عظاتي، وسلكوا بها طريق التصوف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤