٥

رأيته واقفًا أمام الضريح في هيئة من يترقب زيارتي، إذا كنت قد فقدت البصر في سنِي حياتي الأخيرة، فإني أحمد الله على نعمة البصيرة في حياتي جميعًا.

السحنة لم تتبدل، والعباءة المسدلة على القفطان الشامي على حالها، منذ زارني — قبل أشهر — في حميثرا.

ملأت البسمة ملامحه، وبسط ذراعيه مهللًا، مددت يدي بالمصافحة، لكنه اجتذبني إلى صدره، وعانقني.

هو المرسي الذي أوصيته بدفني في حميثرا، وأوصيت مريديَّ أن يلجئوا إليه، فهو الخليفة من بعدي.

أحببته، كما أحببت ابن عطاء الله السكندري، تلميذاي اللذان أخلصا السير في الطريق، لا يجاوزان — في يقينهما — ما بالكتاب والسنة، طريق الصوفي أعمدة إنارتها هي الكتاب والحديث والسنة، وإن اختلف الشيخان في سلوكهما الصوفي. ابن عطاء الله واحد من أقطاب الصوفية الأربعة، المنتسبين إلى مصر؛ ذي النون، وعمر بن الفارض، وإبراهيم الدسوقي. ظل على إنكاره الصوفية، وأمْر أبي العباس، حتى التقيا، فنهل من علم المرسي، كلمه في الأنفاس التي أمر فاطر الأكوان بها، فأذهب الله ما كان عنده، وأخذ طريق الصوفية.

حرص الشيخان — في كل أقوالهما وأفعالهما — على التمسك بالسنة. ذلك كان حرصي، وما دعوت إليه. أذكر نصيحتي لخواص تلاميذي: إذا عارض كشفك الصحيح الكتاب والسنة، فاعمل بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة.

إذا لم أكن ألَّفت الكتب، توضح وتيسر الفهم، فقد خلَّفت الكثير من الأذكار والأوراد والأحزاب التي كتبها في حِكَمه تلميذي ابن عطاء الله السكندري، البحر الكبير، والبحر الصغير، وحزب الشاذلي.

قلت لأحد المريدين: كل علم يسبق إليك فيه الخواطر، وتميل إليه النفس، وتلتذُّ به الطبيعة، فارمِ به، وإن كان حقًّا، وخذ بعلم الله الذي أنزله على رسوله، واقتدِ به، وبالخلفاء، والصحابة، والتابعين من بعده، وبالأئمة الهداة المبرَّئين عن الهوى، ومتابعته تسلم من الشكوك والظنون والأوهام والدعاوى الكاذبة، المضلة عن الهدى وحقائقه.

يعرف ولي الله المرسي ما أعرفه عن امتلاك مولانا الخضر الكثير من القدرات الروحية. لا أحد يعرف من أين يأتي، ولا إلى أين يذهب. يرد القوى غير المنظورة، يطرد الأرواح الشريرة، يلامس بعصاه البحر، فتجمد المياه، يمتلك القدرة على التواجد في كل مكان. ثمة سحابة تلازمه في سيره ووقفاته، يدعوها فتلبِّي، يغتسل، أو يتوضأ بمائها.

شغلني السؤال، شردت في المعنى الذي قصده المرسي: هل ما زال الخضر يخالط الناس، يراهم ولا يرَونه، يحمل الهداية والموعظة الحسنة؟

عمد الخضر إلى التستر والاختفاء، توارى عن أنظار الناس، لكنه دائم الحضور بينهم، يسير — على غير هيئته — في الشوارع والميادين، يخترق الحواري والأزقَّة، يجلس على القهاوي، يرى الحضور ولا يرَونه، يجيد الإنصات، ويعاني التأثر، يرعى اللائذين بمناقبه من العباد والزهاد والغلابة وطالبي النصفة والمدد، يعطون أسماعهم، لا يعطون أبصارهم، يراهم الغوث الخضر، ولا يرَونه، يخاطبهم أحيانًا دون أن يتبينوا مصدر الصوت، يصلي في الجوامع والزوايا، يزور المقامات والأضرحة، خصَّه الله من علوم الباطن ما استعصى فهمه على النبي موسى. لن يموت إلا عند قيام الساعة.

لم ينسبه الناس إلى الأنبياء، ولا اعتبروه من أولياء الله، لكنه — في أفواههم — الأستاذ، القطب، الغوث، ومسميات أخرى كثيرة. اغتسل في مياه بحار العالم كلها، عالمه النبوءات والإلهامات ونُذر السماء. وهبه الله أسراره، وأراه ما يغيب عن أعين الآخرين.

فاعلم أن معرفة الولي أصعب من معرفة الله.

الله معروف بجماله وكماله، أما الولي فهو مخلوق ميزته الزهد في الدنيا. ما يُنسب إلى الأولياء من مكاشفات وكرامات ومناقب، إنما هو من قدرة الله التي لا يكبر عليها شيء، هي قدرة الله لا قدرة الولي. حتى الاستغاثة لا تكون إلا بالله سبحانه، الاستغاثة بالأولياء ليست لذواتهم، إنما هي توسل كي يتشفعوا بهم إلى الله. أذكر قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق، كاستغاثة الغريق بالغريق.

لأن ما يُنسب إلى الولي من كرامات هي ثمار قدرة الله، فإنها دافع الولي لمحاولة تعميق خضوعه للذات الإلهية. يدرك أن ما نُسب إليه هو صنع خالقه، وخالق الكائنات، يخاف — لو أنه صدَّق ما ينسبه الناس إليه — أن تنقلب عليه الحال، وينقطع عنه الوصال.

ما قيل من أن تغسيلي ودفني في حميثرا، أعقبه وفرة المياه فصارت تكفي الركب إذا نزل موضع الضريح، ولم تكن قبل ذلك كذلك، هذا القول يتحدث عن قدرة الله، وليس عن قدرة الولي.

سلطان الإسكندرية هي التسمية التي أطلقها الناس على المرسي أبي العباس، يرَونه العون الذي يغيثهم أوقات الشدة، يمنع البلاء، يقتص من الظالم، يُظهر الحق. منع أذى أفراد في الفرقة الشاذلية لبقية المريدين، وصد غارات أتباع الفرق الأخرى، اعتبره مريدوه شيخ مشايخ الصوفية، وقطب عصره. أقبل الناس عليه، يلتمسون منه الغوث والاستجابة والفرج في يقينهم أنه ما حاصرَت امرأً ضائقةٌ، ولجأ إلى مقام الولي، حتى يفرج الله ضائقته، يبدل بعسره يسرًا. قدموا له النذور، أوقدوا القناديل والشموع، قبلوا الأعتاب، عُنوا بإقامة احتفالات مولده في موعدها.

ومضت عيناه بنظرة مشفقة: هل أتعبتك زحمة المولد؟

– اختصرت الطريق أول الميدان. أعرف أنها هي الزحمة نفسها في مولد «حميثرا». الاختلاف في الطقوس.

قال بلهجة معتذرة: احتفالات الموالد بما يفوق قدرات الناس لتصورهم أن الأولياء حداتهم إلى القرب من الله.

– ضاقت الظروف بالناس. تصوروا الخلاص في الأولياء.

حدست من ارتعاشة فمه أنه يريد أن يقول شيئًا. أومأت بنظرة مستحثَّة.

– كما أرى، فالموالد تتحول إلى مناسبات للتبطل والتعطل عن الكسب.

– كل شيء جميل في حياتنا عرضة للإساءة والتشويه.

فسرت جبهته المجعدة بأنه يفكر فيما لم يفصح عنه.

استعدت قوله في إجابة السؤال: ما تلك بيمينك أيها الولي؟ قال: هي عصاي أتوكأ عليها، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى. فيُقال له: ألقها، فناء عنها، فألقاها، فيكشف له عن حقيقتها، فإذا هي حية تسعى. ثم يُقال له: خذها ولا تخف، فلا يضره أخذها؛ لأنه أخذها بإذن الله، كما ألقاها بإذن الله، فأخذها من الوجه الذي به ألقاها، فأطاع الله في أخذها، كما أطاعه في إلقائها.

– الشيوخ يحرصون على اختلافات الفرق، لا يشغلهم ما يعانيه الناس.

استطرد في نبرة مبطنة بالاتهام: كان شاغل شيوخ الصوفية حل مشكلات المريدين. تبدل الحال، المشكلة الآن هي الشيوخ.

– الناس يصدقون ما يقول شيوخهم، على الشيوخ أن يتقوا الله في عظاتهم، وما يقولون.

أخذني الجلوس إلى ولي الله. الذكريات تستعيد الذكريات، ومضة مفاجئة، تعيد ما كنا نسيناه من ذكريات قديمة.

وهو يودعني على الباب الخارجي للجامع: أتصور الحمام في الميدان دون أن يخشى الأذى.

ولاحت على شفتيه ابتسامة وليدة.

– أحبه ياقوت العرش وتشفع له!

ومضت في ذهني حكاية رواها محاسيب ياقوت العرش، وإن لم يشر إليها ولي الله في حواراتنا: حطت حمامة على كتف الولي، وهو جالس إلى مريديه. همست في أذنه بما تبينه. قال: بسم الله، نرسل معك واحدًا من مريديَّ! قالت الحمامة: ما يكفيني إلا أنت. ركب الولي بغلته، ومضى من الإسكندرية إلى القاهرة، قال لمستقبليه في جامع عمرو: اجمعوني على المؤذن محمود شلش. لما جاء المؤذن، قال له ياقوت: هذه الحمامة أخبرتني بالإسكندرية أنك تذبح فراخها في المنارة. قال المؤذن: صدقَت الحمامة، ذبحتُ الفراخ مرارًا. قال ياقوت: لا تعد! قال المؤذن: تبت إلى الله تعالى!

لحقني سؤال المرسي، وأنا أواجه أفق البحر: لماذا يوجَد الحمام في مدن الدنيا ويغيب عن مدننا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤