٦

عانيت نزول السلالم الرخامية إلى قلب الميدان، كانت الشمس قد تسحبت في الأفق، ازدحم الميدان بكلوبات الغاز واللمبات المتدلية من الحبال المتقاطعة، واللافتات الملونة، عليها أسماء الفرق الصوفية، وشعاراتها، تعلو الخيام المتقاربة، تتحول الخيام واللافتات إلى ما يشبه الصخب اللوني، يتخلله سرادقات الإنشاد والأغنيات والأذكار وتلاوة القرآن ورواية السيرة النبوية، والتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، والسيرك والمراجيح والدفوف والنايات والطبول والنشان واستعراض القوة، وكشك الطهور وباعة البخور والسبح والمناديل المحلاوي والشيلان والطواقي المنقوشة والطرح والأساور والخواتم والحلقان والسلاسل والعقود، والمصاحف وكتب السيرة والأوراد والأدعية، واللبان وحصان المولد وعروسة الحلاوة، وأقراص الحمص والسوداني والسمسمية وحب العزيز والمشبك، وقطع الهريسة والبسبوسة، والترمس والشموع والزحام والأنفاس، ورائحة الحشيش والثلاث ورقات وتناثر العرق.

كما تعلم، فإن المناسبات الدينية المهمة تمتد في الأزمنة؛ ليلة الإسراء والمعراج، ليلة النصف من شعبان، يوم تلقِّي النبي موسى من ربه الوصايا العشر، ليلة تحويل الصلاة من الأقصى إلى الكعبة المشرفة، رؤية هلال رمضان، عيدا الفطر والأضحى، الحج إلى بيت الله، ذكرى يوم الهجرة، يوم عاشوراء، مولد الرسول المعظم، موالد آل البيت وأولياء الله.

زمن الولي مقدس، لا يتصل بزمن الناس الدنيوي، هو بلا نهاية، لا يجاوز الميلاد والوفاة، مناقبه ممتدة في الأزمنة، الجسد يبلى، يفنى، أما الروح فباقية لا تموت. روح الولي — في يقينهم — تحوم في سماء الحي، ترعاه، تحميه من الأخطار. يتوارث المحاسيب إقامة الموالد بيقين حياة الولي في حياتهم، يؤدون الطقوس في حضرته، الإنشاد والأذكار والابتهالات والأدعية، ينذرون الصدقات من المال والطعام والكسوة، حياته مستمرة في حياتهم، تهبهم الطمأنينة والسلام.

أغمضت عينيَّ بالتأثر — وأنا أميل من زاوية الميدان — لرؤية كهل يقارب الستين، ينثر الحبوب في المساحات المتبقية من زحام المولد.

قال لنظرات الناس المتسائلة إن ولي الله المرسي زاره في المنام. قال المرسي: «لو أن الطير وجد ما سيأكله فسيلزم الساحة.»

استعاد طمأنة السلطان له بألا يحدث ما يروِّع الحمام، ويبعده عن المكان.

وجد الكهل في زيارة المرسي ما يجب أداؤه.

ملت في الدحديرة، خلف المسجد. التراب — بوطء القدمين — يتناثر، فلا يلامس البشرة، ولا العباءة.

سرت خطوات قبل أن تطالعني الزاوية الصغيرة.

شُيدت فوق ضريح الست مدورة — بعد زوال دنياها — مقصورة، لها ستر وفرش وقناديل. ثم لَحِق الزاويةَ تجديدٌ، وإن ظلت فقيرة، لا تساوي ما تحقَّق للعالمة الجليلة — بين المتصوفة — من مكانة.

لمحت ضوءًا ينبعث من النافذة المطلَّة على الدحديرة. من ارتقت أرواحهم إلى مرتبة الولاية، هم الذين يأذن الخالق سبحانه بتلاقي أرواحهم في رؤى الأعين.

جاوزت تهاني خادم الضريح في جلستها على باب الزاوية. أعرف حكايتها: صحبها رجل من قعدتها أمام مشنة الليمون في نهاية الدحديرة إلى صحن الزاوية. تعالى الهتاف من داخل الضريح: ضاقت عليكما الدنيا فدنستما بيت الله؟!

تلفَّت الرجل بالخوف، وجرى.

تهيأت المرأة للجري، فأمسكت قبضة الست مدورة بساعدها، وقال الصوت الهاجس: تفرِّين بجسدك، هل تستطيعين الفرار من نفسك؟!

تابت المرأة منذ تلك اللحظة، ولزمت خدمة الضريح.

طيفها — في الجلسة أمام المقام — ينتظر قدومي.

– الست مدورة!

المقام المغطى بالخضرة، فوقه الشموع ومناقد البخور، الخرق الملونة تتدلى من النافذة الحديدية الصغيرة، والأعمدة المحيطة، والسقف.

نفسي متأثرة بما أعرف من سيرة الست مدورة ومناقبها.

سمعت هاتفًا في المنام يدعوها إلى السير في طريق التصوف والورع والزهادة. تيقظت في نفسها مشاعر غائبة، أو أنها لم تكن موجودة. طلبت فترة تخلو فيها إلى نفسها، تتطهر مما قد تعانيه من آثام، تفرغها مما يشغلها بالصح والخطأ. اعتزلت الناس، وانزوت عن الدنيا. أقبلت على تعلم كل أنواع المعرفة والأسرار، ظلت على شوق دائم، لا يهدأ. في يقينها أن الله اختارها لحياة جديدة، حتى تؤم الناس لما فيه خيرهم وإصلاحهم.

قالت: إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى.

صدت عن الزواج، وعن المتع جميعًا، عدا متعة العبادة. مالت إلى قلة الطعام والنوم والعزوف عن الكلام واعتزال الناس. شغلت أيامها بعبادة الله؛ العكوف على قراءة القرآن والسير والتاريخ، التأمل، الزهد، الصوم، القيام، الصلاة. حفظت الكثير من آيات القرآن، وأحاديث الرسول. استوعبتها الذاكرة، واستشهدت بمعانيها، في بالها قول أم المؤمنين عائشة: إن نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء من التفقه في الدين.

عُرف عنها كثرة الخطى إلى المساجد، تحرص — في العشر الأواخر من رمضان — على الاعتكاف في الزاوية، تتقرب إلى الله بالمداومة على الذكر والصلاة والصوم والتسبيح والاستغفار، تقضي معظم لياليها — إلا حين يأخذها التعب — في الصلاة بين ركوع وسجود.

فنيت عن نفسها، وعن الناس من حولها، وعن كل ما سوى الله، سبحت في أمواج الصوفية، غاصت في أعماقها، شاهدت، تأملت، عاشت الصمت والجوع والسهر والعزلة، أقبلت على التعرف والتأمل والتعجب والتشوف والتطلع والتتبع والتعلق، والتآلف والود والحب والغرام والصبابة والكلف والعشق والشجن. عُرف عنها كثرة البكاء، والزفير والشهيق، والغشية، والصراخ، والصياح، والتلفظ بكلمات السكر. انشغلت بطلب السمو الروحي، ذابت روحها في فيض من النور الإلهي. أشرق على وجهها نور التجلي.

حرصت على صفاء العلاقة بين أولياء الله وبينها، وإن أشارت إلى الكثير من الأمور التي ينبغي أن تناقش فيها الأولياء، ومن خلفهم: الأوامر والنواهي الدينية. قرأت كتبًا في الرد على المتكلمين، وعلى مهاترات الرافضة والملاحدة، وفي الفقه والتصوف والحديث والكلام. عرفت من حقائق الوجود ما لم تكن تعرفه من قبل. أخذت على الأولياء وخلفائهم قصر الجهد على نقل النصوص، دون مراجعتها، وتأملها، والقول بما يقنع، أو يحتمل الرد. النصوص التي تسكت عنها، هي أقرب إلى البدع، لا تستحق الرد.

قالت: يصعب أن أتخذ قرارًا صائبًا ما لم أفهم.

قال لها ابن عطاء الله: ألم تساعدك مئات الأعوام على الفهم؟!

ظلت على عهدها بنفسها، باطنها المراقبة والإخلاص، وظاهرها المجاهدة. يرافقها الطهر حيثما سارت وقعدت. إذا نزلت بيتًا، أو حارة، أو مسجدًا، اعتقد الناس أن البركة حلت بالمكان.

عبد الصبور طنطاوي صاحب مكتبة النجاح بشارع الموازيني، تبرع لزاويتها بمكتبة خشبية صغيرة، ومجموعة كتب في التوحيد والفقه والحديث والتفسير والسيرة النبوية واللغة والتاريخ والأدب وتراجم الصالحين.

أَلِف الخواص تحفيزها أن يسيروا في أمور الناس على الطريق المستقيم. ألزمت مريديها بأداء الصلوات الخمس، في مواعيدها.

– ما معنى حفظكم للقرآن دون أن تعملوا به؟

حتى لا يحاكيها المريدون في طقوس عبادتها، فقد دعتهم إلى نقيض ما تفعله، يسيرون في الطرق التي اختاروها، لا يحاولون السير في طريقها الخاصة. حين ينزل دم الحيض على سيدة من المعتكفات في صحبتها، فإنها لا تُبطِله، تدعوها إلى قطع ما تؤديه، تتطهر في بيتها، ثم تعود، فتبني على ما مضى من الاعتكاف.

الكلمات تنساب من فمها إلى آذان المريدين، صوتها كالهمس، يُصيخون السمع، يتدبرون المعاني. تمتلك نظرة تستجلي البواطن، وما قد تحاول النفس إخفاءه. تَنفُذ عيناها إلى ما يجول في ذهن محدثها، تلتقط أسرار مريديها وعواطفهم. تعرف من صمت المريد، وانفعالات ملامحه، ما يشغله، ما يريد أن يقول.

قالت للنظرة المشفقة في عينَي الشيخ الحنفي تعيلب خادم جامع السلطان: الإسلام دين البشر، والبشر امرأة ورجل.

لا تأذن — في مجلسها — بالكلمات الزاعقة، أو العابثة، القادحة. تنهر أصحابها، وتأمرهم بالمغادرة. تميل إلى المباسطة، وإن كانت ترد الأسئلة التافهة بكلمات منتهرة، وتضيق بالمزاح السخيف. وكانت تتألم لغياب التأثر عند قراءة القرآن، الضحك في الجلسة، عدم الإصغاء، اختلاط الإيقاع، اختصار وقت الذكر حتى يحصل الوجد والحال.

راعها النشيج الذي تمرغ فيه المريد سرحان عبد الصبور على الأرض، تابعته حتى هدأ، ثم قالت: ما فعلته لا صلة له بطريقتي، اترك هذا المكان.

طردت رجلًا لم يكن من مريديها، ولا قدم نفسه بصفة. لاحظت إكثاره من المزاح، فخشيت الفوضى. هتفت: اذهب، فلا أراك في حضرتي بعد الآن.

قال الرجل وهو يغادر المكان: ظننت أن رقة القلب من طبع النساء.

قالت الست مدورة: أحكام الدين تعلو عن مشاعر البشر.

أوصت أن تبقى الطريقة بعد وفاتها. شيخ وقتها من يبايعه المريدون. لم تشترط أن تكون البيعة لسيدة أو لرجل. المهم أن يخلف ما يرضى المريدون من السيرة العطرة. أضافت إلى ما أوصت — قبل موتها — فلا ترث الحكومة جزءًا من تركتها.

تقضت ساعات، ونهار وليل، وأسبوع وشهر، وفصل وسنة وعقود، صارت الدنيا إلى غير ما كانت عليه قبل زمان بعيد. ظل التحلق حول المقام بالنسوة والنذور والشكايات والهتافات والدعوات والتوسلات والزغاريد.

غالبت الحيرة. أواصل السير في الدحديرة الخلفية إلى شارع الموازيني، أزور ولي الله علي الموازيني في ضريحه، داخل جامعه المطل على الميدان ذي التقاطعات. زرته من قبل لأمور تتصل بأحوال المسلمين.

ورد ولي الله أبو الفتح الواسطي في بالي، فاتجهت إلى مسجده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤